ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/الباب الثلاثون

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام المؤلف ابن حزم
في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض


في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض ووقت لزوم الشرائع للإنسان

قال أبو محمد: قال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } فأمر تعالى بني آدم جملة كما ترى وقال عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وقال تعالى: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ }

فنص تعالى كما ترى أنه يعذب المكذبين بيوم الدين ــــ وهم الكفار بلا شك ــــ على تركهم الصلاة، وترك إطعام المسكين، وقال عز وجل: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } فنص تعالى كما ترى أيضاً على أن نوع الكفار معذبون لأنهم لم يطعمون المساكين، وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } وأمره تعالى أن يقول: {قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } هو نص جلي على لزوم شرائع الإسلام كلها للكفار كلزومها للمؤمنين، إلا أن منها ما لا يقبل منهم إلا بعد الإسلام، كالصلاة والصيام والحج، وهم في ذلك كالجنب وتارك النية والمحدث لا تقبل منه صلاة حتى يطهر، ولا صيام ولا حج إلا بإحداث النية في ذلك وقال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فنص تعالى على أنهم عصاة، إذ لا يحرمون ما حرم الله ورسوله وقال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فصح أن طعامنا حل لهم شاؤوا أو أبوا، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } وروينا عن ابن عباس بسند جيد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .

وإذا قد صح كل هذا بيقين فواجب أن يحدوا على الخمر والزنى، وأن تراق خمورهم، وتقتل خنازيرهم، ويبطل رباهم، ويلزمون من الأحكام كلها في النكاح والمواريث والبيوع والحدود كلها وسائر الأحكام، مثل ما يلزم المسلمون، ولا فرق، ولا يجوز غير هذا، وأن يؤكل ما ذبحوا من الأرانب، وما نحروا من الجمال، ومن كل ما لا يعتقدون تحليله، لأن كل ذلك حلال لهم بلا شك، ومن خالف قولنا فهو مخطىء عند الله عز وجل بيقين، وقد أنكر تعالى ذلك عليهم فقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وكل من أباح لهم الخمر ثم لم يرض حتى أغرمها المسلم إذا أراقها علهيم، فقد حكم بحكم الجاهلية، وترك حكم الله ورسوله لحكم الطاغوت والشيطان الرجيم، نعوذ بالله من ذلك، مع أن خصومنا في هذا يتناقضون أقبح تناقض، فيحدونهم في القذف والسرقة كما يحدون المسلمين، ولا يحدونهم في الزنى والخمر، ويأكلون بعض الشاة التي يذكيها اليهودي، ولا يأكلون بعضها، إنفاذاً لإفك اليهود. وتركاً لنص الله تعالى على أن طعامنا حل لهم، وطعامهم حل لنا، وبالله تعالى نعوذ من مثل هذه الأقوال الفاحشة الخطأ، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـذَا غَافِلِينَ } وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } وقال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } . وحدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا أبو غسان المسمعي، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن بشار بن عثمان، واللفظ لأبي غسان، وابن المثنى قالا: ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي/ أن رسول الله قال ذات يوم في خطبته: «أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا تَجْهَلُونَ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً حَلاَلٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» .

قال أبو محمد: عياض بن حمار هذا من بني تميم فكان صديق النبي في الجاهلية وحرميه، ومعنى حرميه أن عياضاً كان من الحلة، وكان النبي من الحمس، وكان لكثير من رجال الحلة إخوان من الحمس يطوفون في ثيابهم فكان كل صديق منهم يقال له: هذا حرمي فلان، فكان عياض يطوف إذا طاف بالكعبة في ثياب النبي . وبالسند المذكور إلى مسلم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ عَلَى هذِهِ المِلَّةِ حَتَّى يَبِينَ عَنْهُ لِسَانُهُ» . قال أبو محمد: هذه الآيات التي تلونا، والحديثان اللذان ذكرنا، يبينان مراد النبي بقوله: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ عَلَى الفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ البَهيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ورواه عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي : «مَنْ يُولَدُ يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الفِطْرَةِ» وفيه: «حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا» فصح بهذا كله ضرورة أن الناس كلهم مولودون على الإسلام، وهذا تأويل قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } فقبول الملة الإسلامية هي الأمانة، وأن الله تعالى خلق الأنفس كلها جملة، وهي الحساسة العاقلة المميزة، ثم واثقها بالإسلام فقبلته، ثم أقرها حتى نقل كل نفس منها إلى جسدها فأقامت فيه ما أقامت، ثم تعود إلى مقرها عند سماء الدنيا حيث رآها النبي ليلة الإسراء، فأهل السعادة في محل اليمين في سرور وخير، وأهل الشقاء في محل الشمال في نكد ومشقة إلى يوم القيامة، فينزلون منازلهم من الجنة والنار بعد أن تكسي أجساداً على العظام المخرجة من القبور بعد أن أرِمَتْ وهذا نص قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ }

ونص قوله تعالى: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } وقال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـذَا غَافِلِينَ } بيان جلي أن النفوس إذا حلت الأجساد الكدرة الأرضية في الدنيا، فإنها ينتقص تمييزها، ويذهب ذكرها لما سلف، وأنها إذا فارقتها صح حسها، وذكا تمييزها، وصفا إدراكها، قال تعالى: {وَمَا هَـذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } وأخبر تعالى أن الدنيا غرور، فسبحان مخترع الكل ومدبره، لا إله إلا هو.

فبهذا وبغيره قلنا: ألا يترك أحد على غير دين الإسلام إلا من صح النص على إقراره، وأن النبي عليه السلام أقرهم، فأوجبنا ألا نقبل جزية ولا نقر على غير الإسلام من خرج من دين كتابي إلى دين كتابي آخر، ولا من دان آباؤه بعد مبعث النبي بدين كتابي انتقلوا إليه عن كفرهم، ولا من كان في أجداده أو جداته من أي جهة كان مسلم أو مسلمة وإن بعد وبعدت، ولا من سبي وهو بالغ، وسواء سبي مع أبويه أو مع أحدهما، ولا يترك كافر بتباعه أصلاً، ولا يقبل من كل من ذكرنا إلا الإسلام أو السيف، لأن الإسلام دين كل مولود، وقد قال عليه السلام: «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وقال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فحرم القبول من أحد غير الإِسلام إلا من جاء النص بتركه عليه، وأنه مخصوص من هذه الآية، والدلائل على هذا تكثر جدّاً. وقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } مخصوص بالنصوص الثابتة أن رسول الله أكره غير أهل الكتاب على الإسلام أو السيف، وأيضاً فإن الأمة كلها مجمعة على إكراه المرتد على الإسلام، والقوم الذين أخبر عز وجل أنهم أوتوا الكتاب، ثم أمر تعالى بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد، قد ماتوا وحدث غيرهم، والحس يشهد بأن هؤلاء الذين هم أبناء أولئك ليسوا الذين أوتوا التوراة والإنجيل والصحف والزبور، بل هم غيرهم بلا شك، فإنما أقروا بإقرار النبي لمن تناسل منهم، وأمر بذلك فيمن توالد منهم فقط، لا نص فيه فهو داخل في قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهذا بين والله تعالى الموفق لا إله إلا هو، وقد نص تعالى على أنه لا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى.

وروينا بالسند المتقدم إلى مسلم قال: ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال أناس لرسول الله : يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: «مَنْ أَحْسَن مِنْكُمْ فِي الإِسْلاَمِ فَلاَ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلاَمِ» . وبه إلى مسلم نا حسن الحلواني، وعبد بن حميد، قال: حسن، نا وقال عبد: ثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي عن صالح ــــ هو ابن كيسان ــــ عن ابن شهاب قال: أنبأ عروة بن الزبير: أن حكيم بن حزام أخبره، أنه قال لرسول الله : أي رسول الله أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة، أو عتاقة، أو صلة رحم، أفيها أجر؟ فقال رسول الله : «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» .

وبه إلى مسلم: ثنا ابن أبي عمر، ثنا سفيان هو ابن عيينة، عن عبد الله بن عمير، عن عبد الله بن الحارث ــــ هو ابن نوفل ــــ قال: سمعت العباس بن عبد المطلب يقول: قلت يا رسول الله: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال: «نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ» . وقد رواه أيضاً وكيع، ويحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن عبد الملك بن عمير بالسند المذكور، ورواه أيضاً عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري عن النبي في أبي طالب قال: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ» .

قال أبو محمد: قال الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وقال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } فصح بالضرورة أنه لا أشد إلا بالإضافة إلى ما هو أقل منه، وأن الدرك الأسفل له درك أعلى، لأن كل ذلك من باب الإضافة. وصح يقيناً بقوله تعالى: {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أن الناس في الجنة يتفاضلون على مقدار أعمالهم، وأنهم في النار أشد عذاباً من بعض، والنصوص التي ذكرناها تشهد بذلك، وصح أن من عمل خيراً وهو كافر ثم أسلم، فإن ذلك الخير محسوب له، مكتوب، وهو مثاب عليه ومأجور، وأن من عمل سوءاً في كفره، ثم أسلم ولم يقلع عن تلك السيئات فإنها كلها مكتوبة عليه محسوبة، وهو معاقب عليها، وهذا نص كلام الله تعالى الذي تلونا، ونص فتيا النبي إذ سئل عن ذلك، وهذا ما لا يحل لأحد خلافه. وقد اعترض قوم في مخالفة ذلك بقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} .

قاله أبو محمد: وهذا لا حجة فيه بل هو حجة لنا، لأنه إنما نص أنه إنما يغفر ما انتهى عنه، ومن تمادى على إساءته في إسلامه فلم ينته فلم يستحق أن يغفر له ما قد سلف، وإنما يغفر له الشرك الذي انتهى عنه فقط، ولو انتهى عن سائر إساءاته لغفرت له أيضاً، وهذا نص الآية التي احتجوا بها. واعترضوا أيضاً بما رويناه بالسند المتقدم إلى مسلم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص بن غياث، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: «لاَ يَنْفَعُهُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْماً رَبِّ اغفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» .

قال أبو محمد: وهذا حجة لنا عليهم قوية جدّاً، لأن النبي إنما جعل السبب في أن ما فعل لا ينفعه أنه لم يسلم، فصح أنه لو أسلم لنفعه ذلك كما نفع حكيماً. وهذا نص قولنا، ونحن لم نقل قط إن الله تعالى يأجر كافراً مات على كفره، وعلى ما عمل من خير، وإنما قلنا: من أسلم بعد كفره أجر على كل خير عمل في كفره. واعترضوا بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .

قال أبو محمد: وهذا حجة لنا، لأن الشرك يحبط الأعمال، والإسلام يزكيها، ويبين ذلك قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } وإنما شرطنا أنه ينتفع بما عمل في كفره من خير إن أسلم لا إن لم يسلم. واعترضوا أيضاً بما رويناه عن مسلم بالسند المذكور قال: ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، نا حيوة بن شريح، ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فحدثنا أنه سمع رسول الله يقول: «إِنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَإِنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» . قال أبو محمد: وإنما يهدم الإسلام الكفر الذي هو مضاده، وحديث ابن مسعود زائد على ما في حديث عمرو غير مضاد له، بل هو مبين بياناً زائداً، وكلام رسول الله لا يضاد بعضه بعضاً، ففي حديث ابن مسعود زيادة حكم على ما في حديث عمرو، من أنه من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أحسن في الإسلام سقط عنه ما عمل في الجاهلية، فإنما معنى حديث عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله بشرط الإحسان فيه، وبالله تعالى التوفيق. واعترضوا أيضاً بما حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن محمد بن عيسى، عن عمرويه، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم، ثنا زهير بن حرب، ثنا يزيد بن هرون/ أنبأ همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : «إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِناً حَسَنَةً يُعْطى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الأُخْرَى، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُعْطَى بِحِسَابِ مَا عَمِلَ بِهَا لله فِي الدّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» .

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأننا لم نقل إن الكافر ينعم في الآخرة إذا مات على كفره، وإنما قلنا: إن بعض أهل النار أشد عذاباً من بعض وهذا إجماع الأمة، ونص القرآن والسنة الذي من خالفه كفر، وهذا الحديث حجة لنا عليهم، لأن الكافر إذا أسلم فهو مؤمن، فقد نص النبي أنه لا يظلمه حسنة مما عمل من حسنة في حال كفره ثم أسلم، فهي داخلة تحت هذا الوعد الصادق المضمون إنجازه، فصح أنه يجازى بها في الآخرة، فصح قولنا يقيناً وبالله تعالى التوفيق. وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } قال أبو محمد: وهذا بيان جلي على أن السبب المانع من قبول نفقاتهم هو الكفر، فإذا ارتفع ذلك ارتفع السبب المانع من قبول نفقاتهم، فإذا ارتفع ذلك السبب فقد وجب قبول النفقات، وهذا نص القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق. وأما وقت لزوم الشريعة فإنها تنقسم قسمين: شريعة تعتقد ويلفظ بها، وشريعة تعمل، وتنقسم هذه الشريعة قسمين: قسم في المال، وقسم على الأبدان، فأما شريعة الأموال فهي لازمة لكل صغير وكبير وجاهل بها، وعارف ومجنون وعاقل، لدلائل من النص وردت على العموم في الزكاة والإجماع على وجوب النفقات عليهم، وأما شرائع الأبدان والاعتقاد، فإنها تجب بوجهين: أحدهما: البلوغ مبلغ الرجال والنساء، وهو البلوغ المخرج عن حد الصبا. والثاني: بلوغ الشريعة إلى المرء. وأما الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام وسواء علم أن فيه حدّاً أم لا. وهذا لا خلاف فيه وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه، وبرهان ذلك قول الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } فإنَّما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } ، فأمر أن يهدر فعل الجاهل، وقال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فإنما نهى الله تعالى عن وجوب ذلك عليه.

وحدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، ثنا يونس بن الأعلى، ثنا ابن وهب، أنا عمرو بن الحارث، أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة/ عن النبي أنه قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّة يَهُودِيٌّ ولا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . قال أبو محمد: فإنما أوجب النبي الإيمان به على من سمع بأمره ، فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال والمشرق وجزائر البحور والمغرب وأغفال الأرض من أهل الشرك، فسمع بذكره ، ففرض عليه البحث عن حاله وإعلامه والإيمان به. أما من لم يبلغه ذكره فإن كان موحداً فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان، لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار، فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجا، ومن أبى هلك. قال الله عز وجل: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } فصح أنه لا عذاب على كافر أصلاً حتى يبلغه نذارة الرسول . وأما من بلغه ذكر النبي محمد ، وما جاء به، ثم لا يجد في بلاده من يخبره عنه، ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرىء فيها الحقائق، ولولا إخباره أنه لا نبي بعده، للزمنا ذلك في كل من نسمع عنه أنه ادعى النبوة، ولكنا قد أمنا ذلك والحمد لله.

وأخبرنا الصادق: إن كل من يدعي النبوة بعده كذاب، ولا سبيل إلى أن يأتي بآية معجزة، فإن ظهر من أحد منهم ذلك فهي نيرنجات، وحيل وجوهها معروفة لمن بحث عنها، ومن أهل هذه الصفة كان مسيلمة والجلاح، ومن أهلها الدجال لا حقيقة لكل ما ظهر من هؤلاء وأشباههم، وإنما هي حيل كما ذكرنا يبين ذلك حديث المغيرة بن شعبة في الدجال، وكل من كان منا في بادية لا يجد فيها من يعلمه شرائع دينه، ففرض على جميعهم، من رجل أو امرأة أن يرحلوا إلى مكان يجدون فيها فقيهاً يعلمهم دينهم، أو أن يرحلوا إلى أنفسهم فقيهاً يعلمهم أمور دينهم، وإن كان الإمام يعلم ذلك فليرحل إليهم فقيهاً يعلمهم، قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } . وبعث معاذاً، وأبا موسى إلى اليمن، وأبا عبيدة إلى البحرين، معلمين للناس أمور دينهم، ففرض ذلك على الأئمة، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } .

قال أبو محمد: والبلوغ عندنا ينقسم أقساماً: فهو في الرجل والمرأة الاحتلام بنص ما روي عنه من ذلك، حدثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن إسحاق القاضي، عن ابن الأعرابي، عن سليمان بن الأشعث، ثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، عن خالد الحذّاء، عن أبي الضحى، عن علي/ عن النبي قال: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ» .

قال أبو محمد: الصبي يقع على الجنس، ويدخل فيه الذكر والأنثى، وقد أخبر عليه السلام في حديث عائشة: أن المرأة تحتلم، فصار الإحتلام بلوغاً صحيحاً في المرأة والرجل، وسواء احتلما من أحد عشر عاماً أو أقل أو أكثر، ويكون البلوغ أيضاً في المرأة بالحيض. كما حدثنا عبد الله بن ربيع، عن عمر بن عبد الملك الخولاني، عن محمد بن بكر البصري، ثنا سليمان بن الأشعث، ثنا محمد بن عبيد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، أن عائشة نزلت على صفية أم طلحة الطلحات فرأت بنات لها فقالت: إن رسول الله دخل وفي حجرتي جارية فألقى لي حقوه، فقال: «شِقِّيهِ شِقَّتَيْنِ فَأَعْطِ هذِهِ نِصْفاً وَالفَتَاةَ الَّتِي عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ نِصْفاً وَإِنِّي لاَ أَرَاهَا إِلاَّ قَدْ حَاضَتْ أَوْ لاَ أَرَاهُمَا إِلاَّ قَدْ حَاضَتَا» . وبه إلى أبي داود، ثنا المثنى، ثنا حجاج بن المنهال، ثنا حماد ــــ هو ابن زيد ــــ عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة عن النبي أنه قال: «لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ الحَائِضِ إِلاَّ بِخِمَارٍ» .

قال أبو محمد: والإنبات بلوغ صحيح، كما روينا عن عبد الله بن ربيع، عن محمد بن إسحاق، عن ابن الأعرابي، عن أبي داود، ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان، ثنا عبد الملك بن عمير، ثنا عطية القرظي قال: كنت فيمن سبي من قريظة فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت فيمن لم ينبت. قال أبو محمد: ومن المحال الممتنع أن تقتل الناس بحضرة النبي وهو لا يعلم أبحق أم بباطل، هذا ما لا يظنه مسلم البتة، وقتلى قريظة قتلوا بحضرة النبي وبأمره، وقال لسعد بن معاذ: «حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلكِ» كما حدثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن معاوية، عن أحمد بن شعيب، عن محمود بن غيلان، ثنا وكيع، ثنا سفيان الثوري، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عطية القرظي يقول: عرضنا على النبي يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي.

قال أبو محمد: فمن لم ينبت ولا احتلم من رجل أو امرأة أو لم تحض المرأة، فإذا تجاوزا تسعة عشر عاماً قمرية بساعة فقط، لزمهم حكم البلوغ، لأنه إجماع، وأما من جعل إكمال خمسة عشر عاماً بلوغاً، وإن لم يكن هناك حيض ولا احتلام ولا إنبات فقول لا دليل عليه. وأما حجتهم بحديث ابن عمر: عرضت على رسول الله يوم أحد وأنا ابن أربعة عشر عاماً فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشر عاماً فأجازني، فلا حجة لهم في ذلك لأن النبي لم يقل: إني أجزته لسنه. وكان عام الخندق بالمدينة لا خروج عليهم فيه، فالله أعلم لماذا أجازه، إما لأنهم لم يسافروا عن موضعهم، أو لأنه قد بلغ، فلا حجة في ذلك أصلاً وبالله تعالى التوفيق. ولا نهى عليه السلام عن غزو الأشداء من الصبيان، فتكون إجازته دليلاً على أنه قد كان بلغ. ومما يدل على أن الشرائع لا تلزم إلا من عرفها ما صح عن النبي من أنه لم يزجر عدي بن حاتم، عما تأوله في العاقلين، لكن علمه، وسقط اللوم عن عدي، لأنه تأول جاهلاً، وأنه لم يأمر معاوية بن الحكم بإعادة الصلاة إذ تكلم فيها عامداً. وأنه أمر الذي لم يتم صلاته مطمئناً في ركوعه وسجوده بالإعادة مراراً. فلما أعلمه أنه لا يدري أكثر، علمه. ولم يذكر الراوي أنه أمره بإعادة، إلا أن أمره بأن يعمل ما علمه أمر له بعمله. وكذلك ما نص من صلاة أهل قباء إلى بيت المقدس، وقد كان نسخ ذلك، وأنه لم يقد من أسامة إذ قتل الرجل بعد قوله لا إله إلا الله، وأعلمه أنه قد فعل في ذلك ما لا يحل، وكذلك لم يقد بني جذيمة ممن قتلهم مع خالد بن الوليد، فهذا يبطل قول من أوجب إعادة صلاة، أو إقامة حد، أو قضاء صوم على جاهل متأول. وبذلك قضى عمر وعثمان إذ درء الحد عن السوداء المعترفة بالزنى، لجهلها بتحريمه، وهذا بين، وبالله تعالى التوفيق

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول

في استصحاب الحال (1) | في استصحاب الحال (2) | في استصحاب الحال (3) | وهو باب الحكم بأقل ما قيل | في ذم الاختلاف | في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل | في الشذوذ | في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا | في الدليل | في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض | في صفة التفقه في الدين | في وجوب النيات في جميع الأعمال | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها