تاريخ الطبري/الجزء الثامن

  ►الجزء السابع الجزء الثامن الجزء التاسع ◄  


بسم الله الرحمن الرحيم

ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

ذكر الإخبار عن الأحداث التي كانت فيها

فما كان فيها من ذلك إغارة إسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية إرمينية وسبيه من المسلمين وأهل الذمة خلقًا كثيرًا، ودخولهم تفليس، وقتلهم حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد، وكان حرب هذا - فيما ذكر - مقيمًا بالموصل في ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة. وكان أبو جعفر حين بلغه تحزب الترك فيما هناك وجه إليهم لحربهم جبرئيل بن يحيى، وكتب إلى حرب يأمره بالمسير معه؛ فسار معه حرب، فقتل حرب وهزم جبرئيل، وأصيب من المسلمين من ذكرت.

ذكر الخبر عن مهلك عبد الله بن علي بن عباس

وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي بن عباس. واختلفوا في سبب هلاكه، فقال بعضهم ما ذكره علي بن محمد النوفلي عن أبيه أن أبا جعفر حج سنة سبع وأربعين ومائة بعد تقدمته المهدي على عيسى بن موسى بأشهر، وقد كان عزل عيسى بن موسى عن الكوفة وأرضها، وولى مكانه محمد بن سليمان ابن علي، وأوفده إلى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إليه عبد الله ابن علي سرًا في جوف الليل. ثم قال له: يا عيسى؛ إن هذا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهدي بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك؛ فخذه إليك فاضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت. ثم مضى لوجهه، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله: ما فعل في الأمر الذي أوعز إليه فيه؟ فكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به؛ فلم يشك أبو جعفر في أنه قد فعل ما أمره به، وأنه قد قتل عبد الله بن علي؛ وكان عيسى حين دفعه إليه ستره؛ ودعا كاتبه يونس ابن فروة، فقال له: إن هذا الرجل دفع إلي عمه؛ وأمرني فيه بكذا وكذا. فقال له: أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سرًا، ثم يدعيه عليك علانية ثم يقيدك به. قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تستره في منزلك، فلا تطلع على أمره أحدًا، فإن طلبه منك علانيةً دفعته إليه علانيةً، ولا تدفعه إليه سرًا أبدًا، فإنه وإن كان أسره إليك؛ فإن أمره سيظهر. ففعل ذلك عيسى.

وقدم المنصور ودسّ إلى عمومته من يحركهم على مسألته هبة عبد الله بن علي لهم، ويطمعهم في أنه سيفعل. فجاءوا إليه وكلموه ورققوه، وذكروا له الرحم وأظهروا له رقة، فقال: نعم، علي بعيسى بن موسى؛ فأتاه فقال له: يا عيسى؛ قد علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بن علي قبل خروجي إلى الحج، وأمرتك أن يكون في منزلك، قال: قد فعلت ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فقد كلمني عمومتك فيه فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله؛ فأتنا به. فقال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلته! قال: ما أمرتك بقتله إنما أمرتك بحبسه في منزلك. قال: قد أمرتني بقتله، قال له المنصور: كذبت، ما أمرتك بقتله. قال لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب، قالوا: فادفعه إلينا نقتله به، قال: شأنكم به، فأخرجوه إلى الرحبة، واجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه، وتقدم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى: أفاعل أنت؟ قال: إي والله، قال: لا تعجلوا، ردوني إلى أمير المؤمنين، فردوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلني؛ هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته. قال: ائتنا به، فأتاه به، فقال له عيسى: دبرت علي أمرًا فخشيته؛ فكان كما خشيت؛ شأنك وعمك. قال: يدخل حتى أرى رأيي. ثم انصرفوا، ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح، وأجري في أساسه الماء، فسقط عليه فمات؛ فكان من أمره ما كان. وتوفي عبد الله بن علي في هذه السنة ودفن في مقابر باب الشأم؛ وكان أول من دفن فيها.

وذكر عن إبراهيم بن عيسى بن المنصور بن بريه أنه قال: كانت وفاة عبد الله بن علي في الحبس سنة سبع وأربعون ومائة، وهو ابن اثنين وخمسين سنة.

قال إبراهيم بن عيسى: لما توفي عبد الله بن علي ركب المنصور يومًا ومعه عبد الله بن عياش، فقال له وهو يجاريه:

أتعرف ثلاثة خلفاء، أسماؤهم على العين مبدؤها، قتلوا ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم العين؟ قال: لا أعرف إلا ما تقول العامة؛ إن عليًا قتل عثمان وكذبوا وعبد الملك بن مروان قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وعبد الله بن الزبير وعمرو بن سعيد وعبد الله بن علي سقط عليه البيت، فقال له المنصور: فسقط على عبد الله البيت، فأنا ما ذنبي؟ قال: ما قلت إن لك ذنبًا.

ذكر خبر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسى

وفي هذه السنة خلع المنصور عيسى بن موسى وبايع لابنه المهدي، وجعله ولي عهد من بعده. وقال بعضهم: ثم من بعده عيسى بن موسى.

ذكر الخبر عن سبب نزعه إياه وكيف كان الأمر في ذلك

اختلف في الذي وصل به أبو جعفر إلى خلعه. فقال بعضهم: السبب الذي وصل به أبو جعفر إلى ذلك هو أن أبا جعفر أقر عيسى بن موسى بعد وفاة أبي العباس على ما كان أبو العباس ولاه من ولاية الكوفة وسوادها، وكان له مكرمًا مجلًا، وكان إذا دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأجلس المهدي عن يساره؛ فكان ذلك فعله به؛ حتى عزم المنصور على تقديم المهدي في الخلافة عليه. وكان أبو العباس جعل الأمر من بعده لأبي جعفر، ثم من بعد أبي جعفر لعيسى ابن موسى؛ فلما عزم المنصور على ذلك كلم عيسى بن موسى في تقديم ابنه عليه برفيق من الكلام، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين؛ فكيف بالأيمان والمواثيق التي علي وعلى المسلمين لي من العتق والطلاق وغير ذلك من مؤكد الأيمان! ليس إلى ذلك سبيل يا أمير المؤمنين. فلما رأى أبو جعفر امتناعه، تغير لونه وباعده بعض المباعدة، وأمر بالإذن للمهدي قبله؛ فكان يدخل فيجلس عن يمين المنصور في مجلس عيسى، ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس دون مجلس المهدي عن يمين المنصور أيضًا، ولا يجلس عن يسابه في المجلس الذي كان يجلس فيه المهدي، فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فيأمر بالإذن للمهدي ثم يأمر بعده بالإذن لعيسى بن علي، فيلبث هنيهة، ثم عيسى بن موسى. فإذا كان بعد ذلك قدم في الإذن للمهدي على كل حال، ثم يخلط في الآخرين، فيقدم بعض من أخر ويؤخر بعض من قدم ويوهم عيسى بن موسى أنه إنما يبدأ بهم لحاجة تعرض ولمذاكرتهم بالشيء من أمره؛ ثم يؤذن لعيسى بن موسى من بعدهم؛ وهو في ذلك كله صامت لا يشكو منه شيئًا، ولا يستعتب. ثم صار إلى أغلظ من ذلك؛ فكان يكون في المجلس معه بعض ولده، فيسمع الحفر في أصل الحائط فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إلى الخشبة من سقف المجلس قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحويل. ويقوم هو فيصلي، ثم يأتيه الإذن فيقوم فيدخل بهيئته والتراب عليه لا ينفضه؛ فإذا رآه المنصور قال له: يا عيسى، ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار عليك والتراب! أفكل هذا من الشارع؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين؛ وإنما يكلمه المنصور بذلك ليستطعمه أن يشكو إليه شيئًا فلا يشكو؛ وكان المنصور قد أرسل إليه في الأمر الذي أراد منه عيسى بن علي، فكان عيسى بن موسى لا يحمد منه مدخله فيه؛ كأنه كان يغري به. فقيل: إنه دس لعيسى بن موسى بعض ما يتلفه؛ فنهض من المجلس، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا موسى؟ قال: أجد غمزًا يا أمير المؤمنين، قال: ففي الدار إذًا! قال: الذي أجده أشد مما أقيم معه في الدار، قال: إلى المنزل؛ ونهض فصار إلى حراقته، ونهض المنصور في أثره إلى الحراقة متفزعًا له، فاستأذنه عيسى في المسير إلى الكوفة، فقال: بل تقيم فتعالج هاهنا، فأبى وألح عليه، فأذن له. وكان الذي جرأه على ذلك طبيبه بختيشوع أبو جبرائيل، قال: إني والله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة، وما آمن على نفسي. فأذن له المنصور، وقال له: أنا على الحج في سنتي هذه، فأنا مقيم عليك بالكوفة حتى تفيق إن شاء الله.

وتقارب وقت الحج، فشخص المنصور حتى صار بظهر الكوفة في موضع يدعى الرصافة، فأقام بها أيامًا، فأجرى هناك الخيل، وعاد عيسى غير مرة، ثم رجع إلى مدينة السلام ولم يحج، واعتل بقلة الماء في الطريق. وبلغت العلة من عيسى بن موسى كل مبلغ؛ حتى تمعط شعره، ثم أفاق من علته تلك، فقال فيه يحيى بن زياد بن أبي حزابة البرجمي أبو زياد:

أفلت من شربة الطبيب كما ** أفلت ظبي الصريم من قتره

من قانصٍ ينفذ الفريص إذا ** ركب سهم الحتوف في وتره

دافع عن المليك صولة لي ** ث يريد الأسد في ذرى خمره

حتى أتانا وفيه داخلة ** تعرف في سمعه وفي بصره

أزعر قد طار عن مفارقه ** وحف أثيث النبات من شعره

وذكر أن عيسى بن علي كان يقول للمنصور: إن عيسى بن موسى إنما يمتنع، البيعة للمهدي لأنه يربص هذا الأمر لابنه موسى، فموسى الذي يمنعه. فقال المنصور لعيسى بن علي: كلم موسى بن عيسى وخوفه على أبيه وعلى ابنه؛ فكلم عيسى بن علي موسى في ذلك، فأيأسه، فتهدده وحذره غضب المنصور. فلما وجل موسى وأشفق وخاف أن يقع به المكروه، أتى العباس بن محمد، فقال: أي عم، إني مكلمك بكلامٍ، لا والله ما سمعه مني أحدٌ قط، ولا يسمعه أحد أبدًا؛ وإنما أخرجه مني إليك موضع ثقتي بك والطمأنينة إليك؛ وهو أمانة عندك؛ فإنما هي نفسي أنثلها في يدك. قال: قل يا ابن أخي؛ فلك عندي ما تحبه، قال: أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر من عنقه وتصييره للمهدي؛ فهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فيتهدد مرة ويؤخر أذنه مرة، وتهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة. فأبي لا يعطي على هذا شيئًا؛ لا يكون ذلك أبدًا؛ ولكن هاهنا وجهًا، فلعله يعطي عليه إن أعطى وإلا فلا، قال: فما هو يا ابن أخي؟ فإنك قد أصبت ووفقت، قال: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له: يا عيسى، إني أعلم أنك لست تضن بهذا الأمر على المهدي بنفسك؛ لتعالي سنك وقرب أجلك؛ فإنك تعلم أنه لا مدة لك تطول فيه؛ وإنما تضن به لمكان ابنك موسى؛ أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك ويبقى ابني معه فيلي عليه! كلا والله لا يكون ذلك أبدًا؛ ولأثبن على ابنك وأنت تنظر حتى تيأس منه، وآمن أن يلي على ابني. أترى ابنك آثر عندي من ابني! ثم يأمر بي؛ فإما خنقت وإما شهر علي سيف. فإن أجاب إلى شيء فعسى أن يفعل بهذا السبب؛ فأما بغيره فلا. فقال العباس: جزاك الله يا ابن أخي خيرًا، فقد فديت أباك بنفسك، وآثرت بقاءه على حظك، نعم الرأي رأيت، ونعم المسلك سلكت! ثم أتى أبا جعفر فأخبره الخبر، فجزى المنصور موسى خيرًا؛ وقال: قد أحسن وأجمل، وسأفعل ما أشار به إن شاء الله، فلما اجتمعوا وعيسى بن علي حاضر، أقبل المنصور على عيسى بن موسى، فقال: يا عيسى؛ إني لا أجهل مذهبك الذي تضمره، ولا مداك الذي تجري إليه في الأمر الذي سألتك؛ إنما تريد هذا الأمر لابنك هذا المشئوم عليك وعلى نفسه؛ فقال عيسى بن علي؟: يا أمير المؤمنين، غمزني البول، قال: فندعوا لك بإناء تبول فيه، قال: أفي مجلسك يا أمير المؤمنين! ذلك ما لا يكون، ولكن أقرب البلاليع مني أدل عليها فآتيها. فأمر من يدله، فانطلق. فقال عيسى بن موسى لابنه موسى: قم مع عمك، فاجمع عليه ثيابه من ورائه، وأعطه منديلًا إن كان معك ينشف به، فلما جلس عيسى يبول جمع موسى عليه ثيابه من ورائه وهو لا يراه، فقال: من هذا؟ فقال: موسى بن عيسى، فقال: بأبي أنت وبأبي أب ولدك! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به؛ ولكن المرء مغرى بما تعجل، فقال موسى في نفسه: أمكنني والله هذا من مقاتله؛ وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه بما قال لي، ثم لا أبالي أن يقتلني أمير المؤمنين بعده، بل يكون في قتله عزاء لأبي وسلو عني إن قتلت. فلما رجعا إلى موضعهما قال موسى: يا أمير المؤمنين، أذكر لأبي أمرًا! فسره ذلك، وظن أنه يريد أن يذاكره بعض أمرهم، فقال: قم، فقام إليه، فقال: يا أبت؛ إن عيسى بن علي قد قتلك وإياي قتلات بما يبلغ عنا، وقد أمكنني من مقاتله، قال: وكيف؟ قال: قال لي كيت وكيت، فأخبر أمير المؤمنين فيقتله؛ فتكون قد شفيت نفسك وقتلته قبل أن يقتلك وإياي ثم لا نبالي ما كان بعد. فقال: أفٍ لهذا رأيًا ومذهبًا! أئتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها، فجعلتها سببًا لمكروهه وتلفه! لا يسمعن هذا منك أحد، وعد إلى مجلسك. فقام فعاد، وانتظر أبو جعفر أن يرى لقيامه إلى أبيه وكلامه أثرًا فلم يره، فعاد إلى وعيده الأول وتهدده، فقال:

أما والله لأعجلن لك فيه ما يسوءك ويوئسك من بقائه بعدك، أيا ربيع، قم إلى موسى فاخنقه بحمائله، فقام الربيع فضم حمائله عليه، فجعل يخنقه بها خنقًا رويدًا، وموسى يصيح: الله الله يا أمير المؤمنين في وفي دمي! فإني لبعيد مما تظن بي، وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر نفرًا ذكرًا - كلهم عنده مثلي - أو يتقدمني؛ وهو يقول: أشدد يا ربيع، ائت على نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه، وهو يراخي خناقه وموسى يصيح، فلما رأى ذاك عيسى قال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الأمر يبلغ منك هذا كله فمر بالكف عنه؛ فإني لم أكن لأرجع إلى أهلي؛ وقد قتل بسبب هذا الأمر عبد من عبيدي، فكيف بابني! فها أنا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وما أملك في سبيل الله، تصرف ذلك فيمن رأيت يا أمير المؤمنين؛ وهذه يدي بالبيعة للمهدي. فأخذ بيعته له على ما أحب ثم قال: يا أبا موسى؛ إنك قد قضيت حاجتي هذه كارهًا، ولي حاجة أحب أن تقضيها طائعًا، فتغسل بها ما في نفسي من الحاجة الأولى، قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: تجعل هذا الأمر من بعد المهدي لك، قال: ما كنت لأدخل فيها بعد إذ خرجت منها. فلم يدعه هو ومن حضره من أهل بيته حتى قال: يا أمير المؤمنين؛ أنت أعلم. فقال بعض أهل الكوفة - ومر عليه عيسى في موكبه: هذا هذا الذي كان غدًا، فصار بعد غدٍ.

وهذه القصة - فيما قيل - منسوبة إلى آل عيسى أنهم يقولونها.

وأما الذي يحكى عن غيرهم في ذلك؛ فهو أن المنصور أراد البيعة للمهدي، فكلم الجند في ذلك، فقال للجند: لا تؤذوا ابن أخي؛ فإنه جلدة بين عيني، ولو كنت تقدمت إليكم لضربت أعناقكم؛ فكانوا يكفون ثم يعودون؛ فمكث بذلك زمانًا، ثم كتب إلى عيسى: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من عبد الله عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى عيسى بن موسى. سلامٌ عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فالحمد لله ذي المن القديم، والفضل العظيم، والبلاء الحسن الجميل، الذي ابتدأ الخلق بعلمه، وأنفذ القضاء بأمره؛ فلا يبلغ مخلوق كنه حقه، ولا ينال في عظمته كنه ذكره، يدبر ما أراد من الأمور بقدرته، ويصدرها عن مشيئته؛ لا قاضي فيها غيره، ولا نفاذ لها إلا به، يجريها على أذلالها، لايستأمر فيها وزيرًا، ولا يشاور فيها معينًا، ولا يلتبس عليه شيء أراده، يمضي قضاؤه فيما أحب العباد وكرهوا؛ لا يستطيعون منه امتناعًا، ولا عن أنفسهم دفاعًا، رب الأرض ومن عليها، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

ثم إنك قد علمت الحال التي كنا عليها في ولاية الظلمة، كيف كانت قوتنا وحيلتنا، لما اجترأ عليه أهل بيت اللعنة فيما أحببنا وكرهنا، فصبرنا أنفسنا على ما دعونا إليه من تسليم الأمور إلى من أسندوها إليه، واجتمع رأيهم عليه، نسام الخسف، ونوطأ بالعسف، لا ندفع ظلمًا، ولا نمنع ضيمًا، ولا نعطي حقًا، ولا ننكر منكرًا، ولا نستطيع لها ولا لأنفسنا نفعًا؛ حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وانتهى الأمر إلى مدته، وأذن الله في هلاك عدوه، وارتاح بالرحمة لأهل بيت نبيه ؛ فابتعث الله لهم أنصارًا يطلبون بثأرهم، ويجاهدون عدوهم، ويدعون إلى حبهم، وينصرون دولتهم، من أرضين متفرقة، وأسباب مختلفة، وأهواء مؤتلفة، فجمعهم الله على طاعتنا، وألف بين قلوبهم بمودتنا على نصرتنا، وأعزهم بنصرنا، لم نلق منهم رجلًا، ولم نشهر معهم إلا ما قذف الله في قلوبهم؛ حتى ابتعثهم لنا من بلادهم، ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، يلقون الظفر، ويعودون بالنصر، وينصرون بالرعب، لا يلقون أحدًا إلا هزموه، ولا واترًا إلا قتلوه؛ حتى بلغ الله بنا بذلك أقصى مدانا وغاية منانا ومنتهى آمالنا وإظهار حقنا، وإهلاك عدونا؛ كرامة من الله جل وعز لنا، وفضلًا منه علينا، بغير حول منا ولا قوة، ثم لم نزل من ذلك في نعمة الله وفضله علينا، حتى نشأ هذا الغلام، فقذف الله له في قلوب أنصار الدين الذين ابتعثهم لنا مثل ابتدائه لنا أول أمرنا، وأشرب قلوبهم مودته، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا باسمه، ولا يعرفون إلا حقه، فلما رأى أمير المؤمنين ما قذف الله في قلوبهم من مودته، وأجرى على ألسنتهم من ذكره، ومعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ودعاء العامة إلى طاعته، أيقنت نفس أمير المؤمنين أن ذلك أمر تولاه الله وصنعه؛ لم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا مذاكرة؛ للذي رأى أمير المؤمنين من اجتماع الكلمة، وتتابع العامة؛ حتى ظن أمير المؤمنين أنه لولا معرفة المهدي بحق الأبوة، لأفضت الأمور إليه. وكان أمير المؤمنين لا يمنع مما اجتمعت عليه العامة، ولا يجد مناصًا عن خلاص ما دعوا إليه، وكان أشد الناس على أمير المؤمنين في ذلك الأقرب فالأقرب من خاصته وثقاته من حرسه وشرطه؛ فلم يجد أمير المؤمنين بدًا من استصلاحهم ومتابعتهم؛ وكان أمير المؤمنين وأهل بيته أحق من سارع إلى ذلك وحرص عليه، ورغب فيه وعرف فضله، ورجا بركته، وصدق الرواية فيه، وحمد الله إذ جعل في ذريته مثل ما سألت الأنبياء قبله؛ إذ قال العبد الصالح: " فهب لي من لدنك وليًا. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " فوهب الله لأمير المؤمنين وليًا، ثم جعله تقيًا مباركًا مهديًا وللنبي سميًا، وسلب من انتحل هذا الاسم، ودعا إلى تلك الشبهة التي تحير فيها أهل تلك النية، وافتتن بها أهل تلك الشقوة، فانتزع ذلك منهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وأقر الحق قراره، وأعلن للمهدي مناره، وللدين أنصاره، فأحب أمير المؤمنين أن يعلمك الذي اجتمع عليه رأي رعيته؛ وكنت في نفسه بمنزلة ولده، يحب من سترك ورشدك وزينك ما يحب لنفسه وولده، ويرى لك إذا بلغك من حال ابن عمك ما ترى من اجتماع الناس عليه أن يكون ابتداء ذلك من قبلك، ليعلم أنصارنا من أهل خراسان وغيرهم أنك أسرع إلى ما أحبوا مما عليه رأيهم في صلاحهم منهم إلى ذلك من أنفسهم، وإن ما كان عليه من فضلٍ عرفوه للمهدي، أو أملوه فيه، كنت أحظى الناس بذلك، وأسرهم به لمكانه وقرابته؛ فاقبل نصح أمير المؤمنين لك، تصلح وترشد. والسلام عليك ورحمة الله.

فكتب إليه عيسى بن موسى جوابها:

بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين من عيسى بن موسى. سلامٌ عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه ما أجمعت عليه من خلاف الحق وركوب الإثم في قطيعة الرحم، ونقض ما أخذ الله عليه من الميثاق من العامة بالوفاء للخلافة والعهد لي من بعدك، لتقطع بذلك ما وصل الله من حبله، وتفرق بين ما ألف الله جمعه، وتجمع بين ما فرق الله أمره، مكابرةً لله في سمائه، وحولًا على الله في قضائه، ومتابعة للشيطان في هواه، ومن كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ماكره عن شيء خدعه، ومن توكل على الله منعه، ومن تواضع لله رفعه. إن الذي أسس عليه البناء، وخط عليه الحذاء من الخليفة الماضي عهدٌ لي من الله، وأمر نحن فيه سواء، ليس لأحد من المسلمين فيه رخصة دون أحد؛ فإن وجب وفاء فيه فما الأول بأحق به من الآخر، وإن حل من الآخر شيء فما حرم ذلك من الأول؛ بل الأول الذي تلا خبره وعرف أثره، وكشف عما ظن به وأمل فيه أسرع؛ وكان الحق أولى بالذي أراد أن يصنع أولًا، فلا يدعوك إلى الأمن من البلاء اغترار بالله، وترخيص للناس في ترك الوفاء؛ فإن من أجابك إلى ترك شيء وجب لي واستحل ذلك مني، لم يحرج إذا أمكنته الفرصة وأفتنته الرخصة أن يكون إلى مثل ذاك منك أسرع، ويكون بالذي أسست من ذلك أبخع. فاقبل العاقبة وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيت بقوة، وكن من الشاكرين. فإن الله جل وعز زائدٌ من شكره، وعدًا منه حقًا لا خلف فيه؛ فمن راقب الله حفظه، ومن أضمر خلافه خذله؛ والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولسنا مع ذلك نأمن من حوادث الأمور وبغتات الموت قبل ما ابتدأت به من قطيعتي؛ فإن تعجل بي أمرٌ كنت قد كفيت مؤونة ما اغتممت له، وسترت قبح ما أردت إظهاره؛ وإن بقيت بعدك لم تكن أوغرت صدري، وقطعت رحمي؛ ولا أظهرت أعدائي في اتباع أثرك، وقبول أدبك، وعملٍ بمثالك.

وذكرت أن الأمور كلها بيد الله؛ هو مدبرها ومقدرها ومصدرها عن مشيئته؛ فقد صدقت؛ إن الأمور بيد الله، وقد حق على من عرف ذلك ووصفه العمل به والانتهاء إليه. واعم أنا لسنا جررنا إلى أنفسنا نفعًا، ولا دفعنا عنها ضرًا، ولا نلنا الذي عرفته بحولنا ولا قوتنا؛ ولو وكلنا في ذلك إلى أنفسنا وأهوائنا لضعفت قوتنا، وعجزت قدرتنا في طلب ما بلغ الله بنا؛ ولكن الله إذا أراد عزمًا لإنفاذ أمره، وإنجاز وعده، وإتمام عهده، وتأكيد عقده؛ أحكم إبرامه، وأبرم إحكامه، ونور إعلانه، وثبت أركانه؛ حين أسس بنيانه؛ فلا يستطيع العباد تأخير ما عجل، ولا تعجيل ما أخر؛ غي أن الشيطان عدوٌ مضل مبين؛ قد حذر الله طاعته، وبين عداوته، ينزع بين ولاة الحق وأهل طاعته، ليفرق جمعهم، ويشتت شملهم، ويوقع العداوة والبغضاء بينهم، ويتبرأ منهم عند حقائق الأمور، ومضايق البلايا؛ وقد قال الله عز وجل في كتابه: " وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليمٌ حكيمٌ ". ووصف الذين اتقوا فقال: " إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "؛ فأعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يكون نيته وضمير سريرته خلاف ما زين الله به جل وعز من كان قبله؛ فإنه قد سألتهم أبناؤهم، ونازعتهم أهواؤهم، إلى مثل الذي همّ به أمير المؤمنين؛ فآثروا الحق على ما سواه، وعرفوا أن الله لا غالب لقضائه؛ ولا مانع لعطائه؛ ولم يأمنوا مع ذلك تغيير النعم وتعجيل النقم؛ فآثروا الآجلة، وقبلوا العاقبة، وكرهوا التغيير، وخافوا التبديل؛ فأظهروا الجميل؛ فتمم الله لهم أمورهم، وكفاهم ما أهمهم، ومنع سلطانهم، وأعز أنصارهم، وكرّم أعوانهم، وشرّف بنيانهم؛ فتمت النعم، وتظاهرت المنن، فاستوجبوا الشكر، فتم أمر الله وهم كارهون. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله.

فلما بلغ أبا جعفر المنصور كتابه أمسك عنه، وغضب غضبًا شديدًا، وعاد الجند لأشد ما كانوا يصنعون؛ منهم أسد بن المرزبان وعقبة بن سلم ونصر بن حرب بن عبد الله؛ في جماعة؛ فكانوا يأتون باب عيسى، فيمنعون من يدخل إليه؛ فإذا ركب مشوا خلفه وقالوا: أنت البقرة التي قال الله: " فذبحوها وما كادوا يفعلون "، فعاد فشكاهم، فقال له المنصور:

يا ابن أخي، أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي؛ قد أشربوا حب هذا الفتى؛ فلو قدمته بين يديك فيكون بيني وبينك لكفوا. فأجاب عيسى إلى أن يفعل.

وذكر عن إسحاق الموصلي، عن الربيع، أن المنصور لما رجع إليه من عند عيسى جواب كتابه الذي ذكرنا، وقع في كتابه: " اسل عنها تنل منها عوضًا في الدنيا، وتأمن تبعتها في الآخرة ".

وقد ذكر في وجه خلع المنصور عيسى بن موسى قولٌ غير هذين القولين؛ وذلك ما ذكره أبو محمد المعروف بالأسواري بن عيسى الكاتب، قال: أراد أبو جعفر أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، ويقدم المهدي عليه، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وأعيا الآمر أبا جعفر فيه؛ فبعث إلى خالد بن برمك، فقال له: كلمه يا خالد؛ فقد ترى امتناعه من البيعة للمهدي؛ وما تقدمنا به في أمره؛ فهل عندك حيلة فيه، فقد أعيتنا وجوه الحيل، وضل عنا الرأي! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، تضم إلى ثلاثين رجلًا من كبار الشيعة ممن تختاره قال: فركب خالد بن برمك، وركبوا معه، فساروا إلى عيسى بن موسى، فأبلغوه رسالة أبي جعفر المنصور؛ فقال: ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله عز وجل الأمر لي؛ فأداره خالد بكل وجه من وجوه الحذر والطمع، فأبى عليه؛ فخرج خالد عنه وخرجت الشيعة بعده، فقال لهم خالد: ما عندكم في أمره؟ قالوا: نبلغ أمير المؤمنين رسالته ونخبره بما كان منا ومنه؛ قال: لا، ولكنا نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب، ونشهد عليه إن أنكره، قالوا له: افعل، فإنا نفعل، فقال لهم: هذا هو الصواب، وأبلغ أمير المؤمنين فيما حاول وأراد.

قال: فساروا إلى أبي جعفر وخالد معهم، فأعلموه أنه قد أجاب، فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدي، وكتب بذلك إلى الآفاق؛ قال: وأتى عيسى بن موسى لما بلغه الخبر أبا جعفر منكرًا لما ادعي عليه من الإجابة إلى تقديم المهدي على نفسه، وذكره الله فيما قد هم به. فدعاهم أبو جعفر، فسألهم فقالوا: نشهد عليه أنه قد أجاب؛ وليس له أن يرجع؛ فأمضى أبو جعفر الأمر، وشكر لخالد ما كان منه؛ وكان المهدي يعرف ذلك له، ويصف جزالة الرأي منه فيه.

وذكر عن علي بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبي، عن عبد الله بن أبي سليم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: إني لأسير مع سليمان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وقد عزم أبو جعفر على أن يقدم المهدي على عيسى بن موسى في البيعة، فإذا نحن بأبي نخيلة الشاعر، ومعه ابناه وعبداه؛ وكل واحد منهما يحمل شيئًا من متاع، فوقف عليهم سليمان بن عبد الله، فقال: أبا نخيلة، ما هذا الذي أرى؟ وما هذه الحال التي أنت فيها؟ قال: كنت نازلًا على القعقاع - وهو رجل من آل زراره، وكان يتولى لعيسى بن موسى الشرطة - فقال لي: أخرج عني؛ فإن هذا الرجل قد اصطنعني، وقد بلغني أنك قلت شعرًا في هذه البيعة للمهدي، فأخاف إن يبلغه ذلك أن يلزمني لائمة لنزولك علي، فأزعجني حتى خرجت. قال: فقال لي: يا عبد الله؛ انطلق بأبي نخيلة فبوئه في منزلي موضعًا صالحًا، واستوص به وبمن معه خيرًا. ثم خبر سليمان بن عبد الله أبا جعفر بشعر أبي نخيلة الذي يقول فيه:

عيسى فزحلفها إلى محمد ** حتى تؤدى من يد إلى يد

فيكم وتغنى وهي في تزيد ** فقد رضينا بالغلام الأمرد

قال: فلما كان في اليوم الذي بايع فيه ذكر عن حيان بن عبد الله بن حبران الحماني، قال: حدثني أبو نخيلة قال: قدمت على أبي جعفر، فأقمت ببابه شهرًا لا أصل إليه، حتى قال لي ذات يومٍ عبد الله بن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة، إن أمير المؤمنين يرشح ابنه للخلافة والعهد، وهو على تقدمته بين يدي عيسى بن موسى، فلو قلت شيئًا تحثه على ذلك، وتذكر فضل المهدي كنت بالحري أن تصيب منه خيرًا ومن ابنه، فقلت:

دونك عبد الله أهلك ذاكا ** خلافة الله التي أعطاكا

أصفاك أصفاك بها أصفاكا ** فقد نظرنا زمنًا أبكاكا

ثم نظرناك لها إياكا ** ونحن فيهم والهوى هواكا

نعم، فنستذري إلى ذراكا ** أسند إلى محمد عصاكا

فابنك ما استرعيته كفاكا ** فأحفظ الناس لها أدناكا

فقد جفلت الرجل والأوراكا ** وحكت حتى لم أجد محاكا

ودرت في هذا وذا وذاكا ** وكل قول قلت في سواكا

زور وقد كفر هذا ذاكا

وقلت أيضًا كلمتي التي أقول فيها:

إلى أمير المؤمنين فاعمدي ** سيري إلى بحر البحور المزبد

أنت الذي يا بن سمي أحمد ** ويا بن بيت العرب المشيد

بل يا أمين الواحد المؤبد ** إن الذي ولاك رب المسجد

أمسي ولي ععهدها بالأسعد ** عيسى فزحلفها إلى محمد

من قبل عيسى معهدًا عن معهد ** حتى تؤدي من يد إلى يد

فيكم وتغنى وهي في تزيد ** فقد رضينا بالغلام الأمرد

بل قد فرغنا غير أن لم نشهد ** وغير أن العقد لم يؤكد

فلو سمعنا قولك امدد امدد ** كانت لنا كدعقة الورد الصدي

فبادر البيعة ورد الحشد ** تبين من يومك هذا أو غد

فهو الذي تم فمامن عند ** وزاد ما شئت فده يزدد

ورده منك رداءً يرتد ** فهو رداء السابق المقلد

قد كان يروى أنها كأن قد ** عادت ولو قد فعلت لم تردد

فهي ترامي فدفدًا عن فدفد ** حينًا، فلو قد حان ورد الورد

وحان تحويل الغوى المفسد ** قال لها الله هلم وارشدي

فأصبحت نازلةً بالمعهد ** والمحتد المحتد خير المحتد

لم يرم تذمار النفوس الحسد ** بمثل قرم ثابت مؤيد

لما انتحوا قدحًا بزند مصلد ** بلوا بمشزور القوي المستحصد

يزداد إيقاظًا على التهدد ** فداولوا باللين والتعبد

صمصامةً تأكل كل مبرد.

قال: فرويت وصارت في أفواه الخدم، وبلغت أبا جعفر، فسأل عن قائلها، فأخبر أنها لرجل من بني سعد بن زيد مناة، فأعجبه، فدعاني فأدخلت عليه؛ وإن عيى بن موسى لعن يمينه، والناس عنده، ورءوس القواد والجند، فلما كنت بحيث يراني، ناديت: يا أمير المؤمنين، أدنني منك حتى أفهمك وتسمع مقالتي فأومأ بيده، فأدنيت حتى كنت قريبًا منه، فلما صرت بين يديه قلت - ورفعت صوتي - أنشده من هذا الموضع، ثم رجعت إلى أول الأرجوزة؛ فأنشدتها من أولها إلى هذا الموضع أيضًا، فأعدت عليه حتى أتيت على آخرها، والناس منصتون، وهو يتسار بما أنشده، مستمعًا له؛ فلما خرجنا من عنده إذا رجلٌ واضعٌ يده على منكبي، فالتفت فإذا عقال بن شبة يقول: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين؛ فإن التأم الأمر على ما تحب وقلت، فلعمري لتصيبن منه خيرًا وإن يك غير ذلك، فابتغ نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء. قال: فكتب له المنصور بصلة إلى الري، فوجه عيسى في طلبه، فلحق في طريقه، فذبح وسلخ وجهه. وقيل: قتل بعد ما انصرف من الري؛ وقد أخذ الجائزة. وذكر عن الوليد بن محمد العنبري أن سبب إجابة عيسى أبا جعفر إلى تقديم المهدي عليه كان أن سلم بن قتيبة قال له: أيها الرجل بايع، وقدمه على نفسك، فإنك لن تخرج من الأمر؛ قد جعل لك الأمر من بعده وترضي أمير المؤمنين. قال: أوترى ذلك! قال: نعم، قال: فإني أفعل؛ فأتى سلم المنصور فأعلمه إجابة عيسى، فسر بذلك وعظم قدر سلم عنده. وبايع الناس للمهدي ولعيسى بن موسى من بعده. وخطب المنصور خطبته التي كان فيها تقديم المهدي على عيسى، وخطب عيسى بعد ذلك فقدم المهدي على نفسه، ووفى له المنصور بما كان ضمن له. وقد ذكر عن بعض صحابة أبي جعفر أنه قال: تذاكرنا أمر أبي جعفر المنصور وأمر عيسى بن موسى في البيعة وخلعه إياها من عنقه وتقديمه المهدي، فقال له رجل من القواد سماه: والله الذي لا إله غيره؛ ما كان خلعه إياها منه إلا برضًا من عيسى وركونٍ منه إلى الدراهم، وقلة علمه بقدر الخلافة، وطلبًا للخروج منها؛ أتى يوم خرج للخلع فخلع نفسه؛ وإني لفي مقصورة مدينة السلام؛ إذ خرج علينا أبو عبيد الله كاتب المهدي، في جماعة من أهل خراسان، فتكلم عيسى. فقال: إني قد سلمت ولاية العهد لمحمد ابن أمير المؤمنين، وقدمته على نفسي، فقال أبو عبيد الله: ليس هكذا أعز الله الأمير؛ ولكن قل ذلك بحقه وصدقه؛ وأخبر بما رغبت فيه؛ فأعطيت، قال: نعم، قد بعت نصيبي من تقدمة ولاية العهد من عبد الله أمير المؤمنين لابنه محمد المهدي بعشرة آلاف ألف درهم وثلاث مائة ألف بين ولدي فلان وفلان وفلان - سماهم - وسبعمائة ألف لفلانة امرأة من نسائه - سماها - بطيب نفسٍ مني وحب، لتصيرها إليه، لأنه أولى بها وأحق، وأقوى عليها وعلى القيام بها؛ وليس لي فيها حق لتقدمته، قليل ولا كثير؛ فما ادعيته بعد يومي هذا فأنا فيه مبطل لا حق لي فيه ولا دعوى ولا طلبة. قال: والله وهو في ذلك؛ ربما نسى الشيء بعد الشيء فيوقفه عليه أبو عبيد الله؛ حتى فرغ، حبًا للاستيثاق منه. وختم الكتاب وشهد عليه الشهود وأنا حاضر؛ حتى وضع عليه عيسى خطه وخاتمه، والقوم جميعًا؛ ثم دخلوا من باب المقصورة إلى القصر. قال: وكسا أمير المؤمنين عيسى وابنه موسى وغيره من ولده كسوة بقيمة ألف ألف درهم ونيف ومائتي ألف درهم.

وكانت ولاية عيسى بن موسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة؛ حتى عزله المنصور، واستعمل محمد بن سليمان بن علي حين امتنع من تقديم المهدي على نفسه.

وقيل: إن المنصور إنما ولى محمد بن سليمان الكوفة حين ولاه إياها ليستخف بعيسى؛ فلم يفعل ذلك محمد. ولم يزل معظمًا له مبجلًا.

وفي هذه السنة ولى أبو جعفر محمد بن أبي العباس ابن أخيه البصرة فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة السلام، فمات بها، فصرخت امرأته البغوم بنت علي بن الربيع: وا قتيلاه! فضربها رجل من الحرس بجلوبز على عجيزتها، فتعاوره خدم لمحمد بن أبي العباس فقتلوه؛ فطل دمه.

وكان محمد بن أبي العباس حين شخص عن البصرة استخلف بها عقبة بن سلم، فأقره عليها أبو جعفر إلى سنة إحدى وخمسين ومائة.

وحج بالناس في هذه السنة المنصور.

وكان عامله فيها على مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي وعلى المدينة جعفر بن سليمان. وعلى الكوفة وأرضها محمد بن سليمان. وعلى البصرة عقبة بن سلم. وعلى قضائها سوار بن عبد الله. وعلى مصر يزيد بن حاتم.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور حميد بن قحطبة إلى أرمينية لحرب الترك الذين قتلوا حرب بن عبد الله، وعاثوا بتفليس، فسار حميد إلى أرمينية، فوجدهم قد ارتحلوا، فانصرف ولم يلق منهم أحدًا.

في هذه السنة عسكر صالح بن علي بدابق - فيما ذكر - ولم يغز.

وحج بالناس فيها جعفر بن أبي جعفر المنصور.

وكانت ولاة الأمصار في هذه السنة ولاتها في السنة التي قبلها.

ثم دخلت سنة تسعا وأربعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك غزوة العباس بن محمد بن الصائفة أرض الروم، ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، فهلك محمد بن الأشعث في الطريق.

وفي هذه السنة استتم المنصور بناء سور مدينة بغداد، وفرغ من خندقها وجميع أمورها.

وفيها شخص إلى حديثة الموصل، ثم انصرف إلى مدينة السلام.

وحج في هذه السنة بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.

وفي هذه السنة عزل عبد الصمد بن علي عن مكة، ووليها محمد بن إبراهيم.

وكانت عمال الأمصار في هذه السنة العمال الذين كانوا عمالها في سنة سبع وأربعين ومائة وسنة ثمان وأربعين ومائة؛ غير مكة والطائف؛ فإن واليهما كان في هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

ثم دخلت سنة خمسين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خروج أستاذسيس

فمما كان فيها من ذلك خروج أستاذسيس في أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من عامة خراسان، وساروا حتى التقوا هم وأهل مرو الروذ، فخرج إليهم الأجثم المروروذي في أهل مرو الروذ، فقاتلوه قتالًا شديدًا حتى قتل الأجثم، وكثر القتل فى اهل مرو الروذ، وهزم عدة من القواد؛ منهم معاذ بن مسلم بن معاذ وجبرائيل بن يحيى حماد ابن عمرو وأبو النجم السجستاني وداود بن كراز؛ فوجه المنصور وهو بالبردان خازم بن خزيمة الى المهدي؛ فولاه المهدي محارة أستاذ سيس؛ وضم القواد إليه.

فذكر أن معاوية بن عبيد الله وزير المهدي كان يوهن أمر خازم، والمهدي يومئذ بنيسابور، وكان معاوية يخرج الكتب إلى خازم بن خزيمة والى غيره من القواد بالمر والنهي، فاعتل خازم وهو في عسكره، فشرب الدواء ثم ركب البريد، حتى قدم على المهدي بنيسابور، فسلم عليه واستخلاه - وبحضرته أبو عبيد الله - فقال المهدي: لاعيق عليك من أبي عبيد الله، فقل ما بدا لك؛ فأبى خازم أن يخبره أو يكلمه، حتى قام أبو عبيد الله، فلما خلا به شكا إليه أمر معاوية بن عبيد الله، وأخبره بعصبيته وتحامله؛ وما كان يرد من كتبه عليه وعلى من قبله من القواد، وما صاروا إليه بذلك من الفساد والتأمر في أنفسهم، والاستبداد بآرائهم، وقلة السمع والطاعة. وأن أمر الحرب لا يستقيم إلا برأس؛ وألا يكون في عسكره لواء يخفق على رأس أحد إلا لواؤه أو لواء هو عقده، وأعلمه أنه غير راجع إلى قتال أستاذ سيس ومن معه إلا بتفويض الأمر إليه وإعفائه من معاوية بن عبيد الله؛ وأن يأذن له في حمل ألوية القواد الذين معه، وأن يكتب إليهم بالسمع والطاعة. فأجابه المهدي إلى كل ما سأل.

فانصرف خازم إلى عسكره، فعمل برأيه، وحل لواء من رأى حل لوائه من القواد، وعقد لواء لمن أراد، وضم إليه من كان انهزم من الجنود، فجعلهم حشوًا يكثر بهم من معه في أخريات الناس، ولم يقدمهم لما في قلوب المغلوبين من روعة الهزيمة؛ وكان من ضم إليه من هذه الطبقة اثنين وعشرين ألفًا، ثم انتخب ستة آلاف رجل من الجند، فضمهم إلى اثني عشر ألفًا كانوا معه متخيرين؛ وكان بكار بن مسلم العقيلي فيمن انتخب، ثم تعبأ للقتال وخندق. واستعمل الهيثم بن شعبة بن ظهير على ميمنته، ونهار بن حصين السعدي على ميسرته؛ وكان بكار بن مسلم العقيلي على مقدمته وترار خدا على ساقته؛ وكان من أبناء ملوك أعاجم خراسان؛ وكان لواؤه مع الزبرقان وعلمه مع مولاه بسام؛ فمكر بهم وراوغهم في تنقله من موضع إلى موضع وخندق إلى خندق حتى قطعهم؛ وكان أكثرهم رجالة، ثم سار خازم إلى موضع فنزله، وخندق عليه، وأدخل خندقه جميع ما أراد، وأدخل فيها جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب، وجعل على كل باب منها من أصحابه الذين انتخب، وهم أربعة آلاف، وجعل مع بكار صاحب مقدمته ألفين؛ تكملة الثمانية عشر ألفًا. وأقبل الآخرون ومعهم المروز والفؤوس والزبل، يريدون دفن الخندق ودخوله، فأتوا الخندق من الباب الذي كان عليه بكار بن مسلم، فشدوا عليه شدة لم يكن لأصحاب بكار نهاية دون أن انهزموا حتى دخلوا عليهم الخندق.

فلما رأى ذلك بكار رمى بنفسه، فترجل عن باب الخندق ثم نادى أصحابه: يا بني الفواجر، من قبلي يؤتى المسلون! فترجل من معه من عشيرته وأهله نحو من خمسين رجلًا، فمنعوا بابهم حتى أجلوا القوم عنه، وأقبل إلى الباب الذي كان عليه خازم رجل كان مع أستاذسيس من أهل سجستان، يقال له الحريش؛ وهو الذي كان يدبر أمرهم؛ فلما رآه خازم مقبلًا بعث إلى الهيثم بن شعبة، وكان في الميمنة - أن اخرج من بابك الذي أنت عليه؛ فخذ غير الطريق الذي يوصلك إلى الباب الذي عليه بكار، فإن القوم قد شغلوا بالقتال وبالإقبال إلينا، فإذا علوت فجزت مبلغ أبصارهم فأتهم من خلفهم. وقد كانوا في تلك الأيام يتوقعون قدوم أبي عون وعمرو بن سلم بن قتيبة من طخارستان. وبعث خازم إلى بكار بن مسلم: إذا رأيت رايات الهيثم بن شعبة قد جاءتك من خلفك، فكبروا وقولوا:

قد جاء أهل طخارستان. ففعل ذلك أهل الهيثم، وخرج خازم في القلب على الحريش السجستاني، فاجتلدوا بالسيوف جلادًا شديدًا، وضبر بعضهم لبعض؛ فبينا هم على تلك الحال إذ نظروا إلى أعلام الهيثم وأصحابه، فتنادوا فيما بينهم، وجاء أهل طخارستان، فلما نظر أصحاب الحريش إلى تلك الأعلام، ونظر من كان بإزاء بكار بن مسلم إليها، شد عليهم أصحاب خازم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم، فطعنوهم بالرماح، ورموهم بالنشاب، وخرج عليهم نهار بن حصين وأصحابه من ناحية الميسرة، وبكار بن مسلم وأصحابه من ناحيتهم، فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف، فقتلهم المسلمون وأكثروا؛ فكان من قتل منهم في تلك المعركة نحوًا من سبعين ألفًا، وأسروا أربعة عشر ألفًا، ولجأ أستاذ سيس إلى جبل في عدة من أصحابه يسيرة، فقدم خازم الأربعة عشر ألف أسير؛ فضرب أعناقهم، وسار حتى نزل بأستاذ سيس في الجبل الذي كان قد لجأ إليه، ووافى خازمًا بذلك المكان أبو عون وعمرو بن سلم بن قتيبة في أصحابهما؛ فأنزلهم خازم ناحية، وقال: كونوا مكانكم حتى نحتاج إليكم. فحصر خازم أستاذ سيس وأصحابه حتى نزلوا عن حكم أبي عونولم يرضوا إلا بذلك، فرضي بذلك خازم، فأمر أبا عون بإعطائهم أن ينزلوا على حكمه، ففعل؛ فلما نزلوا على حكم أبي عون حكم فيهم أن يوثق أستاذسيس وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفًا، فأنفذ ذلك خازم من حكم أبي عون، وكسا كل رجل منهم ثوبين؛ وكتب خازم بما فتح الله عليه، وأهلك عدوه إلى المهدي، فكتب بذلك المهدي إلى أمير المؤمنين المنصور.

وأما محمد بن عمر، فإنه ذكر أن خروج أستاذسيس والحريش كان في سنة خمسين ومائة، وأن أستاذسيس هزم في سنة إحدى وخمسين ومائة.

وفي هذه السنة عزل المنصور جعفر بن سليمان عن المدينة، وولاها الحسن ابن يزيد بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.

وفيها توفي جعفر بن أبي جعفر المنصور، الأكبر بمدينة السلام، وصلى عليه أبوه المنصور، ودفن ليلًا في مقابر قريش؛ ولم تكن للناس في هذه السنة صائفة؛ قيل إن أبا جعفر كان ولي الصائفة في هذه السنة أسيدًا، فلم يدخل بالناس أرض العدو، ونزل مرج دابق.

وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان العامل على مكة والطائف في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وقيل كان العامل على مكة والطائف في هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد - وعلى المدينة الحسن بن زيد العلوي، وعلى الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى البصرة عقبة بن سلم، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها

فمن ذلك ما كان من إغارة الكرك فيها في البحر على جدة؛ ذكر ذلك محمد بن عمر. وفيها ولى عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة إفريقية، وعزل عن السند وولي موضعه هشام ابن عمرو التغلبي.

ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور عمر بن حفص عن السند وتوليته إياه إفريقية واستعماله على السند هشام بن عمرو

وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد بن سليمان بن علي العباسي عن أبيه - أن المنصور ولى عمر بن حفص الصفري الذي يقال له هزارمرد السند - فأقام بها حتى خرج محمد بن عبد الله بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، فوجه محمد بن عبد الله إليه ابنه عبد الله بن محمد الذي يقال له الأشتر، في نفر من الزيدية إلى البصرة، وأمرهم أن يشتروا مهارة - خيل عتاق بها - ويمضوا بها معهم إلى السند ليكون سببًا لهم إلى الوصول إلى عمر بن حفص؛ وإنما فعل ذلك به لأنه كان فيمن بايعه من قواد أبي جعفر، وكان له ميل إلى آل أبي طالب، فقدموا البصرة على إبراهيم بن عبد الله، فاشتروا منها مهارةً - وليس في بلاد السند والهند شيء أنفق من الخيل العتاق - ومضوا في البحر حتى صاروا إلى السند، ثم صاروا إلى عمر بن حفص، فقالوا: نحن قوم نخاسون، ومعنا خيل عتاق، فأمرهم أن يعرضوا خيلهم، فعرضوها عليه؛ فلما صاروا إليه، قال له بعضهم: أدنني منك أذكر لك شيئًا، فأدناه منه، وقال له: إنا جئناك بما هو خير لك من الخيل، وما لك فيه خير الدنيا والآخرة، فأعطنا الأمان على خلتين: إما أنك قبلت ما أتيناك به، وإما سترت وأمسكت عن أذانا حتى نخرج من بلادك راجعين. فأعطاهم الأمان، فقالوا: ما للخيل أتيناك؛ ولكن هذا ابن رسول الله عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، أرسله أبوه إليك قد خرج بالمدينة، ودعا لنفسه بالخلافة، وخرج أخوه إبراهيم بالبصرة وغلب عليها، فقال: بالرحب والسعة، ثم بايعهم له، وأمر به فتوارى عنده، ودعا أهل بيته وقواده وكبراء أهل البلد للبيعة، فأجابوه، فقطع الأعلام البيض والأقبية البيض والقلانس البيض، وهيأ لبسته من البياض يصعد فيها إلى المنبر، وتهيأ لذلك يوم خميس؛ فلما كان يوم الأربعاء إذا حراقة قد وافت من البصرة، فيها رسول لخليدة بنت المعارك - امرأة عمر بن حفص - بكتاب إليه تخبره بقتل محمد بن عبد الله، فدخل على عبد الله فأخبره الخبر، وعزاه، ثم قال له: إني كنت بايعت لأبيك، وقد جاء من الأمر ما ترى. فقال له: إن أمري قد شهر، ومكاني قد عرف، ودمي في عنقك؛ فانظر لنفسك أودع. قال: قد رأيت رأيًا ههنا ملك من ملوك السند، عظيم المملكة، كثير التبع؛ وهو على شركة أشد الناس تعظيمًا لرسول الله ؛ وهو رجل وفي، فأرسل إليه، فاعقد بينك وبينه عقدًا، وأوجهك إليه تكون عنده؛ فلست ترام معه. قال: افعل ما شئت؛ ففعل ذلك؛ فصار إليه، فأظهر إكرامه وبره برًا كثيرًا؛ وتسللت إليه الزيدية حتى صار إليه منهم أربعمائة إنسان من أهل البصائر؛ فكان يركب فيهم فيصيد ويتنزه في هيئة الملوك وآلاتهم، فلما قتل محمد وإبراهيم انتهى خبر عبد الله الأشتر إلى المنصور؛ فبلغ ذلك منه، فكتب إلى عمر بن حفص يخبره بما بلغه، فجمع عمر بن حفص قرابته، فقرأ عليهم كتاب المنصور يخبرهم أنه إن أقر بالقصة لم ينظره المنصور أن يعزله، وإن صار إليه قتله، وإن امتنع حاربه. قال له رجل من أهل بيته: ألق الذنب علي، واكتب إليه بخبري، وخذني الساعة فقيدني واحبسني؛ فإنه سيكتب: احمله إلي؛ فاحملني إليه، فلم يكن ليقدم علي لموضعك في السند، وحال أهل بيتك بالبصرة. قال: إني أخاف عليك خلاف ما تظن، قال: إن قتلت أنا فنفسي فداؤك فإني سخي بها فداء لنفسك؛ فإن حييت فمن الله. فأمر به فقيد وحبس، وكتب إلى المنصور يخبره بذلك؛ فكتب إليه المنصور يأمره بحمله إليه؛ فلما صار إليه قدمه فضرب عنقه، ثم مكث يروي من يولي السند! فأقبل يقول: فلان فلان؛ ثم يعرض عنه؛ فبينا هو يومًا يسير ومعه هشام بن عمرو التغلبي، والمنصور ينظر إليه في موكبه، إذ انصرف إلى منزله، فلما ألقى ثوبه دخل الربيع فآذنه بهشام. فقال: أولم يكن معي آنفًا! قال: ذكر أن له حاجة عرضت مهمة. فدعا بكرسي فقعد عليه، ثم أذن له، فلما مثل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين؛ إني انصرف إلى منزلي من الموكب، فلقيتني أختي فلانة بنت عمرو، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين، فجئت لأعرضها عليه؛ فأطرق المنصور، وجعل ينكت الأرض بخيزرانة في يده، وقال: اخرج يأتك أمري؛ فلما ولى قال: يا ربيع؛ لولا بيت قاله جرير في بني تغلب لتزوجت أخته وهو قوله:

لاتطلبن خئولة في تغلب ** فالزنج أكرم منهم أخوالا

فأخاف أن تلد لي ولدًا، فيعير بهذا البيت؛ ولكن اخرج إليه، فقل له: يقول لك أمير المؤمنين:

لو كانت لك لله حاجة إليه لم أعدل عنها غير التزويج؛ ولو كانت لي حاجة إلى التزويج لقبلت ما أتيتني به؛ فجزاك الله عما عملت له خيرًا، وقد عوضتك من ذلك ولاية السند. وأمره أن يكاتب ذلك الملك؛ فإن أطاعه وسلم إليه عبد الله بن محمد، وإلا حاربه. وكتب إلى عمر بن حفص بولايته إفريقية. فخرج هشام بن عمرو التغلبي إلى السند فوليها، وأقبل عمر بن حفص يخوض البلاد حتى صار إلى إفريقية، فلما صار هشام بن عمرو إلى السند كره أخذ عبد الله، وأقبل يري الناس أنه يكاتب الملك ويرفق به، فاتصلت الأخبار بأبي جعفر بذلك؛ فجعل يكتب إليه يستحثه، فبينا هو كذلك إذ خرجت خارجة ببعض بلاد السند، فوجه إليهم أخاه سفنجا، فخرج يجر الجيش بجنبات ذلك الملك؛ فبينا هو يسير إذ هو برهج قد ارتفع من موكب، فظن أنه مقدمة للعدو الذي يقصد، فوجه طلائعه فرجعت، فقالت: ليس هذا عدوك الذي تريد؛ ولكن هذا عبد الله بن محمد الأشتر العلوي ركب متنزهًا يسير على شاطئ مهران، فمضى يريده، فقال له نصاحه: هذا ابن رسول الله ، وقد علمت أن أخاك تركه معتمدًا، مخافةً أن يبوء بدمه، ولم يقصدك، إنما خرج متنزهًا، وخرجت تريد غيره. فأعرض عنه، وقال: ما كنت لأدع أحدًا يحوزه، ولا ادع أحدًا يحظى بالتقرب إلى المنصور بأخذه وقتله. وكان في عشرة، فقصد قصده، وذمر أصحابه، فحمل عليه، فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه بين يديه حتى قتل وقتلوا جميعًا، فلم يفلت منهم مخبر، وسقط بين القتلى، فلم يشعر به. وقيل: إن أصحابه قذفوه في مهران لما قتل، لئلا يؤخذ رأسه؛ فكتب هشام بن عمرو بذلك كتاب فتح إلى المنصور، يخبره أنه قصده قصدًا. فكتب إليه المنصور يحمد أمره، ويأمره بمحاربة الملك الذي آواه؛ وذلك أن عبد الله كان اتخذ جواري، وهو بحضرة ذلك الملك، فأولد منهن واحدة محمد بن عبد الله - وهو أبو الحسن محمد العلوي الذي يقال له بن الأشتر - فحاربه حتى ظفر به، وغلب على مملكته وقتله، ووجه بأم ولد عبد الله وابنه إلى المنصور، فكتب المنصور إلى واليه بالمدينة، يخبره بصحة نسب الغلام، وبعث به إليه، وأمره أن يجمع آل أبى طالب، وان يقرا عليهم كتابه بصحة نسب الغلام، ويسلمه إلى أقربائه. وفي هذه السنة قدم على المنصور ابنه المهدي من خراسان، وذلك في شوال منها - فوفد إليه للقائه وتهنئة المنصور بمقدمه عامة أهل بيته، من كان منهم بالشام والكوفة والبصرة وغيرها، فأجازهم وكساهم وحملهم، وفعل مثل ذلك بهم المنصور، وجعل لابنه المهدي صحابة منهم، وأجرة لكل رجل منهم خمسمائة درهم.

ذكر خبر بناء المنصور الرصافة

وفي هذه السنة ابتدأ المنصور ببناء الرصافة في الجانب الشرقي من مدينة السلام لابنه محمد المهدي.

ذكر الخبر عن سبب بنائه ذلك له

ذكر عن أحمد بن محمد الشروي، عن أبيه، أن المهدي لما قدم من خراسان أمره المنصور بالمقام بالجانب الشرقي، وبنى له الرصافة، وعمل لها سورًا وخندقًا وميدانًا وبستانًا، وأجرى له الماء؛ فكان يجري الماء من نهر المهدي إلى الرصافة.

وأما خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن خازم، فإنه ذكر أن محمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس حدثه، أن أباه حدثه، أن الراوندية لما شغبوا على أبي جعفر وحاربوه على باب الذهب، دخل عليه قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس - وهو يومئذ شيخ كبير مقدم عند القوم - فقال له أبو جعفر: أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا! قد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، عندي في هذا رأي إن أنا أظهرته لك فسد، وإن تركتني أمضيته، صلحت لك خلافتك، وهابك جندك. فقال له: أفتمضي في خلافتي أمرًا لا تعلمني ما هو! فقال له: إن كنت عندك متهمًا على دولتك فلا تشاورني، وإن كنت مأمونًا عليها فدعني أمضي رأيي. فقال له: فأمضه. قال: فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلامًا له فقال له:

إذا كان غدًا فتقدمني، فاجلس في دار أمير المؤمنين؛ فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي، فاستوقفني واستحلفني بحق رسول الله وحق العباس وحق أمير المؤمنين لما وقفت لك، وسمعت مسألتك وأجبتك عنها؛ فإني سأنتهرك، وأغلظ لك القول، فلا يهولنك ذلك مني، وعاودني بالقول وبالمسألة، فإني سأشتمك، فلا يروعنك ذلك، وعاودني بالقول والمسألة، فإني سأضربك بسوطي، فلا يشق ذلك عليك، فقل لي: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ فإذا أجبتك فخلي عنان بغلتي وأنت حر.

قال: فغدا الغلام، فجلس حيث أمره من دار الخليفة، فلما جاء الشيخ فعل الغلام ما أمر به مولاه، وفعل المولى ما كان قاله له، ثم قال له: قل، فقال: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ قال: فقال قثم: مضر كان منها رسول الله ، وفيها كتاب الله عز وجل، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله. قال: فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيء من شرفها؛ فقال له قائد من قواد اليمن: ليس الأمر كذلك مطلقًا بغير شرفة ولا فضيلة لليمن، ثم قال لغلامه: قم فخذ بعنان بغلة الشيخ، فاكبحها كبحًا عنيفًا تطأ من به منه، قال: ففعل الغلام ما أمره به مولاه حتى كاد أن يقعيها على عراقيبها، فامتعضت من ذلك مضر، فقالت: أيفعل هذا بشيخنا! فأمر رجل منهم غلامه، فقال: اقطع يد العبد، فقام إلى غلام اليماني فقطع يده، فنفر الحيان، وصرف قثم بغلته، فدخل على أبي جعفر، وافترق الجند، فصارت مضر فرقة، واليمن فرقة، والخرسانية فرقة، وربيعة فرقة، فقال قثم لأبي جعفر: قد فرقت بين جندك، وجعلتهم أحزابًا كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثًا، فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية، قال: ما هي؟ قال: اعبر بابنك فأنزله في ذلك الجانب قصرًا، وحوله وحول معك من جيشك معه قومًا فيصير ذلك بلدًا، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسد عليك أهل ذلك الجانب ضربتهم بأهل هذا الجانب، وإن فسدت عليك مضر ضربتها باليمن وربيعة والخرسانية، وإن فسدت عليك اليمن ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها.

قال: فقبل أمره ورأيه، فاستوى له ملكه؛ وكان ذلك سبب البناء في الجانب الشرقي وفي الرصافة وأقطاع القواد هناك.

قال: وتولى صالح صاحب المصلى القطائع في الجانب الشرقي، ففعل كفعل أبي العباس الطوسي في فضول القطائع في الجانب الغربي، فله بباب الجسر وسوق يحيى ومسجد خضير وفي الرصافة وطريق الزواريق على دجلة مواضع بناء، بما استوهب من فضل الإقطاع عن أهله، وصالح رجل من أهل خراسان.

وفي هذه السنة جدد المنصور البيعة لنفسه ولإبنه محمد المهدي من بعده، ولعيسى بن موسى من بعد المهدي على أهل بيته في مجلسه في يوم جمعة؛ وقد عمهم بالإذن فيه؛ فكان كل من بايعه منهم يقبل يده ويد المهدي، ثم يمسح على يد عيسى بن موسى ولا يقبل يده.

وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد.

أمر عقبة بن سلم

وفيها شخص عقبة بن سلم من البصرة واستخلف عليها ابنه نافع بن عقبة إلى البحرين، فقتل سليمان بن حكيم العبدي وسبى أهل البحرين، وبعث ببعض من سبى منهم وأسارى منهم إلى أبي جعفر، فقتل منهم عدة ووهب بقيتهم للمهدي. فمن عليهم وأعتقهم؛ وكسا كل إنسان منهم ثوبين من ثياب مرو.

ثم عزل عقبة بن سلم عن البصرة؛ فذكر عن إفريك - جارية أسد بن المرزبان - أنها قالت: بعث المنصور بن المرزبان إلى عقبة بن سلم إلى البحرين حين قتل منهم من قتل، ينظر في أمره، فمايله ولم يستقص عليه، ووري عنه؛ فبلغ ذلك أبا جعفر، وبلغه أنه أخذ منه مالًا، فبعث إليه أبا سو يد الخراساني - وكان صديق أسد - وأخاه فلما رآه مقبلًا على البريد فرح، وكان ناحية من عسكر عقبة، فتطاول له، وقال: صديقي. فوقف عليه فوثب ليقوم إليه، فقال له أبو سويد " بنشين بنشين "، فجلس فقال له: أنت سامع مطيع؟ قال: نعم، قال: مد يدك، فمد يده فضربها فأطنها، ثم مد رجله، ثم مد يده ثم رجله حتى قطع الأربع، ثم قال: مد عنقك فمد فضرب عنقه. قالت إفريك: فأخذت رأسه فوضعته في حجري، فأخذه مني فحمله إلى المنصور. فما أكلت إفريك لحمًا حتى ماتت.

وزعم الواقدي أن أبا جعفر ولى معن بن زائدة في هذه السنة سجستان. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

وكان العامل على مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى البصرة جابر بن طلبه الكلابي، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم.

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها

فمن ذلك ما كان من قتل الخوارج فيها معن بن زائدة الشيباني ببست سجستان.

فيها غزا حميد بن قحطبة كابل، وكان المنصور ولاه خراسان في سنة اثنتين وخمسين ومائة.

وغزا - فيما ذكر - الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم ولم يدرب.

وقيل إن الذي غزا الصائفة في هذه السنة محمد بن إبراهيم.

وفيها عزل المنصور جابر بن توبة عن البصرة، وولاها يزيد بن منصور.

وفيها قتل أبو جعفر هاشم بن الأشتاخنج، وكان عصي وخالف في إفريقية، فحمل إليه هو وابن خالد المرور وذي، فقتل ابن الأشتاخنج بالقادسية، وهو متوجه إلى مكة.

وحج بالناس هذه السنة المنصور؛ فذكر أنه شخص من مدينة السلام في شهر رمضان ولا يعلم بشخوصه محمد بن سليمان، وهو عامله على الكوفة يومئذ، ولا عيسى بن موسى ولا غيرهما من أهل الكوفة حتى قرب منها.

وفيها عزل يزيد بن حاتم عن مصر ووليها محمد بن سعيد.

وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال في السنة الخالية إلا البصرة فإن عاملها في هذه السنة كان يزيد بن منصور، وإلا مصر فإن عاملها كان في هذه السنة محمد بن سعيد.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك تجهيز المنصور جيشًا في البحر لحرب الكرك، بعد مقدمة البصرة، منصرفًا من مكة إليها بعد فراغه من حجه، وكانت الكرك أغارت على جدة، فلما قدم المنصور البصرة في هذه السنة جهز منها جيشًا لحربهم، فنزل الجسر الأكبر حين قدمها - فيما ذكر -. وقمته هذه البصرة القدمة الآخرة.

وقيل إنه إنما قدمها القدمة الآخرة في سنة خمس وخمسين ومائة، وكانت قدمته الأولى في سنة خمس وأربعين ومائة، وأقام بها أربعين يومًا، وبنى بها قصرًا ثم انصرف منها إلى مدينة السلام.

وفيها غضب المنصور على أبي أيوب المورياني، فحبسه وأخاه وبني أخيه: سعيدًا ومسعودًا ومخلدًا ومحمدًا، وطالبهم. وكانت منازلهم المناذر وكان سبب غضبه عليه - فيما قيل - سعي أبان بن صدقة كاتب أبي أيوب إليه.

وفي هذه السنة قتل عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة بإفريقية، قتله أبو حاتم الأباضي وأبو عاد ومن كان معهما من البربر، وكانوا - فيما ذكر - ثلاثمائة ألف وخمسين ألفًا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفًا، ومعهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفًا، وكان يسلم عليه قبل ذلك بالخلافة أربعين يومًا.

وفيها حمل عباد مولى المنصور وهرثمة بن أعين ويوسف بن علوان من خراسان في سلاسل، لتصبهم لعيسى بن موسى.

وفيها أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، وكانوا - فيما ذكر - يحتالون لها بالقصب من داخل، فقال أبو دلامة:

وكنا نرجى من إمام زيادة ** فزاد الإمام المصطفى في القلانس

تراها على هام الرجال كأنها ** دنان يهود جللت بالبرانس

وفيها توفي عبيد بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضي مكانه شريك بن عبد الله النخعي.

وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري، فصار إلى حصن من حصون الروم ليلًا، وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه من المقاتلة، ثم صار إلى اللاذقية المحترقة، ففتحها واخرج منها ستة آلاف رأس من السبي سوى الرجال البالغين.

وفيها ولى المنصور بكار بن مسلم العقلي على أرمينية وحج بالناس في هذه السنة محمد بن أبي جعفر المهدي.

وكان على مكة والطائف يومئذ محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد بن الحسن، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى قضائها سوار وعلى مصر محمد بن سعيد.

وذكر الواقدي أن يزيد بن منصور كان في هذه السنة والي اليمن من قبل أبي جعفر المنصور.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك خروج المنصور إلى الشام ومسيره إلى بيت المقدس وتوجيهه يزيد بن حاتم إلى أفريقية في خمسين ألفًا - فيما ذكر - لحرب الخوارج اللذين كانوا بها، الذين قتلوا عامله عمر بن حفص. وذكر انه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم.

وفي هذه السنة عزم المنصور - فيما ذكر - على بناء مدينة الرافقة، وذكر عن محمد جابر، عن أبيه أن أبا جعفر لما أراد بناءها، امتنع أهل الرقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطل علينا أسواقنا وتذهب بمعايشنا، وتضيق منازلنا؛ فهم بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصومعة هنالك، فقال له: هل لك علم بأن إنسانًا يبني هاهنا مدينة؟ فقال: بلغني أن رجلًا يقال له مقلاص يبنيها، فقال: أنا والله مقلاص.

وذكر محمد بن عمر أن صاعقةً سقطت في هذه السنة في المسجد الحرام فقتلت خمسة نفر.

وفيها هلك أبو أيوب المورياني وأخوه خالد، وأمر المنصور موسى بن دينار حاجب أبي العباس الطوسي بقطع أيدي بنس آخى أبي أيوب وأرجلهم وضرب أعناقهم؛ وكتب بذلك إلى المهدي، ففعل ذلك موسى وأنفذ فيهم ما أمره به.

وفيها ولي عبد الملك بن ظبيان النميري على البصرة.

وغزا الصائفة في هذه السنة زفر بن عاصم الهلالي فبلغ الفرات.

وحج بالناس في هذه السنة محمد بن إبراهيم، وهو عامل أبي جعفر على مكة والطائف.

وكان على المدينة الحسن بن يزيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة عبد الملك بن أيوب بن ظبيان. وعلى قضائها سوار بن عبد الله وعلى السند هشام بن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها

فمن ذلك افتتاح يزيد بن حاتم إفريقية وقتله أبا عاد وأبا حاتم ومن كان مع واستقامت بلاد المغرب، ودخل يزيد بن حاتم القيروان.

وفيها وجه المنصور ابنه المهدي لبناء مدينة الرافقة، فشخص إليها، فبناها على بناء مدينته ببغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وسور سورها وخندقها، ثم انصرف إلى مدينته.

وفيها - فيما ذكر محمد بن عمر - خندق أبو جعفر على الكوفة والبصرة، وضرب عليهما سورًا، وجعل ما أنفق على سور ذلك وخندقه من أموال أهله. وعزل فيها المنصور عبد الملك بن أيوب بن ظبيان عن البصرة، واستعمل عليها الهيثم بن معاوية العتكي، وضم إليه سعيد بن دعلج، وأمره ببناء سور لها يطيف بها، وخندق عليها من دون السور من أموال أهلها، ففعل ذلك.

وذكر أن المنصور لما أراد الأمر ببناء سور الكوفة وبحفر خندق لها، أمر بقسمة خمسة دراهم، على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم؛ فلما عرف عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهمًا من كل إنسان، فجبوا، ثم أمر بإنفاق ذلك على سور الكوفة وحفر خندق لها، فقال شاعرهم:

يا لقومي ما لقينا ** من أمير المؤمنينا

قسم الخمسة فينا ** وجبانا الأربعينا

وفيها طلب صاحب الروم الصلح إلى المنصور؛ على أن يؤدي إليه الجزية.

وغزا الصائفة في هذه السنة يزيد بن أسيد السلمي وفيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة، وغرمه مالًا، وغضب عليه وحبسه، فذكر عن بعض بني هاشم، أنه قال: كان المنصور ولى العباس بن محمد الجزيرة بعد يزيد بن أسيد، ثم غضب عليه فلم يزل ساخطًا عليه حتى غضب على بعض عمومته من ولد علي بن عبد الله بن عباس أما إسماعيل بن علي أو غيره فاعتوره أهله وعمومته ونساؤهم يكلمونه فيه، وضيقوا عليه فرضي عنه، فقال عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين؛ إن آل علي بن عبد الله - وإن كانت نعمك عليهم سابغة - فإنهم يرجعون إلى الحسد لنا؛ فمن ذلك أنك غضبت على إسماعيل بن علي منذ أيام، فضيقوا عليك. وأنت غضبان على العباس بن محمد، منذ كذا وكذا، فما رأيت أحدًا منهم كلمك فيه. قال: فدعا العباس فرضي عنه.

قال: وقد كان يزيد بن أسيد عند عزل العباس إياه عن الجزيرة، شكا إلى أبي جعفر العباس، وقال: يا أمير المؤمنين؛ إن أخاك أساء عزلي، وشتم عرضي، فقال له المنصور: اجمع بين إحساني إليك وإساءة أخي يعتدلا، فقال يزيد بن أسيد: يا أمير المؤمنين؛ إذا كان إحسانكم جزاء إساءتكم، كانت طاعتنا تفضلًا منا عليكم.

وفيها استعمل المنصور على حرب الجزيرة وخراجها موسى بن كعب.

وفي هذه السنة عزل المنصور عن الكوفة محمد بن سليمان بن علي، في قول بعضهم، وأستعمل مكانه عمرو بن زهير أخا المسيب بن زهير.

وأما عمر بن شبة فإنه زعم أنه عزل محمد بن سليمان عن الكوفة في سنة ثلاث وخمسين ومائة، وولاها عمرو بن زهير الضبي أخا المسيب بن زهير في هذه السنة. قال: وهو حفر الخندق بالكوفة.

ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور محمد بن سليمان بن علي

ذكر أن محمد بن سليمان أتى في عمله على الكوفة بعبد الكريم بن أبي العوجاء - وكان خال معن بن زائدة - فأمر بحبسه. قال أبو زيد: فحدثني قثم بن جعفر والحسين بن أيوب وغيرهما أن شفعاءه كثروا بمدينة السلام، ثم ألحوا على أبي جعفر، فلم يتكلم فيه إلا ظنين، فأمر بالكتاب إلى محمد بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه، فكلم ابن أبي العوجاء أبى الجبار - وكان منقطعًا إلى أبي جعفر ومحمد ثم إلى أبنائهما بعدهما - فقال له: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف، ولك أنت كذا وكذا، فأعلم أبو الجبار محمدًا، فقال: أذكرتنيه والله وقد كنت نسيته؛ فإذا انصرفت من الجمعة فأذكرنيه. فلما انصرف أذكره، فدعى به وأمر بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول، قال: أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحل فيها الحرام؛ والله لقد فطرتكم في يوم صومكم، وصومتكم في يوم فطركم، فضربت عنقه.

وورد على محمد رسول أبي جعفر بكتابه: إياك أن تحدث في أمر ابن أبي العوجاء شيئًا، فإنك إن فعلت فعلت بك وفعلت يتهدده. فقال محمد للرسول: هذا رأس ابن أبي العوجاء وهذا بدنه مصلوبًا بالكناسة، فأخبر أمير المؤمنين بما أعلمتك؛ فلما بلغ الرسول أبا جعفر رسالته، تغيظ عليه وأمر بالكتاب يعزله وقال: والله لهممت أن أقيده به، ثم أرسل إلى عيسى بن علي فأتاه، فقال: هذا عملك أنت! أشرت بتولية هذا الغلام، فوليته غلامًا جاهلًا لا علم له بما يأتي؛ يقدم على رجل يقتله من غير أن يطلع رأيي فيه، ولا ينتظر أمري! وقد كتبت بعزله؛ وبالله لأفعلن به ولأفعلن يتهدده، فسكت عنه عيسى حتى سكن غضبه، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إن محمدًا إنما قتل هذا الرجل على الزندقة، فإن قتله صوابًا فهو لك، وإن كان خطأ فهو على محمد، والله يا أمير المؤمنين لئن عزلته على تفية ما صنع ليذهبن بالثناء والذكر، ولترجعن القالة من العامة عليك. فأمر بالكتب فمزقت وأقر على عمله. وقال بعضهم: إنما عزل المنصور محمد بن سليمان عن الكوفة لأمور قبيحة بلغته عنه، اتهمه فيها؛ وكان الذي أنهى ذلك إليه المساور بن سوار الجرمي صاحب شرطة، وفي مساور يقول حماد.

لحسبك من عجيب الدهر أني ** أخاف وأتقي سلطان جرم

وفي هذه السنة أيضًا عزل المنصور الحسن بن زيد عن المدينة، واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي. وجعل معه فليح بن سليمان مشرفًا عليه. وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم ابن محمد، وعلى الكوفة عمرو بن زهير، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها

ذكر الخبر عن مقتل عمرو بن شداد

فمن ذلك ما كان من ظفر الهيثم بن معاوية عامل أبي جعفر على البصرة بعمرو بن بن شداد عامل إبراهيم بن عبد الله على فارس، فقتل بالبصرة وصلب.

ذكر الخبر عن سبب الظفر به

ذكر عمر أن محمد بن معروف حدثه، قال: أخبرني أبي، قال: ضرب عمرو بن شداد خادمًا له، فأتى عامل البصرة - إما ابن دعلج، وإما الهيثم بن معاوية - فدله غليه، فأخذه فقتله وصلبه في المربد في موضع دار إسحاق بن سليمان. وكان عمرو مولى لبني جمح، فقال بعضهم: ظفر به الهيثم بن معاوية وخرج يريد مدينة السلام، فنزل بقصر له على شاطئ نهر يعرف بنهر معقل، فأقبل بريد من عند أبي جعفر، ومعه كناب إلى الهيثم بن معاوية بدفع عمرو بن شداد إليه، فدفعه الهيثم إليه، فأقدمه البصرة، ثم أتى به ناحية الرحبة، فخلا به يسائله، فلم يظفر منه بشيء يحب علمه، فقطع يديه ورجليه، وضرب عنقه وصلبه في مربد البصرة.

وفي هذه السنة عزل المنصور الهيثم بن معاوية عن البصرة وأعمالها، واستعمل سوار بن عبد الله القاضي على الصلاة، وجمع له القضاء والصلاة. وولى المنصور سعيد بن دعلج شرط البصرة وأحداثها.

وفيها توفي الهيثم بن معاوية بعد ما عزل عن البصرة فجأة بمدينة السلام، وهو على بطن جارية له، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم.

وفي هذه السنة غزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي.

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن محمد بن علي.

وكان العامل على مكة محمد بن إبراهيم، وكان مقيمًا بمدينة السلام، وابنه إبراهيم بن محمد خليفته بمكة؛ وكان إليه مع مكة الطائف. وعلى الكوفة عمر بن زهير، وعلى الأحداث والجوالي والشرط وصدقات أرض العرب بالبصرة سعيد بن دعلج، وعلى الصلاة بها والقضاء سوار بن عبد الله، وعلى كور دجلة والأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو، وعلى أفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك ابتناء المنصور قصره الذي على شاطئ دجلة؛ الذي يدعى الخلد وقسم بناءه على مولاه الربيع وأبان بن صدقة.

وفيها قتل يحيى أبو زكريا المحتسب؛ وقد ذكرنا قبل سبب قتله إياه.

وفيها حول المنصور الأسواق من مدينة السلام إلى باب الكرخ وغيره من المواضع، وقد مضى أيضًا ذكرنا سبب ذلك قبل.

وفيها ولى المنصور جعفر بن سليمان على البحرين، فلم يتم ولايته، ووجه مكانه أميرًا عليها سعيد بن دعلج؛ فبعث سعيد ابنه تميمًا عليها.

وفيها عرض المنصور جنده في السلاح والخبل على عينه في مجلس اتخذه على شط دجلة دون قطربل، وأمر أهل بيته وقرابته وصحابته يومئذ بلبس السلاح، وخرج وهو لابس درعًا وقلنسوة تحت البيضة سوداء لاطئة مضربة.

وفيها توفي عامر بن إسماعيل المسلى، بمدينة السلام، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم.

وفيها توفي سوار بن عبد الله وصلى عليه ابن دعلج، واستعمل المنصور مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري.

وفيها عقد المنصور الجسر عند باب الشعير، وجرى ذلك على يد حميد القاسم الصيرفي، بأمر الربيع الحاجب.

وفيها عزل محمد بن سعيد الكاتب عن مصر، واستعمل عليها مطر مولى أبي جعفر المنصور.

وفيها ولي معبد بن الخليل السند، وعزل عنها هشاط بن عمرو، ومعبد يومئذ بخراسان؛ كتب إليه بولايته.

وغزا الصائفة فيها يزيد بن أسيد السلمي، ووجه سنانًا مولى البطال إلى بعض الحصون، فسبى وغنم.

وقال محمد بن عمر: الذي غزا الصائفة في هذه السنة زفر بن عاصم.

وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

قال محمد بن عمر: كان على المدينة - يعني إبراهيم هذا.

وقال غيره: كان على المدينة في هذه السنة عبد الصمد بن علي، وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند معبد بن الخليل، وعلى مصر مطر مولى المنصور.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر الخبر عن تولية خالد بن برمك الموصل

فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره وإياه بعزل موسى بن كعب عن الموصل وتولية يحيى بن خالد بن برمك عليها وكان سبب ذلك - فيما ذكر الحسن بن وهب بن سعيد عن صالح بن عطية - قال: كان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف، ونذر دمه فيها، وأجله ثلاثة أيام بها، فقال خالد لابنه يحيى: يا بني، إني قد أوذيت وطولبت بما ليس عندي، وإنما يراد بذلك دمي؛ فانصرف إلى حرمتك وأهلك، فما كنت فاعلًا بهم بعد موتي فافعله. ثم قال له: يا بني لا يمنعنك ذلك من أن تلقى إخواننا، وأن تمر بعمارة بن حمزة وصالح صاحب المصلى ومبارك التركي فتعلمهم حالنا.

قال: فذكر صالح بن عطية أن يحيى حدثه، قال: أتيتهم فمنهم من تجهمني وبعث بالمال سرًا إلي، ومنهم من لم يأذن لي، وبعث بالمال في إثري. قال: واستأذنت على عمارة بن حمزة، فدخلت عليه وهو في صحن داره، مقابل بوجههه الحائط؛ فما انصرف إلي بوجهه، فسلمت عليه، فرد علي ردًا ضعيفًا، وقال: يا بني؛ كيف أبوك؟ قلت: بخير، يقرأ عليك السلام ويعلمك ما قد لزمه من هذا الغرم، ويستسلفك مائة ألف درهم. قال: فما رد علي قليلًا ولا كثيرًا، قال: فضاق بي موضعي، ومادت بي الأرض. قال: ثم كلمته فيما أتيته له. قال: فقال: إن أمكنني شيْ فسيأتيك، قال يحيى: فانصرفت وأنا أقول في نفسي: لعن الله كل شيء يأتي من تيهك وعجبك وكبرك! وصرت إلى أبي، فأخبرته الخبر، ثم قلت له: وأراك تثق من عمارة بن حمزة بما لا يوثق به! قال: فوالله إني لكذلك؛ إذ طلع رسول عمارة بن حمزة بالمئة ألف. قال: فجمعنا في يومين ألفي ألف وسبعمائة ألف، وبقيت ثلاثمائة ألف بوجودها يتم ما سعينا له، وبتعذرها يبطل. قال: فوالله إني لعلى الجسر ببغداد مارًا مهمومًا مغمومًا؛ إذ وثب إلي زاجر فقال: فرخ الطائر أخبرك! قال: فطويته مشغول القلب عنه، فلحقني وتعلق بلجامي، وقال لي: أنت والله مهموم، ووالله ليفرجن الله همك، ولتمرن غدًا في هذا الموضع واللواء بين يديك. قال: فأقبلت أعجب من قوله. قال: فقال لي: إن كان ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم؟ قلت: نعم - ولو قال خمسون ألفًا لقلت نعم، لبعد ذلك عني من أن يكون - قال: ومضيت. وورد على المنصور انتقاض الموصل وانتشار الأكراد بها. فقال: من لها؟ فقال له المسيب بن زهير - وكان صديقًا لخالد بن برمك: عندي يا أمير المؤمنين رأي، أرى أنك لا تنتصحه؛ وأنك ستلقاني بالرد، ولكني لا أدع نصحك فيه والمشورة عليك به، قال: قل، فلا أستغشك، قلت: يا أمير المؤمنين ما رميتها بمثل خالد، قال: ويحك! فيصلح لنا بعد ما أتينا إليه! قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إنما قومته لذلك وأنا الضامن عليه، قال: فهو لها والله، فليحضرني غدًا. فأحضر، فصفح له عن الثلاث مائة ألف الباقية، وعقد له.

قال يحيى: ثم مررت بالزاجر، فلما رآني قال: أنا هاهنا أنتظرك منذ غدوة، قلت: امض معي، فمضى معي، فدفعت إليه الخمسة الآلاف. قال: وقال لي أبي: إلي بني؛ إن عمارة تلزمه حقوق، وتنوبه نوائب فأته، فأقرئه السلام، وقل له: إن الله قد وهب لنا رأي أمير المؤمنين، وصفح لنا عما بقي علينا، وولاني الموصل؛ وقد أمر برد ما استسلفت منك. قال: فأتيته فوجدته على مثل الحال التي لقيته عليه. فسلمت فما رد السلام عليه، ولا زادني على أن قال: كيف أبوك؟ قلت: بخير ويقول كذا وكذا وقال: فاستوى جالسًا، ثم قال لي: ما كنت إلا قسطارًا لأبيك؛ يأخذ مني إذا شاء، ويرد إذا شاء! قم عني لا قمت! قال: فرجعت إلى أبي فأعلمته، ثم قال لي أبي: يا بني، هو عمارة ومن لا يعترض عليه! قال: فلم يزل خالد على الموصل إلى أن توفي المنصور ويحيى على أذربيجان، فذكر عن أحمد بن محمد بن سوار الموصلي أنه قال: ما هبنا قط أمير هيبتنا خالد بن برمك من غير أن تشتد عقوبته، ولا نرى منه جبرية؛ ولكن هيبة كانت له في صدورنا.

وذكر أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، عن أبيه، قال: كان أبو جعغر غضب على موسى بن كعب - وكان عامله على الجزيرة والموصل - فوجه المهدي إلى الرقة لبناء الرافقة، وأظهر أنه يريد بيت المقدس، وأمره بالمرور والمضي على الموصل، فإذا صار بالبلد أخذ موسى بن كعب فقيده، وولي خالد بن برمك الموصل مكانه، ففعل المهدي ذلك، وخف خالدًا على الموصل، وشخص معه أخوا خالد: الحسن وسليمان ابنا برمك، وقد كان المنصور دعا قبل ذلك يحيى بن خالد، فقال له: قد أردتك لأمر مهم من الأمور، واخترتك لثغر من الثغور؛ فكن على أهبة؛ ولا يعلم بذلك أحد حتى أدعو يحيى بن خالد! فقام فأخذه بيده، فأدخله على المنصور، فخرج على الناس وأبوه حاضر واللواء بين يديه على أذربيجان، فأمر الناس بالمضي معه، فمضوا في موكبه، وهنئوه أباه خالدًا بولايته، فاتصل عملهما.

وقال أحمد بن معاوية: كان المنصور معجبًا بيحيى، وكان يقول ولد الناس ابنًا وولد خالد أبًا.

وفي هذه السنة نزل المنصور قصره الذي يعرف بالخلد.

وفيها سخط المنصور على المسيب بن زهير وعزله عن الشرطة، وأمر بحبسه وتقييده، وكان سبب ذلك انه قتل أبان بن بشير الكاتب بالسياط، لأمر كان وجد عليه فيما كان من شركته لأخيه عمرو بن زهير في ولاية الكوفة وخراجها، وولى مكان المسيّب الحكم بن يوسف صاحب الحرب، ثم كلم المهدي أباه في المسيب، فرضى عنه بعد حبسه إياه أيامًا، وأعاد إليه ما كان يلي من شرطه.

وفيها وجه المنصور نصر بن حرب التميمي واليًا على ثغر فارس.

وفيها سقط المنصور عن دابته بجر جرايا، فانشج ما بين حاجبيه؛ وذلك أنه كان خرج لما وجه ابنه المهدي إلى الرقة مشيعًا له، حتى بلغ موضعًا يقال له جب سماقا، ثم عدل إلى حولايا، ثم أخذ على النهروانات فانتهى فيما ذكر إلى بشق من النهروانات يصب إلى نهر ديالى، فأقام على سكره ثمانية عشر يومًا، فأعياه، فمضى إلى جرجرايا، فخرج منها للنظر إلى ضيعة كانت لعيسى بن علي هناك، فصرع من يومه ذلك عن برذون له ديزج فشج في وجهه، وقدم عليه وهو بجرجرايا أسارى من ناحية عمان من الهند، بعث بهم إليه تسنيم بن الحواري مع ابنه محمد، فهم بضرب أعناقهم، فسألهم فأخبروه بما التبس به أمرهم عليه؛ فأمسك عن قتلهم وقسمهم بين قواده ونوابه.

وفيها انصرف المهدي إلى مدينة السلام من الرقة فدخلها في شهر رمضان وفيها أمر المنصور بمرمة القصر الأبيض، الذي كان كسرى بناه، وأمر أن يغرم كل من وجد في داره شيء من الآجر الخرسواني، مما نقضه من بناء الأكاسرة، وقال: هذا فيء المسلين، فلم يتم ذلك ولا ما أمر به من مرمة القصر.

وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى من درب الحدث، فلقى العدو فإقتتلوا ثم تحاجزوا.

ذكر الخبر عن حبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري

وفي هذه السنة حبس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو أمير مكة - فيما ذكر - بأمر المنصور إياه بحبسهم: ابن جريج وعباد بن كثير والثوري، ثم أطلقه من الحبس بغير إذن أبي جعفر، فغضب عليه أبو جعفر.

وذكر عمر بن شبة أن محمد بن عمران مولى محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس حدثه عن أبيه، قال: كتب المنصور إلى محمد بن إبراهيم - وهو أمير على مكة - يأمره بحبس رجل من آل علي بن أبي طالب كان بمكة، ويحبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري وقال: فحسبهم؛ فكان له سمار يسامره بالليل؛ فلما كان وقت سمره جلس وأكب على الأرض ينظر إليها، ولم ينطق بحرف حتى تفرقوا. قال فدنوت منه فقلت له: قد رأيت ما بك، فمالك؟ قال: عمدت إلى ذي رحم فحبسته، وإلى عيون من عيون الناس فحسبتهم، فيقدم أمير المؤمنين ولا أدري ما يكون؛ فلعله أن يأمر بهم فيقتلوا، فيشتد سلطانه وأهلك ديني، قال: فقلت له: فتصنع ماذا؟ قال: أوثر الله، وأطلق القوم؛ اذهب إلى إبلي فخذ راحلةً منها، وخذ خمسين دينارًا فأت بها الطالبي وأقرئه السلام، وقل له: إن ابن عمك يسألك أن تحلله من ترويعه إياك، وتركب هذه الراحلة، وتأخذ هذه النفقة. قال: فلما أحس بي جعل يتعوذ بالله من شري، فلما أبلغته قال: هو في حل ولا حاجة لي إلى الراحلة ولا إلى النفقة. قال: قلت: إن أطيب لنفسه أن تأخذ، ففعل. قال: ثم جئت إلى ابن جريج وإلى سفيان بن سعيد وعباد بن كثير فأبلغتهم ما قال، قالوا: هو في حل، قال: فقلت لهم: يقول لكم: لا يظهرن أحد منكم مادام المنصور مقيمًا. قال: فلما قرب المنصور وجهني محمد بن إبراهيم بألطاف، فلما أخبر المنصور أن رسول محمد بن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها. قال: فلما صار إلى بئر ميمون لقية محمد، بن إبراهيم، فلما أخبر بذلك أمر بدوابه فضربت وجوهها، فعدل محمد، فكان يسير في ناحية. قال: وعدل بأبي جعفر عن طريق في الشق الأيسر فأنيخ به، ومحمد واقف قبالته، ومعه طبيب له؛ فلما ركب أبو جعفر وسار، وعديله الربيع أمر محمد الطبيب فمضى إلى موضع مناخ أبي جعفر، فرأى نجوه، فقال لمحمد: رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة، فلما دخل مكة لم يلبث أن مات وسلم محمد.

ذكر الخبر عن وفاة أبي جعفر المنصور

وفيها شخص أبو جعفر من مدينة السلام، متوجهًا إلى مكة؛ وذلك في شوال، فنزل - فيما ذكر - عند قصر عبدويه، فانقض في مقامه هنالك كوكب، لثلاث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بينًا إلى طلوع الشمس، ثم مضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة ثم أهل منها بالحج والعمرة، وساق معه الهدى وأشعره وقلده؛ لأيام خلت من ذي القعدة. فلما سار منازلًا عرض له وجعه الذي توفي منه.

واختلف في سبب الوجع الذي كانت منه وفاته فذكر عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبيه، إنه كان يقول: كان المنصور لا يستمرئ طعامه؛ ويشكو من ذلك إلى المتطببين ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات؛ فكانوا يكرهون ذلك ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منه عليه؛ حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قال له غيره؛ فكان يتخذ له سفوفًا جوارشنًا يابسًا، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه فأحمده. قال: فقال لي أبي: قال لي كثير من متطببي العراق: لا يموت والله أبو جعفر أبدًا إلا بالبطن، قال: قلت له: وما علمك؟ قال: هو يأخذ الجوارشن فيهضم طعامه؛ ويخلق من زئير معدته في كل يوم شيئًا، وشحم مصارينه، فيموت ببطنه. وقال لي: اضرب لذلك مثلًا، أرأيت لو أنك وضعت جرًا على مرفع، ووضعت تحتها آجرة جديدة فقطرت، أما كان قطرها يثقب الآجرة على طول الدهر! أوما علمت أن لكل قطرة حدًا! قال: فمات والله أبو جعفر - كما قال - بالبطن.

وقال بعضهم: كان بدء وجعه الذي مات فيه من حر أصابه من ركوبه في الهواجر، وكان رجلًا محرورًا على سنه، يغلب عليه المرار الأحمر، ثم هاض بطنه، فلم يزل كذلك حتى نزل بستان ابن عامر، فاشتد به، فرحل عنه فقصر عن مكة، ونزل بئر ابن المرتفع، فأقام بها يومًا وليلة، ثم صار منها إلى بئر ميمون، وهو يسأل عن دخوله الحرم، ويوصي الربيع بما يريد أن يوصيه، وتوفي بها في السحر أو مع طلوع الفجر ليلة السبت لست خلون من ذي الحجة، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه والربيع مولاه؛ فكتم الربيع موته، ومنع النساء وغيرهن من البكاء عليه والصراخ، ثم أصبح فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون، وجلسوا مجالسهم؛ فكان أول من دعى به عيسى بن علي، فمكث ساعة، ثم أذن لعيسى بن موسى - وقد كان فيما خلا يقدم في الإذن على عيسى بن علي، فكان ذلك مما ارتيب به - ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان من أهل البيت، ثم لعامتهم؛ فأخذ الربيع بيعتهم لأمير المؤمنين المهدي ولعيسى بن موسى من بعده، على يد موسى بن المهدي حتى فرغ من بيعة بني هاشم؛ ثم دعا بالقواد فبايعوا ولم ينكل منهم عن ذلك رجل إلا علي بن عيسى بن ماهان؛ فإنه أبى عند ذكر عيسى بن موسى أن يبايع له، فلطمه محمد بن سليمان، وقال: ومن هذا العلج! وأمصه، وهم بضرب عنقه، فبايع، وتتابع الناس بالبيعة. وكان المسيب بن زهير أول من استثنى في البيعة، وقال: عيسى بن موسى: إن كان كذلك. فأمضوه.

وخرج موسى بن المهدي إلى مجلس العامة، فبايع من بقي من القواد والوجوه، وتوجه العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايع أهلها بها؛ وكان عباس يومئذ المتكلم، فبايع الناس للمهدي بين الركن والمقام، وتفرق عدة من أهل بيت المهدي في نواحي مكة والعسكر فبايعه الناس، وأخذ في جهاز المنصور وغسله وكفنه، وتولى ذلك من أهل بيته العباس بن محمد والربيع والريان وعدة من خدمه ومواليه، ففرغ من جهازه مع صلاة العصر، وغطي من وجهه وجميع جسده بأكفانه إلى قصاص شعره، وأبدي رأسه مكشوفًا من أجل الإحرام، وخرج به أهل بيته والأخص من مواليه، وصلى عليه - فيما زعم الواقدي - عيسى بن موسى في شعب الخوز.

وقيل: إن الذي صلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي. وقيل: إن المنصور كان أوصى بذلك؛ وذلك أنه كان خليفته على الصلاة بمدينة السلام.

وذكر علي بن محمد النوفلي، عن أبيه، أن إبراهيم بن يحيى صلى عليه في المضارب قبل أن يحمل؛ لأن الربيع قال: لا يصلي عليه أحد يطمع في الخلافة، فقدموا إبراهيم بن يحيى - وهو يومئذ غلام حدث - ودفن في المقبرة التي عند ثنية المدنيين التي تسمى كذا، وتسمى ثنية المعلاة؛ لأنها بأعلى مكة ونزل في قبره عيسى بن علي والعباس بن محمد وعيسى بن موسى، والربيع والريان مولياه، ويقطين بن موسى.

واختلف في مبلغ سنه يوم توفي، فقال بعضهم: كان يوم توفي ابن أربع وستين سنة.

وقال بعضهم: كان يومئذ ابن خمس وستين سنة.

وقال بعضهم: كان يوم توفي ابن ثلاث وستين سنة.

وقال هشام الكلبي: هلك المنصور وهو ابن ثمان وستين سنة.

وقال هشام: ملك المنصور اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يومًا. واختلف عن أبي معشر في ذلك، فحدثني أحمد بن ثابت الرازي عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه أنه قال: توفي أبو جعفر قبل يوم التروية بيوم يوم السبت، فكانت خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثلاثة أيام.

وروي عن ابن بكار أنه قال: إلا سبع ليال.

وقال الواقدي: كانت ولاية أبي جعفر اثنتين وعشرين سنة إلا ستة أيام.

وقال عمر بن شبة: كانت خلافته اثنتين وعشرين سنة غير يومين.

وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي.

وفي هذه السنة هلك طاغية الروم.

ذكر الخبر عن صفة أبي جعفر المنصور

ذكر أنه كان أسمر طويلًا، نحيفًا. خفيف العارضين. وكان ولد بالحميمة.

ذكر الخبر عن بعض سيره

ذكر عن صالح بن الوجيه، عن أبيه، قال: بلغ المنصور أن عيسى بن موسى قتل رجلًا من ولد نصر بن سيار، كان مستخفيًا بالكوفة، فدل عليه فضرب عنقه. فأنكر ذلك وأعظمه، وهم في عيسى بأمر كان فيه هلاكه، ثم قطعه عن ذلك جهل عيسى بما فعل. فكتب إليه: أما بعد، فإنه لولا نظر أمير المؤمنين واستبقاؤه لم يؤخرك عقوبة قتل ابن نصر بن سيار واستبدادك به بما يقطع أطماع العمال في مثله، فأمسك عمن ولاك أمير المؤمنين أمره؛ من عربي وأعجمي، وأحمر وأسود، ولا تستبن على أمير المؤمنين بإمضاء عقوبة في أحد قبله تباعة، فإنه لا يرى أن يأخذ أحدًا بظنة قد وضعها الله عنه بالتوبة، ولا بحدثٍ كان منه في حرب أعقبه الله منها سلمًا ستر به عن ذي غلة، وحجز به عن محنة ما في الصدور؛ وليس ييأس أمير المؤمنين لأحد ولا لنفسه من الله من إقبال مدير؛ كما أنه لا يأمن إدبار مقبل. إن شاء الله والسلام.

وذكر عن عباس بن الفضل، قال: حدثني يحيى بن سليم كاتب الفضل بن ربيع، قال: لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا يومًا واحدًا، فإنا رأينا ابنًا له يقال له عبد العزيز أخا سليمان وعيسى ابني أبي جعفر من الطلحية، توفي وهو حدث، قد خرج على متنكباُ قوسًا، متعممًا بعمامة، مترديًا ببرد في هيئة غلام إعرابي راكبا على قعود بين جوالفين، فيهما مقل ونعال ومساويات وما يهديه الأعراب؛ فعجب الناس من ذلك وأنكروه. قال: فمضى الغلام حتى عبر الجسر، وأتى المهدي بالرصافة فأهدي إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجواليق وملأهما دراهم، فانصرف بين الجوالقين؛ فعلم أنه ضرب من عبث الملوك.

وذكر عن حماد التركي، قال: كنت واقفًا على رأس المنصور، فسمع جلبةً في الدار، فقال: ما هذا يا حماد؟ انظر، فذهبت فإذا خادم له قد جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت: خشبة من حالها وأمرها ووصفتها له؛ فقال لي: أصبت صفته، فما يدريك أنت ما الطنبور! قلت: رأيته بخراسان نعم هناك، ثم قال: هات نعلي، فأتيته بها فقام يمشي رويدًا حتى أشرف عليهم فرآهم، فلما بصروا به تفرقوا، فقال: خذوه، فأخذ، فقال: اضرب به رأسه، فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قال: أخرجه من قصري، واذهب به إلى حمران بالكرخ، وقل له يبيعه.

وذكر العباس بن الفضل عن سلام الأبرش، قال: كنت أنا وصيف وغلام آخر نخدم المنصور داخلًا في منزله؛ وكانت له حجرة فيها بيت وفسطاط وفراش ولحاف يخلو فيه، وكان من أحسن الناس خلقًا ما لم يخرج إلى الناس، وأشد احتمالًا لما يكون من عبث الصبيان؛ فإذا لبس ثيابه تغير لونه وتبرد وجهه، واحمرت عيناه، فيخرج فيكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك؛ فنستقبله في ممشاه، فربما عاتبناه.

وقال لي يوما: يا بني إذا رأيتني قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي؛ فلا يدنون مني أحدًا منكم مخافة أن أعره بشيء.

وذكر أبو الهيثم خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثني عبد الله بن محمد يلقب - بمنقار من أهل خراسان وكان من عمال الرشيد - قال: كنا في الصحابة سبعمائة رجل؛ فكنا ندخل على المنصور كل يوم، قال: فقلت للربيع: اجعلني في آخر من يدخل، فقال لي: لست بأشرفهم فتكون في أولهم، ولا بأخسهم فتكون في آخرهم؛ وإن مرتبتك لتشبه نسبك. قال: فدخلت على المنصور ذات يوم وعلي دراعة فضفاضة وسيف حنفي، أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد سدلتها من خلفي وقدامي. قال: فسلمت عليه وخرجت، فلما صرت عند الستر صاح بي: يا معن، صيحة أنكرتها! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: إلي، فدنوت منه، فإذا به قد نزل عن عرشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستل عمودًا من بين فراشين، واستحال لونه ودرت أوداجه، فقال: إنك لصاحبي يوم واسط؛ لا نجوت إن نجوت مني. قال: قلت يا أمير المؤمنين، تلك نصرتي لباطلهم، فكيف نصرتي لحقك! قال: فقال لي: كيف قلت؟ فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدني حتى رد العمود في مستقره، واستوى متربعًا، وأسفر لونه، فقال: يا معن، إن لي باليمن هنات، قلت: يا أمير المؤمنين ليس لمكتوم رأي، قال: فقال: أنت صاحبي، فجلست، وأمر الربيع بإخراج كل من كان في القصر فخرج، فقال لي: إن صاحب اليمن قد هم بمعصيتي، وإني أريد أن آخذه أسيرًا ولا يفوتني شيء من ماله، فما ترى؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، ولني اليمن، وأظهر أنك ضممتني إليه، ومر الربيع يزيح علي في كل ما أحتاج إليه، ويخرجني من يومي هذا لئلا ينتشر الخبر، قال: فاستل عهدًا من بين فراشين، فوقع فيه اسمي وناولنيه، ثم دعا الربيع، فقال: يا ربيع، إنا قد ضممنا معنًا إلى صاحب اليمن، فأزح علته فيما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ولا يمسي إلا وهو راحل. ثم قال: ودعني، فودعته وخرجت إلى الدهليز، فلقيني أبو الوالي، فقال: يا معن، اعزز على أن تضم إلى ابن أخيك! قال: فقلت: إنه لا غضاضة على الرجل أن يضمه سلطانه إلى ابن أخيه، فخرجت إلى اليمن فأتيت الرجل، فأخذته أسيرًا، وقرأت عليه العهد، وقعدت في مجلسه.

وذكر حماد بن أحمد اليماني قال: حدثني محمد بن عمر اليمامي أبو الرديني، قال: أراد معن بن زائدة أن يوفد إلى المنصور قومًا يسلون سخيمته، ويستعطفون قلبه عليه، وقال: قد أفنيت عمري في طاعته، وأتعبت نفسي وأفنيت رجالي في حرب اليمن، ثم يسخط علي أن أنفقت المال في طاعته! فانتخب جماعة من عشيرته من أفناء ربيعة؛ فكان فيمن اختار مجاعة ابن الأزهر، فجعل يدعو الرجال واحدًا واحدًا، ويقول: ماذا أنت قائل لأمير المؤمنين إذا وجهتك إليه؟ فيقول: أقول وأقول، حتى جاءه مجاعة بن الأزهر، فقال: أعز الله الأمير! تسألني عن مخاطبة رجل بالعراق وأنا باليمن! أقصد لحاجتك؛ حتى أتأتى لها كما يمكن وينبغي، فقال: أنت صاحبي، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن عتيق المزني، فقال له: شد على عضد ابن عمك وقدمه أمامك؛ فإن سها عن شيء فتلافه. واختار من أصحابه ثمانية نفر معهما حتى تموا عشرة، وودعهم ومضوا حتى صاروا إلى أبي جعفر، فلما صاروا بين يديه تقدموا، فابتدأ مجاعة بن الأزهر بحمد الله والثناء عليه والشكر، حتى ظن القوم أنه إنما قصد لهذا، ثم كر على ذكر النبي ، وكيف اختاره الله من بطون العرب، ونشر من فضله؛ حتى تعجب القوم، ثم كر على ذكر أمير المؤمنين المنصور، وما شرفه الله به، وما قلده، ثم كر على حاجته في ذكر صاحبه. فلما انتهى كلامه، قال المنصور: أما ما وصفت من حمد الله، فالله أجل وأكبر من أن تبلغه الصفات، وأما ما ذكرت من النبي فقد فضله الله بأكثر مما قلت، وأما ما وصفت به أمير المؤمنين؛ فإنه فضله الله بذلك، وهو معينه على طاعته إن شاء الله، وأما ما ذكرت من صاحبك فكذبت ولؤمت، اخرج فلا يقيل ما ذكرت. قال: صدق أمير المؤمنين، ووالله ماكذبت في صاحبي. فأخرجوا فلما صاروا إلى آخر الإيوان أمر برده مع أصحابه، فقال: ما ذكرت؟ فكر عليه الكلام؛ حتى كأنه كان في صحيفة يقرؤه، فقال له مثل القول الأول، فأخرجوا حتى برزوا جميعًا، وأمر بهم فوقفوا، ثم التفت إلى من حضر من مضر، فقال: هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله لقد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال: تعصب عليه لأنه ربعي، وما رأيت كاليوم رجلًا أربط جأشًا، ولا أظهر بيانًا؛ رده يا غلام، فلما صار بين يديه أعاد السلام، وأعاد أصحابه، فقال المنصور: اقصد لحاجتك وحاجة صاحبك. قال: يا أمير المؤمنين، معن بن زائدة عبدك وسيفك وسهمك، رميت به عدوك، فضرب وطعن ورمى، حتى سهل ما حزن، وذل ما صعب، واستوى ما كان معوجًا من اليمن، فأصبحوا من خول أمير المؤمنين أطال الله بقاءه! فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساعٍ أو واشٍ أو حاسد فأمير المؤمنين أولى بالتفضل على عبده، ومن أفنى عمره في طاعته. فقبل وفادته، وقبل العذر من معن؛ وأمر بصرفهم إليه، فلما صاروا إلى معن وقرأ الكتاب بالرضى قبل ما بين عينيه، وشكر أصحابه، وخلع عليهم وأجازهم على إقدامهم، وأمرهم بالرحيل إلى منصور، فقال مجاعة:

آليت في مجلس من وائل قسما ** ألا أبيعك يا معن بأطماع

يا معن إنك قد أوليتني نعمًا ** عمت لجيمًا وخصت آل مجاع

فلا أزال إليك الدهر منقطعًا ** حتى يشيد بهلكي هتفة الناعي

قال: وكانت نعم معن على مجاعة، أنه سأله ثلاث حوائج؛ منها أنه كان يتعشق امرأة من أهل بيته، سيدة يقال لها زهراء لم يتزوجها أحد بعد؛ وكانت إذا ذكر لها قالت: بأي شيء يتزوجني؟ أبحبته الصوف، أم بكسائه! فلما رجع لإلى معن كان أول شيء أن يزوجه بها، وكان أبوها في جيش معن، فقال: أريد الزهراء، وأبوها في عسكرك أيها الأمير، فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم وأمهرها من عنده. فقال له معن: حاجتك الثانية، قال: الحائط الذي في منزلي بحجر وصاحبه في عسكر الأمير، فاشتراه منه وصيره له؛ وقال: حاجتك الثالثة؟ قال: تهب لي مالًا. قال: فأمر له بثلاثين ألف درهم، تمام مائة ألف درهم، وصرفه إلى منزله.

وذكر عن محمد بن سالم الخوارزمي - وكان أبوه من قواد خراسان - قال: سمعت أبا الفرج خال عبد الله بن جبلة الطالقاني يقول: سمعت أبا جعفر يقول: ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، قيل له: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قال: هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم؛ كما أن السرير لا يصلح إلا بأربعة قوائم، إن نقصت واحدة وهى؛ أما أحدهم فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني، والرابع - ثم عض على أصبعه السبابة ثلاثة مرات، يقول في كل مرة: آه آه - قيل له: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة. وقيل: إن المنصور دعا بعامل من عماله قد كسر خراجه، فقال له: أد ما عليك، قال: والله ما أملك شيئًا، ونادى المنادي: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: يا أمير المؤمنين، هب ما علي لله ولشهادة أن لا إله إلا الله، فخلي سبيله.

قال: وولى المنصور رجلًا من أهل الشام شيئًا من الخراج، فأوصاه وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج من عندي الساعة، فتقول: الزم الصحة؛ يلزمك العمل. قال: وولي رجلًا من أهل العراق شيئًا من خراج السواد، فأوصاه، وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج الساعة فتقول: من عال بعدها فلا اجتبر. اخرج عني وامض إلى عملك؛ فو الله لئن تعرضت لذلك لأبلغن من عقوبتك ما تستحقه. قال: فوليا جميعًا وناصحا.

ذكر الصباح بن عبد الملك الشيباني، عن إسحاق بن موسى بن عيسى؛ أن المنصور ولى رجلًا من العرب حضر موت، فكتب إليه وإلى البريد أن يكثر الخروج في طلب الصيد ببزاة وكلاب قد أعدها، فعزله وكتب إليه: ثكلتك أمتك وعدمتك عشيرتك! ما هذه العدة التي أعددتها للنكاية في الوحش! إنا إنما استكفيناك أمور المسلمين، ولن نستكفك أمور الوحش، سل ما كنت تلي من عملنا إلى فلان بن فلان، والحق بأهلك ملومًا مدحورًا.

وذكر الربيع أنه قال: أدخل على المنصور سهيل بن سلم البصري، وقد ولي عملًا فعزل، فأمر بحبسه واستئدائه، فقال سهيل: عبدك يا أمير المؤمنين، قال: بئس العبد أنت! قال: لكنك يا أمير المؤمنين نعم المولى! قال: أما لك فلا.

قال: وذكر عن الفضل بن الربيع عن أبيه، أنه قال: بينا أنا قائمًا بين يدي المنصور أو على رأسه؛ إذا أتي بخارجي قد هزم له جيوشًا، فاقام ليضرب عنقه، ثم اقتحمته عينه، فقال: يابن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش! فقال له الخارجي: ويلك وسوءة لك! بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب! وما كان ويؤمنك أن أرد عليك وقد يأست من الحياة فلا تستقيلها أبدًا! قال: فاستحيا منه المنصور وأطلقه، فما رأى له وجهًا حولًا.

ذكر عبد الله بن عمرو الملحي أن هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن أبي أيوب المكي، عن أبيه، قال: حدثني عمارة بن حمزة، قال: كنت عند المنصور، فانصرفت من عنده في وقت انتصاف النهار، وبعد أن بايع الناس للمهدي، فجاءني المهدي في وقت انصرافي، فقال لي: قد بلغني أن أبي قد عزم أن يبايع لجعفر أخي، وأعطى لله عهدًا لئن فعل لأقتلنه، فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فقلت: هذا أمر لا يؤخر، فقال الحاجب: الساعة خرجت! قلت: أمر حدث فأذن لي، فدخلت إليه، فقال لي: هيه يا عمارة! ما جاء بك؟ قلت: أمر حدث يا أمير المؤمنين أريد أن أذكره، قال: فأنا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال: كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك حاضر ثالثنا، قال: قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك.

وذكر عن أحمد بن يوسف بن القاسم، قال: سمعت إبراهيم بن صالح، يقول: كنا في مجلس ننتظر الآذان فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجاج، فمنا من حمده ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بن زائدة وممن ذمه الحسن بن زيد، ثم أذن لنا فدخلنا على المنصور، فانبرى الحسن بن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبني حتى يذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك، فيشي عليه. فقال أبو جعفر: ما استنكرت من ذلك؟ رجل استكفاه قوم فكفاهم؛ والله لوددت أني وجدت مثل الحجاج حتى أستكفيه أمري، وأنزله أحد الحرمين. قال: فقال له معن: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدة لو استكفيتهم كفوك، قال: ومنهم؟ كأنك تريد نفسك! قال: كلا لست كذلك؛ عن الحجاج ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة، وإنا ائتمناك فخنتنا! ذكر الهيثم بن عدي، عن أبي بكر الهذلي، قال: سرت مع أمير المؤمنين المنصور إلى مكة، وسايرته يومًا، فعرض لنا رجل على ناقة حمراء تذهب في الأرض، وعليه جب خز، وعمامة عدنية، في يده سوط يكاد يمس الأرض، سري الهيئة، فلما رآه أمرني فدعوته، فجاء فسأله عن نسبه وبلاده وبادية قومه وعن ولاة الصدقة، فأحسن الجواب، فأعجبه ما رأى منه، فقال: أنشدني، فأنشده شعرًا لأوس بن حجر وغيره من الشعراء من بني عمر بن تميم؛ وحدثه حتى أتى على شعر لطريف بن تميم العنبري، وهو قوله:

إن قناتي لنبع لا يؤيسها ** غمز الثقاف ولا دهن ولا نار

متى أجر خائفًا تأمن مسارحه ** وإن أخف آمنًا تقلق به الدار

إن الأمور إذا أوردتها صدرت ** إن الأمور لها ورد وإصدار

فقال: ويحك! وما كان طريف فيكم حيث قال هذا الشعر؟ قال: كان أثقل العرب على عدوه وطأةً وأدركهم بثأر، وأيمنهم نقيبةً، وأعساهم قناة لمن رام هضمه، وأقرأهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره؛ اجتمعت العرب بعكاظ فكلهم أقر له بهذه الخلال؛ غي أن امرأ أراد أن يقصر به، فقال: والله ما أنت ببعيد النجعة، ولا قاصد الرمية، فدعاه ذلك إلى ان جعل على نفسه ألا يأكل إلا لحم قنص يقتنصه، ولا ينزع كل عام عن غزوة يبعد فيها أثره، قال: يا أخي بني تميم؛ لقد أحسنت إذ وصفت صاحبك ولكني أحق ببيتيه منه؛ أنا الذي وصف لا هو.

وذكر أحمد بن خالد الفقيمي أن عدت من بن هاشم حدثوه أن المنصور كان شغله في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور الأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعية لطرح عالتهم والتلطف لسكونهم وهدوئهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته إلا من أحب أن يسامر، فإذا صلى العشاء الآخرة نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سماره من ذلك فيما أرب؛ فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام إلى فراشه فأسبغ وضوءه وصف في محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.

قال إسحاق: حدثت عن عبد الله بن الربيع، قال: قال أبو جعفر لإسماعيل بن عبد الله: صف لي الناس، فقال: أهل الحجاز مبتدأ الإسلام وبقية العرب، وأهل العراق ركن الإسلام ومقاتلة عن الدين، وأهل الشأم حصن الأمة وأسنة الأئمة، وأهل خراسان فرسان الهيجاء وأعنة الرجال، والترك منابت الصخور وأبناء المغازي، وأهل الهند حكماء استغنوا ببلادهم فاكنفوا بها عما يليهم، والروم أهل كتاب وتدين نحاهم الله من القرب إلى البعد، والأنباط كان ملكهم قديمًا فهم لكل قوم عبيد. قال: فأي الولاة أفضل؟ قال: الباذل للعطاء، والمعرض عن السيئة. قال: فأيهم أخرق؟ قال: أنهكهم للرعية، وأتبعهم لها بالخرق والعقوبة. قال: فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة؟ قال: يا أمير المؤمنين، الطاعة عند الخوف تسير الغدر وتبالغ عند المعاينة، والطاعة عند المحبة تضمر الإجتهاد وتبالغ عند الغفلة. قال: فأي الناس أولاهم بالطاعة؟ قال: أولاهم بالمضرة والمنفعة. قال: ما علامة ذلك؟ قال: سرعة الإجابة وبذل النفس. قال: فمن ينبغي للملك أن يتخذه وزيرًا؟ قال: أسلمهم قلبًا، وأبعدهم عن الهوى.

وذكر عن أبي عبيد الله الكاتب، قال: سمعت المنصور يقول للمهدي حين عهد له بولاية العهد: يا أبا عبد الله، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف والنصر بالتواضع؛ ولا تنس مع نصيبك من الدنيا نصيبك من رحمة الله.

وذكر الزبير بن بكار، قال: حدثني مبارك الطبري، قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: لا تبرم أمرًا حتى تفكر فيه؛ فإن فكر العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه.

وذكر الزبير أيضًا، عن مصعب بن عبد الله، عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله؛ لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولاتدوم نعمة السلطان وطاعته إلا بالمال، ولا تقدم في الحياطة بمثل نقل الأخبار. وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه. واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره.

وعن المبارك الطبري أنه سمع أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا تجلس مجلسًا إلا ومعك من أهل العلم يحدثك؛ فإن محمد بن شهاب الزهري قال: الحديث ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال، ولا يبغضه إلا مؤنثهم؛ وصدق أخو زهرة! وذكر عن علي بن مجاهد بن محمد بن علي، أن المنصور قال للمهدي: يا أبا عبد الله، من أحب الحمد أحسن السيرة، ومن أبغض الحمد أساءها، وما أبغض أحد الحمد إلا استذم، وما استذم إلا كره.

وقال المبارك الطبري: سمعت أبا عبيد الله يقول: قال المنصور للمهدي: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه؛ ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.

وذكر الفقيمي، عن عتبة بن هارون، قال: قال أبو جعفر يومًا للمهدي: كم راية عندك؟ قال: لا أدري، قال: هذا والله التضييع؛ أنت لأمر الخلافة أشد تضييعًا؛ ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت؛ فاتق الله فيما خولك.

وذكر علي بن محمد عن حفص بن عمر بن حماد، عن خالصة، قالت: دخلت على المنصور؛ فإذا هو يتشكى وجع ضرسه؛ فلما سمع حسي، قال: ادخلي؛ فلما دخلت إذا هو واضع يده على صدغيه، فسكت ساعة ثم قال لي: يا خالصة، كم عندك من المال؟ قلت: ألف درهم، قال: ضعي يدك على رأسي واحلفي، قلت: عندي عشرة آلاف دينار؛ قال: احمليها إلي، فرجعت فدخلت على المهدي والخيزران فأخبرتهما؛ فركلني المهدي برجله، وقال لي: ما ذهب بك إليه! ما به من وجع؛ ولكني سألته أمس مالًا فتمارض، احملي إليه ما قلت؛ ففعلت، فلما أتاه المهدي، قال: يا أبا عبد الله؛ تشكو الحاجة وهذا عند خالصة! وقال علي بن محمد: قال واضح مولى أبي جعفر قال: قال أبو جعفر يومًا انظر ما عندك من الثياب الخلقان فاجمعها، فإذا علمت بمجيء أبي عبد الله فجئني بها قبل أن يدخل؛ وليكن معها رقاع. ففعلت، ودخل عليه المهدي وهو يقدر الرقاع، فضحك وقال: يا أمير المؤمنين، من هاهنا يقول الناس: نظروا في الدينار والدرهم وما دون ذلك - ولم يقل: دانق - فقال المنصور: إنه لا جديد لمن لا يصلح خلقه، هذا الشتاء قد حضر، ونحتاج إلى كسوة للعيال والولد. قال: فقال المهدي: فعلي كسوة أمير المؤمنين وعياله وولده، فقال له: دونك فافعل.

وذكر علي بن مرثد أبو دعامة الشاعر، أن أشجع بن عمرو السلمي حدثه عن المؤمل بن أميل - وذكره أيضًا عبد الله بن حسن الخوارزمي أن أبا قدامة حدثه أن المؤمل بن أميل حدثه قال: قدمت على المهدي - قال بن مرثد في خبره وهو ولي العهد، وقال الخوارزمي: قدمت عليه الري وهو ولي عهد - فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها؛ فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن المهدي أمر لشاعرٍ بعشرين ألف درهم، فكتب إليه المنصور يعذله ويلومه، ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم. قال أبو قدامة: فكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فوجه المنصور قائدًا من قواده، فأجلسه على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلًا رجلًا ممن يمر به؛ حتى يظفر بالمؤمل؛ فلما رآه قال له: من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل، من زوار الأمير المهدي، قال: إياك طلبت. قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفًا من أبي جعفر، فقبض علي ثم أتى بي باب المقصورة، وأسلمني إلى الربيع، فدخل إليه الربيع، فقال: هذا الشاعر قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه علي، فأدخلت عليه، فسلمت فرد السلام، فقلت: ليس هاهنا إلا خير، قال: أنت المؤمل بن أميل؟ قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين! قال: هيه! أتيت غلامًا غرًا فخدعته! قال: فقلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين؛ أتيت غلامًا غرًا كريمًا فخدعته فانخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:

هو المهدي إلا أن فيه ** مشابه صورة القمر المنير

تشابه ذا وذا فهما إذا ما ** أنارا مشكلان على البصير

فهذا في الظلام سراج ليل ** وهذا في النهار سراج نور

ولكن فضل الرحمن هذا ** على ذا بالمنابر والسرير

وبالملك العزيز فذا أمير ** وما ذا بالأمير ولا الوزير

ونقص الشهر يخمد ذا، وهذا ** منير عند نقصان الشهور

فيا بن خليفة الله المصفى ** به تعلو مفاخرة الفخور

لئن فت الملوك وقد توافوا ** إليك من السهول والوعور

لقد سبق الملوك أبوك حتى ** بقوا من بين كاب أو حسير

وجئت وراءه تجري حثيثًا ** وما بك حين تجري من فتور

فقال الناس: ما هذان إلا ** بمنزلة الخليق من الجدير

لئن سبق الكبير فأهل سبقٍ ** له فضل الكبير على الصغير

وإن بلغ الصغير مدى كبير ** لقد خلق الصغير من الكبير

فقال: والله لقد أحسنت؛ ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم. وقال لي: أين المال؟ قلت: ها هو ذا، قال: يا ربيع انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم؛ وخذ منه الباقي. قال: فخرج الربيع فحط ثقلي، ووزن لي أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي. قال: فلما صارت الخلافة إلى المهدي، ولى بن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ كساءه رقاعًا رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه يومًا رقعة أذكره قصتي، فلما دخل بها ابن ثوبان، جعل المهدي ينظر في الرقاع؛ حتى إذا نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين! ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة! قال: هذه رقعة أعرف سببها ردوا إليه العشرين الألف الدرهم، فردت إلي وانصرفت.

وذكر واضح مولى المنصور، قال: إني لواقف على رأس أبي جعفر يومًا إذ دخل عليه المهدي، وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس، ثم قام منصرفًا وأتبعه أبو جعفر بصره لحبه له وإعجابه به؛ فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده، فقام ومضى لوجهه غير مكترث لذلك ولا حافل به. فقال أبو جعفر: ردوا أبا عبد الله؛ فرددناه إليه، فقال: يا أبا عبد الله، استقلالًا للمواهب، أم بطرًا للنعمة، أم قلة علم بموضع المصيبة! كأنك جاهل بما لك وعليك! وهذا الذي أنت فيه عطاء من الله، إن شكرته عليه زادك، فإن عرفت موضع البلاء منه فيه عافاك. فقال المهدي: لا أعدمنا الله بقاءك يا أمير المؤمنين وإرشادك؛ والحمد لله على نعمه، وأسأل الله الشكر على مواهبه، والخلف الجميل برحمته. ثم انصرف.

قال العباس بن الوليد بن مزيد: قال: سمعت ناعم بن مزيد، يذكر عن الوضين بن عطاء، قال: استزارني أبو جعفر - وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة - فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يومًا، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما لك؟ قلت الخبر الذي يعرفه أمير المؤمنين، قال: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن، قال: فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فوالله لردد علي حتى ظننت أنه سيمولني، قال: ثم رفع رأسه إلي، فقال: أنت أيسر العرب، أربعة مغازل يدرن في بيتك. وذكر بشر المنجم، قال: دعاني أبو جعفر يومًا عند المغرب، فبعثني في بعض الأمر، فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فإذا دينار، فقال لي: خذ هذا واحتفظ به، قال: فهو عندي إلى الساعة.

وذكر أبو الجهم بن عطية، قال: حدثني أبو مقاتل الخراساني، ورفع غلام له إلى أبي جعفر أن له عشرة آلاف درهم؛ فأخذها منه وقال: هذا مالي، قال: ومن أين يكون مالك! فوالله ما وليت لك عملًا قط، ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة، قال: بلى، كنت تزوجت مولاة لعيينة بن موسى بن كعب فورثتك مالًا؛ وكان ذلك قد عصى وأخذ مالي وهو والٍ على السند؛ فهذا المال من ذلك المال! وذكر مصعب بن سلام، عن أبي حارثة النهدي صاحب بيت المال، قال: ولى أبو جعفر رجلًا باروسما؛ فلما انصرف أراد أن يتعلل عليه، لئلا يعطيه شيئًا، فقال له: أشركتك في أمانتي، ووليتك فيئًا من فيء المسلمين فخنته! فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، ما صحبني من ذلك شيء إلا درهم، منه مثقال صررته في كمي، إذا خرجت من عندك اكتريت به بغلًا إلى عيالي، فأدخل بيتي ليس معي شيء من مال الله ولا مالك. فقال: ما أظنك إلا صادقًا؛ هلم درهمنا. فأخذه منه فوضعه تحت لبده؟ فقال: ما مثلي ومثلك إلا مثل مجير أم عامر، قال: وما مجير أم عامر؛ فذكر قصة الضبع ومجيرها، قال: وإنما غالظه أبو جعفر لئلا يعطيه شيئًا.

وذكر عن هشام بن محمد أن قثم بن العباس دخل على أبي جعفر، فكلمه في حاجة، فقال له أبو جعفر: دعني من حاجتك هذه، أخبرني لم سميت قثم؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أدري، قال: القثم الذي يأكل ويزل، أما سمعت قول الشاعر:

وللكبراء أكل كيف شاءوا ** وللصغراء أكل واقتثام

وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن المنصور وهب لمحمد بن سليمان عشرين ألف درهم ولجعفر أخيه عشرة آلاف درهم، فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، تفضله علي وأنا أسن منه! قال: وأنت مثله! إنا لانلتفت إلى ناحية إلا وجدنا من أثر محمد فيها شيئًا، وفي منزلنا من هداياه بقية؛ وأنت لم تفعل من هذا شيئًا.

وذكر عن سوادة بن عمرو السلمي، عن عبد الملك بن عطاء - وكان في صحابة المنصور - قال: سمعت ابن هبيرة وهو يقول في مجلسه: ما رأيت رجلًا قط في حرب، ولا سمعت به في سلم، أمكر ولا أبدع، ولا أشد تيقظًا من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر، ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئًا نكسره به؛ فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء؛ فخرجت إليه وما في رأسي سوداء؛ وإنه لكما قال الأعشى:

يقوم على الرغم من قومه ** فيعفو إذا شاء أو ينتقم

أخو الحرب لا ضرع واهنٌ ** ولم ينتعل بنعال خذم

وذكر إبراهيم بن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلًا على رجل يقال له أزهر السمان - وليس بالمحدث - وذلك قبل خلافته؛ فلما ولي الخلافة صار إليه إلى مدينة السلام، فأدخل عليه، فقال: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، علي دين أربعة آلاف درهم، وداري مستهدمة، وابني محمد يريد البناء بأهله؛ فأمر له باثني عشر درهم، ثم قال: يا أزهر، لاتأتنا طالب حاجة: قال: أفعل. فلما كان بعد قليل عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: جئت مسلمًا يا أمير المؤمنين؛ قال: إنه ليقع في نفسي أشياء؛ منها أنك أتيتنا لما أتيتنا له في المرة الأولى؛ فأمر له باثني عشر درهم أخرى؛ ثم قال: يا أزهر، لاتأتنا طالب حاجة ولا مسلمًا، قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ ثم لم يابث أن عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده فإنه غير مستجاب؛ لأني قد دعوت الله به أن يريحني من خلفتك فلم يفعل، وصرفه ولم يعطه شيئًا.

وذكر الهيثم بن عدي أن بن عياش حدثه أن ابن هبيرة أرسل إلى المنصور وهو محصور بواسط، والمنصور بإزائه: إني خارج يوم كذا وكذا وداعيك إلى المبارزة، فقد بلغني تجبينك إياي؛ فكتب إليه: يابن هبيرة، إنك امرؤ متعد طورك، جارٍ في عنان غيك، يعدك الله ما هو مصدقه، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبه، ويقرب ما الله مباعده؛ فرويدًا يتم الكتاب أجله؛ وقد ضربت مثلي ومثلك؛ بلغني أن أسدًا لقي خنزيرًا، فقال له الخنزير: قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني إليه فقتلتك، قيل لي: قتلت خنزيرًا؛ فلم أعتقد بذلك فخرًا ولا ذكرًا، وإن نالني منك شيء كان سبة علي، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت إلى السباع فأعلمتها أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك.

وذكر عن محمد بن رياح الجوهري، قال: ذكر لأبي جعفر تدبير هشام بن عبد الملك في حرب كانت له، فيعث إلى رجل كان معه ينزل الرصافة - رصافة هشام - يسأله عن ذلك الحرب، فقدم عليه فقال: أنت صاحب هشام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا؟ قال: إنه فعل فيها رحمه الله كذا وكذا، ثم أتبع أن قال: فعل كذا رضي الله عنه؛ فأحفظ ذلك المنصور، فقال: قم عليك غضب الله! تطأ بساطي وتترحم على عدوي! فقام الشيخ وهو يقول: إن لعدوك قلادة في عنقي ومنة في رقبتي لا ينزعها عني إلا غاسلي؛ فأمر المنصور برده، وقال: اقعد، هيه! كيف قلت؟ فقلت: إنه كفاني الطلب، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب غربي ولا أعجمي منذ رأيته، أفلا يجب أن أذكره بخير وأتبعه بثنائي! فقال: بلى، لله أم نهضت عنك، وليلة أدتك، أشهد أنك نهيض حرة وغراس كريم؛ ثم استمع منه وأمر له ببر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما آخذه لحاجة، وما هو إلا أني أتشرف بحبائك، وأتبجح بصلتك. فأخذ الصلة وخرج، فقال المنصور: عند مثل هذا تحسن الضبيعة، ويوضع المعروف، ويجاد بالمصون، وأين في عسكرنا مثله! وذكر عن حفص بن غياث، عن ابن عياش، قال: كان أهل الكوفة لا تزال الجماعة منهم قد طعنوا على عاملهم، وتظلموا على أميرهم، وتكلموا كلامًا فيه طعن على سلطانهم؛ فرفع ذلك في الخبر، فقال للربيع: اخرج إلى من بالباب من أهل الكوفة، فقل لهم: إن أمير المؤمنين يقول لكم لئن اجتمع اثنان منكم في موضع لأحلقن رؤوسهما ولحاهما، ولأضربن ظهورهما، فالزموا منزلكم؛ وابقوا على أنفسكم. فخرج إليهم الربيع بهذه الرسالة فقال له ابن عياش: يا شبه عيسى بن مريم، أبلغ أمير المؤمنين عنا كما أبلغتنا عنه، فقل له: والله يا أمير المؤمنين ما لنا بالضرب طاقة، فأما حلق اللحى فإذا شئت - وكان ابن عياش منتوفًا - فأبلغه، فضحك، وقال: قاتله الله ما أدهاه وأخبثه! وقال موسى بن صالح: حدثني محمد بن عقبة الصيداوي عن نصر بن حرب - وكان في حرس أبي جعفر - قال: رفع إلى رجل قد جيء به من بعض الآفاق، قد سعى في فساد الدولة، فأدخلته على أبي جعفر، فلما رآه قال: أصبغ! قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ويلك! أما أعتقتك وأحسنت إليك! قال: بلى، قال: فسعيت في نقض دولتي وإفساد ملكي! قال: أخطأت وأمير المؤمنين أولا بالعفو. قال: فدعى أبو جعفر عمارة - وكان حاضرًا - فقال: يا عمارة؛ هذا أصبغ، فجعل يتثبت في وجهي، وكأن في عينيه سوءًا، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: علي بكيس عطائي، فأتى بكيس فيه خمسمائة درهم، فقال: خذها فإنك وضح، ويلك، وعليك بعملك - وأشار بيده يحركها - قال عمارة: فقلت لأصبغ: ما كان عنى أمير المؤمنين؟ قال: كنت وأنا غلام أعمل الحبال، فكان يأكل من كسبي. قال نصر: ثم أتى به ثانية، فأدخلته كما أدخلته قبل، فلما وقف بين يديه أحد النظر إليه، ثم قال: أصبغ! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فقص عليه ما فعل به، وذكره إياه، فأقر به، وقال: الحمق يا أمير المؤمنين؛ فقدمه فضرب عنقه.

وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي، قال: كان خضاب المنصور زعفرانيًا وذلك أن شعره كان لينًا لا يقبل الخضاب، وكانت لحيته رقيقة؛ فكنت أراه على المنبر يخطي ويبكي فيسرع الدمع على لحيته حتى تكف لقلة الشعر ولينه.

وذكر إبراهيم بن عبد السلام، ابن أخي السندي بن شاهك السندي، قال: ظفر المنصور برجل من كبراء بني أمية، فقال: إني أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان، قال: نعم، فقال له المنصور: من أين أتى بنوا أمية حتى انتشر أمرهم؟ قال: من تضيع الأخبار، قال: فأي الأموال وجدتوها أنفع؟ قال: الجوهر، قال فعند من وجدوا الوفاء؟ قال: عند مواليهم، قال: فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته، ثم قال: أضع من أقدارهم، فاستعان بمواليه.

وذكر علي بن محمد الهاشمي أن أباه محمد بن سليمان حدثه، قال: بلغني أن المنصور أخذ الدواء في يوم شات شديد البرد فأتيته أسأله عن موافقة الدواء له، فأدخلت مدخلًا من القصر لم أدخله قط، ثم صرت إلى حجيرة صغيرة، وفيها بيت واحد ورواق بين يديه في عرض البيت وعرض الصحن، على أسطوانة ساج، وقد سدل على وجه الرواق بواري كما يصنع بالمساجد، فدخلت فإذا في البيت مسح ليس فبه شيء غيره إلا فراشه ومرافقه ودثاره، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا بيت أربأ بك عنه، فقال: يا عم، هذا بيت مبيتي، قلت: ليس هنا غير هذا الذي أرى، قال: ما هو إلا ما ترى.

قال: وسمعته يقول عمن حدثه، عن جعفر بن محمد، قال: قيل إن أبا جعفر يعرف بلباس جبة هروية مرقوعة؛ وأنه يرقع قميصه، فقال جعفر: الحمد لله الذي لطف له حتى ابتلاه بفقر نفسه - أو قال: بالفقر في ملكه. قال: وحدثني أبي، قال: كان المنصور لا يولي أحدًا يعزله إلا ألقاه في خالد البطين - وكان منزل خالد على شاطئ دجلة، ملاصقًا لدار صالح المسكين - فيستخرج من المعزول مالًا، فما أخذ من شيء أمر به فعزل، وكسب عليه اسم من أخذ منه، وعزل في بيت المال، وسماه بيت مال المظالم، فكثر ما في ذلك البيت من المال والمتاع. ثم قال المهدي: إني قد هيأت لك شيئًا ترضي به الخلق ولا تغرم من مالك شيئًا، فإذا أنا مت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم، فاردد عليهم منهم؛ فإنك تستحمد إليهم وإلى العامة؛ ففعل ذلك المهدي لما ولى. قال سليمان بن محمد: فكان المنصور ولى محمد بن عبيد الله بن محمد بن سليمان بن محمد بن عبد المطلب بن ربيع بن الحارث البلقاء، ثم عزله، وأمر أن يإليه مع مال وجد عنده، فحمل إليه على البريد، وألفى معه ألفا دينار، فحملت مع ثقله على البريد - وكان مصلى سوسنجرد ومضربة ومرفقه ووسادتين وطستًا وإبريقًا وأشناندانة نحاس - فوجد ذلك مجموعًا كهيئته؛ إلا أن المتاع قد تأكل، فأخذ ألفي الدينار، واستحيا أن يخرج ذلك المتاع، وقال: لا أعرفه، فتركه، ثم ولاه المهدي بعد ذلك اليمن، وولى الرشيد ابنها الملقب ربرا المدينة.

وذكر أحمد بن الهيثم بن جعفر بن سليمان بن علي، قال: حدثني صباح بن خانقان، قال: كنت عند المنصور حين أتى برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فوضع بين يديه في ترس، فأكب عليه بعض السيافة، فبصق في وجهه، فنظر إليه أبو جعفر نظرًا شديدًا، وقال لي: دق أنفه، قال: فضربت أنفه بالعمود ضربة لو طلب له أنف بألف دينار ما وجد، وأخذته أعمدة الحرص، فما زال يشهم بها حتى خمد، ثم جر برجله.

قال الأصمعي: حدثني جعفر بن سليمان، قال: قدم أشعب أيام أبي جعفر بغداد، فأطاف به فتيان بني هاشم فغناهم، فإذا ألحانه طربه وحلقه على حاله، فقال له جعفر: لمن هذا الشعر؟

لمن طلل بذات الجيش ** أمسى دارسًا خلقا

علون بظاهر البيدا ** ء فالمحزون قد قلقًا

فقال: أخذت الغناء من معبد؛ ولقد كنت آخذ عنه اللحن، فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب؛ فإنه أحسن تأدية له مني.

قال الأصمعي: وقال جعفر بن سليمان: قال أشعب لابنه عبيدة: إني أراني سأخرجك من منزلي وأنتقي منك، قال: ولم يا أبه؟ قال: لأني أكسب خلق الله لرغيف وأنت ابني قد بلغت هذا المبلغ من السن، وأنت في عيالي ما تكسب شيئًا، قال: بلى والله، إني لأكسب؛ ولكن مثل الموزة لا تحمل حتى تموت أمها.

وذكر علي بن محمد بن سليمان الهاشمي؛ أن أباه محمدًا حدثه أنه الأكاسرة كان يطين لها في الصيف سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى القصب والطوالًا غلاظًا فترصف حول البيت ويؤتى بقطع الثلج العظام فتجعل ما بين أضعافها وكانت بنو أمية تفعل ذلك؛ وكان أول من أتخذ الجيش المنصور.

وذكر بعضهم: أن المنصور كان يطين له في أول خلافته بيت في الصيف يقيل فيه؛ فأتخذ له أبو أيوب الخوارزمي ثياب كثيفة تبل وتوضع على سبايك، فيجد بردها، فاستظرفها، وقال: ما أحسب هذه الثياب إن اتخذت أكثف من هذه إلا حملت من الماء أكثر مما تحمل؛ وكانت أبرد، فاتخذ له الخيش، فكان ينصب على قبة، ثم اتخذ الخلفاء بعده الشرائج، واتخذها الناس.

وقال علي بن محمد بن أبيه: أن رجلًا من الراوندية كان يقال له الأبلق، وكان أبرص، فتكلم باللغو، ودعا بالراوندية إليه، فزعم أن الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت في علي بن أبي طالب، ثم في الأئمة، في واحد بعد واحد إلى إبراهيم بن محمد، وإنهم آله، واستحلوا الحرمات؛ فكان الرجل منهم يدعو الجماعة منهم إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته؛ فبلغ ذلك أسد بن عبد الله، فقتله وصلبهم، فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وصعدوا إلى الخضراء، فألقوا أنفسهم، كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح، فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: أنت أنت! قال: فخرج إليهم بنفسه، فقاتلهم فأقبلوا يقولون وهم يقاتلون: أنت أنت. قال: فحكى لنا عن بعض مشيختنا أنه نظر إلى جماعة الراوندية يرمون أنفسهم من الخضراء كأنهم يطيرون، فلا يبلغ أحدهم الأرض إلا وقد تفتت وخرجت روحه.

قال أحمد بن ثابت مولى محمد بن سليمان بن علي عن أبيه: إن عبد الله بن علي، لما توارى من المنصور بالبصرة عند سليمان بن علي أشرف يومًا ومعه بعض مواليه ومولى بن سليمان بن علي، فنظر إلى رجل له جمال وكمال، يمشي التخاجي، ويجر أثوابه من الخيلاء، فالتفت إلى مولى لسليمان بن علي، فقال: من هذا؟ قال له: فلان ابن فلان الأموي، فاستشاط غضبًا وصفق يديه عجبًا، وقال: إن طريقنًا لنبك بعد، يا فلان - لمولى له - انزل فأتني برأسه، وتمثل قول سديف:

علام، وفيم نترك عبد شمس ** لها في كل راعية ثغاء!

فما بالرمس في حران منها ** ولو قتلت بأجمعها وفاء

وذكر علي بن محمد المدائني أنه قدم علي أبي جعفر المنصور - بعد انهزام عبد الله بن علي وظفر المنصور به، وحبسه إياه ببغداد - وفد من أهل الشأم فيهم الحارث بن عبد الرحمن، فقام عدة منهم فتكلموا، ثم قام الحارث بن عبد الرحمن، فقال:

أصلح الله أمير المؤمنين! إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة؛ وإنا ابتلينا بفتنة استفزت كريمنا، واستخفت حليمنا، فنحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فإن تعاقبنا فيما فيما أجرمنا وإن تعفو عنا فبفضلك علينا؛ فاصفح عنا إذا ملكت، وامنن إذا قدرت، وأحسن إذ ظفرت، فطالما أحسنت! قال أبو جعفر: قد فعلت.

وذكر عن الهيثم ابن عدي عن زيد مولي بن نهيك، قال: دعاني المنصور بعد موت مولاي، فقال: يا زيد، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين؛ قال: كم خلف أبو زيد من المال؟ قلت: ألف دينار أو نحوها، قال: فأين هي؟ قلت أنفقتها الحرة في مأتمه. قال: فاستعظم ذلك، وقال: أنفقت الحرة في مأتمه ألف دينار! ما أعجب هذا! ثم قال: كم خلف من البنات؟ قلت: ستًا، فأطرق مليًا ثم رفع رأسه وقال: أغد إلى باب المهدي، فغدوت فقيل لي: أمعك بغال؟ فقلت: لم أومر بذلك ولا بغيره؛ ولا أدري لم دعيت! قال: فأعطيت ثمانين ومائة ألف دينار، وأمرت أن أدفع إلى كل واحدة من بنات عيسى ثلاثين ألف دينار. ثم دعاني المنصور، فقال: أقبضت ما أمرنا به لبنات أبي زيد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أغد علي بأكفائهن حتى أزوجهن منهم؛ قال: فغدوت عليه بثلاثة من ولد العكي وثلاثة من آل نهيك من بني عمهن، فزوج كل واحدة منهن على ثلاثين ألف درهم، وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله، وأمرني أن أشتري بما أمر به لهن ضياعًا، يكون معاشهن منها، ففعلت ذلك.

وقال الهيثم: فرق أبو جعفر على جماعة من أهل بيته في يوم واحد عشرة آلاف درهم، وأمر للرجل من أعمامه بألف ألف، ولا نعرف خليفة قبله ولا بعده وصل بها أحدًا من الناس.

وقال العباس بن الفضل: أمر المنصور لعمومته: سليمان، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، بني علي بن عبد الله بن عباس، لكل رجل منهم بألف ألف معونة له من بيت المال. وكان أول خليفة أعطى ألف ألف من بيت المال؛ فكانت تجري في الدواوين.

وذكر عن إسحاق بن إبراهيم المصلي، قال: حدثني الفضل بن ربيع، عن أبيه، قال: جلس أبو جعفر المنصور للمدنيين مجلسًا عامًا ببغداد - وكان وفد إليه منهم جماعة - فقال: لينتسب كل من دخل علي منكم، فدخل عليه فيمن دخل شاب من ولد عمرو بن حزم، فانتسب ثم قال: يا أمير المؤمنين، قال الأحوص فينا شعرًا، منعنا أموالنا من أجله منذ ستين سنة، فقال أبو جعفر: فأنشدني، فأنشده:

لا تأوين لحزميٍّ رأيت به ** فقرًا وإن ألقي الحزمي في النار

الناخسين بمروان بذي خشبٍ ** والداخلين على عثمان في الدار

قال: والشعر في المدح للوليد بن عبد الملك؛ فأنشده القصيدة، فلما بلغ هذا الموضع قال الوليد: أذكرتني ذنب آل حزم، فأمر باستصفاء أموالهم. فقال أبو جعفر: أعد علي الشعر، فأعاده ثلاثًا، فقال له أبو جعفر: لا جرم، إنك تحتظي بهذا الشعر كما حرمت به، ثم قال لأبي أيوب: هات عشرة آلاف درهم فادفعها إليه لغنائه إلينا، ثم أمر أن يكتب إلى عماله أن ترد ضياع آل حزم عليهم، ويعطوا غلاتها في كل سنة من ضياع بني أمية، وتقسم أموالهم بينهم على كتاب الله على التناسخ، ومن مات منهم وفر على ورثته. قال: فانصرف الفتى بما لم ينصرف به أحد من الناس.

وحدثني جعفر بن أحمد بن يحيى، قال: حدثني أحمد بن أسد، قال: أبطأ المنصور عن الخروج إلى الناس والركوب، فقال الناس: هو عليل، وكثروا، فدخل عليه الربيع، فقال: يا أمير المؤمنين، لأمير المؤمنين طول البقاء، والناس يقولون، قال: ما يقولون؟ قال: يقولون: عليل؛ فأطرق قليلًا ثم قال: يا ربيع، ما لنا وللعامة! إنما تحتاج العامة إلى ثلاث خلال، فإذا فعل ذلك بها فما حاجتهم! إذا أقيم لهم من ينظر في أحكامهم فينصف بعضهم من بغض، ويؤمن سبلهم حتى لا يخافوا في ليلهم ولا نهارهم، ويسد ثغورهم وأطرافهم حتى لا يجيء عدوهم؛ وقد فعلنا ذلك بهم. ثم مكث أيامًا، وقال: يا ربيع، اضرب الطبل؛ فركب حتى رآه العامة.

وذكر علي بن محمد، قال: حدثني أبي، قال: وجه أبو جعفر مع محمد بن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون؛ وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس، فأظهر محمد أنه يعشق بنت سليمان بن علي، فكان يركب إلى المربد، فيتصدى لها؛ يطمع أن تكون في بعض المناظر تنظر إليه؛ فقال محمد لحماد: قل لي فيها شعرًا، فقال فيها أبياتًا، يقول فيها:

يا ساكن المربد هجت لي ** شوقًا فما أنفك بالمربد

قال: فحدثني أبي فقال: كان المنصور نازلًا على أبي سنتين، فعرفت الخصيب المتطبب لكثرة إتيانه إياه؛ وكان الخصيب يظهر النصرانية وهو زنديق معطل لا يبالي من قتل، فأرسل إليه المنصور رسولًا يأمره أن يتوخى قتل محمد بن أبي العباس، فاتخذ سمًا قاتلًا، ثم انتظر علة تحدث بمحمد، فوجد حرارة، فقال له الخصيب: خذ شربة دواء، فقال: هيئها لي، فهيأها، وجعل فيها ذلك السم ثم سقاه إياها، فمات منها. فكتبت بذلك أم محمد بن أبي العباس إلى المنصور تعلمه أن الخصيب قتل ابنها. فكتب المنصور يأمر بحمله إليه؛ فلما صار إليه ضربه ثلاثين سوطًا ضربًا خفيفًا، وحبسه أيامًا، ثم وهب له ثلاثمائة درهم، وخلاه.

قال: وسمعت أبي يقول: كان المنصور شرط لأم موسى الحميرية ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابًا أكدته وأشهدت عليه شهودًا، فعزب بها عشر سنين في سلطانه؛ فكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه من أهل الحجاز يستفتيه، ويحمل إليه الفقيه من أهل الحجاز وأهل العراق فيعرض عليه الكتاب ليفتيه فيه برخصة؛ فكانت أم موسى إذا علمت مكانه بادرته فأرسلت إليه بمال جزيل، فإذا عرض عليه أبو جعفر الكتاب لم يفته فيه برخصة، حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد؛ فأتته وفاتها بحلوان، فأهديت له في تلك الليلة مائة بكر؛ وكانت أم موسى ولدت له جعفرًا والمهدي.

وذكر عن علي بن الجعد أنه قال: لما قدم بختيشوع الأكبر على المنصور من السوس، ودخل عليه في قصره بباب الذهب ببغداد، أمر له بطعام يتغدى به، فلما وضعت المائدة بين يديه، قال: شراب، فقيل له: إن الشراب لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين، فقال: لا آكل طعامًا ليس معه شراب، فأخبر المنصور بذلك، فقال: دعوه، فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين الشراب، فتعشى وشرب ماء دجلة، فلما كان من الغد نظر إلى مائه، فقال: ما كنت أحسب شيئًا يجزي من الشراب، فهذا ماء دجلة يجزي من الشراب.

وذكر عن يحيى بن الحسن أن أباه حدثه، قال: كتب المنصور إلى عامله بالمدينة أن بع ثمار الضياع ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا؛ فإنما يغلبنا المفلس الذي لا مال له، ولا رأي لنا في عذابه، فيذهب بما لنا قبله ولو أعطاك جزيلًا، وبعها من الممكن بدون ذلك ممن ينصفك ويوفيك.

وذكر أبو بكر الهذلي أن أبا جعفر كان يقول: ليس بإنسان من أسدي إليه معروف فنسيه دون الموت.

وقال الفضل بن ربيع: سمعت المنصور يقول: كانت العرب تقول: الغوى الفادح خير من الري الفاضح.

وذكر عن أبان بن يزيد العنبري أن الهيثم القارئ البصري قرأ عند المنصور " ولا تبذر تبذيرا " إلى آخر الآية، فقال له المنصور، وجعل يدعو: اللهم جنبني وبني التبذير فيما أنعمت علينا به من عطيتك. قال: وقرأ الهيثم عنده: " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " فقال للناس: لولا أن الأموال حسن السلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة وأنا أحرز منه دينارًا ولا درهمًا لما أجد لبذل المال من اللذاذة؛ ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.

ودخل على المنصور رجل من أهل العلم، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فقال له: أنى لك هذا العلم! قال: لم أبخل بعلم علمته، ولم أستح من علم أتعلمه. قال: فمن هناك! قال: وكان المنصور كثيرًا ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال عن غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئًا ولا لاحيًا.

وذكر عن قحطبة، قال: سمعت المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثًا: إفشاء السر، والتعرض للحرمة، والقدح في الملك.

وذكر علي بن محمد أن المنصور كان يقول: سرك من دمك فانظر من تملكه.

وذكر الزبير بن بكار، عن عمر، قال: لما حمل عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي إلى المنصور بعد خروجه عليه، قال له: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة! قال: تركتها وراءك يابن اللخناء! وذكر عن عمر بن شبة، أن قحطبة بن غدانة الجشمي - وكان من الصحابة - قال: سمعت أبا جعفر المنصور يخطب في مدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال: يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم؛ ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه. وذكر إسحاق الموصلي، عن النضر بن جديد، قال: حدثني بعض الصحابة أن المنصور كان يقول: عقوبة الحليم التعريض، وعقوبة السفيه التصريح.

وذكر أحمد بن خالد، قال: حدثني يحيى بن أبي نصر القرشي، أن أبانا القارئ قرأ عند المنصور: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط "، الآية فقال المنصور: ما أحسن ما أدبنا ربنا! قال: وقال المنصور: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ، ومن أضعف فقد شكر، ومن شكر كان كريمًا، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم من مودتهم، تلتمس من غيرك شكر ما آتيته إلى نفسك، ووقيت به عرضك. واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن وجهك فأكرم وجهك عن رده.

وذكر عمر بن شبة أن محمد بن عبد الوهاب المهلبي، حدثه، فقال: سمعت إسحاق بن عيسى يقول: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة غير أبي جعفر وداود بن علي والعباس بن محمد.

وذكر عن أحمد بن خالد، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم الفهري، قال: خطب المنصور ببغداد في يوم عرفة - وقال قوم: بل خطب في أيام - منى فقال في خطبته: أيها الناس؛ إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه؛ أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه؛ قد جعلني الله عليه قفلًا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني؛ فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به؛ إذ يقول تبارك وتعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ". أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، إنه سميع قريب.

وذكر عن داود بن رشيد عن أبيه، أن المنصور خطب فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. فاعترضه معترض عن يمينه، فقال: أيها الإنسان، أذكرك من ذكرت به.. فقطع الخطبة ثم قال: سمعًا سمعًا؛ لمن حفظ عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارًا عنيدًا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين. وأنت أيها القائل؛ فوالله ما أردت بها وجه الله؛ ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها! ويلك لو هممت! فاهتبلها إذ غفرت. وإياك وإياكم معشر الناس أختها؛ فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت؛ فردوا الأمر إلى أهله، توردوه موارده، وتصدروه مصادره.. ثم عاد في خطبته، فكأنه يقرؤها من كفه، فقال: وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.

وذكر عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن ابن أبي الجوزاء، أنه قال: قمت إلي أبي جعفر وهو يخطب ببغداد في مسجد المدينة على المنبر فقرأت: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " فأخذت فأدخلت عليه، فقال: من أنت ويلك! إنما أردت أن أقتلك، فاخرج عني فلا أراك. قال: فخرجت من عنده سليمًا.

وقال عيسى بن عبد الله بن حميد: حدثني إبراهيم بن عيسى، قال: خطب أبو جعفر المنصور في هذا المسجد - يعني به مسجد المدينة ببغداد - فلما بلغ: اتقوا الله حق تقاته، قام إليه رجل، فقال: وأنت يا عبد الله، فاتق الله حق تقاته.. فقطع أبو جعفر الخطبة، وقال: سمعًا سمعًا، لمن ذكر بالله؛ هات يا عبد الله، فما تقى الله؟ فانقطع الرجل فلم يقل شيئًا، فقال أبو جعفر: الله الله أيها الناس في أنفسكم، لا تملونا من أموركم ما لا طاقة لكم به، لايقوم رجل هذا المقام إلا أوجعت ظهره، وأطلت حبسه. ثم قال: خذه إليك يا ربيع، قال: فوثقنا له بالنجاة - وكانت العلامة فيه إذا أراد بالرجل مكروهًا قال: خذه إليك يا مسيب - قال: ثم رجع في خطبته من الموضع الذي كان قطعه، فاستحسن الناس ذلك منه، فلما فرغ من الصلاة دخل القصر؛ وجعل عيسى بن موسى يمشي على هيئته خلفه، فأحس به أبو جعفر، فقال: أبو موسى؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: كأنك خفتني على هذا الرجل! قال: والله لقد سبق إلى قلبي بعض ذلك؛ إلا أن أمير المؤمنين أكثر علمًا، وأعلى نظرًا من أن يأتي في أمره إلا الحق، فقال: لا تخفني عليه. فلما جلس قال: علي بالرجل، فأتى به؛ فقال: يا هذا؛ إنك لما رأيتني على المنبر، قلت؛ هذا الطاغية لا يسعني إلا أن أكلمه، ولو شغلت نفسك بغير هذا لكان أمثل لك؛ فاشغلها بظماء الهواجر، وقيام الليل، وتغيير قدميك في سبيل الله؛ أنطه يا ربيع أربع مائة درهم، واذهب فلا تعد. وذكر عن عبد الله بن صاعد، مولى أمير المؤمنين أنه قال: حج المنصور بعد بناء بغداد، فقام خطيبًا بمكة، فكان مما حفظ من كلامه: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون "، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل؛ والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعدًا للقوم الظالمين؛ الذين اتخذوا الكعبة عرضًا، والفيء إرثًا، وجعلوا القرآن عضين؛ لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بئر معطلة وقصر مشيد؛ أهملهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة، وعندوا واعتدوا، واستكبروا وخاب كل جبار عنيد؛ ثم أخذهم؛ فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا! وذكر الهيثم بن عدي، عن ابن عياش قال: إن الأحداث لما تتابعت على أبي جعفر، تمثل:

تفرقت الظباء على خداش ** فما يدري خداش ما يصيد

قال: ثم أمر بإحضار القواد والموالي والصحابة وأهل بيته، وأمر حمادًا التركي بإسراج الخيل وسليمان بن مجالد بالتقدم والمسيب بن زهير بأخذ الأبواب، ثم خرج في يوم من أيامه حتى علا المنبر. قال: فأزم عليه طويلًا لا ينطق. قال رجل لشبيب بن شيبة: ما لأمير المؤمنين لا يتكلم! فإنه والله ممن يهون عليه صعاب القول، فما باله! قال: فافترع الخطبة، ثم قال:

ما لي أكفكف عن سعدٍ ويشتمني ** ولو شتمت بني سعدٍ لقد سكنوا

جهلًا علي وجبنًا عن عدوهم ** لبئست الخلتان الجهل والجبن

ثم جلس وقال:

فألقيت عن رأسي القناع ولم أكن ** لأكشفه إلا لإحدى العظائم

والله لقد عجزوا عن أمرٍ قمنا به، فما شكروا الكافي؛ ولقد مهدوا فاستوعروا وغمطوا الحق وغمصوا، فماذا حاولوا! أشرب رنقا على غصصٍ، أم أقيم على ضيم ومضض! والله لا أكرم أحدًا بإهانة نفسي؛ والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلبنه ثم لا يجدونه عندي؛ والسعيد من وعظ بغيره. قدم يا غلام، ثم ركب.

وذكر الفقيمي أن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن مولى محمد بن علي حدثه، أن المنصور لما أخذ عبد الرحمن بن حسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي ، ثم قال:

يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير؛ فقام فيها علي بن أبي طالب فتلطخ وحكّم عليه الحكمين؛ فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة؛ ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن علي؛ فوالله ما كان فيها برجل؛ قد عرضت عليه الأموال، فقبلها، فدس إليه معاوية إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدًا؛ فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة؛ أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء - وأشار إلى الكوفة - فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه؛ فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه؛ وقد كان أتى محمد بن علي، فناشده في الخروج وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا، أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب؛ وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة فلم يقبل؛ وأتم على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة، ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا؛ والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها؛ وما كان لهم ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم؛ فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة؛ حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارًا، فأحيا شرفنا، وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا ، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. فلما استقرت الأمور فينا على قرارها؛ من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا، ظلمًا وحسدًا منهم لنا، وبغيًا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه .

جهلًا علي وجبنًا عن عدوهم ** لبئست الخلتان الجهل والجبن

فإني والله يا أهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالًا فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالًا يعملون عليه؛ فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال؛ فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعةً، استحللت بها دماءهم وأموالهم وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي؛ فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين. ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شكٍ مريب ".

قال: وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبي مسلم، فقال: أيها الناس؛ لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرةً إلا ظهرت في آثار يده، أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه؛ بإعزاز دينه، وإعلاء حقه. إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم. إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد. وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا؛ ولم تمنعنا إقامة الحق له من إقامة الحق عليه.

وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن الفضل بن الربيع أخبره عن أبيه، قال: قال المنصور: قال أبي: سمعت أبي؛ علي بن عبد الله يقول: سادة الدنيا الأسخياء، وسادة الآخرة الأنبياء.

وذكر عن إبراهيم بن عيسى، أن المنصور غضب على محمد بن جميل الكاتب - وأصله من الربذة - فأمر ببطحه، فقام بحجته، فأمر بإقامته، ونظر إلى سراويله، فإذا هو كتان، فأمر ببطحه وضربه خمس عشرة درة، وقال لا تلبس سراويل كتان فإنه من الصرف.

وذكر محمد بن إسماعيل الهاشمي، إن الحسن بن إبراهيم حدثه، عن أشياخه، أن أبا جعفر لما قتل محمد بن عبد الله بالمدينة وأخاه إبراهيم بياخمري وخرج إبراهيم بن حسن بن حسن بمصر فحمل إليه، كتب إلى بني علي بن أبي طالب بالمدينة كتابًا يذكر لهم فيه إبراهيم بن الحسن بن الحسن وخروجه بمصر، وأنه لم يفعل ذلك إلا عن رأيهم، وأنهم يدأبون في طلب السلطان، ويلتمسون بذلك القطيعة والعقوق، وقد عجزوا عن عداوة بني أمية لما نازعوهم السلطان، وضعفوا عن طلب ثأرهم؛ حتى وثب بنو أبيه غضبًا على بني أمية، فطلبوا بثأرهم، فأدركوا بدمائهم، وانتزعوا السلطان عن أيديهم، وتمثل في الكتاب بشعر سبيع بن ربيعة بن معاوية اليربوعي:

فلولا دفاعي عنكم إذ عجزتم ** وبالله أحمي عنكم وأدافع

لضاعت أمور منكم لا أرى لها ** كفاةً وما لا يحفظ الله ضائع

فسموا لنا من طحطح الناس عنكم ** ومن ذا الذي تحنى عليه الأصابع!

ومازال منا قد علمتم عليكم ** على الدهر إفضال يرى ومنافع

ومازال منكم أهل غدرٍ وجفوةٍ ** وبالله مغتر وللرحم قاطع

وإن نحن غبنا عنكم وشهدتم ** وقائع منكم ثم فيها مقانع

وإنا لنرعاكم وترعون شأنكم ** كذاك الأمور؛ خافضات روافع

وهل تعلون أقدام قوم صدورهم ** وهل تعلون فوق السنام الأكارع!

ودب رجال للرياسة منكم ** كما درجت تحت الغدير الضفادع؟

وذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: كان أرزاق الكتاب والعمال أيام أبي جعفر ثلاثمائة درهم؛ فلما كانت كذلك لم تزل على حالها إلى أيام المأمون، فكان أول من سن زيادة الأرزاق الفضل بن سهل، فأما في أيام بني أمية وبني العباس فلم تزل الأرزاق من الثلثمائة إلى ما دونها، كان الحجاج يجري على يزيد بن أبي مسلم ثلثمائة درهم في الشهر.

وذكر إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى، أن ولاة البريد في الآفاق كلها كانوا يكتبون إلى المنصور أيام خلافته في كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي وبما يرد بيت المال من المال، وكل حدث، وكانوا إذا صلوا المغرب يكتبون إليه بما كان في كل ليلة إذا صلوا الغداة؛ فإذا وردت كتبهم نظر فيها، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها عن حاله كتب إلى الوالي والعامل هناك، وسأل عن العلة التي نقلت ذلك عن سعره؛ فإذا ورد الجواب بالعلة تلطف لذلك برفقه حتى يعود سعره ذلك إلى حاله؛ وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه بذلك؛ وسأل من بحضرته عن عمله؛ فإن أنكر شيئًا عمل به كتب إليه يوبخه ويلومه.

وذكر إسحاق الموصلي أن الصباح بن خاقان التميمي، قال: حدثني رجل من أهلي، عن أبيه، قال: ذكر الوليد عند المنصور أيام نزوله ببغداد وفروغه من المدينة، وفراغه من محمد وإبراهيم ابني عبد الله، فقالوا: لعن الله الملحد الكافر - قال: وفي المجلس أبو بكر الهذلي وابن عياش المنتوف والشرقي بن القطامي، وكل هؤلاء من الصحابة - فقال أبو بكر الهذلي: حدثني ابن عم للفرزدق، عن الفرزدق، قال: حضرت الوليد بن يزيد وعنده ندماؤه وقد اصطبح، فقال لابن عائشة: تغن بشعر ابن الزبعري:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ** جزع الخزرج من وقع الأسل

وقتلنا الضعف من ساداتهم ** وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل

فقال ابن عائشة: لا أغني هذا يا أمير المؤمنين؛ فقال: غنه وإلا جدعت لهواتك، قال: فغناه، فقال: أحسنت والله! إنه لعلي دين ابن الزبعري يوم قال هذا الشعر. قال: فلعن المنصور ولعنه جلساؤه؛ وقال: الحمد لله على نعمته وتوحيده.

وذكر عن أبي بكر الهذلي، قال: كتب صاحب أرمينية إلى المنصور: إن الجند قد شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال، وأخذوا ما فيه، فوقع في كتابه: اعتزل عملنا مذمومًا، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينتهبوا.

وقال إسحاق الموصلي، عن أبيه: خرج بعض أهل العبث على أبي جعفر بفلسطين، فكتب إلى العامل هناك:

دمه في دمك إلا توجهه إلي؛ فجد في طلبه، فظفر به فأشخص، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال له أبو جعفر: أنت المتوثب على عمالي! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه على عظمك، فقال له - وقد كان شيخًا كبير السن - بصوت ضعيف ضئيل غير مستعلٍ:

أتروض عرسك بعد ما هرمت ** ومن العناء رياضة الهرم

قال: فلم تتبين للمنصور مقالته، فقال يا ربيع، ما يقول؟ فقال: يقول:

العبد عبدكم والمال مالكم ** فهل عذابك عني اليوم منصرف!

قال: يا ربيع، قد عفوت عنه؛ فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن ولايته. قال: ورفع رجل إلى المنصور يشكو عامله أنه أخذ حدًا من ضيعته، فأضافه إلى ماله، فوقع إلى عامله في رقعة المتظلم: إن آثرت العدل صحبتك السلامة، فأنصف هذا المتظلم من هذه الظلامة.

قال: ورفع رجل من العامة إليه رقعة في بناء مسجد في محلته، فوقع في رقعته: من أشراط الساعة كثرة المساجد فزد في خطاك تزدد من الثواب.

قال: وتظلم رجل من أهل السواد من بعض العمال في رقعة رفعها إلى المنصور، فوقع فيها: إن كنت صادقًا فجئ به ملببًا فقد أذنا لك في ذلك.

وذكر عمر بن شبة أن أبا الهذيل العلاف حدثه، أن أبا جعفر قال: بلغني أن السيد بن محمد مات بالكرخ - أو قال: بواسط - ولم يدفنوه، لأن حق ذلك عندي لأحرقنها. وقيل: إن الصحيح أنه مات في زمن المهدي بكرخ بغداد، وأنهم تحاموا أن يدفنوه، وأنه بعث بالربيع حتى ولي أمره، وأمره إن كانوا امتنعوا أن يحرق عليهم منازلهم، فدفع ربيع عنهم.

وقال المدائني: لما فرغ المنصور من محمد وإبراهيم وعبد الله بن علي وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وصار ببغداد واستقامت له الأمور، كان يتمثل هذا البيت:

تبيت من البلوى على حد مرهفٍ ** مرارًا ويكفي الله ما أنت خائف

قال: وأنشدني عبد الله بن الربيع، قال: أنشدني المنصور بعد قتل هؤلاء:

ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ** وللقلب من مخشاتهن وجيب

وقال الهيثم بن عدي: لما بلغ المنصور تفرق ولد عبد الله بن حسن في البلاد هربًا من عقابه، تمثل:

إن قناتي لنبع لا يؤيسها ** غمز الثقاف ولا دهن ولا نار

متى أجر خائفًا تأمن مسارحه ** وإن أخف آمنًا تقلق به الدار

سيروا إلي وغضوا بعض أعينكم ** إني لكل امرئ من جاره جار

وذكر علي بن محمد عن واضح مولى أبي جعفر، قال: أمرني أبو جعفر أن أشتري له ثوبين لينين، فاشترينهما له بعشرين ومائة درهم، فأتيته بهما، فقال: بكم؟ فقلت: بثمانين درهمًا، قال: صالحان، استحطه؛ فإن المتاع إذا أدخل علينا ثم رد على صاحبه كسره ذلك. فأخذت الثوبين من صاحبهما، فلما كان من الغد حملتهما إليه معي، فقال: ما صنعت؟ قلت: رددتهما عليه فحطني عشرين درهمًا، قال: أحسنت؛ اقطع أحدهما قميصًا، واجعل الآخر رداء لي. ففعلت، فلبس القميص خمسة عشرة يومًا لم يلبس غيره. وذكر مولى لعبد الصمد بن علي، قال: سمعت عبد الصمد يقول: إن المنصور كان يأمر أهل بيته بحسن الهيئة وإظهار النعمة وبلزوم الوشي والطيب؛ فإن رأى أحدهم قد أخل بذلك أو أقل منه، قال: يا فلان، ما أرى وبيص الغالية في لحيتك؛ وإني لأراها تلمع في لحية فلان؛ فيشحذهم بذلك على الإكثار من الطيب ليتزين بهيئتهم وطيب أرواحهم عند الرعية، ويزينهم بذلك عندهم؛ وإن رأى على أحدهم وشيًا طاهرًا عضه بلسانه.

وذكر عن أحمد بن خالد، قال: كان المنصور يسأل مالك بن أدهم كثيرًا عن حديث عجلان بن سهيل، أخي حوثرة بن سهيل، قال: كنا جلوسًا مع عجلان، إذ مر بنا هشام بن عبد الملك، فقال رجل من القوم: قد مر الأحول، قال: من تعني؟ قال: هشامًا، قال: تسمي أمير المؤمنين بالنبز! والله لولا رحمك لضربت عنقك، فقال المنصور: هذا والله الذي ينفع مع مثله المحيا والممات.

وقال أحمد بن خالد: قال إبراهيم بن عيسى: كان للمنصور خادم أصفر إلى الأدمة، ماهر لا بأس به، فقال المنصور يومًا: ما جنسك؟ قال: عربي يا أمير المؤمنين، قال: ومن أي العرب أنت؟ قال: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا، فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك. قال: أما إنك نعم الغلام؛ ولكن لا يدخل علي قصري عربي يخدم حرمي؛ اخرج عافاك الله؛ فاذهب حيث شئت!

وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن معاوية بن بكر - وكان من الصحابة - أن المنصور ضم رجلًا من أهل الكوفة، يقال له الفضيل بن عمران، إلى ابنه جعفر، وجعله كاتبه، وولاه أمره، فكان منه بمنزلة أبي عبيد الله من المهدي، وكان أبو جعفر أراد أن يبايع لجعفر بعد المهدي، فنصبت أم عبيد الله حاضنة جعفر للفضيل بن عمران، فسعت به إلى المنصور، وأومأت إلى أنه يعبث بجعفر. قال: فبعث المنصور الريان مولاه وهارون بن غزوان مولى عثمان بن نهيك إلى الفضيل - وهو مع جعفر بحديثه الموصل - وقال: إذا رأيتما فضيلًا فاقتلاه حيث لقيتماه، وكتب لهما كتابًا منشورًا، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به، وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله. قال: فخرجا حتى قدما على جعفر، وقعدا على بابه ينتظران الإذن؛ فخرج عليهما فضيل، فأخذاه وأخرجا كتاب المنصور، فلم يعرض لهما أحد؛ فضربا عنقه مكانه، ولم يعلم جعفر حتى فرغا منه - وكان الفضيل رجلًا عفيفًا دينًا - فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه. فوجه رسولًا، وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول قبل أن يجف دمه.

فذكر معاوية بن بكر عن سويد مولى جعفر، أن جعفرًا أرسل إليه، فقال: ويلك! ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية! قال سويد: فقلت: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء؛ وهو أعلم بما يصنع؛ فقال: يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة! خذوا برجله فألقوه في دجلة. قال فأخذت، فقلت: أكلمك، فقال: دعوه، فقلت: أبوك إنما يسأل عن فضيل، ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بن عبد الله بن علي، وقد قتل عبد الله بن الحسن وغيره من أولاد رسول الله ظلمًا، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد! هو قبل أن يسأل عن فضيل جرذانة تجب خصى فرعون قال: فضحك، وقال: دعوه إلى لعنة الله.

وقال قعنب بن محرز: أخبرنا محمد بن عائد مولى عثمان بن عفان أن حفصًا الأموي الشاعر، كان يقال له حفص بن أبي جمعة، مولى عباد بن زياد، وكان المنصور صيره مؤدبًا للمهدي في مجالسه، وكان مداحًا لبني أمية في أيام بني أمية وأيام المنصور، فلم ينكر عليه ذلك المنصور، ولم يزل مع المهدي أيام ولايته العهد؛ ومات قبل أن يلي المهدي الخلافة. قال: وكان مما مدح به بني أمية قوله:

أين روقا عبد شمسٍ أين هم ** أين أهل الباع منهم والحسب!

لم تكن أيد لهم عندكم ** ما فعلتم آل عبد المطلب!

أيها السائل عنهم أولو ** جثث تلمع من فوق الخشب

إن تجذوا الأصل منهم سفهًا ** يا لقوم للزمان المنقلب!

إن فاحلبوا ما شئتم في صحنكم ** فستسقون صرى ذاك الحلب

وقيل: إن حفصًا الأموي دخل على المنصور، فكلمه فاستخبره، فقال له: من أنت فقال: مولاك يا أمير المؤمنين، قال: مولى لي مثلك لا أعرفه! قال: مولى خادم لك عبد مناف يا أمير المؤمنين؛ فاستحسن ذلك منه، وعلم أنه مولى لبني أمية، فضمه إلى المهدي، وقال له: احتفظ به.

ومما رثي به قول سلم الخاسر:

عجبًا للذي نعى الناعيان ** كيف فاهت بموته الشفتان!

ملك إن غدا على الدهر يومًا ** أصبح الدهر ساقطًا للجران

ليت كفًا حثت عليه ترابًا ** لم تعد في يمينها بنان

حين دانت له البلاد على العس ** ف وأغضى من خوفه الثقلان

أين رب الزوراء قد قلدته ال ** ملك، عشرون حجة واثنتان

إنما المرء كالزناد إذا ما ** أخذته قوادح النيران

ليس يثني هواه زجر ولا يق ** دح في حبله ذوو الأذهان

قلدته أعنة الملك حتى ** قاد أعداءه بغير عنان

يكسر الطرف دونه وترى الأي ** دي من خوفه على الأذقان

ضم أطراف ملكه ثم أضحى ** خلف أقصاهم ودون الداني

هاشمي التشمير لا يحمل الثق ** ل على غارب الشرود الهدان

ذو أناة ينسى لها الخائف الخو ** ف وعزمٍ يلوي بكل جنان

وذهبت دونه النفوس حذارًا ** غير أن الأرواح في الأبدان

ذكر أسماء ولده ونسائه

فمن ولده المهدي - واسمه محمد - وجعفر الأكبر، وأمهما أروى بنت المنصور أخت يزيد بن المنصور الحمري؛ وكانت نكنى أم موسى؛ وهلك جعفر هذا قبل المنصور.

وسليمان وعيسى ويعقوب؛ وأمهم فاطمة بنت محمد، من ولد طلحة بن عبيد الله.

وجعفر الأصغر، أمه أم ولد كردية، كان المنصور اشتراها فتسراها، وكان يقال لابنها: ابن الكردية.

وصالح المسكين، أمه أم ولد رومية، يقال لها قالي الفراشة.

والقاسم، مات قبل المنصور، وهو ابن عشر سنين، وأمه أم ولد تعرف بأم القاسم.

والعالية، أمها امرأة من بني أمية، زوجها المنصور من إسحاق بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن العباس. وذكر إسحاق بن سليمان أنه قال: قال لي أبي: زوجتك يا بني أشرف الناس؛ العالية بنت أمير المؤمنين.

قال: فقلت: يا أباه، من أكفاؤنا؟ قال: أعداؤنا من بني أمية.

ذكر الخبر عن وصاياه

ذكر عن الهيثم بن عدي أن المنصور أوصى المهدي في هذه السنة لما شخص متوجهًا إلى مكة في شوال، وقد نزل قصر عبدويه، وأقام بهذا القصر أيامًا والمهدي معه يوصيه، وكان انقض في مقامه بقصر عبدويه كوكب، لثلاثٍ بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، وبقي أثره بينًا إلى طلوع الشمس، فأوصاه بالمال والسلطان؛ يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بالغداة والعشي، لا يفتر عن ذلك، ولا يفترقان إلا تحريكًا. فلما كان اليوم الذي أراد أن يرتحل فيه، دعا المهدي، فقال له: إني لم أدع شيئًا إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها - وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدًا، يصر مفتاحه في كم قميصه. قال: وكان حماد التركي يقدم إليه ذلك السفط إذا دعا به، فإذا غاب حماد أو خرج كان الذي يليه سلمة الخادم - فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك. ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر؛ فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث؛ حتى بلغ سبعة؛ فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة؛ فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة؛ فإياك أن تستبدل بها؛ فإنها بيتك وعزك، قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور؛ فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزًا ما دام بيت مالك عامرًا، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك؛ أن تظهر كرامتهم وتقدمهم وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر؛ فإن عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل. وانظر مواليك، فأحسن إليهم وقربهم واتكثر منهم فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك.، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيرًا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم؛ أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل. وإياك أن تستعسن برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل.

وقال غير الهيثم: إن المنصور دعا المهدي عند مسيره إلى مكة، فقال: يا أبا عبد الله، إني سائر وإني غير راجع؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! فاسأل الله بركة ما أقدم عليه، هذا كتاب وصيتي مختومًا، فإذا بلغك أني قد مت، وصار الأمر إليك فانظر فيه، وعلي دين أحب أن تقضيه وتضمنه، قال: هو علي يا أمير المؤمنين، قال: فإنه ثلثمائة ألف درهم ونيف، ولست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني، وما يفضي إليك من الأمر أعظم منها. قال: أفعل، هو علي. قال: وهذا القصر ليس هو لك، هو لي وقصري بنيته بمالي، فأحب أن تصير نصيبك منه لأخوتك الأصاغر.

قال: نعم، قال: ورقيقي الخاصة هم لك، فاجعلهم لهم، فإنك تصير إلى ما يغنيك عنهم، وبهم إلى ذلك أعظم الحاجة. قال: أفعل، قال: أما الضياع، فلست أكلفك فيها هذا، ولو فعلت كان أحب إلي، قال: أفعل، قال: سلم إليهم ما سألتك من هذا، وأنت معهم في الضياع. قال: والمتاع والثياب، سلمه لهم قال: أفعل. قال: أحسن الله عليك الخلافة ولك الصنع! اتق الله فيما خولك وفيما خلفتك عليه. ومضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم خرج منها مهلًا بالعمرة والحج، قد ساق هدية من البدن، وأشعر وقلد؛ وذلك لأيام خلت من ذي القعدة.

وذكر أبو يعقوب بن سليمان، قال: حدثتني جمرة العطارة - عطارة أبي جعفر - قالت: لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي - وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر - فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها وأحلفها، ووكد الأيمان ألا تفتح بعض الخزائن، ولا تطاع عليها أحدًا إلا المهدي؛ ولا هي؛ إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث؛ حتى يفتحا الخزانة. فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه إلا يفتحه ولا يطلع عليه أحدًا حتى يصح عندها موته. فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولى الخلافة، فتح الباب ومعه ريطة؛ فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم؛ وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذاك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكان.

وذكر عن إسحاق بن عيسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت المنصور وهو متوجه إلى مكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو يقول للمهدي عند وداعه إياه: يا أبا عبد الله؛ إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة؛ وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي؛ يجعل لك فيها كربك وحزنك مخرجًا، أو قال: فرجًا ومخرجًا - ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. احفظ يا بني محمدًا في أمته يحفظ الله عليك أمورك. وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم. والزم الحلال فإن ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل. وأقم الحدود ولا تعتد فيها فتبور؛ فإن الله لو علم أن شيئًا أصلح لدينه وأزجر من معاصيه من الحدود لأمر به في كتابه. واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادًا مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا " الآية. فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم والمثلات بهم؛ ولا تتجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، واحسم للعدو، وأنجع في الدواء. وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة. وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية. واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وخص الواسطة، ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها. وإياك والتبذير؛ فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة؛ وهي من شيم الزمان. وأعد الرجال والكراع والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع. جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولًا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالًا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالًا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك. وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينًا غير نائمة، ونفسًا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.

قال: ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه.

وذكر عمر بن شبة عن سعيد بن هريم، قال: لما حج المنصور في السنة التي توفي بها شيعة المهدي، فقال: يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها؛ ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد؛ فأما عيسى بن موسى فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله لو لم يكن إلا أن يقول قولًا لما خفت عليك، فأخرجه من قلبك. وأما عيسى بن زيد فأنفق هذه الأموال واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة حتى تظفر به، ثم لا ألومك.

وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه، قال: لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه، فإذا فيه مكتوب: " بسم الله الرحمن الرحيم ".

أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ** سنوك، وأمر الله لابد واقع

أبا جعفر هل كاهن أو منجم ** لك اليوم من حر المنية مانع!

قال: فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل، فقال له: يا أمير المؤمنين، والله ما دخلها أحد منذ فرغ منها، فقال: اقرأ ما في صدر البيت مكتوبًا، قال: ما أرى شيئًا يا أمير المؤمنين، قال: فدعا برئيس الحجبة، فقال: اقرأ ما على صدر البيت مكتوبًا، قال: ما أرى على صدر البيت شيئًا، فأملى البيتين فكتبا عنه، فالتفت إلى حاجبه فقال: اقرأ لي آية من كتاب الله جل وعز تشوقني إلى الله عز وجل، فتلا: " بسم الله الرحمن الرحيم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "، فأمر بفكيه فوجئا. وقال: ما وجدت شيئًا تقرؤه غير هذه الآية! فقال: يا أمير المؤمنين، محي القرآن من قلبي غير هذه الآية، فأمر بالرحيل عن ذلك المنزل تطيرًا مما كان، وركب فرسًا، فلما كان في الوادي الذي يقال له سقر - وكان آخر منزل بطريق مكة - كبا به الفرس، فدق ظهره، ومات فدفن ببئر ميمون.

وذكر عن محمد بن عبد الله مولى بني هاشم، قال: أخبرني رجل من العلماء وأهل الأدب، قال: هتف بأبي جعفر هاتف من قصره بالمدينة فسمعه يقول:

أما ورب السكون والحرك ** إن المنايا كثيرة الشرك

عليك يا نفس إن أسأت وإن ** أحسنت بالقصد، كل ذاك لك

ما اختلف الليل والنهار ولا ** دارت نجوم السماء في الفلك

إلا بنقل السلطان عن ملك ** إذا انقضى ملكه إلى ملك

حتى يصيرا به إلى ملك ** ما عز سلطانه بمشترك

ذاك بديع السماء والأرض والمر ** سي الجبال المسخر الفلك

فقال أبو جعفر: هذا والله أوان أجلي.

وذكر عبد الله بن عبيد الله، أن عبد العزيز بن مسلم حدثه أنه قال: دخلت على المنصور يومًا أسلم عليه؛ فإذا هو باهت لا يحير جوابًا، فوثبت لما أرى منه، أريد الانصراف عنه، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت فيما يرى النائم؛ كأن رجلًا ينشدني هذه الأبيات:

أخي أخفض من مناكا ** فكأن يومك قد أتاكا

ولقد أراك الدهر من ** تصريفه ما قد أراكا

فإذا أردت الناقص ال ** عبد الذليل فأنت ذاكا

ملكت ما ملكته ** والأمر فيه إلى سواكا

فهذا الذي ترى من قلقي لما سمعت ورأيت. فقلت: خيرًا رأيت يا أمير المؤمنين. فلم يلبث إلى أن خرج إلى الحج فمات لوجهه ذاك.

وفي هذه السنة بويع للمهدي بالخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بمكة؛ صبيحة الليلة التي توفي فيها أبو جعفر المنصور وذلك يوم السبت لست ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين، كذلك قال هشام بن محمد ومحمد بن عمر وغيرهما.

وقال الواقدي: وبويع له ببغداد يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة.

وأم المهدي أم موسى بنت المنصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميري.

خلافة المهدي محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس

ذكر الخبر عن صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة حين مات والده المنصور بمكة

ذكر علي بن محمد النوفلي أن أباه حدثه، قال: خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر من طريق البصرة؛ وكان أبو جعفر خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق ثم سرت معه، فكان كلما ركب عرضت له فسلمت عليه، وقد كان أدنف وأشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، قضيت عمرتي، ثم كنت أختلف إلى أبي جعفر إلى مضربه، فأقيم فيه إلى قريب الزوال، ثم انصرف - وكذلك كان يفعل الهاشميون - وأقبلت علته تشتد وتزداد، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم؛ فصليت الصبح في المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت في ثوبي متقلدًا السيف عليهما، وأنا أساير محمد بن عون بن عبد الله بن الحارث - وكان من سادة بني هاشم ومشايخهم؛ وكان في ذلك اليوم عليه ثوبان موردان قد أحرم فيهما، متقلدًا السيف عليهما - قال: وكان مشايخ بني هاشم يحبون أن يحرموا في المورد لحديث عمر بن الخطاب وعبد الله بن جعفر وقول علي بن أبي طالب فيه. فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بن محمد ومحمد بن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة، فعدلنا إليهما، فسلمنا عليهما ثم مضينا، فقال لي محمد بن عون: ما ترى حال هذين ودخولهما مكة؟ قلت: أحسب الرجل قد مات؛ فأرادا أن يحصنا مكة؛ فكان ذلك كذلك، فبينا نحن نسير، إذا خفي الشخص في طمرين، ونحن بعد في غلس، قد جاء فدخل بين أعناق دابتينا، فقال: مات والله الرجل! ثم خفي عنا، فمضينا نحن حتى أتينا العسكر، فدخلنا السرادق الذي كنا نجلس فيه كل يوم؛ فإذا بموسى بن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، وإذا القاسم بن منصور في ناحية السرادق - وقد كان حين لقينا المنصور بذات عرق، إذا ركب المنصور بعيره جاء القاسم فسار بين يديه بينه وبين صاحب الشرطة، ويؤمر الناس أن يرفعوا القصص إليه - قال: فلما رأيته ناحية السرادق ورأيت موسى مصدرًا، علمت أن المنصور قد مات. قال: فبينا أنا جالس إذ أقبل الحسن بن زيد، فجلس إلى جنبي، فصارت فخذه على فخذي، وجاء الناس حتى ملئوا السرادق، وفيهم ابن عياش المنتوف، فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا همسًا من بكاء. فقال لي الحسن: أترى الرجل مات! قلت: لا أحسب ذلك؛ ولكن لعله ثقيل، أو إصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور، قد خرج علينا مشقوق الأقبية من بين يديه ومن خلفه، وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي في السرادق أحد إلا قام على رجليه، ثم أهووا نحو مضارب أبي جعفر يريدون الدخول، فمنعهم الخدم، ودفعوا في صدورهم. وقال بن عياش المنتوف: سبحان الله! أما شهدتم موت خليفة قط! اجلسوا رحمكم الله. فجلس الناس، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى جالس على حاله. وكان صبيًا رطبًا ما يتحلحل.

ثم خرج الربيع، وفي يده قرطاس، فألقى أسفله على الأرض، وتناول طرفه، ثم قرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين - ثم ألقى القرطاس من يده، وبكى وبكى الناس، فأخذ القرطاس، وقال: قد أمكنكم البكاء؛ ولكن هذا عهد أمير المؤمنين، لا بد من أن نقرأه عليكم، فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس، ثم رجع إلى القراءة - أما بعد: فإني كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله ألا يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعًا، ولا يذيق بعضكم بأس بعض. يا بني هاشم، ويا أهل خراسان.. ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحضهم على القيام بدولته، والوفاء بعهده إلى آخر الكتاب.

قال النوفل: قال أبي: وكان هذا شيئًا وضعه الربيع؛ ثم نظر في وجوه الناس، فدنا من الهاشميين، فتناول يد الحسن بن زيد، فقال: قم يا أبا محمد، فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى، ثم التفت إلى الناس، فقال:

يا أيها الناس، إن أمير المؤمنين كان ضربني واصطفى مالي؛ فكلمه المهدي فرضي عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح ونفس طيبة وقلب ناصح مني! ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده. ثم جاء الربيع بن عون، فقدمه للسن فبايع، ثم جاء الربيع إلي فأنهضني؛ فكنت الثالث؛ وبايع الناس؛ فلما فرغ دخل المضارب، فمكث هنيهة ثم خرج إلينا معشر الهاشميين، فقال: انهضوا، فنهضنا معه جميعًا، وكنا جماعة كثيرة من أهل العراق وأهل مكة والمدينة ممن حضر الحج، فدخلنا فإذا نحن بالمنصور على سريره في أكفانه، مكشوف الوجه؛ فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال؛ فكأني أنظر إليه أدنو من قائمة سريره نحمله؛ فتحرك الريح، فتطير شعر صدغيه؛ وذلك أنه كان قد وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه؛ حتى أتينا به حفرته، فدليناه فيها.

قال: وسمعت أبي يقول: كان أول شيء ارتفع به علي بن عيسى بن ماهان؛ أنه لما كان الليلة التي مات فيها أبو جعفر أرادوا عيسى بن موسى على بيعة مجددة للمهدي - وكان القائم بذلك الربيع - فأبى عيسى بن موسى، فأقبل القواد الذين حضروا يقربون ويتباعدون؛ فنهض علي بن عيسى بن ماهان، فاستل سيفه، ثم جاء إليه، فقال: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك! فلما رأى ذلك عيسى، بايع وبايع الناس بعده.

وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه أن موسى بن المهدي والربيع مولى المنصور وجها منارة مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي. وبعثا بعد بقضيب النبي وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروي، وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة؛ ثم خرجوا من مكة، وسار عبد الله بن المسيب بن زهير بالحربة بين يدي صالح بن المنصور، على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور، فكسرها القاسم بن نصر بن مالك؛ وهو يومئذ على شرطة موسى بن المهدي، واندس علي بن عيسى بن ماهان لما كان في نفسه من أذى عيسى بن موسى، وما صنع به للراوندية، فأظهر الطعن والكلام في مسيرهم. وكان من رؤسائهم أبو خالد المروروزي، حتى كاد الأمر يعظم ويتفاقم، حتى لبس السلاح. وتحرك في ذلك محمد بن سلمان، وقام فيه وغيره من أهل بيته؛ إلا أن محمدًا كان أحسنهم قيامًا به حتى طفئ ذلك وسكن. وكتب به إلى المهدي، فكتب بعزل علي بن عيسى عن حرس موسى بن المهدي، وصير مكانه أبا حنيفة حري بن قيس، وهدأ أمر العسكر، وتقدم العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى المهدي، وسبق إليه العباس بن محمد. وقدم منارة على المهدي يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه، وأوصلوا الكتب إليه، وبايعه أهل مدينة السلام.

وذكر الهيثم بن عدي عن الربيع، أن المنصور رأى في حجته التي مات فيها وهو بالعذيب - أو غيره من منازل طريق مكة - رؤيا - وكان الربي عديله - وفزع منها، وقال: يا ربيع ما أحيبني إلى ميتًا في وجهي هذا؛ وأنك تؤكد البيعة لأبي عبد الله المهدي، قال الربيع: فقلت له: بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويبلغ أبو عبد الله محبتك في حياتك إن شاء الله. قال: وثقل عند ذلك وهو يقول: بادر بي إلى حرم ربي وأمنه، هاربًا من ذنوبي وإسرافي عل نفسي؛ فلم يزل كذلك حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له: هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم، فقال: الحمد لله، وقضى من يومه. قال الربيع: فأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة، وسندته، وألقيت في وجه كلة رقيقة يرى منها شخصه، ولا يفهم أمره، وأدنيت أهله من الكلة حيث لا يعلم بخبره، ويرى شخصه. ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي أوهمهم أنه يخاطبني، ثم خرجت فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله، وهو يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم؛ ويكبت عدوكم، ويسر وليكم؛ وقد أحببت أن تجددوا بيعة أبي عبد الله المهدي؛ لئلا يطمع فيكم عدو ولا باغٍ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين؛ نحن إلى ذلك أسرع. قال: فدخل فوقف، ورجع إليهم، فقال: هلموا للبيعة، فبايع القوم كلهم؛ فلم يبق أحد من خاصته والأولياء ورؤساء من حضره إلا بايع المهدي، ثم دخل وخرج باكيًا مشقوق الجيب لاطم رأسه، فقال بعض من حضر: ويلي عليك يا بن شاة! يريد الربيع - وكانت أمه ماتت وهي ترضعه فأرضعته شاة - قال: وحفر للمنصور مائة قبر، ودفن في كلها لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه. وهكذا قبور خلفاء ولد العباس، لا يعرف لأحد منهم قبر. قال: فبلغ المهدي فلما قدم عليه الربيع قال: يا عبد؛ ألم تمنعك جلالة أمير المؤمنين أن فعلت ما فعلت به! وقال قوم أنه ضربه؛ ولم يصح ذلك. قال: وذكر من حضر حجة المنصور، قال: رأيت صالح بن المنصور وهو مع أبيه والناس معه؛ وإن موسى بن المهدي لقي تباعه، ثم رجع الناس وهم خلف موسى، وأن صالحًا معه.

وذكر عن الأصمعي أنه قال: أول من نعى أبو جعفر المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس، فمر بنا فسلم علينا، فقال: قد طرقت ببكرها أم طبق قال يونس: وماذا؟ قال:

تنتجوها خير أضخم العنق ** موت الإمام فلقة من الفلق

وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وكان المنصور - فيما ذكر - أوصى بذلك.

وكان العامل في هذه السنة على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، وعلى المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمرو بن زهير الضبي أخو المسيب بن زهير - وقيل: كان العامل عليها إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي. وقيل: إنه مولى لبني نصر من قيس - وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي، وعلى ديوان خراجها ثابت بن موسى، وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى قضاء بغداد مع قضاء الكوفة شريك ابن عبد الله.

وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي وشريك بن عبد الله على قضاء الكوفة خاصة. وقيل: إن شريكًا كان إليه قضاء الكوفة، والصلاة بأهلها.

وكان على الشرط ببغداد يوم مات المنصور - فيما ذكر - عمر بن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بن عبد الرحمن. وقيل كان موسى بن كعب.

وعلى ديوان خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة. وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بن دعلج.

وأصاب الناس - فيما ذكر محمد بن عمر - في هذه السنة وباء شديد

ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة

ذكر ما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك غزوة العباس بن محمد الصائفة فيها حتى بلغ أنقرة؛ وكان على مقدمة العباس الحسن الوصيف في الموالي، وكان المهدي ضم إليه جماعة من قواد أهل خراسان وغيرهم. وخرج المهدي فعسكر بالبردان وأقام فيه حتى أنفذ العباس بن محمد، ومن قطع عليه البعث معه، ولم يجعل للعباس على الحسن الوصيف ولاية في عزل ولا غيره، ففتح في غزاته هذه مدينة للروم ومطمورة معها، وانصرفوا سالمين لم يصب من المسلمين أحد.

وهلك في هذه السنة حميد بن قحطبة، وهو عامل المهدي على خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد.

وفيها ولي حمزة بن مالك سجستان، وولي جبرائيل بن يحيى سمرقند.

وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة.

وفيها بنى حائطها، وحفر خندقها.

وفيها عزل المهدي عبد الصمد بن علي عن المدينة؛ مدينة الرسول عن موجدة، واستعمل عليها مكانه محمد بن عبد الله الكثيري ثم عزله، واستعمل عليها مكانه عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان الجمحي.

وفيها وجه المهدي عبد الملك بن شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند، وفرض معه لألفين من أهل البصرة من جميع الأجناد، وأشخصهم معه، وأشخص معه من المطوعة الذين كانوا يلزمون المرابطات ألفًا وخمسمائة رجل، ووجه معه قائدًا من أبناء أهل الشام يقال له ابن الحباب المدحجي في سبعمائة من أهل الشام، وخرج معه من مطوعة أهل البصرة بأموالهم ألف رجل، فيهم - فيما ذكر - الربيع بن صبيح، ومن الأسواريين والسبابجة أربعة آلاف رجل، فولى عبد الملك بن شهاب المنذر بن الجارودي الألف الرجل المطوعة من أهل البصرة، وولى ابنه غسان بن عبد الملك الألفي الرجل الذين من فرض البصرة، وولى عبد الواحد بن عبد الملك الألف والخمسمائة الرجل من مطوعة المرابطات، وأفرد يزيد بن الحباب في أصحابه فخرجوا، وكان المهدي وجه لتجهيزهم حتى شخصوا أبا القاسم محرز بن إبراهيم، فمضوا لوجههم؛ حتى أتوا مدينة باربد من بلاد الهند في سنة ستين ومائة.

وفيها توفي معبد بن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، فاستعمل مكانه روح بن حاتم بمشورة أبي عبيد الله وزيره.

وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفًا بالسعي في الأرض بالفساد، أو من كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فأطلقوا، فكان ممن أطلق من المطبق يعقوب بن داود مولى بني سليم، وكان معه في ذلك الحبس محبوسًا الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وفيها حمل المهدي الحسن بن إبراهيم من المطبق الذي كان فيه محبوسًا إلى نصير الوصيف فحبسه عنده.

ذكر الخبر عن سبب تحويل المهدي الحسن بن إبراهيم من المطبق إلى نصير

ذكر أن السبب في ذلك، كان أن المهدي لما أمر بإطلاق أهل السجون على ما ذكرت، وكان يعقوب بن داود محبوسًا مع الحسن بن إبراهيم في موضع واحد، فأطلق يعقوب بن داود، ولم يطلق الحسن بن إبراهيم، ساء ظنه، وخاف على نفسه، فالتمس مخرجًا لنفسه وخلاصًا، فدس إلى بعض ثقاته، فحفر له سربًا من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس، وكان يعقوب بن داود بعد أن أطلق يطيف بابن علاثة - وهو قاضي المهدي بمدينة السلام - ويلزمه، حتى أنس به، وبلغ يعقوب ما عزم عليه الحسن بن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علاثة، فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، وسأله إيصاله إلى أبي عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره بها، وحذره فوتها، فانطلق ابن علاثة إلى أبي عبيد الله فأخبره خبر يعقوب وما جاء به، فأمره بإدخاله عليه؛ فلما دخل عليه سأله إيصاله إلى المهدي، ليعلمه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلما دخل على المهدي شكر له بلاءه عنده في إطلاقه إياه ومنه عليه، ثم أخبره أن له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبي عبيد الله وابن علاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدي ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتى يقوما، فأقامهما وأخلاه، فأخبره خبر الحسن بن إبراهيم وما أجمع عليه، وأن ذلك كائن من ليلته المستقبلة، فوجه المهدي من يثق به ليأتيه بخبره، فأتاه بتحقيق ما أخبره به يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل في حبسه إلى أن احتال واحتيل له، فخرج هاربًا، وافتقد، فشاع خبره، فطلب فلم يظفر به، وتذكر المهدي دلالة يعقوب إياه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه في أمره، فسأل أبا عبيد الله فأخبره أنه حاضر - وقد كان لزم أبا عبيد الله - فدعى به المهدي خاليًا، فذكر له ما كان من فعله في الحسن بن إبراهيم أولًا، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فاخبره يعقوب أنه لا علم له بمكانه، وأنه إن أعطاه أمانًا يثق به ضمن له أن يأتيه به، على أن يتم له على أمانه، ويصله ويحسن إليه. فأعطاه المهدي ذلك في مجلسه وضمنه له. فقال له يعقوب: فله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه، فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حتى أحتال فآتيك به؛ فأعطاه المهدي ذلك. وقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيتك، وأنصفتهم، وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم؛ وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها بمثل ما فعلت في غيرها، وأشياء مع ذلك خلف بابك يعمل بها لا تعلمها، فإن جعلت لي السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لي في رفعها إليك فعلت. فأعطاه المهدي ذلك، وجعله إليه، وصير سليمان الخادم الأسود خادم المنصور سببه في إعلام المهدي بمكانه كلما أراد الدخول، فكان يعقوب يدخل على المهدي ليلًا، ويفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزاب، وفكاك الأسرى والمحبسين والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين، فحظى بذلك عنده، وبما رجى أن ينال به من الظفر بالحسن بن إبراهيم، واتخذه أخًا في الله، وأخرج بذلك توقيعًا، وأثبت في الدواوين، فتسبب مائة ألف درهم كانت أول صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعدًا، إلى أن صير الحسن بن إبراهيم في يد المهدي بعد ذلك؛ وإلى أن سقطت منزلته، وأمر المهدي بحبسه، فقال علي بن الخليل في ذلك:

عجبًا لتصريف الأمو ** ر مسرة وكراهيه

والدهر يلعب بالرجا ** ل له دوائر جاريه

رثت بيعقوب بن دا ** ود حبال معاويه

وعدت على ابن علاثة ال ** قاضي بوائق عافيه

قل للوزير أبي عبي ** د الله: هل لك باقيه!

يعقوب ينظر في الأمو ** رو أنت تنظر ناحيه

أدخلته فعلًا علي ** ك، كذاك شؤم الناصيه

وفي هذه السنة عزل المهدي إسماعيل بن أبي إسماعيل عن الكوفة وأحداثها. واختلف فيمن ولي مكانه إسحاق بن الصباح الكندي ثم الأشعثي بمشورة شريك بن عبد الله قاضي الكوفة. وقال عمر بن شبة: ولى على الكوفة المهدي عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، فولى على شرطه ابن أخيه عثمان بن سعيد بن لقمان. ويقال: إن شريك بن عبد الله كان على الصلاة والقضاء، وعيسى على الأحداث ثم أفرد شريك بالولاية، فجعل على شرطه إسحاق بن الصباح الكندي، فقال بعض الشعراء:

لست تعدو بأن تكون ولو نل ** ت سهيلًا صنيعةً لشريك

قال: ويزعمون أن إسحاق لم يشكر لشريك، وأن شريكًا قال له:

صلى وصام لدنيا كان يأملها ** فقد أصاب ولا صلى ولا صاما

وذكر أن جعفر بن محمد قاضي الكوفة، قال: ضم المهدي إلى شريك الصلاة مع القضاء، وولى شرطه إسحاق بن الصباح، ثم ولى إسحاق بن الصباح الصلاة والأحداث بعد، ثم ولى إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل ابن محمد بن الأشعث الكوفة، فولى شرطه النعمان بن جعفر الكندي، فمات النعمان، فولى على شرطه أخاه يزيد بن جعفر.

وفيها عزل المهدي عن أحداث البصرة سعيد بن دعلج، وعزل عن الصلاة والقضاء من أهلها عبيد الله بن الحسن، وولى مكانهما عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النمري، وكتب إلى عبد الملك يأمره بإنصاف من تظلم من أهل البصرة من سعيد بن دعلج، ثم صرفت الأحداث في هذه السنة عن عبد الملك بن أيوب إلى عمارة بن حمزة، فولاها عمارة رجلًا من أهل البصرة يقال له المسور بن عبد الله بن مسلم الباهلي، وأقر عبد الملك على الصلاة.

وفيها عزل قثم بن العباس عن اليمامة عن سخطة، فوصل كتاب عزله إلى اليمامة، وقد توفي فاستعمل مكانه بشر بن المنذر البجلي.

وفيها عزل يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه رجاء بن روح.

وفيها عزل الهيثم بن سعيد عن الجزيرة، واستعمل عليها الفضل بن صالح.

وفيها أعتق المهدي أم ولده الخيزران وتزوجها.

وفيها تزوج المهدي أيضًا أم عبد الله بنت صالح بن علي، أخت الفضل وعبد ابني صالح لأمهما.

وفيها وقع الحريق في ذي الحجة في السفن ببغداد عند قصر عيسى بن علي، فاحترق ناس كثير، واحترقت السفن بما فيها.

وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر، واستعمل مكانه أبو ضمرة محمد بن سليمان.

وفيها كانت حركة من تحرك من بني هاشم وشيعتهم من أهل خراسان في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، وتصيير ذلك لموسى بن المهدي؛ فلما تبين ذلك المهدي كتب - فيما ذكر - إلى عيسى بن موسى في القدوم عليه وهو بالكوفة، فأحس بالذي يراد به، فامتنع من القدوم عليه.

وقال عمر: لما أفضى الآمر إلى المهدي سأل عيسى أن يخرج من الأمر فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى على الكوفة روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب، فولي على شرطه خالد بن يزيد بن حاتم؛ وكان المهدي يحب أن يحمل روح على عيسى بعض الحمل فيما لا يكون عليه به حجة، وكان لا يجد إلى ذلك سبيلًا، وكان عيسى قد خرج إلى ضيعة له بالرحبة؛ فكان لا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة في شهر رمضان، فيشهد الجمع والعيد، ثم يرجع إلى ضيعته. وفي أول ذي الحجة، فإذا شهد العيد رجع إلى ضيعته، وكان إذا شهد الجمعة أقبل من داره على دوابه حتى ينتهي إلى أبواب المسجد فينزل على عتبة الأبواب، ثم يصلي في موضعه، فكتب روح إلى المهدي أن عيسى بن موسى لا يشهد الجمع، ولا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة؛ فإذا حضر أقبل على دوابه حتى يدخل رحبة المسجد؛ وهو مصلى الناس، ثم يتجاوزها إلى أبواب المسجد، فتروث دوابه في مصلى الناس؛ وليس يفعل ذلك غيره؛ فكتب إليه المهدي أن اتخذ على أفواه السكك التي تلي المسجد خشبًا ينزل عنده الناس، فاتخذ روح ذلك الخشب في أفواه السكك - فذلك الموضع يسمى الخشبة - وبلغ ذلك عيسى بن موسى قبل يوم الجمعة، فأرسل إلى ورثة المختار بن أبى عبيدة - وكانت دار المختار لزيقة المسجد، فابتاعها وأثمن بها، ثم إنه عمرها واتخذ فيها حمامًا، فكان إذا كان يوم الخميس أتاها وأقام بها، فإذا أراد الجمعة ركب حمارًا فدب به إلى باب المسجد فصلى في ناحية، ثم رجع إلى داره. ثم أوطن الكوفة وأقام بها، وألح المهدي على عيسى فقال: إنك إن لم تجبني إلى أن تنخلع منها حتى أبايع لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك من العاصي، وإن أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك وأعجل نفعًا. فأجابه، فبايع لهما وأمر له بعشرة آلاف ألف درهم - ويقال عشرين ألف ألف - وقطائع كثيرة.

وأما غير عمر فإنه فقال: كتب المهدي إلى عيسى بن موسى لما هم بخلعه يأمره بالقدوم عليه، فأحس بما يراد به، فامتنع من القدوم عليه، حتى خيف انتقاضه، فأنفذ إليه المهدي عمه العباس بن محمد، وكتب إليه كتابًا، وأوصاه بما أحب أن يبلغه، فقدم العباس على عيسى بكتاب المهدي ورسالته إليه، فانصرف إلى المهدي بجوابه في ذلك، فوجه إليه بعد قدوم العباس عليه محمد بن فروخ أبا هريرة القائد في ألف رجل من أصحابه من ذوي البصيرة في التشيع، وجعل مع كل رجل منهم طبلًا، وأمرهم أن يضربوا جميعًا بطبولهم عند قدومهم الكوفة، فدخلها ليلًا في وجه الصبح، فضرب أصحابه بطبولهم، فراع ذلك عيسى بن موسى روعًا شديدًا، ثم دخل عليه أبو هريرة، فأمره بالشخوص، فاعتل بالشكوى، فلم يقبل ذلك منه، وأشخصه من ساعته إلى مدينة السلام.

وحج بالناس في هذه السنة يزيد بن منصور - خال المهدي - عند قدومه من اليمن؛ فحدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى؛ عن أبي معشر. كذلك قال محمد بن عمر الواقدي وغيره. وكان انصراف يزيد بن منصور من اليمن بكتاب المهدي إليه يأمره بالانصراف إليه وتوليته إياه الموسم وإعلامه اشتياقه إليه وإلى قربه.

وكان أمير المدينة في هذه السنة عبيد الله بن صفوان الجمحي، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك بن عبد الله، وعلى صلاة البصرة عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري، وعلى أحداثها عمارة بن حمزة؛ وخليفته على ذلك المسور بن عبد الله بن مسلم الباهلي؛ وعلى قضائها عبيد الله بن حسن. وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بن حمزة. وعلى السند بسطام بن عمرو، وعلى اليمن رجاء بن روح. وعلى اليمامة بشر بن المنذر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بن يزيد، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة.

ثم دخلت سنة ستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خروج يوسف البرم

فمن ذلك ما كان من خروج يوسف بن إبراهيم، وهو الذي يقال له يوسف البرم بخراسان منكرًا هو ومن تبعه ممن كان على رأيه على المهدي - فيما زعم - الحال التي هو بها وسيرته التي يسير بها، واجتمع معه - فيما ذكر - بشر من الناس كثير، فتوجه إليه يزيد بن مزيد فلقيه، واقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد، وبعث به إلى المهدي، وبعث معه من وجوه أصحابه بعدة، فلما انتهى بهم إلى النهروان حمل يوسف البرمعلى بعير وقد حول وجهه إلى ذنب البعير وأصحابه على بعير، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، فأدخلوه على المهدي، فأمر هرثمة بن أعين فقطع يدي يوسف ورجليه، وضرب عنقه وعنق أصحابه، وصلبهم على جسر دجلة الأعلى، مما يلي عسكر المهدي، وإنما أمر هرثمة بقتله؛ لأنه قتل أخًا لهرثمة بخراسان.

ذكر خبر خلع عيسى بن موسى وبيعة موسى الهادي

وفيها قدم عيسى بن موسى مع أبي هريرة يوم الخميس لست خلون من المحرم - فيما ذكر - الفضل بن سليمان فنزل دارًا كانت لمحمد بن سليمان على شاطئ دجلة في عسكر المهدي، فأقام أيامًا يختلف إلى المهدي، ويدخل مدخله الذي كان يدخله؛ لا يكلم بشيء، ولا يرى جفوة ولا مكروهًا ولا تقصيرًا به؛ حتى أنس به بعض الأنس، ثم حضر الدار يومًا قبل جلوس المهدي، فدخل مجلسا كان يكون للربيع في مقصورة صغيرة، وعليها باب، وقد أجتمع رؤساء الشيعة في ذلك اليوم على خلعه والوثوب عليه؛ ففعلوا ذلك وهو في المقصورة التي فيها مجلس الربيع، فأغلق دونهم المقصورة، فضربوا الباب بجرزهم، فهشموا الباب، وكادوا يكسرونه، وشتموه أقبح الشتم، وحصروه هنالك، وأظهر المهدي إنكارًا لما فعلوا، فلم يردعهم ذلك عن فعلهم، بل شدوا في أمره، وكانوا بذلك هو وهم أيامًا، إلى أن كاشفه ذوو الأسنان من أهل بيته بحضرة المهدي، فأبوا إلا خلعه، وشتموه في وجهه؛ وكان أشدهم عليه محمد بن سليمان.

فلما رأى المهدي ذلك من رأيهم وكراهتهم لعيسى وولايته؛ دعاهم إلى العهد لموسى، فصار إلى رأيهم وموافقتهم، وألح على عيسى في إجابته إياهم إلى الخروج مما له من العهد في أعناق الناس وتحليلهم منه؛ فأبى؛ وذكر أن عليه أيمانًا محرجة في ماله وأهله؛ فأحضر له من الفقهاء والقضاة عدة، منهم محمد بن عبد الله بن علاثة والزنجي بن خالد المكي وغيرهما؛ فأتوه بما رأوا، وصار إلى المهدي ابتياع ماله من البيعة في أعناق الناس بما يكون له فيه رضًا وعوض؛ مما يخرج له من ماله لما يلزمه من الحنث في يمينه؛ وهو عشرة آلاف ألف درهم، وضياع بالزاب الأعلى وكسكر. فقبل عيسى، وبقي منذ فاوضه المهدي على الخلع إلى أن أجاب محتسبًا عنده في دار الديوان من الرصافة إلى أن صار إلى الرضى بالخلع والتسليم، وإلى أن خلع يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم بعد صلاة العصر، فبايع للمهدي ولموسى من بعده من الغد يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم لارتفاع النهار. ثم أذن المهدي لأهل بيته، وهو في قبة كان محمد بن سليمان أهداها له مضروبة في صحن الأبواب، ثم أخذ بيعتهم رجلًا رجلًا لنفسه ولموسى بن المهدي من بعده، حتى أتى إلى آخرهم. ثم خرج إلى مسجد الجماعة بالرصافة فقعد على المنبر، وصعد موسى حتى كأنه دونه. وقال عيسى على أول عتبة المنبر، فحمد الله المهدي وأثنى عليه، وصلى على النبي ، وأخبر بما بما أجمع عليه أهل بيته وشيعته وقواده وأنصاره وغيرهم من أهل خراسان من خلع عيسى بن موسى وتصيير الأمر الذي كان عقد له في أعناق الناس لموسى بن أمير المؤمنين؛ لاختيارهم له ورضاهم به؛ وما رأى من إجاباتهم إلى ذلك؛ لما رجا مصلحتهم وألفتهم، وخاف مخالفتهم في نياتهم واختلاف كلمتهم، وأن عيسى قد خلع تقدمه، وحللهم مما كان له من البيعة في أعناقهم، وأن ما كان له من ذلك فقد صار لموسى بن أمير المؤمنين، بعقد من أمير المؤمنين وأهل بيته وشيعته في ذلك؛ وأن موسى عامل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه بأحسن السيرة وأعدلها، فبايعوا معشر من حضر، وسارعوا إلى ما سارع إليه غيركم؛ فإن الخير كله في الجماعة، والشر كله في الفرقة. وأنا أسأل الله لنا ولكم التوفيق برحمته، والعمل بطاعته وما يرضيه، وأستغفر الله لي ولكم.

وجلس موسى دونه معتزلًا للمنبر؛ لئلا يحول بينه وبين من صعد إليه، يبايعه ويمسح على يده، ولا يستر وجهه، وثبت عيسى قائمًا في مكانه، وقرئ عليه كتاب ذكر الخلع له، وخروجه مما كان غليه من ولاية العهد وتحليله الجماعة من كان له في عنقه بيعة، مما عقدوا له في أعناقهم؛ وإن ذلك من فعله وهو طائع غير مكره، راض غير ساخط، محب غير مجبر. فأقر عيسى بذلك، ثم صعد فبايع المهدي، ومسح على يده، ثم انصرف، وبايع أهل بيت المهدي على أسنانهم؛ يبايعون المهدي ثم موسى، ويمسحون على أيديهما؛ حتى فرغ آخرهم؛ وفعل من أحضر من أصحابه ووجوه القواد والشيعة مثل ذلك، ثم نزل المهدي، فصار إلى منزله، ووكل ببيعته من بقي من الخاصة والعامة خاله يزيد بن منصور، فتولى ذلك حتى فرغ من جميع الناس، ووفى المهدي لعيسى بما أعطاه وأرضاه مما خلعه منه من ولاية العهد، وكتب عليه بخلعه إياه كتابًا أشهد عليه فيه جماعة أهل بيته وصحابته وجميع شيعته وكتابه وجنده في الدواوين؛ ليكون حجة على عيسى، وقطعًا لقوله ودعواه فيما خرج منه.

وهذه نسخة الشرط الذي كتبه عيسى على نفسه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهد المؤمنين موسى بن المهدي، ولأهل بيته وجميع قواده وجنوده من أهل خراسان وعامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ حيث كان كائن منهم، كتبته للمهدي محمد أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين موسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي؛ فيما جعل إليه من العهد إذ كان إلي، حتى اجتمعت كلمة المسلمين، واتسق أمرهم، وائتلفت أهواؤهم، على الرضى بولاية موسى بن المهدي محمد أمير المؤمنين، وعرفت الخط في ذلك علي والخط فيه لي، ودخلت فيما دخل المسلمون من الرضا بموسى بن أمير المؤمنين، والبيعة له، والخروج مما كان لي في رقابهم من البيعة، وجعلتكم في حل من ذلك وسعة، من غير حرج يدخل عليكم، أو على أحد من جماعتكم وعامة المسلمين، وليس في شيء من ذلك، قديم ولا حديث لي دعوى ولا طلبة ولا حجة ولا مقالة ولا طاعة على أحد منكم، ولا على عامة المسلمين ولا بيعة في حياة المهدي محمد أمير المؤمنين ولا بعده ولا بعد ولي عهد المسلمين موسى، ولا ما كنت حيًا حتى أموت. وقد بايعت محمد المهدي أمير المؤمنين ولموسى ابن أمير المؤمنين من بعده، وجعلت لهما ولعامة المسلمين من أهل خراسان وغيرهم الوفاء بما شرطت على نفسي في هذا الأمر الذي خرجت منه، والتمام عليه. علي بذلك عهد الله وما اعتقد أحد من خلقه من عهد أو ميثاق أو تغليظ أو تأكيد على السمع والطاعة والنصيحة للمهدي محمد أمير المؤمنين وولي عهده موسى بن أمير المؤمنين، في السر والعلانية، والقول والفعل، والنية والشدة والرجاء والسراء والضراء والموالاة لهمل ولمن والاهما، والمعاداة لمن عاداهما، كائنًا من كان في هذا الأمر الذي خرجت منه. فإن أنا نكبت أو غيرت أو بدلت أو دغلت أو نويت غير ما أعطيت عليه هذه الأيمان، أو دعوت إلى خلاف شيء مما حملت على نفسي في هذا الكتاب للمهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهده موسى بن أمير المؤمنين ولعامة المسلمين، أو لم أف بذلك؛ فكل زوجة عندي يوم كتبت هذا الكتاب - أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة - طالق ثلاثًا البتة طلاق الحرج وكل مملوك عندي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وكل مالٍ لي نقد أو عرض أو قرض أو أرض، أو قليل أو كثير، تالد أو طارف أو أستفيده فيما بعد اليوم إلى ثلاثين سنة صدقة على المساكين، يضع ذلك الوالي حيث يرى، وعلي من مدينة السلام المشي حافيًا إلى بيت الله العتيق الذي بمكة نذرًا واجبًا ثلاثين سنة، لا كفارة لي ولا مخرج منه؛ إلا الوفاء به. والله على الوفاء بذلك راع كفيل شهيد، وكفى بالله شهيدًا. وشهيد على عيسى بن موسى بما في هذا الشرط أربعمائة وثلاثون من بني هاشم ومن الموالي والصحابة من قريش والوزراء والكتاب والقضاة.

وكتب في صفر سنة ستين ومائة. وختم عيسى بن موسى.

فقال بعض الشعراء:

كره الموت أبو موسى وقد ** كان في الموت نجاء وكرم

خلع الملك وأضحى ملبسًا ** ثوب لوم ما ترى منه القدم

وفي سنة ستين ومائة وافى عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة باربد بمن توجه معه من المطوعة وغيرهم، فناهضوها بعد قدومهم بيوم، وأقاموا عليها يومين، فنصبوا المنجنيق وناهضوها بجميع الآلة، وتحاشد الناس وحض بعضهم بعض بالقرآن والتذكير، ففتحها الله عليهم عنوة، ودخلت خيلهم من كل ناحية؛ حتى ألجئوهم إلى بدهم، فأشعلوا فيها النيران والنفط، فاحترق منهم من احترق، وجاهد بعضهم المسلمين، فقتلهم الله أجمعين، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون رجلًا، وأفاءها الله عليهم. وهاج البحر فلم يقدروا على ركوبه والانصراف، فأقاموا إلى أن يطيب، فأصابهم في أفواههم داء يقال له حمام قر، فمات نحو من ألف رجل، منهم الربيع بن صبيح. ثم انصرفوا لما أمكنهم الانصراف حتى بلغوا ساحلًا من فارس، يقال له بحر حمران، فعصفت عليهم فيه الريح ليلًا، فكسرت عامة مراكبهم، فغرق منهم بعض ونجا بعض، وقدموا معهم بسبي من سبيهم - فيهم بنت ملك باربد - على محمد بن سليمان، وهو يومئذ والي البصرة.

وفيها صير أبان بن صدقة كاتبًا لهارون بن المهدي ووزيرًا له.

وفيها عزل أبو عون عن خراسان عن سخطة، وولي مكانه معاذ بن مسلم.

وفيها غزا ثمامة بن الوليد العبسي الصائفة.

وفيها غزا الغمر بن العباس الخثعمي بحر الشام

ذكر خبر رد نسب آل بكرة وآل زياد

وفيها رد المهدي آل بكرة من نسبهم في ثقيف إلى ولاء رسول الله ؛ وكان سبب ذلك أن رجلًا من آل أبي بكرة رفع ظلامة إلى المهدي وتقرب إليه فيها بولاء رسول الله ، فقال المهدي: إن هذا نسب واعتزاء، ما تقرون به إلا عند حاجة تعرض لكم، وعند اضطراركم إلى التقرب به إلينا. فقال الحكم: يا أمير المؤمنين، من جحد ذلك فإنا سنقر؛ أنا أسألك أن تردني ومعشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله ، وتأمر بآل زياد بن عبيد فيخرجوا من نسبهم الذي ألحقهم به معاوية رغبة عن قضاء رسول الله : " إن الولد للفراش وللعاهر الحجر "، فيردوا إلي نسبهم من عبيد في موالي ثقيف. فأمر المهدي في آل بكرة وآل زياد أن يرد كل فريق منهم إلى نسبه، وكتب إلى محمد بن سليمان كتابًا، وأمره أن يقرأ في مسجد الجماعة على الناس، وأن يرد آل أبي بكرة إلى ولائهم من رسول الله ونسبهم إلى نفيع ابن مسروح، وأن يرد على من أقر منهم ما أمر برده عليهم من أموالهم بالبصرة مع نظرائهم، ممن أمر برد ماله عليه، وألا يرد على من أنكر منهم، وأن يجعل الممتحن منهم والمستبرئ لما عندهم الحكم بن سمرقند. فأنفذ محمد ما أتاه في آل أبي بكرة إلا في أناس منهم غيب عنهم.

وأما آل زياد فإنه مما قوي رأي المهدي فيهم - فيما ذكر علي بن سليمان - أن أباه حدثه، قال: حضرت المهدي وهو ينظر في المظالم إذ قدم عليه رجل من آل زياد يقال له الصغدي بن سلم بن حرب، فقال له: من أنت؟ قال: ابن عمك، قال: أي ابن عمي أنت؟ فانتسب إلى زياد، فقال له المهدي: يا ابن سمية الزانية، متى كنت ابن عمي! وغضب وأمر به فوجئ في عنقه، وأخرج، قال: فلما خرجت لحقني عيسى بن موسى - أو موسى بن عيسى - فقال: أردت والله أن أبعث إليك، أن أمير المؤمنين التفت إلينا بعد خروجك، فقال: من عنده علم من آل زياد؟ فو الله ما كان عند أحد منا من ذاك شيء، فما عندك يا أبا عبد الله؟ فما زلت أحدثه في زياد وآل زياد حتى صرنا إلى منزله بباب المحول، فقال: أسألك بالله والرحم لما كتبت لي هذا كله حتى أروح به إلى أمير المؤمنين، وأخبره عنك. فانصرفت فكتبت، وبعثت به إليه. فراح إلى المهدي، فأخبره، فأمر المهدي بالكتاب إلى هارون الرشيد؛ وكان والي البصرة من قبله يأمره أن يكتب إلى واليها يأمر أن يخرج آل زياد من قريش وديوانهم والعرب، وأن يعرض ولد أبي بكرة على ولاء رسول الله ، فمن أقر منهم ترك ماله في يده، ومن انتمى إلى ثقيف اصطفى ماله. فعرضهم، فأقروا جميعًا الولاء، إلا ثلاثة نفر، فاصطفيت أموالهم.

ثم إن آل زياد بعد ذلك رشوا صاحب الديوان حتى ردهم إلى ما كانوا عليه، فقال خالد النجار في ذلك:

إن زيادًا ونافعًا وأبا ** بكرة عندي من أعجب العجب

ذا قرشي كما يقول، وذا مولى، وهذا بزعمه عربي

نسخة كتاب المهدي إلى والي البصرة في رد آل زياد إلى نسبهم

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد؛ فإن أحق ما حمل عليه ولاة المسلمين أنفسهم وخواصهم وعوامهم في أمورهم وأحكامهم، العمل بينهم بما في كتاب الله والاتباع لسنة رسول الله ، والصبر على ذلك، والمواظبة عليه، والرضا به فيما وافقهم وخالفهم؛ للذي فيه من إقامة حدود الله ومعرفة حقوقه، واتباع مرضاته، وإحراز جزائه وحسن ثوابه، ولما في مخالفة ذلك والصدود عنه وغلبة الهوى لغيره من الضلال والخسار في الدنيا والآخرة.

وقد كان من رأي معاوية بن أبي سفيان في استلحاقه زياد بن عبيد عبد آل علاج من ثقيف، وادعائه ما أباه بعد معاوية عامة المسلمين وكثير من منهم في زمانه، لعلمهم بزياد وأبي زياد وأمه من أهل الرضا والفضل والورع والعلم، ولم يدع معاوية إلى ذلك ورع ولا هدى، ولا اتباع سنة هادية، ولا قدوة من أئمة الحق ماضية، إلا الرغبة في هلاك دينه وآخرته، والتصميم على مخالفة الكتاب والسنة. والعجب بزياد في جلده ونفاذه، وما رجامن معونته وموازرته إياه على باطل ما كان يركن إليه في سيرته وأثاره وإعماله الخبيثة. وقد قال رسول الله : " الولد للفراش وللعاهر الحجر "، وقد قال: " من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه لا صرفًا ولا عدلا ".

ولعمري ما ولد زياد في حجر أبي سفيان ولا على فراشه، ولا كان عبيد عبدًا لأبي سفيان، ولا سمية أمة له، ولا كانا في ملكه، ولا صارا إليه لسبب من الأسباب. ولقد قال معاوية فيما يعلمه أهل الحفظ للأحاديث عند كلام نصر بن الحجاج بن علاط السلمي ومن كان معه من موالي بني المغيرة المخزوميين وإرادتهم استلحاقه وإثبات دعوته، وقد أعد لهم معاوية حجرًا تحت بعض فرشه فألقاه إليهم، فقالوا له: نسوغ لك ما فعلت في زياد، ولا تسوغ لنا ما فعلنا في صاحبنا، فقال: قضاء رسول الله خير لكم من قضاء معاوية. فخالف معاوية بقضائه في زياد واستلحاقه إياه وما صنع فيه وأقدم عليه، أمر الله جل وعز وقضاء رسول الله واتبع في ذلك هواه رغبة عن الحق ومجانبة له، وقد قال الله عز وجل: " ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين "، وقال لداود وقد آتاه الحكم والنبوة والمال والخلافة: " يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض.. " الآية إلى آخرها.

فأمير المؤمنين يسأل الله أن يعصم له نفسه ودينه، وأن يعيذه من غلبة الهوى، ويوفقه في جميع الأمور لما يحب ويرضى؛ إنه سميع قريب.

وقد رأى أمير المؤمنين أن يرد زيادًا ومن كان من ولده إلى أمهم ونسبهم المعروف ويلحقهم بأبيهم عبيد؛ وأمهم سمية، ويتبع في ذلك قول رسول الله ، وما أجمع عليه الصالحون وأئمة الهدى، ولا يجيز لمعاوية ما أقدم عليه مما يخالف كتاب الله وسنة رسوله ، وكان أمير المؤمنين أحق من أخذ بذلك وعمل به؛ لقرابته من رسول الله واتباعه آثاره وإحيائه سنة، وإبطاله سنن غيره الزائغة الجائرة عن الحق والهدى، وقد قال الله جل وعز: " فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ".

فاعلم أن ذلك من رأي أمير المؤمنين في زياد، وما كان من ولد زياد فألحقهم بأبيهم زياد بن عبيد، وأمهم سمية، واحملهم عليه، وأظهره لمن قبلك من المسلمين حتى يعرفوه ويستقيم فيهم؛ فإن أمير المؤمنين قد كتب إلى قاضي البصرة وصاحب ديوانهم بذلك. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وكتب معاوية بن عبيد الله في سنة تسع وخمسين ومائة.

فلما وصل الكتاب إلى محمد بن سليمان وقع بإنقاذه، ثم كلم فيهم، فكف عنهم؛ وقد كان كتب إلى عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري بمثل ما كتب به إلى محمد، فلم ينفذه لموضعه من قيس، وكراهته أن يخرج أحد من قومه إلى غيرهم.

وفيها كانت وفاة عبيد الله بن صفوان الجمحي، وهو والٍ على المدينة، فولى مكانه محمد بن عبد الله الكثيري، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى عزل وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي. وولى المهدي قضاء المدينة فيها عبد الله بن محمد بن عمران الطلحي.

وفيها خرج عبد السلام الخارجي، فقتل.

وفيها عزل بسطام بن عمرو بن السند، واستعمل عليها روح بن حاتم. وحج بالناس في هذه السنة المهدي، واستخلف على مدينته حين شخص عنها ابنه موسى، وخلف معه يزيد بن منصور خال المهدي وزيرًا له ومدبرًا لأمره.

وشخص مع المهدي في هذه السنة ابنه هارون وجماعة من أهل بيته؛ وكان ممن شخص معه يعقوب بن داود، على منزلته التي كانت له عنده؛ فأتاه حين وافى مكة الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الذي استأمن له يعقوب من المهدي على أمانه، فأحسن المهدي صلته وجائزته، وأقطعه مالًا من الصوافي بالحجاز وفيها نزع المهدي كسوة الكعبة التي كانت عليها، وكساها كسوة جديدة؛ وذلك أن حجبة الكعبة - فيما ذكر - رفعوا إليه أنهم يخافون على الكعبة تهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فأمر أن يكشف عنها ما عليها من الكسوة حتى بقيت مجردة، ثم طلي البيت كله بالخلوق، وذكر أنهم لما بلغوا إلى كسوة هشام وجدوها ديباجًا ثخينًا جيدًا، ووجدوا كسوة من كان قبله عامتها من متاع اليمن.

وقسم المهدي في هذه السنة بمكة في أهلها - فيما ذكر - مالًا عظيمًا، وفي أهل المدينة كذلك؛ فذكر أنه نظر فيما قسم في تلك السفرة فوجد ثلاثين ألف ألف درهم، حملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله. وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول الله ، وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد الرسول فنزعت، وأراد أن ينقص منبر رسول الله فيعيده إلى ما كان عليه، ويلقي منه ما كان معاوية زاد فيه؛ فذكر عن مالك بن أنس أنه شاور في ذلك، فقيل له: إن المسامير قد سلكت في الخشب الذي أحدثه معاوية، وفي الخشب الأول وهو عتيق، فلا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن يتكسر، فتركه المهدي.

وأمر أيام مقامه بالمدينة بإثبات خمسمائة رجل من الأنصار ليكونوا معه حرسًا له بالعراق وأنصارًا، وأجرى عليهم أرزاقًا سوى أعطياتهم، وأقطعهم عند قدومهم معه ببغداد قطيعة تعرف بهم.

وتزوج في مقامه بها برقية بنت عمرو العثمانية.

وفي هذه السنة حمل محمد بن سليمان الثلج للمهدي، حتى وافى به مكة، فكان المهدي أول من حمل له الثلج إلى مكة من الخلفاء.

وفيها رد المهدي على أهل بيته وغيرهم قطائعهم التي كانت مقبوضة عنهم.

وكان على صلاة الكوفة وأحداثها في هذه السنة إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى قضائها شريك. وعلى البصرة وأحداثها وأعمالها المفردة وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس محمد بن سليمان. وكان على قضاء البصرة فيها عبيد الله بن الحسن. وعلى خراسان معاذ بن مسلم، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى السند روح بن حاتم. وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة.

ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمما كان من ذلك خروج حكيم القنع بخراسان من قرية من قرى مرو، وكان - فيما ذكر - يقول بتناسخ الأرواح، يعود ذلك إلى نفسه، فاستغوى بشرًا كثيرًا، وقوي وصار إلى ما وراء النهر، فوجه المهدي لقتاله عدة من قواده؛ فيهم معاذ بن مسلم، وهو يومئذ على خراسان، ومعه عقبة بن مسلم وجبرئيل بن يحيى وليث مولى المهدي، ثم أفرد المهدي لمحاربته سعيدًا الحرشي، وضم إليه القواد؛ وابتدأ المقنع بجمع الطعام عدة للحصار في قلعة بكش. وفيها ظفر نصر بن محمد بن الأشعث الخزاعي بعبد الله بن مروان بالشام؛ فقدم به على المهدي قبل أن يوليه السند، فحبسه المهدي في المطبق؛ فذكر أبو الخطاب أن المهدي أتى بعبد الله بن مروان بن محمد - وكان يكنى أبا الحكم - فجلس المهدي مجلسًا عامًا في الرصافة، فقال: من يعرف هذا؟ فقام عبد العزيز بن مسلم العقيلي، فصار معه قائمًا، ثم قال له: أبو الحكم؟ قال: نعم ابن أمير المؤمنين، قال: كيف كنت بعدي؟ ثم التفت إلى المهدي، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا عبد الله بن مروان. فعجب الناس من جرأته، ولم يعرض له المهدي بشيء.

قال: ولما حبس المهدي عبد الله بن مروان احتيل عليه، فجاء عمرو بن سهلة الأشعري فادعى أن عبد الله بن مروان قتل أباه؛ كذب والله ما قتل أباه غيري؛ أنا قتلته بأمر مروان، وعبد الله بن مروان من دمه بريء. فزالت عن عبد الله بن مروان ولم يعرض المهدي لعبد العزيز بن مسلم لأنه قتله بأمر مروان.

وفيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد، فنزل دابق، وجاشت الروم وهو مغتر، فأتت طلائعه وعيونه بذلك، فلم يحفل بما جاءوا به، وخرج إلى الروم، وعليها ميخائيل بسرعان الناس، فأصيب من المسلمين عدة، وكان عيسى بن علي مرابطًا بحصن مرعش يومئذ، فلم يكن للمسلمين في ذلك العام صائفة من أجل ذلك.

وفيها أمر المهدي ببناء القصور في طريق مكة أوسع من القصور التي كان أبو العباس بناها من القادسية إلى زبالة، وأمر بالزيادة في قصور أبي العباس، وترك منازل أبي جعفر التي كان بناها على حالها، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل، وبتجديد الأميال والبرك، وحفر الركايا مع المصانع، وولي ذلك يقطين بن موسى، فلم يزل ذلك إليه إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، وكان خليفة يقطين في ذلك أخوه أبو موسى. وفيها أمر المهدي بالزيادة في مسجد الجامع بالبصرة، فزيد فيه من مقدمة مما يلي القبلة، وعن يمينه مما يلي رحبة بني سليم، وولى بناء ذلك محمد بن سليمان وهو يومئذٍ والي البصرة وفيها أمر المهدي بنزع المقاصير من مساجد الجماعات وتقصير المنابر وتصييرها إلى المقدار الذي عليه منبر الرسول ، وكتب بذلك إلى الآفاق فعمل به. وفيها أمر المهدي يعقوب بن داود بتوجيه الأمناء في جميع الآفاق، فعمل به، فكان لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب بن داود إلى أمينه وثقته بإنفاذ ذلك. وفيها اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي، وضم يعقوب إليه من متفقه البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام عددًا كثيرًا، وجعل رئيس البصريين والقائم بأمرهم إسماعيل بن علية الأسدي ومحمد بن ميمون العنبري، وجعل رئيس أهل الكوفة وأهل الشام عبد الأعلى بن موسى الحلبي.

ذكر السبب الذي من أجله تغيرت منزلة أبي عبيد الله عند المهدي

قد ذكرنا سبب اتصاله به الذي كان قبل في أيام المنصور وضم المنصور إياه إلى المهدي حين وجهه إلى الري عند خلع عبد الرحمن المنصور، فذكر أبو زيد عمر بن شبة، أن سعيد بن إبراهيم حدثه أن جعفر بن يحيى حدثه أن الفضل بن ربيع أخبره، أن الموالي كانوا يشنعون على أبي عبيد الله عند المهدي، ويسعون عليه عنده؛ فكانت كتب أبي عبيد الله تنفذ عند المنصور بما يريد من الأمور، وتتخلى الموالي بالمهدي؛ فيبلغونه عن أبي عبيد الله، ويحرضونه عليه.

قال الفضل: وكانت كتب أبي عبيد الله تصل إلى أبي تترى، يشكو الموالي وما يلقى منهم، ولا يزال يذكره عند المنصور ويخبره بقيامه، ويستخرج الكتب عنه إلى المهدي بالوصاة به، وترك القبول فيه. قال: فلما رأى أبو عبيد الله غلبة الموالي على المهدي، وخلوتهم به نظر إلى أربعة رجال من قبائل شتى من أهل الأدب والعلم، فضمهم إلى المهدي، فكانوا في صحابته، فلم يكونوا يدعون الموالي يتخلون به.

ثم إن أبا عبيد الله كلم المهدي في بعض أمره إذ اعترض رجل من هؤلاء الأربعة في الأمر الذي تكلم فيه، فسكت عنه أبو عبيد الله، فلم يراده، وخرج فأمر أن يحجب عن المهدي فحجبه عنه؛ وبلغ ذلك من أخبره أبي.

قال: وحج أبي مع المنصور في السنة التي مات فيها، وقام أبي من أمر المهدي بما قام به من أمر البيعة وتجديدها على بيت المنصور والقواد والموالي؛ فلما قدم تلقيته بعد المغرب، فلم أزل معه حتى تجاوز منزله، وترك دار المهدي، ومضى إلى أبي عبيد الله، فقال: يا بني؛ هو صاحب الرجل؛ وليس ينبغي أن نعامله على ما كنا نعامله عليه؛ ولا أن نحاسبه بما كان منا في أمره من نصرتنا له. قال: فمضينا حتى أتينا باب أبي عبيد الله؛ فما زال واقفًا حتى صليت العتمة، فخرج الحاجب، فقال: ادخل، فثنى رجله وثنيت رجلي. قال: إنما استأذنت لك يا أبا الفضل وحدك. قال: اذهب فأخبره أن الفضل معي. قال: ثم أقبل علي، فقال: وهذا أيضًا من لك! قال:

فخرج الحاجب، فأذن لنا جميعًا، فدخلن أنا وأبي وأبو عبيد الله في صدر المجلس، على مصل متكئ على وسادة، فقلت: يقوم إلى أبي إذا دخل إليه، فلم يقم إليه، فقلت: يستوي جالسًا إذا دنا، فلم يعلم، فقلت: يدعو له بمصلى، فلم يفعل، فقعد أبي بين يديه على البساط وهو متكئ، فجعل يسائله عن مسيره وسفره وحاله، وجعل أبي يتوقع أن يسأله عما كان منه في أمر المهدي وتجديد بيعته، فأعرض عن ذلك، فذهب أبي يبتدئه بذكره، فقال: قد بلغنا نبؤكم، قال: فذهب أبي لينهض، فقال: لا أرى الدروب إلا وقد غلقت، فلو أقمت! قال: فقال أبي: إن الدروب لا تغلق دوني، قال: بلى قد أغلقت. قال: فظن أبي أنه يريد أن يحتبسه ليسكن من مسيره، ويريد أن يسأله؛ قال: فأقيم. قال: يا فلان، اذهب فهيئ لأبي الفضل في منزل محمد بن أبي عبيد الله مبيتًا. فلما رأى انه يريد أن يخرج من الدار، قال: فليس تفلق دروبي دوني فاعتزم. ثم قام، فلما خرجنا من الدار أقبل علي فقال: يا بني، أنت أحمق، قلت: وما حمقي أنا! قال: تقول لي: كان ينبغي لك ألا تجيئ، وكان ينبغي إذا جئت فحجبنا ألا تقيم حتى صليت العتمة، وان تنصرف ولا تدخل؛ وكان ينبغي إذا دخلت فلم يقم إليك أن ترجع ولا تقيم عليه؛ ولم يكن الصواب إلا ما عملت كله؛ ولكن والله الذي لا إله إلا هو - وأستغلق في اليمين - لأخلعن جاهي، ولأنفقن مالي حتى أبلغ من عبيد الله. قال: ثم جعل يضرب بجهده، فلا يجد مساغًا إلى مكروهه، ويحنال الجد إذا ذكر القشيري الذي كان أبو عبيد الله حجره، فأرسل إليه فجائه، فقال: إنك قد عملت ما ركبك به أبو عبيد الله، وبلغ مني كل غاية من المكروه، وقد أرغت أمره بجهدي؛ فما وجدت عليه طريقًا، فعندك حيلة في أمره؟ فقال: إنما يؤتى أبو عبيد الله من أحد وجوه أذكرها لك.. يقال: هو رجل جاهل بصناعته وأبو عبيد الله أحدق الناس، أو يقال: هو ظنين في الدين بتقليده، وأبو عبيد الله أعف الناس؛ لو كان بنات المهدي في حجره لكان لهم موضع، أو يقال: هو يميل إلى أن يخالف السلطان فيس يؤتى أبو عبيد الله من ذلك، إلا أنه يميل إلى القدر بعض الميل؛ وليس يتسلق عليه بذلك أن يقول: هو متهم؛ ولكن هذا كله مجتمع لكفي ابن؛ قال: فتناول الربيع، فقبل بين عينيه، ثم دب لابن أبي عبيد الله؛ فوالله ما زال يحتال ويدس إلى المهدي ويتهمه ببعض حرم المهدي؛ حتى استحكم عند المهدي الظنة بمحمد بن أبي عبيد الله، فأمر فأحضر، وأخرج أبو عبيد الله. فقال: يا محمد اقرأ، فذهب ليقرأ، فاستعجم عليه القرآن، فقال: يا معاوية ألم تعلمني أن ابنك جامع للقرآن؟ قال: أخبرتك يا أمير المؤمنين، ولكن فارقني منذ سنين؛ وفي هذه المدة التي نأى فيها عني نسي القرآن، قال: قم فتقرب إلى الله في دمه، فذهب ليقوم فوقع، فقال العباس بن محمد: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تعفي الشيخ! قال: ففعل، وأمر به فأخرج، فضربت عنقه قال: فاتهمه المهدي في نفسه، فقال له الربيع: قتلت ابنه، وليس ينبغي أن يكون معك، ولا أن تثق به فأوحش المهدي، وكان الذي كان من أمره وبلغ الربيع ما أراد، واشتفى وزاد.

وذكر محمد بن عبد الله يعقوب بن داود، قال: أخبرني أبي، قال: ضرب المهدي رجلًا من الأشعريين، فأوجعه، فتعصب أبو عبيد الله - وكان مولى لهم، فقال: القتل أحسن من هذا يا أمير المؤمنين، فقال له المهدي: يا يهودي، اخرج من عسكري لعنك الله. قال: مت أدري إلى أين أخرج إلا إلى النار! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أحر بهذا أن لمثلها يتوقع، قال: فقال لي: سبحان الله يا أبا عبيد الله! وفيها غزا الغمر بن العباس في البحر.

وفيها ولى نصر بن محمد بن الأشعث السند مكان روح بن حاتم، وشخص إليها حتى قدمها ثم عزل، وولي مكانه محمد بن سليمان، فوجه إليها عبد الملك ابن شهاب المسمعي، فقدمها على نصر، فبغته، ثم أذن له في الشخوص، فشخص حتى نزل الساحل على ستة فراسخ من المنصورة؛ فأتى نصر بن محمد عهده على السند، فرجع إلى عمله؛ وقد كان عبد الملك أقام بها ثمانية عشر يوما، فلم يعرض له، فرجع إلى البصرة.

وفيها استقضى المهدي عافية بن يزيد الأزدي؛ فكان هو وابن علاثة حبيب العدوي.

وفيها عزل الفضل بن صالح عن الجزيرة، واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي.

وفيها استعمل عيسى بن لقمان على مصر وفيها ولي يزيد بن المنصور سواد الكوفة وحسان الشروي الموصل وبسطام ابن عمرو التغلبي أذربيجان.

وفيها عزل أبا أيوب المسمى سليمان المكي عن ديوان الخراج، وولي مكانه أبو الزير عمر بن مطرف.

وفيها توفي نصر بن مالك من فالج أصابه، ودفن في المقابر بني هاشم وصلى عليه المهدي.

وفيها صرف أبان بن صدقة عن هارون بن المهدي إلى موسى، وجعله له كاتبًا ووزيرًا، وجعل مكانه مع هارون بن المهدي يحيى بن خالد بن برمك.

وفيها عزل محمد بن سليمان أبا ضمر عن مصر في ذي الحجة المهدي وولاها سلمة بن رجاء.

وحج بالناس في هذه السنة موسى بن محمد بن عبد الله الهادي، وهو ولى عهد أبيه.

وكان عامل الطائف ومكة واليمامة فيها جعفر بن سليمان، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى سوادها يزيد بن المنصور.

ثم دخلت سنة اثنتين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

خبر مقتل عبد السلام الخارجي

فمن ذلك ما كان من مقتل عبد السلام الخارجي بقنسرين.

ذكر الخبر عن مقتله

ذكر أن عبد السلام بن هاشم اليشكري هذا خرج بالجزيرة، وكثر بها أتباعه، واشتدت شوكته، فلقيه من قواد المهدي عدة، منهم عيسى بن موسى القائد، فقتله في عدة ممن معه، وهزم جماعة من القواد، فوجه إليه المهدي الجنود، فنكب غير واحد من القواد، منهم شبيب بنواج المروروذي، ثم ندب إلى شبيب ألف فارس، أعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة، وألحقهم بشبيب فوافوه، فخرج شبيب في أثر عبد السلام، فهرب منهم حتى أتى قنسرين، فلحقه بها فقتله.

وفيها وضع المهدي دواوين الأزمة، وولي عليها عمر بن بزيع مولاه، فولى عمر بن يزيع النعمان بن عثمان أبا حازم زمام خراج العراق.

وفيها أمر المهدي أن يجري على المجذومين وأهل السجون في جميع الآفاق.

وفيها ولى ثمامة بن الوليد العبسي الصائفة، فلم يتم ذلك.

وفيها خرجت الروم إلى الحدث فهدموا سوارها.

وغزا الصائفة الحسن بن قحطبة في ثلاثين ألف مرتزق سوى المطعة، فبلغ حمة أذرولية، فأكثر التخريب والتحريق في بلاد الروم نمن غير أن يفتح حصنًا، ويلقى جمعًا، وسمته الروم التنين. وقيل: إنه إنما أتى هذه الحمة الحسن ليستنقع قيها للوضح الذي كان به؛ ثم قفل بالناس سالمين. وكان على قضاء عسكره وما يجتمع من الفئ حفص بن عامر السلمي. قال: وفيها غزا يزيد بن أسيد السلمي من باب قاليقلا، فغنم وفتح ثلاثة حصون، وأصاب سبيا كثيرًا وأسرى.

وفيها عزل علي بن سليمان عن اليمن، وولي مكانه عبد الله بن سليمان عن اليمن، وولى مكانه عبد الله بن سليمان.

وفيها عزل سلمة بن رجاء عن مصر، ووليها عيسى بن لقمان، في المحرم، ثم عزل في جمادى الآخرة، ووليها واضح مولى المهدي، ثم في ذي القعدة ووليها يحيى الحرشي.

وفيها ظهرت المحمرة بجرجان، عليهم رجل يقال له عبد القهار، فغلب على جلجان، وقتل بشرأً كثيرًا، فغزاه عمر بن العلاء من طبرستان، فقتل عبد القهار وأصحابه.

وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن جعفر بن المنصور؛ وكان العباس ابن محمد استأذن المهدي في الحج بعد ذلك، فعاتبه على ألا يكون استأذنه قبل أن يولي الموسم أحدًا فيوليه إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، عمدًا أخرت ذلك لأني لم أرد الولاية.

وكانت عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها. ثم إن الجزيرة كانت في هذه السنة إلى عبد الصمد بن علي وطبرستان والرويان إلى سعيد بن دعلج، وجرجان إلى مهلهل بن صفوان.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها

فمن ذلك ما كان فيها من هلاك المقنع؛ وذلك أن سعيدًا الحرشي حصر بكش، فاشتد عليه الحصار، فلما أحس بالهلكة شرب سما، وسقاه نساءه وأهله، فمات وماتوا - فيما ذكر - جميعًا، ودخل المسلمون قلعته واحتزوا رأسه، ووجهوا به إلى المهدي وهو بجلب.

ذكر الخبر غزو الروم

وفيها قطع المهدي البعوث للصائفة على جميع الأجناد من أهل خراسان وغيرهم، وخرج فعسكر بالبردان، وأقام به نحوًا من شهرين يتعبأ فيه ويتهيأ، ويعطي الجنود، وأخرج بها صلات لأهل بيته الذين شخصوا معه، فتوفي عيسى بن علي في آخر جمادى الآخرة ببغداد. وخرج المهدي من الغد إلى البردان متوجهًا إلى الصائفة، واستخلف ببغداد موسى بن المهدي، وكاتبه يومئذ أيان بن صدقة؛ وعلى خاتمه عبد الله بن علاثة، وعلى حرسة علي بن عيسى، وعلى شرطه عبد الله بن خازم؛ فذكر العباس بن محمد أن المهدي لما وجه الرشيد إلى الصائفة سنة ثلاث وستين ومائة خرج يشيعه وأنا معه؛ فلما حاذى قصر مسلمة، قلت: يا أمير المؤمنين، إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بن علي مر به، فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: يا بن عم هذان ألفان لدينك، وألفان لمعونتك، فإذا فقدت فلا تحتشمتا. فقاللما حدثته الحديث: أحضروا من ها هنا من ولد مسلمة ومواليه، فأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأمر أن تجرى عليهم الأرزاق، ثم قال: يا أبا الفضل، كافأنا مسلمة وقضينا حقه؟ قلت: نعم، وزدت يا أمير المؤمنين.

وذكر إبراهيم بن زياد، عن الهيثم بن عدي، أن المهدي أغزى هارون الرشيد بلاد الروم، وضم إليه الربيع الحاجب والحسن بن قحطبة.

قال محمد بن العباس: إني لقاعد في مجلس أبي في دار أمير المؤمنين وهو على الحرس؛ إذ جاء والحسن بن قحطبة، فسلم علي، وقعد على الفراش الذي يقعد أبي عليه، فسأل عنه فأعمته أنه راكب، فقال: يا حبيبي أعلمه أني جئت، وأبلغه السلام عني، وقل له: إن أحب أن يقول لأمير المؤمنين: يقول الحسن بن قحطبة: يا أمير المؤمنين؛ جعلني الله فداك! أغزيت هارون، وضممتني والربيع إليه، وأنا قريع قوادك، والربيع قريع مواليك، وليس تطيب نفسي بأن نخلي جميعًا بابك؛ فإما أغزيتني مع هارون وأقام الربيع، وإما أغزيت الربيع وأقمت ببابك. قال: فجاء أبي فأبلغته الرسالة، فدخل على المهدي فأعلمه، فقال: أحسن والله الاستعفاء؛ لا كما فعل الحجام ابن الحجام - يعني عامر بن إسماعيل - وكان استعفى من الخروج مع إبراهيم فغضب عليه، واستصفى ماله.

وذكر عبد الله بن أحمد بن الوضاح، قال: سمعت جدي أبا بديل، قال: أغزى المهدي الرشيد، وأغزى معه موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح بن علي وموليي أبيه: الربيع الحاجب والحسن الحاجب؛ فلما فصل ودخلت عليه بعد يومين أو ثلاثة، فقال: ما خلفك عن ولي العهد، وعن أخويك خاصة؟ يعني الربيع والحسن الحاجب. قلت: أمر أمير المؤمنين ومقامي بمدينة السلام حتى يأذن لي. قال: فسر حتى تلحق به وبهما؛ واذكر ما تحتاج إليه. قال: قلت: ما أحتاج إلى شيء من العدة؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في وداعه! فقال لي: متى تراك خارجًا؟ قال: قلت من غد، قال: فودعته وخرجت، فلحقت القوم. قال: فأقبلت أنظر إلى الرشيد يخرج، فيضرب بالصواجة، وانظر إلى موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح؛ وهما يتضاحكان منه. قال: فصرت إلى الربيع والحسن - وكنا لا نفترق - قال فقلت: لا جزاكما الله عمن وجهكما ولا عمن وجهتما معه خيرًا؛ فقالا: إيه، وما الخبر؟ قال: قلت: موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح؛ يتضاحكان من ابن أمير المؤمنين، أوما كنتما تقدران أن تجعلا لهما مجلسًا يدخلان عليه فيه ولمن كان معه من القواد في الجمعة يدخلون عليه ويخلوه في سائر أيامه لما يريد! قال: فبينا نحن في ذلك المسير إذ بعثا إلي في الليل. قال: فجئت وعندهما رجل، فقالا لي: هذا غلام الغمر بن يزيد، وقد أصبنا معه كتاب الدولة. قال: ففتحت الكتاب، فنظرت فيه إلى سني المهدي فإذا هي عشر سنين. قال: فقلت ما في الأرض أعجب منكما! أتريان أن خبر هذا الغلام يخفى، وأن هذا الكتاب يستتر! قالا: كلا، قلت: فإذا كان أمير المؤمنين قد نقص من سنه ما نقص، أفلستم أول من نعى إليه نفسه! قال: فتبلدوا والله، وسقط في أيديهما، فقالا: فما الحيلة؟ قلت: يا غلام علي بعنبسة - يعني الوراق الأعرابي مولى آل أبي بديل - فأتى به، فقلت له: خط مثل هذا الخط، وورقة مثل هذه الورقة، وصير مكان عشر سنين أربعين سنة، وصيرها في الورقة، قال:

فوالله لولا أني لولا أني رأيت العشر في تلك الأربعين في هذه ما شككت أن الخط ذلك الخط، وأن الورقة تلك الورقة. قال: ووجه المهدي خالد بن برمك مع الرشيد وهو ولي العهد حين وجهه لغزو الروم، وتوجه معه الحسن وسليمان ابنا برمك، ووجه معه على أمر العسكر ونفقاته وكتابته والقيام بأمره يحيى بن خالد - وكان أمر هارون كله إليه - وصير الربيع الحاجب مع هارون يغزو عن المهدي، وكان الذي بين الربيع ويحيى على حسب ذلك؛ وكان يشاورهما ويعمل برأيهما؛ ففتح الله عليهم فتوحًا كثيرة، وأبلاهم في ذلك الوجه بلاءً جميلًا، وكان لخالد في ذلك بسمالو أثر جميل لم يكن لأحد؛ وكان منجمهم يسمى البرمكي تبركًا به، ونظرًا إليه. قال: ولما ندب المهدي هارون الرشيد لما ندبه له من الغزو، أمر أن يدخل عليه كتاب أبناء الدعوة لينظر إليهم ويختار له منهم رجلًا.

قال يحيى: فأدخلوني عليه معهم، فوقفوا بين يديه، ووقفت آخرهم، فقال لي: يا يحيى ادن، فدنوت، ثم قال لي: اجلس، فجلست فجثوت بين يديه، فقال لي: إني تصفحت أبناء شيعتي وأهل دولتي، واخترت منهم رجلًا لهارون ابني أضمه إليه ليقوم بأمر عسكره، ويتولى كتابته، فوقعت عليك خيرتي له، ورأيتك أولى به؛ إذ كنت مربيه وخاصته، وقد وليتك كتابته وأمر عسكره. قال: فشكرت ذلك له، وقبلت يده، وأمر لي بمائة ألف درهم معونةً على سفري، فوجهت في ذلك العسكر لما وجهت له.

قال: وأوفد الربيع بن سليمان بن برمك إلى المهدي، وأوفد معه وفدًا، فأكرم المهدي وفادته وفضله، وأحسن إلى الوفد الذين كانوا معه، ثم انصرفوا من وجههم لذلك.

عزل عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وتولية زفر بن الحارث

وفي هذه السنة؛ سنة مسير المهدي مع ابنه هارون، عزل المهدي عبد الصمد بن علي عن الجزيرة، وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي.

ذكر السبب في عزله إياه

ذكر أن المهدي سلك في سفرته هذه طريق الموصل، وعلى الجزيرة عبد الصمد بن علي، فلما شخص المهدي من الموصل، وصار بأرض الجزيرة، لم يتلقه عبد الصمد ولا هيأ له نزلًا، ولا أصلح له قناطر. فاضطغن ذلك عليه المهدي، فلما لقيه تجهمه وأظهر له جفاء، فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها، فردها عليه، وازداد عليه سخطًا، وأمر بأخذه بإقامة النزل له، فتعبث في ذلك، وتقنع، ولم يزل يربى ما يكرهه إلى أن نزل حصن مسلمة، فدعا به، وجرى بينهما كلام أغلظ له فيه القول المهدي، فرد عليه عبد الصمد ولم يحتمله، فأمر بحبسه وعزله عن الجزيرة، ولم يزل في حبسه في سفره ذلك وبعد أن رجع إلى أن رضي عنه. وأقام له العباس بن محمد النزل، حتى انتهى إلى حلب، فأتته البشرى بها بقتل المقنع، وبعث وهو بها عبد الجبار المحتسب لجلب من بتلك الناحية من الزنادقة. ففعل، وأتاه بهم وهو بدابق، فقتل جماعة منهم وصلبهم، وأتي بكتب من كتبهم فقطعت بالسكاكين ثم عرض بها جنده، وأمر بالرحلة، وأشخص جماعة من وافاه من أهل بيته مع ابنه هارون إلى الروم، وشيع المهدي ابنه هارون حتى قطع الدرب، وبلغ جيحان، وارتاد بها المدينة التي تسمى المهدية، وودع هارون على نهر جيحان. فسار هارون حتى نزل رستاقًا من رساتيق أرض الروم فيه قلعة، يقال لها سمالو، فأقام عليها ثمانيًا وثلاثين ليلة، وقد نصب عليها المجانيق، حتى فتحها الله بعد تخريبٍ لها، وعطش وجوع أصاب أهلها، وبعد قتل وجراحات كانت في المسلمين؛ وكان فتحها على شروط شرطوها لأنفسهم: لا يقتلوا ولا يرحلوا، ولا يفرق بينهم؛ فأعطوا ذلك، فنزلوا، ووفى لهم، وقفل هارون بالمسلمين سالمين إلا من كان أصيب منهم بها.

وفي هذه السنة وفي سفرته هذه، صار المهدي إلى بيت المقدس، فصلى فيه، ومعه العباس بن محمد والفضل بن صالح وعلي بن سليمان وخاله يزيد بن المنصور.

وفيها عزل المهدي إبراهيم بن صالح عن فلسطين، فسأله يزيد بن منصور حتى رده عليها.

وفيها ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.

وفيها عزل زفر بن عاصم عن الجزيرة، وولى مكانه عبد الله بن صالح بن علي، وكان المهدي نزل عليه في مسيره إلى بيت المقدس، فأعجب بما رأى من منزله بسلمية.

وفيها عزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولاها المسيب بن زهير.

وفيها عزل يحيى الحرشى عن أصبهان، وولى مكانه الحكم بن سعيد.

وفيها عزل سعيد بن دعلج عن طبرستان والرويان، وولاهما عمر بن العلاء.

وفيها عزل مهلهل بن صفوان عن جرجان، وولاها هشام بن سعيد.

وحج بالناس في هذه السنة علي بن المهدي.

وكان على اليمامة والمدينة ومكة والطائف فيها جعفر بن سليمان، وعلى الصلاة والأحداث بالكوفة إسحاق بن الصباح، وعلى قضائها شريك، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والفرض وكور الأهواز وكور فارس محمد بن سليمان، وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى السند نصر بن محمد بن الأشعث.

ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك غزوة عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب من درب الحدث، فأقبل إليه ميخائيل البطريق - فيما ذكر - في نحو من تسعين ألفًا، فيهم طازاذ الأرمني البطريق، ففشل عنه عبد الكريم ومنع المسلمين من القتال وانصرف، فأراد المهدي ضرب عنقه، فكلم فيه فحبسه في المطبق.

وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن أعماله، ووجه صالح بن داود على ما كان إلى محمد بن سليمان، ووجه معه عاصم بن موسى الخراساني الكاتب على الخراج وأمره بأخذ حماد بن موسى كاتب محمد بن سليمان وعبيد الله بن عمر خليفته وعماله وتكشيفهم.

وفيها بنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصرًا من لبن، إلى أن أسس قصره الذي بالآجر: الذي سماه قصر السلامة؛ وكان تأسيسه إياه يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة.

وفيها شخص المهدي حين أسس هذا القصر إلى الكوفة حاجًا، فأقام برصافة الكوفة أيامًا، ثم خرج متوجهًا إلى الحج، حتى انتهى إلى العقبة، فغلا عليه وعلى من معه الماء، وخاف ألا يحمله ومن معه ما بين أيديهم، وعرضت له مع ذلك حمى، فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بسبب الماء؛ لأنه كان صاحب المصانع، واشتد على الناس العطش في منصرفهم وعلى ظهرهم حتى أشرفوا على الهلكة.

وفيها توفي نصر بن محمد بن الأشعث بالسند.

وفيها عزل عبد الله بن سليمان عن اليمن عن سخطة، ووجه من يستقبله ويفتش متاعه، ويحصي ما معه، ثم أمر بحبسه عند الربيع حين قدم، حتى أقر من المال والجواهر والعنبر ما أقر به، فرده إليه، واستعمل مكانه منصور بن يزيد بن منصور.

وفيها وجه المهدي صالح بن أبي جعفر المنصور من العقبة عند انصرافه عنها إلى مكة ليحج بالناس. فأقام صالح للناس الحج في هذه السنة.

وكان العامل على المدينة ومكة والطائف واليمامة فيها جعفر بن سليمان، وعلى اليمن منصور بن يزيد بن منصور، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها هاشم بن سعيد بن منصور، وعلى قضائها شريك بن عبد الله، وعلى صلاة البصرة وأحداثها وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس صالح بن داود بن علي، وعلى السند سطيح بن عمر، وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى الموصل محمد بن الفضل. وعلى قضاء البصرة عبيد الله بن الحسن، وعلى مصر إبراهيم بن صالح، وإفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي، وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى أمير المؤمنين، وعلى الري خلف بن عبد الله، وعلى سجستان سعيد بن دعلج.

ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

غزوة هارون بن المهدي الصائفة ببلاد الروم

فمن ذلك غزوة هارون بن المهدي الصائفة، ووجهه أبوه - فيما ذكر - يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة غازيًا إلى بلاد الروم، وضم إليه الربيع مولاه، فوغل هارون في بلاد الروم، فافتتح ماجدة، ولقيته خيول نقيطا قومس القوامسة، فبادره يزيد بن مزيد، فأرجل يزيد، ثم سقط نقيطا، فضربه يزيد حتى أثخنه، وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكرهم. وسار إلى الدمستق بنقمودية وهو صاحب المسالح، وسار هارون في خمسة وتسعين ألفًا وسبع مائة وثلاثة وتسعين رجلًا، وحمل لهم من العين مائة ألف دينار وأربعة وتسعين ألفًا وأربع مائة وخمسين دينارًا، ومن الورق أحدًا وعشرين ألف ألف وأربع مائة ألف وأربعة عشر ألفًا وثمانمائة درهم. وسار هارون حتى بلغ خليج البحر الذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغسطه امرأة أليون؛ وذلك أن ابنها كان صغيرًا قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينهما وبين هارون بن المهدي الرسل والسفراء في طلب الصلح والموادعة وإعطائه الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما أعطت له، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه؛ وذلك أنه دخل مدخلًا صعبًا مخوفًا على المسلمين، فأجابته إلى ما سأل، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها تسعون أو سبعون ألف دينار، تؤديها في نيسان الأول في كل سنة، وفي حزيران، فقبل ذلك منها، فأقامت له الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسولًا إلى المهدي بما بذلك على أن تؤدي ما تيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وسلمت الأسارى. وكان الذي أفاء على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعين رأسًا، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفًا، وقتل من الأسارى صبرًا ألفان وتسعون أسيرًا. ومما أفاء الله عليه من الدواب الذلل بأدراتها عشرون ألف دابة، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس. وكانت المرتزقة سوى المطوعة وأهل الأسواق مائة ألف، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم وعشرين سيفًا بدرهم، فقال مروان بن أبي حفصة في ذلك:

أطفئت بقسطنطينية الروم مسندًا ** إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها

وما رمتها حتى أتتك ملوكها ** بجزيتها، والحرب تغلي قدورها

وفيها عزل خلف بن عبد الله عن الري، وولاها عيسى مولى جعفر.

وحج بالناس في هذه السنة صالح بن أبي جعفر المنصور.

وكانت عمال الأمصار في هذه السنة هم عمالها في السنة الماضية؛ غير أن العامل على أحداث البصرة والصلاة بأهلها كان روح بن حاتم، وعلى كور دجلة والبحرين وعمان وكسكر وكور الأهواز وفارس وكرمان كان المعلى مولى أمير المؤمنين المهدي، وعلى السند الليث مولى المهدي.

ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك قفول هارون بن المهدي؛ ومن كان معه من خليج قسطنطينية في المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقدمت الروم بالجزية معهم، وذلك - فيما قيل - أربعة وستون ألف دينار عدد الرومية وألفان وخمسمائة دينار عربية، وثلاثون ألف رطل مرعزي. وفيها أخذ المهدي البيعة على قواده لهارون بعد موسى بن المهدي، وسماه الرشيد. وفيها عزل عبيد الله بن الحسن عن قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بن طليق بن عمران بن حصين خزاعي، فلم تحمد ولايته، فاستعفى أهل البصرة منه.

وفيها عزل جعفر بن سليمان عن مكة والمدينة، وما كان إليه من العمل.

وفيها سخط المهدي على يعقوب بن داود.

ذكر الخبر عن غضب المهدي على يعقوب

ذكر علي بن محمد النوفلي قال: سمعت أبي يذكر، قال: كان داود بن طهمان - وهو أبو يعقوب بن داود - وإخوته كتابًا لنصر بن سيار، وقد كتب داود قبله لبعض ولاة خراسان؛ فلما كانت أيام يحيى بن زيد كان يدس إليه وإلى أصحابه بما يسمع من نصر، ويحذرهم؛ فلما خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه من أصحاب نصر، أتاه داود بن طهمان مطمئنًا لما كان يعلم مما جرى بينه وبينه، فآمنه أبو مسلم، ولم يعرض له في نفسه، وأخذ أمواله التي استفاد أيام نصر، وترك منازله وضيعه التي كانت له ميراثًا بمرو، فلما فلما مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليست لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر؛ فلما رأوا ذلك أظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن يكون لهم دولة فيعيشوا فيها. فكان يعقوب يجول البلاد منفردًا بنفسه، ومع إبراهيم بن عبد الله أحيانًا، في طلب البيعة لمحمد بن عبد الله، فلما ظهر محمد وإبراهيم بن عبد الله كتب علي بن داود - وكان أسن من يعقوب - لإبراهيم بن عبد الله، وخرج يعقوب مع عدة من إخوته مع إبراهيم؛ فلما قتل محمد وإبراهيم تواروا من المنصور، فطلبهم، فأخذ يعقوب وعليًا فحبسهما في المطبق أيام حياته، فلما توفي المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وأطلقهما. وكان معهما في المطبق إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن - وكانا لا يفارقانه - وإخوته الذين كانوا محتبسين معه، فجرت بينهم بذلك صداقة. وكان إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن يرى أن الخلافة قد تجوز في صالح بني هاشم جميعًا، فكان يقول: كانت الإمامة بعد رسول الله لا تصلح إلا في بني هاشم؛ وهي في هذا الدهر لا تصلح إلا فيهم؛ وكان يكثر في قوله للأكبر من بني عبد المطلب؛ وكان هو ويعقوب بن داود يتجاريان ذلك؛ فلما خلى المهدي سبيل يعقوب مكث المهدي برهة من دهره يطلب عيسى بن زيد والحسن بن إبراهيم بن عبد الله بعد هرب الحسن من حبسه، فقال المهدي يومًا: لو وجدت رجلًا من الزيدية له معرفة بآل حسن وبعيسى بن زيد، وله فقه فأجتلبه إلي على طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن وعيسى بن زيد! فدل على يعقوب بن داود، فأتى به فأدخل عليه، وعليه يومئذ فرو وخفا كبل وعمامة وكرابيس وكساء أبيض غليظ. فكلمه وفاتحه، فوجده رجلًا كاملًا، فسأله عن عيسى بن زيد؛ فزعم الناس أنه وعده الدخول بينه وبينه، وكان يعقوب ينتفي من ذلك؛ إلا أن الناس قد رموه بأن منزلته عند المهدي إنما كانت للسعاية بآل علي. ولم يزل أمره يرتفع عند المهدي ويعلو حتى استوزره، وفوض إليه أمر الخلافة؛ فأرسل إلى الزيدية، فأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه، ولذلك يقول بشار بن برد:

بني أمية هبوا طال نومكم ** إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا ** خلبفة الله بين الدف والعود

قال: فحسده موالي المهدي، فسعوا عليه.

ومما حظي به يعقوب عند المهدي، أنه استأمنه للحسن بن إبراهيم بن الله، ودخل بينه وبينه حتى جمع بينهما بمكة. قال: ولما علم آل الحسن بن علي بصنيعه استوحشوا منه، وعلم يعقوب أنه إن كانت لهم دولة لم يعش فيها، وعلم أن المهدي لا يناظره لكثرة السعاية إليه، فمال يعقوب إلى إسحاق بن الفضل، وأقبل يربص له الأمور وأقبلت السعايات ترد على المهدي بإسحاق حتى قيل له: إن المشرق والمغرب في يد يعقوب وأصحابه؛ وقد كاتبهم؛ وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد على ميعاد، فيأخذوا الدنيا لإسحاق بن الفضل؛ فكان ذلك قد ملأ قلب المهدي عليه.

قال علي بن محمد النوفلي: فذكر لي بعض خدم المهدي أنه كان قائمًا على رأسه يومًا يذب عنه إذ دخل يعقوب، فجثا بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفت اضطراب أمر مصر، وأمرتني أن ألتمس لها رجلًا يجمع أمرها، فلم أزل أرتاد حتى أصبت رجلًا يصلح لذلك. قال: ومن هو؟ قال: ابن عمك إسحاق بن الفضل، فرأى يعقوب في وجهه التغير، فنهض فخرج، وأتبعه المهدي طرفه، ثم قال: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم رفع رأسه إلي وقال: اكتم علي ويلك! قال: ولم يزل مواليه يحرضونه عليه ويوحشونه منه، حتى عزم على إزالة النعمة عنه.

وقال موسى بن إبراهيم المسعودي: قال المهدي: وصف لي يعقوب بن داود في منامي، فقيل لي أن أتخذه وزيرًا. فلما رآه، قال: هذه والله الخلقة التي رأيتها في منامي، فاتخذه وزيرًا، وحظي عنده غاية الحظوة، فمكث حينًا حتى بنى عيساباذ، فأتاه خادم من خدمه - وكان حظيًا عنده - فقال له: إن أحمد بن إسماعيل بن علي، قال لي: قد بنى متنزهًا أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت مال المسلمين، فحفظها عن الخادم، ونسي أحمد بن إسماعيل، وتوهمها على يعقوب بن داود، فبينا يعقوب بين يديه لببه، فضرب به الأرض، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين! قال: ألست القائل: إني أنفقت على متنزه خمسين ألف ألف! فقال يعقوب: والله ما سمعته أذناي، ولا كتبه الكرام الكاتبون؛ فكان هذا أول سبب أمره.

قال: كان يعقوب بن داود قد عرف عن المهدي خلعًا واستهتارًا بذكر النساء والجماع، وكان يعقوب بن داود يصف من نفسه في ذلك شيئًا كثيرًا، وكذلك كان المهدي، فكانوا يخلون بالمهدي ليلًا فيقولون: هو على أن يصبح فيثور بيعقوب؛ فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسم، فيقول: إن عندك لخيرًا! فيقول: نعم فيقول: اقعد بحياتي فحدثني، فيقول: خلوت بجاريتي البارحة، فقالت وقلت، فيصنع لذلك حديثًا، فيحدث المهدي بمثل ذلك، ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب، فيتعجب منه.

قال: وقال لي الموصلي: قال يعقوب بن داود للمهدي في أمر أراده: هذا والله السرف، فقال: ويلك! وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف! ويلك يا يعقوب، لولا السرف لم يعرف المكثرون من المقترين! وقال علي بن يعقوب بن داود عن أبيه، قال: بعث إلي المهدي يومًا فدخلت عليه، فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرور على بستان فيه شجر، ورءوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئًا أحسن منه؛ وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها، ولا أشط قوامًا، ولا أحسن اعتدالًا، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك. فقال لي: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، وهنأه إياه، فقال: هو لك، احمله بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به. قال: فدعوت له بما يجب. قال: ثم قال: يا يعقوب، ولي إليك حاجة، قال: فوثبت قائمًا ثم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا إلا من موجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين! قال: لا، ولكن أحب أن تضمن لي قضاء هذه الحاجة فإني لم أسألكها من حيث تتوهم، وإنما قلت ذلك على الحقيقة، فأحب أن تضمن لي هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، قال: والله - قلت والله ثلاثًا - قال: وحياة رأسي! قلت: وحياة رأسك، قال: فضع يدك عليه واحلف به، قال: فوضعت يدي عليه، وحلفتله به لأعلمنبما قال، ولآقضين حاجته. قال: فلما استوثق مني في نفسه، قال: هذا فلان بن فلان، من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه، وتعجل ذلك. قال: قلت: أفعل، قال فخذه إليك، فحولتهإ لي، وحولت الجارية وجميع ما كان في البيت من فرش وغير ذلك، وأمر لي معه بمائة ألف درهم.

قال: فحملت ذلك جملة، ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوي، فأدخلته على نفسي، وسألته عن حاله، فأخبرني بها وبجمل منها، وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إبانة.

قال: وقال لي في بعض ما يقول: ويحك يا يعقوب! تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد! قال: قلت: لا والله، فهل فيك خير؟ قال: إن فعلت خيرًا شكرت ولك عندي دعاء واستغفار. قال: فقلت له أي الطريق أحب إليك؟ قال: طريق كذا وكذا، قلت: فمن هناك ممن تأنس به وتثق بموضعه؟ قال: فلان وفلان، قلت: فابعث إليهما، وخذ هذا المال، وامض معهما مصاحبًا في ستر الله، وموعدك وموعدهما للخروج من داري إلى موضع كذا وكذا - الذي اتفقوا عليه - في وقت كذا وكذا من الليل؛ وإذا الجارية قد حفظت علي قولي؛ فبعثت به مع خادم لها إلى المهدي، وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك؛ صنع وفعل كذا وكذا؛ حتى ساقت الحديث كله. قال: وبعث المهدي من وقته ذلك، فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوي برجاله، فلم يلبث أن جاءوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال، وعلى السجية التي حكتها الجارية. قال: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي يستحضرني - قال: وكنت خالي الذرع غير ملق إلى أمر العلوي بالًا حتى أدخل على المهدي، وأجده على كرسي بيده مخصرة - فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه، قال: مات؟ قلت: نعم، قال: والله، ثم قال: قم فضع يدك على رأسي؛ قال فوضعت يدي على رأسه، وحلفت له به. قال: فقال: يا غلام، أخرج إلينا ما في هذا البيت، قال: ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه. قال: فبقيت متحيرًا، وسقط في يدي، وامتنع مني الكلام، فما أدري ما أقول! فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه في المطبق؛ ولا أذكر به، فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها، فكنت كذلك أطول مدة لا أعرف عدد الأيام وأصبت ببصري، وطال شعري؛ حتى استرسل كهيئة شعور البهائم. قال: فإني لكذلك، إذ دعي بي فمضي بي إلى حيث أيت هو، فلم أعد أن قيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فسلمت، فقال: أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت: المهدي، قال: رحم الله المهدي، قلت: فالهادي؟ قال: رحم الله الهادي، قلت: فالرشيد؟ قال: نعم؛ قلت: ما أشك في وقوف أمير المؤمنين على خبري وعلتي وما تناهت إليه حالي، قال: أجل، كل ذلك عندي قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك، قال: قلت: المقام بمكة، قال: نفعل ذلك، فهل غير هذا؟ قال: قلت: ما بقي في مستمتع لشيء ولا بلاغ، قال: فراشدًا. قال: فخرجت فكان وجهي إلى مكة. قال ابنه: ولم يزل بمكة فلم تطل أيامه بها حتى مات.

قال محمد بن عبد الله: قال لي أبي: قال يعقوب بن داود: وكان المهدي لا يشرب النبيذ إلا تحرجًا؛ ولكنه كان لا يشتهيه؛ وكان أصحابه عمر بن بزيع والمعلى مولاه والمفضل ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم، قال: وكنت أعظه في سقيهم النبيذ وفي السماع، وأقول: إنه ليس على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك؛ أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع، يشرب عندك النبيذ وتسمع السماع! قال: كان يقول: قد سمع عبد الله بن جعفر، قال: قلت: ليس هذا من حسناته؛ لو أن رجلًا سمع في كل يوم كان ذلك يزيده قربة من الله أو بعدًا! وقال محمد بن عبد الله: حدثني أبي قال: كان أبي يعقوب بن داود قد ألح على المهدي في حسمه عن السماع وإسقائه النبيذ حتى ضيق عليه؛ وكان يعقوب قد ضجر بموضعه، فتاب إلى الله مما هو فيه؛ واستقبل وقدم النية في تركه موضعه. قال: فكنت أقول للمهدي: يا أمير المؤمنين؛ والله لشربة خمر أشربها أتوب إلى الله منها أحب إلي مما أنا فيه؛ وإني لأركب إليك فأتمنى يدًا خاطئة تصيبني في الطريق، فاعفني وول غيري من شئت؛ فإني أحب أن أسلم عليك أنا وولدي؛ ووالله إني لأتفزع في النوم؛ وليتني أمور المسلمين وإعطاء الجند، وليس دنياك عوضًا من آخرتي. قال: فكان يقول لي: اللهم غفرًا! اللهم أصلح قلبه، قال: فقال شاعر له:

فدع عنك يعقوب بن داود جانبًا ** وأقبل على صهباء طيبة النشر

قال عبد الله بن عمر: وحدثني جعفر بن أحمد بن زيد العلوي، قال: قال بن سلام: وهب المهدي لبعض ولد يعقوب بن داود جاريةً، وكان بضعف، قال: فلما كان بعد أيام، سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ما رأيت مثلها، ما وضعت بيني وبين الأرض مطية أوطأ منها حاشا سامع. فالتفت المهدي إلى يعقوب، فقال له: من تراه يعني؟ يعنيني أو يعنيك؟ فقال له يعقوب: من كل شيء تحفظ الأحمق إلا من نفسه.

وقال علي بن محمد النوفلي: حدثني أبي، قال:

كان يعقوب بن داود يدخل على المهدي فيخلو به ليلًا يحادثه ويسامره؛ فبينا هو ليلة عنده؛ وقد ذهب من الليل أكثره، خرج يعقوب من عنده، وعليه طيلسان مصبوغ هاشمي؛ وهو الأزرق الخفيف؛ وكان الطيلسان قد دق دقًا شديدًا فهو يتقعقع، وغلام آخذ بعنان دابة له شهباء، وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوي طيلسانه فتقعقع، فنفر البرذون، ودنا منه يعقوب فاستدبره فضربه ضربةً على ساقه فكسرها، وسمع المهدي الوجبة، فخرج حافيًا؛ فلما رأى ما به أظهر الجزع والفزع، ثم أمر به فحمل في كرسي إلى منزله، ثم غدًا عليه المهدي مع الفجر؛ وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه، فعاده أيامًا ثلاثةً متتابعة، ثم قعد عن عيادته، وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله؛ فلما فقد وجهه، تمكن السعاة من المهدي، فلم تأتي عليه عاشرة حتى أظهر السخط عليه، فتركه في منزله يعالج، ونادى في أصحابه: لا يوجد أحد عليه طيلسان يعقوبي، وقلنسوة يعقوبية إلا أخذت ثيابه. ثم أمر بيعقوب فحبس في سجن بصر.

قال النوفلي: وأمر المهدي بعزل أصحاب يعقوب عن الولايات في الشرق والغرب، وأمر ان يؤخذ أهل بيته، وأن يحبسوا ففعل ذلك بهم.

وقال علي بن محمد: لما حبس يعقوب بن داود وأهل بيته، وتفرق عماله واختفوا وتشردوا، أذكر المهدي قصته وقصة إسحاق بن الفضل، فأرسل إلى إسحاق ليلًا وإلى يعقوب، فأتى به من محبسه، فقال: ألم تخبرني بأن هذا وأهل بيته يزعمون أنهم أحق بالخلافة منا أهل البيت؛ وأن لهم الكبر علينا! فقال له يعقوب: ما قلت لك هذا قط، قال: وتكذبني وترد على قولي! ثم دعا له بالسياط فضربه اثني عشر سوطًا ضربًا مبرحًا، وأمربه فرد إلى الحبس.

قال: وأقبل إسحاق يحلف أنه لم يقل هذا قط، وأنه ليس من شأنه. وقال فيما يقول: وكيف أقول هذا يا أمير المؤمنين، وقد مات جدي في الجاهلية وأبوك الباقي بعد رسول الله ووارثه! فقال: أخرجوه، فلما كان من الغد دعا بيعقوب، فعاوده الكلام الذي كلمه في ليلته، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي حتى أذكرك، أتذكر وأنت في طارمة على النهر؛ وأنت في البستان وأنا عندك؛ إذ دخل أبو الوزير - قال علي: وكان أبو الوزير ختن يعقوب بن داود على ابنة صالح بن داود - فخبرك هذا الخبر عن إسحاق؟ قال: صدقت يا يعقوب، قد ذكرت ذلك، فاستحى المهدي، واعتذر إليه من ضربه، ثم رده إلى الحبس، فمكثت محبوسًا أيام المهدي وأيام موسى كلها حتى أخرجه الرشيد بميله كان إليه في حياة أبيه.

وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم.

وفيها تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها، وهي قصر السلامة ونزل الناس بها معه، وضرب بها الدنانير والدراهم.

وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مدينة الرسول وبين مكة واليمن؛ بغالًا وإبلًا؛ ولم يقم هنالك بريد قبل ذلك.

وفيها اضطربت خراسان على المسيب بن زهير، فولاها الفضل بن سليمان الطوسي أبا العباس، وضم إليه معها سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بن سعيد بن دعلج بأمر المهدي.

وفيها أخذ داود بن روح بن حاتم وإسماعيل بن سليمان بن مجالد ومحمد بن أبي أيوب المكي ومحمد بن طيفور في الزندقة، فأقروا، فاستتابهم المهدي وخلي سبيلهم، وبعث بداود بن روح إلى أبيه روح؛ وهو يومئذ بالبصرة عاملًا عليها، فمن عليه، وأمره بتأديبه.

وفيها قدم الوضاح الشروي بعبد الله بن أبي عبيد الله الوزير - وهو معاوية ابن عبيد الله الأشعري من أهل الشام - وكان الذي يسعى به ابن شبابة وقد رمي بزندقة. وقد ذكرنا أمره ومقتله قبل.

وفيها ولي إبراهيم بن يحيى بن محمد على المدينة؛ مدينة رسول الله ، على الطائف ومكة عبيد الله بن قثم.

وفيها عزل المنصور بن يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان الربعي.

وفيها خلى المهدي عبد الصمد بن علي من حسبه الذي كان فيه.

وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد.

وكان عامل الكوفة من هذه السنة على الصلاة وأحداثها هاشم بن سعيد، وعلى صلاة البصرة وأحداثها روح بن حاتم، وعلى قضائها خالد بن طليق، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي، وعلى نصر إبراهيم بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي. وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين. ولم يكن في هذه السنة صائفة؛ للهدنة التي كانت فيها.

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة

ذكر الأحداث التي كانت فيها

فمن ذلك ما كان من توجيه المهدي ابنه موسى في جمع كثيف من الجند، وجهاز لم يجهز - فيما ذكر - أحد بمثله إلى جرجان لحرب ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان، وجعل المهدي حين جهز موسى إليها إبان بن صدقة على رسائله، ومحمد بن جميل على جنده، ونفيعًا مولى المنصور على حجابته، وعلي بن عيسى بن ماهان على حرسه، وعبد الله بن خازم على شرطه؛ فوجه موسى الجنود إلى وانداهرمز وشيروين، وأمر عليهم يزيد مزيد فحاصرهما.

وفيها توفي عيسى بن موسى بالكوفة، وولى الكوفة يومئذ روح بن حاتم، فأشهد روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ثم دفن. وقيل إن عيسى بن موسى توفي وروح على الكوفة، لثلاث بقين من ذي الحجة، فحضر روح جنازته، فقيل له: تقدم فأنت الأمير، فقال: ما كان الله ليرى روحًا يصلي على عيسى بن موسى؛ فليتقدم أكبر ولده، فأبوا عليه وأبى عليهم، فتقدم العباس بن عيسى، فصلى على أبيه. وبلغ ذلك المهدي فغضب على روح، وكتب إليه: قد بلغني ما كان من نكوصك عن الصلاة على عيسى؛ أبنفسك، أم بأبيك، أم بجدك كنت تصلي عليه! أوليس إنما ذلك مقامي لو حضرت. فإذ غبت كنت أنت أولى به لموضعك من السلطان! وأمر بمحاسبته؛ وكان يلي الخراج مع الصلاة والأحداث.

وتوفي عيسى والمهدي واجد عليه وعلى ولده؛ وكان يكره التقدم عليه لجلالته.

وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم عمر الكلواذي، فأخذ يزيد بن الفيض كاتب المنصور، فأقر - فيما ذكر - فحبس، فهرب من الحبس، فلم يقدر عليه.

وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل، وولاه الربيع الحاجب، فاستخلف عليه سعيد بن واقد؛ وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته.

وفيها فشا الموت، وسعال شديد ووباء شديد ببغداد والبصرة.

وفيها توفي أبان بن صدقة بجرجان، وهو كاتب موسى على رسائله، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول يزيد خليفة أبي عبيد الله.

وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام؛ فدخلت فيه دور كثيرة. وولى بناء ما زيد فيه يقطين بن موسى، فكان في بنائه إلى أن توفي المهدي.

وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان؛ وما كان إليه من تلك الناحية، ووليها عمر بن العلاء، وولي جرجان فراشة مولى المهدي، وعزل عنها يحيى الحرشي.

وفيها أظلمت الدنيا لليالٍ بقين من ذي الحجة، حتى تعالى النهار.

ولم يكن فيها صائفة، للهدنة التي كانت بين المسلمين والروم.

وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج وقدومه المدينة بأيام، وولي مكانه إسحاق بن عيسى بن علي.

وفيها طعن عقبة بن سلم الهنائي بعيساباذ، وهو في دار عمر بن بزيغ، اغتاله رجل، فطعنه بخنجر، فمات فيها.

وكان العامل على مكة والطائف فيها عبيد الله بن قثم، وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها روح بن حاتم، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بن سليمان، وعلى قضائها عمر بن عثمان التيمي، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي.

وعلى خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي.

وعلى مصر موسى بن مصعب. وعلى أفريقية موسى بن حاتم. وعلى طبرستان والرويان عمر بن العلاء، وعلى حرجان ودنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين.

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من نقض الروم الصلح الذي جرى بينهم وبين هارون بن المهدي الذي ذكرناه قبل وغدرهم؛ وذلك في شهر رمضان من هذه السنة؛ فكان بين أول الصلح وغدر الروم ونكثهم به اثنان وثلاثون شهرًا، فوجه علي بن سليمان وهو يومئذٍ على الجزيرة وقنسرين يزيد بن بدر بن البطال في سرية إلى الروم فغنموا وظفروا.

وفيها وجه المهدي سعيدًا الحرشي إلى طبرستان في أربعين ألف رجل. وفيها مات عمر الكلواذي صاحب الزنادقة. وولى مكانه حمدويه، وهو محمد بن عيسى من أهل ميسان.

وفيها قتل المهدي الزنادقة ببغداد.

وفيها رد المهدي ديوانه وديوان أهل بيته إلى المدينة ونقله من دمشق إليها.

وفيها خرج المهدي إلى نهر الصلة أسفل واسط - وإنما سمي نهر الصلة فيما ذكر لأنه أراد أن يقطع أهل بيته وغيرهم غلته؛ يصلهم بذلك.

وفيها ولي المهدي علي بن يقطين ديوان زمام الأزمة علي عمر بن بزيع.

وذكر أحمد بن موسى بن حمزة، عن أبيه، قال: أول من عمل ديوان الزمام عمر بن بزيع في خلافة المهدي؛ وذلك أنه لما جمعت له الدواوين تفكر؛ فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون على كل ديوان؛ فاتخذ دواوين الأزمة، وولي كل ديوان رجلًا، فكان واليه على زمام ديوان الخراج إسماعيل ابن صبيح؛ ولم يكن لبني أميه دواوين أزمة.

وحج بالناس في هذه السنة علي بن محمد المهدي الذي يقال له ابن رليطه.

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها

ذكر الخبر عن خروج المهدي إلى ماسبذان

فمما كان فيها من ذلك خروج المهدي في المحرم إلى ماسبذان.

ذكر الخبر عن خروجه إليها

ذكر أن المهدي كان في آخر أمره قد عزم على تقديم هارون ابنه على ابنه موسى الهادي، وبعث إليه وهو بجرجان بعض أهل بيته ليقطع أمر البيعة، ويقدم الرشيد فلم يفعل، فبعث إليه المهدي بعض الموالي، فامتنع عليه موسى من القدوم، وضرب الرسول، فخرج المهدي بسبب موسى وهو يريده بجرجان فأصابه ما أصابه.

وذكر الباهلي أن أبا شاكر أخبره - وكان من كتاب المهدي على بعض دواوينه - قال: سأل علي بن يقطين المهدي أن يتغذى عنده، فوعده أن يفعل، ثم إعتزم على إتيان ماسبذان؛ فوالله لقد أمر بالرحيل كأنه يساق إليها سوقًا، فقال له علي: يا أمير المؤمنين؛ إنك قد وعدتني أن تتغذى عندي غدًا، قال: فاحمل غداءك إلى النهروان. قال: فحمله فتغدى بالنهروان، ثم انطلق.

وفيها توفي المهدي.

ذكر الخبر عن موت المهدي

ذكر الخبر عن سبب وفاته

اختلف في ذلك، فذكر عن واضح قهرمان المهدي، قال: خرج المهدي يتصيد بقرية يقال لها الرذ بماسبذان، فلم أزل معه إلى بعد العصر، وانصرفت إلى مضربي - وكان بعيدا من مضربه - فلما كان في السحر الأكبر ركبت لإقامة الوظائف، فإني لأسير في برية، وقد انفردت عمن كان معي من غلماني وأصحابي؛ إذ لقيني أسود عريان على قتد رحل، فدنا مني؛ ثم قال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فهممت أن أعلوه بالسوط، فغاب من بين يدي؛ فلما انتهيت إلى الرواق لقيني مسرور، فقال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فدخلت فإذا أنابه مسجى في قبة، فقلت: فارقتكم بعد العصر؛ وهو أسر ما كان حالًا وأصحه بدنًا، فما كان الخبر؟ قال: طردت الكلاب ظبيًا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبي باب خربة، فاقتحمت الكلاب خلفه، واقتحم الفرس خلف الكلاب، فدق ظهره في باب الخربة، فمات من ساعته.

وذكر أن علي بن أبي نعيم الروزي، قال:

بعثت جارية من جواري المهدي إلى ضرة لها بلبأ فيه سم؛ وهو قاعد في البستان، بعد خروجه من عيساباذ، فدعا به فأكل منه، ففرقت الجارية أن تقول له إنه مسموم. وحدثني أحمد بن محمد الرازي، أن المهدي كان جالسًا في علية في قصر بماسبذان، ويشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة، قد عمدت إلى كمثراتين كبيرتين، فجعلتهما في صينية، وسمت واحدة منهما وهي أحسنهما وأنضجهما في أسفلها، وردت القمع فيها، ووضعتها في أعلى الصينية - وكان المهدي يعجبه الكمثرى - وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جارية للمهدي - وكان يتخطاها - تريد بذلك قتلها، فمرت الوصيفة بالصينية التي فيها تلك الكمثرى، تريد دفعها إلى الجارية التي أرسلتها حسنة إليها، بحيث يراها المهدي من المنظرة، فلما رأى ورأى معها الكمثرى؛ دعا بها، فمد يده إلى الكمثراة التي في أعلى الصينية وهي المسمومة، فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صرخ: جوفي! وسمعت حسنة الصوت، وأخبرت الخبر، فجاءت تلطم وجهها وتبكي، وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك يا سيدي! فهلك من يومه.

وذكر عن عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب، قال: لما صرنا إلى ماسبذان دنوت إلى عنانه، فأمسكت به وما به علة،؛ فوالله ما أصبح إلا ميتًا، فرأيت حسنة وقد رجعت؛ وإن على قبتها المسوح، فقال أبو العتاهية في ذلك:

رحن في الوشي وأصبح ** ن عليهن المسوح

كل نطاح من الده ** ر له يوم نطوح

لست بالباقي ولو عم ** رت ما عمر نوح

فعلى نفسك نح إن ** كنت لابد تنوح

وذكر صالح أن علي بن يقطين، قال: كنا مع المهدي بماسبذان فأصبح يومًا فقال: إني أصبحت جائعًا، فأتى بأرغفة ولحم بارد مطبوخ بالخل، فأكل منه ثم قال: إني داخل إلى البهو ونائم فيه، فلا تنبهوني حتى أكون أنا الذي أنتبه، ودخل البهو فنام، ونمنا نحن في الدار في الرواق؛ فانتبهنا ببكائه؛ فقمنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئًا، قال: وقف على الباب رجل، لو كان في ألف أو في مائة ألف رجل ما خفي علي، فأنشد يقول:

كأني بهذا القصر قد باد أهله ** وأوحش منه ربعه ومنازله

وصار عميد القوم من بعد بهجةٍ ** وملكٍ إلى قبر عليه جنادله

فلم يبق إلا ذكره وحديثه ** تنادي عليه معولاتٍ حلائله

قال: فما أتت عليه عاشرة حتى مات.

وكانت وفاته - فيما قال أبو معشر الواقدي - في سنة تسع وستين ومائة، ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم؛ وكانت خلافته عشر سنين وشهرًا ونصف شهر.

وقال بعضهم: وكانت خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يومًا؛ وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.

وقال هشام بن محمد: ملك أبو عبد الله المهدي محمد بن عبد الله سنة ثمان وخمسين ومائة، في ذي الحجة لست ليالٍ خلون منه؛ فملك عشر سنين وشهرًا واثنين وعشرين يومًا، ثم توفي سنة تسع وستين ومائة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.

ذكر الخبر عن الموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه

ذكر أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان، يقال لها الرذ؛ وفي ذلك يقول بكار بن رباح:

ألا رحمة الرحمن في كل ساعةٍ ** على رمةٍ رمت بماسبذان

لقد غيب القبر الذي تم سوددا ** وكفين بالمعروف تبتدران

وصلى عليه ابنه هارون؛ ولم توجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها.

وكان طويلًا مضمر الخلق، جعدًا. واختلف في لونه، فقال بعضهم: كان أسمر، وقال بعضهم: كان أبيض.

وكان في عينه اليمنى - في قول بعضهم - نكتة بياض. وقال بعضهم: كان ذلك بعينه اليسرى.

وكان ولد بإيذج.

ذكر بعض سير المهدي وأخباره

ذكر عن هارون بن أبي عبيد الله، قال: كان المهدي إذا جلس للمظالم، قال: أدخلوا علي القضاة؛ فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.

وذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: حدثني علي بن صالح، قال:

جلس المهدي ذات يوم يعطي جوائز تقسم بحضرته في خاصته ومن أهل بيته والقواد، وكان يقرأ عليه الأسماء، فيأمر بالزيادة؛ العشرة الآف والعشرين الألف، وما أشبه ذلك، فعرض عليه بعض القواد، فقال: يحط هذا خمسمائة، قال: لم حططتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لأني وجهتك إلى عدو لنا فانهزمت. قال: كان يسرك أن أقتل؟ قال: لا، قال: فوالذي أكرمك بما أكرمك به من الخلافة لو ثبت لقتلت، فاستحيا المهدي منه، وقال: زده خمسة آلاف.

قال الحسن: وحدثني علي بن صالح، قال: غضب المهدي على بعض القواد - وكان عتب عليه غير مرة - فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟ قال: إلى أبدٍ نسيء، ويبقيك الله فتعفو عنا؛ فكررها عليه مرات، فاستحيا منه ورضي عنه.

وذكر محمد بن عمر، عن حفص مولى مزينة، عن أبيه، قال: كان هشام الكلبي صديقًا لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد؛ فكنت أراه في حالٍ رثة وفي أخلاق على بغلة هزيل، والضر فيه بين وعلى بغلته؛ فما راعني إلا وقد لقيني يومًا على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولجمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرةً، قال لي: نعم، أخبرك عنها، فاكتم؛ فبينما وأنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر؛ إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خالٍ ليس عنده أحد؛ وبين يديه كتاب، فقال: ادن يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه، فقال: خذ هذا الكتاب فاقرأه. ولا يمنعك ما فيه مما تستفظعه أن تقرأه. قال: فنظرت في الكتاب؛ فلما قرأت بعضه استفظعته، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، فقال لي: قد قلت لك إن استفظعته فلا تلقه؛ اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره! قال: فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلبًا عجيبا، لم يبق له فيه شيئًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الملعون الكذاب؟ قال: هذا صاحب الأندلس، قال: قلت: فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته. قال: ثم اندرأت أذكر مثالبهم، قال: فسر بذلك، وقال: أقسمت عليك لما أمللت مثالبهم كلها على كاتب. قال: ودعا بكاتب من كتاب السر، فأمره فجلس ناحية، وأمرني فصرت إليه، فصدر الكتاب من المهدي جوابًا، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت؛ فلم أبق شيئًا حتى فرغت من الكتاب، ثم عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فختم وجعل في خريطة، ودفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس. قال: ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك، وقال لي: اكتم ما سمعت.

قال الحسن: وحدثني مسور بن مساور، قال: ظلمني وكيل للمهدي، وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلامًا صاحب المظالم، فتظلمت منه وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنه عمه العباس بن محمد وابن علاثة وعافية القاضي. قال: قال المهدي: ادنه، فدنوت، فقال: ما تقول؟ قلت: ظلمني، قال: فترضى بأحد هذين؟ قال: قلت: نعم، قال: فادن مني، فدنوت حتى التزقت بالفراش، قال: تكلم، قلت: أصلح الله القاضي! إنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ماتقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ضيعتي وفي يدي، قال: قلت: أصلح الله القاضي! سله صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قال: فسأله: ماتقول يا أمير المؤمنين؟ قال: صارت إلي بعد الخلافة. قال: فأطلقها له، قال: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا أمير المؤمنين لذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم.

قال: وحدثني عبد الله بن الربيع، قال: سمعت مجاهدًا الشاعر يقول: خرج المهدي متنزهًا، ومعه عمر بن بزيع مولاه، قال: فانقطعنا عن العسكر، والناس في الصيد، فأصاب المهدي جوع، فقال: ويحك! هل من شيء؟ قال: ما من شيء، قال: أرى كوخًا وأظنها مبقلة، فقصدنا قصده، فإذا نبطي في كوخ ومبقلة، فسلمنا عليه، فرد السلام، فقلنا له: هل عندك شيء نأكل؟ قال: نعم عندي ربيثاء وخبز شعير، فقال المهدي: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قال: نعم، قال: وكراث؟ قال: نعم، ماشئت وتمر. قال: فعدا نحو المبقلة، فأتاهم ببقل وكراث وبصل، فأكلا أكلًا كثيرًا، وشبعًا، فقال المهدي لعمر بن بزيع: قل في هذا شعرًا، فقال:

إن من يطعم الربيثاء بالزي ** ت وخبز الشعير بالكراث

لحقيق بصفعة أو بثنتي ** ن لسوء الصنيع أو بثلاث

فقال المهدي: بئس ما قلت، ليس هكذا**

لحقيق ببدرة أو بثنتي ** ن لحسن الصنيع أو بثلاث

قال: ووافى العسكر والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف.

وذكر محمد بن عبد الله، قال: أخبرني أبو غانم، قال: كان زيد الهلالي رجلًا شريفًا سخيًا مشهورًا من بني هلال؛ وكان نقش خاتمه: " افلح يا زيد من زكا عمله ". فبلغ ذلك المهدي، فقال زيد الهلالي:

زيد الهلالي نقش خاتمه ** أفلح يا زيد من زكا عمله

قال: وقال حسن الوصيف: أصابتنا ريح في أيام المهدي حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب أمير المؤمنين، فوجدته واضعًا خده على الأرض، يقول: اللهم احفظ محمدًا في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعدائنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك؛ قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنا فيه.

وقال الموصلي: قال عبد الصمد بن علي: قلت للمهدي: يا أمير المؤمنين، إنا أهل بيت قد أشرب قلوبنا حب موالينا وتقديمهم؛ وإنك قد صنعت من ذلك ما أفرطت فيه؛ قد وليتهم أمورك كلها، وخصصتهم في ليلك ونهارك، ولا آمن تغيير قلوب جندك وقوادك من أهل خراسان، قال: يا أبا محمد، إن الموالي يستحقون ذلك؛ وليس أحد يجتمع لي فيه أن أجلس للعامة فأدعو به فأرفعه حتى تحك ركبته ركبتي، ثم يقوم من ذلك المجلس، فأستكفيه سياسة دابتي، فيكفيها، لا يرفع نفسه عن ذلك إلا موالي هؤلاء، فإنهم لا يتعاظمهم ذلك؛ ولو أردت هذا من غيرهم لقال: ابن دولتك والمتقدم في دعوتك، وأين من سبق إلى بيعتك، لا أدفعه عن ذلك.

قال علي بن محمد: قال الفضل بن الربيع: قال المهدي لعبد الله بن مالك: صارع مولاي هذا، فصارعه؛ فأخذ بعنقه، فقال المهدي: شد، فلما رأى ذلك عبد الله أخذ برجله فسقط على رأسه فصرعه. فقال عبد الله للمهدي: يا أمير المؤمنين، قمت من عندك وأنا أحب الناس إليك، فلم تزل علي مع مولاك. قال: أما سمعت قول الشاعر:

ومولاك لا يهضم لديك فإنما ** هضيمة مولى القوم جدع المناخر

قال أبو الخطاب: لما حضرت القاسم بن مجاشع التيمي - من أهل مرو بقرية يقال لها باران - الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، إن الدين عند الله الإسلام ** "، إلى آخر الآية. ثم كتب: والقاسم بن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث الإمامة بعده. قال: فعرضت الوصية على المهدي، فلما بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها. قال أبو الخطاب: فلم يزل في قلب أبي عبيد الله الوزير؛ فلما حضرته الوفاة كتب في وصيته هذه الآية. قال: وقال الهيثم بن عدي: دخل على المهدي رجل، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن المنصور شتمني وقذف أمي؛ فإما أمرتني أن أحله؛ وإلا عوضتني واستغفرت الله له. قال: ولم شتمك؟ قال: شتمت عدوه بحضرته؛ فغضب، قال: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قال: إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، قال: إن إبراهيم أمس به رحمًا وأوجب عليه حقًا، فإن كان شتمك كما زعمت، فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع؛ وما أساء من انتصر لابن عمه. قال: إنه كان عدوًا له، قال: فلم ينتصر للعداوة؛ وإنما انتصر للرحم؛ فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي، قال: لعلك أردت أمرًا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى! قال: نعم، قال: فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم.

قال: وأتى المهدي برجل قد تنبأ، فلما رآه، قال: أنت نبي؟ قال: نعم، قال: وإلى من بعثت؟ قال: وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه! وجهت بالغداة فأخذتموني بالعشي، ووضعتموني في الحبس! قال: فضحك المهدي منه، وخلى سبيله.

وذكر أبو الأشعث الكندي، قال: حدثني بن عبد الله، قال: قال الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة؛ فما أدري أهو أحسن، أم البهو، أم ثيابه! قال: فقرأ هذه الآية:

" فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم "، قال: فتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قال: فقلت: من موسى؟ ابنه موسى، أو موسى بن جعفر، وكان محبوسًا عندي! قال: فجعلت أفكر، قال: فقلت: ما هو إلاموسى بن جعفر، قال: فأحضرته، قال: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم "، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي. قال: فقال: نعم، فوثق له وخلاه.

وذكر إبراهيم بن أبي علي، قال: سمعت سليمان بن داود، يقول: سمعت المهدي يحدثنا في محراب المسجد على اللحن اليتيم: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت "، في سورة النساء.

وذكر علي بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبي، قال: حضرت المهدي وقد جلس للمظالم؛ فتقدم إليه رجل من آل الزبير؛ فذكر ضيعة اصطفاها عن أبيه بعض ملوك بني أميه، ولا أدري: الوليد، أم سليمان! فأمر أبا عبيد الله أن يخرج ذكرها من الديوان العتيق، ففعل، فقرأ ذكرها على المهدي؛ وكان ذلك أنها عرضت على عدة منهم لم يروا ردها؛ منهم عمر بن عبد العزيز، فقال المهدي: يا زبيري، هذا عمر بن عبد العزيز؛ وهو منكم معشر قريش كما علمتم لم يرد ردها، قال: وكل أفعال عمر ترضى؟ قال: وأي أفعاله لا ترضى؟ قال: منها أنه كان يفرض للسقط من بنى أمية في خرقه في الشرف من العطاء، ويفرض للشيخ من بني هاشم في ستين. قال: يا معاوية أكذلك كان يفعل عمر؟ قال: نعم؛ قال: اردد على الزبير ضيعته.

وذكر عن عمر بن شبة أن أبا سلمة الغفاري حدثه، قال: كتب المهدي إلى جعفر بن سليمان وهو عامل المدينة أن يحمل إليه جماعة تهم بالقدر، فحمل إليه رجالًا؛ منهم عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وعبد الله بن يزيد بن قيس الهذلي، وعيسى بن يزيد بن دأب الليثي، وإبراهيم بن محمد بن أبي بكر الأسامي؛ فأدخلوا على المهدي، فانبرى له عبد الله بن أبي عبيدة بينهم؛ فقال: هذا دين أبيك ورأيه؟ قال: لا، ذاك عمي داود. قال: لا، إلا أبوك، على هذا فارقنا وكان به يدين. فأطلقهم.

وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله ، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك؛ وإذا قائل يقول: يمحو هذا الكتاب ويكتب مكانه اسم رجل من بني هاشم يقال له محمد. قال: قلت: أنا محمد، وأنا من بني هاشم؛ فابن من؟ قال: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قال: ابن محمد، قلت: فأنا بن محمد، فابن من؟ قال: ابن علي، قلت: فأنا بن علي، فابن من؟ قال: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله؛ فابن من؟ قال: عباس؛ فلو لم أكن بلغت العباس ما شككت أني صاحب الأمر. قال: فتحدثت بهذه الرؤيا في ذلك الدهر ونحن لا نعرف المهدي؛ فتحدث الناس بها حتى ولي المهدي، فدخل مسجد رسول الله ، فرفع رأسه فنظر فرأى اسم الوليد، فقال: إني لأرى اسم الوليد في مسجد رسول الله إلى اليوم، فدعا بكرسي فألقي له في صحن المسجد وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه. وأمر أن يحضر العمال والسلاليم وما يحتاج إليه، فلم يبرح حتى غير وكتب اسمه.

وذكر أحمد بن الهيثم القرشي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عطاء، قال: خرج المهدي بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون؛ بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم؛ أبناء سبيل، وأنضاء طريق؛ وصية الله ووصية الرسول؛ فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه الله في أهله! قال: فأمر نصيرًا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم.

وذكر علي بن محمد بن سليمان، قال: سمعت أبي يقول:

كان أول من افترش الطبري المهدي؛ وذلك أن أباه كان أمره بالمقام بالري، فأهدى إليه الطبري من طبرستان، وجعل الثلج والخلاف حوله؛ حتى فتح لهم الخيش، فطاب لهم الطبري فيه.

وذكر محمد بن زياد، قال: قال المفضل: قال لي المهدي: اجمع لي الأمثال مما سمعتها من البدو، وما صح عندك. قال: فكتبت له الأمثال وحروب العرب مما كان فيها؛ فوصلني وأحسن إلي.

قال علي بن محمد: كان الرجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي فخلى سبيله وأكرمه، وقرب مجلسه. فقال له يومًا: أنشدني قصيدة زهير التي هي على الراء، وهي: لمن الديار بقنة الحجر فأنشده، فقال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا الشعر؛ فغضب المهدي واستجهله، ونحاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس.

وذكر أن أبا عون عبد الملك بن يزيد مرض، فعاده المهدي؛ فإذا منزل رث وبناء سوء؛ وإذا طاق صفته التي هو فيها لبن. قال: وإذا مضربة ناعمة في مجلسه، فجلس المهدي على وسادة، وجلس أبو عون بين يديه، فبره المهدي، وتوجع لعلته. وقال أبو عون: أرجو عافية الله يا أمير المؤمنين؛ وألا يميتني على فراشه حتى أقتل في طاعتك؛ وإني لواثق بألا أموت حتى أبلى الله في طاعتك ما هو أهله؛ فإنا قد روينا، قال: فأظهر له المهدي رأيًا جميلًا، وقال: أوصني بحاجتك، وسلني ما أردت، واحتكم في حياتك ومماتك؛ فوالله لئن عجز مالك عن شيء توصي به لأحتملنه كائنًا ما كان؛ فقل وأوص. قال: فشكر أبو عون ودعا، وقال: يا أمير المؤمنين؛ حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون، وتدعو به، فقد طالت موجدتك عليه. قال: فقال: يا أبا عون، إنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك؛ إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، ويسيء القول فيهما. قال: فقال أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه؛ فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم. قال: وانصرف المهدي، فلما كان في الطريق قال لبعض من كان معه من ولده وأهله: ما لكم لا تكونون مثل أبي عون! والله ما كنت أظن منزله إلا مبنيًا بالذهب والفضة؛ وأنتم إذا وجدتم درهمًا بنيتم بالساج والذهب.

وذكر أبو عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: خطب المهدي يومًا، فقال: عباد الله؛ اتقوا الله؛ فقام إليه رجل، فقال: وأنت فاتق الله؛ فإنك تعمل بغير الحق. قال: فأخذ فحمل، فجعلوا يتلقونه بنعال سيوفهم؛ فلما أدخل عليه قال: يا ابن الفاعلة، تقول لي وأنا على المنبر: اتق الله! قال: سوءة لك! لو كان هذا من غيرك كنت المستعدي بك عليه، قال: ما أراك إلا نبطيًا، قال: ذاك أوكد للحجة عليك أن يكون نبطي يأمرك بتقوى الله. قال: فرئي الرجل بعد ذلك؛ فكان يحدث بما جرى بينه وبين المهدي. قال: فقال أبي: وأنا حاضره، إلا أني لم أسمع الكلام.

وقال هارون بن ميمون الخزاعي: حدثنا أبو خزيمة البادغيسي، قال: قال المهدي: ما توسل إلي أحد بوسيلة، ولا تذرع بذريعة هي أقرب من تذكيره إياي يدًا سلفت مني إليه أتبعها أختها، فأحسن ربها؛ لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.

قال: وذكر خالد بن يزيد بن وهب بن جرير، أن أباه حدثه، قال: كان بشار بن برد بن يرجوخ هجا صالح بن داود بن طهمان - أخا يعقوب بن داود - حين ولي البصرة، فقال:

هم حملوا المنابر صالحًا ** أخاك فضجت من أخيك المنابر

فبلغ يعقوب بن داود هجاؤه، فدخل على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين، قال: ويلك! وما قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاد ذلك، قال: فأبى عليه إلا أن ينشده، فأنشده:

خليفة يزني بعماته ** يلعب بالدبوق والصولجان

أبدلنا الله به غيره ** ودس موسى في حر الخيزران

قال: فوجه في حمله، فخاف يعقوب بن داود أن يقدم على المهدي فيمتدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة.

وذكر عبد الله بن عمر. حدثني جدي أبو الحي العبسي، قال: لما دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي، فأنشده شعره الذي يقول فيه:

أنى يكون وليس ذاك بكائنٍ ** لبني البنات وراثة الأعمام

فأجازه بسبعين ألف درهم، فقال مروان:

بسبعين ألفًا راشني من حبائه ** ومانالها في الناس من شاعر قبلي

وذكر أحمد بن سليمان، قال: أخبرني أبو عدنان السلمي، قال: قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرق الناس شعرًا؟ قال: والبة بن الحباب الأسدي، وهو الذي يقول:

ولها ولا ذنب لها ** حب كأطراف الرماح

في القلب يفدح والحشا ** فالقلب مجروح النواحي

قال: صدقت والله، قال: فما يمنعك من منادمته يا أمير المؤمنين، وهو عربي شريف شاعر ظريف؟ قال: يمنعني والله من منادمته، قوله:

قلت لساقينا على خلوة ** أدن كذا رأسك من رأسي

ونم على وجهك لي ساعةً ** إني امرؤ أنكح جلاسي

أفتريد أن يكون جلاسه على هذه الشريطة! وذكر محمد بن سلام أنه كان في زمان المهدي إنسان ضعيف يقول الشعر إلى أن مدح المهدي. قال: فأدخل عليه فأنشده شعرًا يقول فيه: وجوارٍ زفرات، فقال له المهدي: أي شيء زفرات؟ قال: وما تعرفها أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: لا والله، قال: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول الله ولا تعرفها، أعرفها أنا! كلا والله.

قال ابن سلام: أخبرني غير واحد أن طريح بن إسماعيل الثقفي دخل على المهدي فانتسب له، وسأله أن يسمع منه، فقال: ألست الذي يقول للوليد بن يزيد:

أنت بن مسلنطح البطاح ولم ** تطرق عليك الخي والولج

والله لا تقول لي في مثل هذا أبدًا، لا أسمع منك شعرًا، وإن شئت وصلتك.

وذكر أن المهدي أمر بالصوم سنة ست وستين ليستسقي للناس في اليوم الرابع، فلما كان في الليلة الثالثة أصابهم الثلج، فقال لقيط بن بكير المحاربي في ذلك:

يا إمام الهدى سقينا بك الغي ** ث وزالت عنا بك اللأواء

بت تعنى بالحفظ والناس نوا ** م عليهم من الظلام غطاء

رقدوا حيث طال ليلك فيهم ** لك خوف تضرع وبكاء

وقد عنتك الأمور منهم على الغف ** لة من معشر عصوا وأساءوا

وسقينا وقد قحطنا وقلنا ** سنة قد تنكرت حمراء

بدعاء أخلصته في سواد ال ** ليل لله فاستجيب الدعاء

بثلوج تحيا بها الأرض حتى ** أصبحت وهي زهرة خضراء

وذكر أن الناس في أيام المهدي صاموا شهر رمضان في صميم الصيف، وكان أبو دلامة إذ ذاك يطالب بجائزة وعدها إياه المهدي، فكتب إلى المهدي رقعة يشكو إليه فيها ما لقي من الحر والصوم، فقال في ذلك:

أدعوك بالرحم التي جمعت لنا ** في القرب بين قريبنا والأبعد

إلا سمعت وأنت أكرم من مشى ** من منشدٍ يرجو جزاء المنشد

حل الصيام فصمته متعبدا ** أرجو ثواب الصائم المتعبد

وسجدت حتى جبهتي مشجوجة ** مما أكلف من نطاح المسجد

فلما قرأ المهدي الرقعة دعا به، فقال: أي قرابة بيني وبينك يا ابن اللخناء! قال: رحم آدم وحواء. فضحك منه وأمر له بجائزة.

وذكر علي بن محمد، قال: حدثني أبي، عن إبراهيم بن خالد بن المعيطي قال: دخلت على المهدي - وقد وصف له غنائي - فسألني عن الغناء وعن علمي به، وقال لي: تغني النواقيس؟ قلت: نعم والصليب يا أمير المؤمنين! فصرفني؛ وبلغني أنه قال: معيطي، ولا حاجة لي إليه فيمن أدنيه من خلوتي ولا آنس به.

ولمعبد المغني النواقيس في هذا الشعر:

سلا دار ليلى هل تجيب فتنطق ** وأنى ترد القول بيداء سملق

وأنى ترد القول دار كأنها ** لطول بلاها والتقادم مهرق

وذكر قعنب بن محرز أبو عمرو الباهلي أن الأصمعي حدثه، قال: رأيت حكمًا الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس، فعرض له من في الطريق، وكان له شعيرات، وأخرج دفًا له يضربه، وقال: أنا القائل:

فمتى تخرج العرو ** س فقد طال حبسها

قد دنا الصبح أو بدا ** وهي لم تقض لبسها

فتسرع إليه الحرس فصيح بهم: كفوا، وسأل عنه فقيل: حكم الوادي، فأدخله إليه ووصله.

وذكر علي بن محمد أنه سمع أباه يقول:

دخل المهدي بعض دوره يومًا فإذا جارية له نصرانية، وإذا جيبها واسع وقد انكشف عما بين ثدييها؛ وإذا صليب من ذهب معلق في ذلك الموضع؛ فاستحسنه، فمد يده إليه فجذبه، فأخذه، فولولت على الصليب، فقال المهدي في ذلك:

يوم نازعتها الصليب فقالت ** ويح نفسي أما تحل الصليبا!

قال: وأرسل إلى بعض الشعراء فأجازه، وأمر به فغنى فيه، وكان معجبًا بهذا الصوت.

قال: وسمعت أبي يقول: إن المهدي نظر إلى جارية له عليها تاج فيه نرجس من ذهب وفضة، فاستحسنه فقال: يا حبذا النرجس في التاج فأرتج عليه، فقال: من بالحضرة؟ قالوا: عبد الله بن مالك، فدعاه، فقال: إني رأيت جارية لي فاستحسنت تاجًا عليها فقلت: يا حبذا النرجس في التاج فتستطيع أن تزيد فيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ ولكن دعني أخرج فأفكر، قال: شأنك، فخرج وأرسل إلى مؤدب لولده فسأله إجازته، فقال: على جبين لاح كالعاج وأتمها أبياتًا أربعة، فأرسل بها عبد الله إلى المهدي، فأرسل إليه المهدي بأربعين ألفًا، فأعطى المؤدب منها أربعة آلاف، وأخذ الباقي لنفسه، وفيها غناء معروف.

وذكر أحمد بن موسى بن مضر أبو علي، قال: أنشدني التوزي في حسنة جاريته:

أرى ماءً وبي عطش شديد ** ولكن لا سبيل إلى الورود

أما يكفيك أنك تملكيني ** وأن الناس كلهم عبيدي

وأنك لو قطعت يدي ورجلي ** لقلت من الرضا أحسنت زيدي

وذكر علي بن محمد، عن أبيه، قال: رأيت المهدي وقد دخل البصرة من قبل سكة قريش، فرأيته يسير والبانوقة بين يديه، وبينه وبين صاحب الشرطة، عليها قباء أسود، متقلدة سيفًا في هيئة الغلمان. قال: وإني لأرى في صدرها شيئًا من ثدييها.

قال علي: وحدثني أبي، قال: قدم المهدي إلى البصرة، فمر في سكة قريش، وفيها منزلنا؛ وكانت الولاة لا تمر فيها إذا قدم الوالي، كانوا يتشاءمون بها - قل والٍ مر فيها فأقام في ولايته إلا يسيرًا حتى يعزل - ولم يمر فيها خليفة قط إلا المهدي، كانوا يمرون في سكة عبد الرحمن بن سمرة، وهي تساوي سكة قريش، فرأيت المهدي يسير، وعبد الله بن مالك على شرطه يسير أمامه، في يده الحربة، وابنته البانوقة تسير بينه وبين يديه وبين صاحب الشرطة في هيئة الفتيان، عليها قباء أسود ومنطقة وشاشية، متقلدة السيف، وإني لأرى ثدييها قد رفعا القباء لنهودهما.

قال: وكانت البانوقة سمراء حسنة القد حلوة. فلما ماتت - وذلك ببغداد - أظهر عليها المهدي جزعًا لم يسمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر ألا يحجب عنه أحد، فأكثر الناس من التعازي، واجتهدوا في البلاغة، وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب، فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية شبيب بن شيبة؛ فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها، وأنا أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك.

وقد ذكر صباح بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبي، قال: توفيت البانوقة بنت المهدي، فدخل عليه شبيب بن شيبة، فقال: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجرًا، وأعقبك صبرًا، لا أجهد الله بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمةً؛ ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك؛ وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده.

خلافة الهادي

وفي هذه السنة بويع لموسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة، يوم توفي المهدي، وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان؛ وكانت وفاة المهدي بماسبذان ومعه ابنه هارون، ومولاه الربيع ببغداد خلفه بها؛ فذكر أن الموالي والقواد لما توفي المهدي اجتمعوا إلى ابنه هارون، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب، والرأي أن يحمل، وتنادي في الجند بالقفل حتى تواريه ببغداد. فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بن خالد البرمكي - وكان المهدي ولى هارون المغرب كله؛ من الأنبار إلى إفريقية؛ وأمر يحيى بن خالد أن يتولى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه يقوم بها ويخلفه على ما يتولى منها إلى أن توفي - قال: فصار يحيى بن خالد إلى هارون، فقال له: يا أبت، ما تقول فيما يقول عمر بن بزيع ونصير والمفضل؟ قال: وما قالوا؟ فأخبره، قال: ما أرى ذلك، قال: ولم؟ قال:

لأن هذا ما لا يخفى، ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخليه حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوا؛ ولكن أرى أن يوارى رحمه الله ها هنا؛ وتوجه نصيرًا إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية؛ فإن البريد إلى نصير؛ فلا ينكر خروجه أحد إذ كان على بريد الناحية، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز؛ مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالقفول؛ فإنهم إن قبضوا الدراهم لم تكن لهم همة سوى أوطانهم؛ ولا عرجة على شيء دون بغداد. قال: نفعل ذلك. وقال الجند لما قبضوا الدراهم: بغداد بغداد! يتبادرون إليها، ويبعثون على الخروج من ماسبذان؛ فلما وافوا بغداد، وعلموا خبر الخليفة، ساروا إلى باب الربيع فأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق، وضجوا. وقدم هارون بغداد، فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تشاورهما في ذلك؛ فأمل الربيع فدخل عليها، وأما يحيى فلم يفعل ذلك لعلمه بشدة غيرة موسى.

قال: وجمعت الأموال حتى أعطي الجند لسنتين، فسكتوا؛ وبلغ الخبر الهادي، فكتب إلى الربيع كتابًا يتوعده فيه بالقتل، وكتب إلى يحيى بن خالد يجزيه الخير، ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به، وأن يتولى أموره وأعماله على ما لم يزل يتولاه.

قال: فبعث الربيع إلى يحيى بن خالد - وكان يوده، ويثق به، ويعتمد على رأيه: يا أبا علي، ما ترى؟ فإنه لاصبر لي على جر الحديد. قال: أرى ألا تبرح موضعك، وأن توجه ابنك الفضل يستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك؛ فإني لأرجو ألا يرجع إلا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله. قال: وكانت أم الفضل ابنه بحيث تسمع منهما مناجاتهما؛ فقالت له: نصحك والله. قال: فإني أحب أن أوصي إليك؛ فإني لا أدري ما يحدث. فقال: لست أنفرد لك بشيء، ولا أدع لك ما يجب، وعندي في هذا وغيره ما تحب؛ ولكن أشرك معي في ذلك ابنك الفضل وهذه المرأة؛ فإنها جزلة مستحقة لذلك منك. ففعل الربيع ذلك وأوصى إليهم.

قال الفضل بن سليمان: ولما شغب الجند على الربيع ببغداد وأخرجوا من كان في حبسه، وأحرقوا أبواب دوره في الميدان، حضر العباس بن محمد وعبد الملك بن صالح ومحرز بن إبراهيم ذلك؛ فرأى العباس أن يرضوا، وتطيب أنفسهم، وتفرق جماعتهم بإعطائهم أرزاقهم؛ فبذل ذلك لهم فلم يرضوا، ولم يثقوا مما ضمن لهم من ذلك؛ حتى ضمنه محرز بن إبراهيم، فقنعوا بضمانه وتفرقوا، فوفى لهم بذلك، وأعطوا رزق ثمانية عشر شهرًا؛ وذلك قبل قدوم هارون. فلما قدم - وكان هو خليفة موسى الهادي - ومعه الربيع وزيرًا له وجه الوفود إلى الأمصار، ونعى إليهم المهدي، وأخذ بيعتهم لموسى الهادي؛ وله بولاية العهد من بعده؛ وضبط أمر بغداد. وقد كان نصير الوصيف شخص من ماسبذان من يومه إلى جرجان بوفاة المهدي والبيعة له؛ فلما صار إليه نادى بالرحيل، وخرج من فوره على البريد جوادًا ومعه من أهل بيته إبراهيم وجعفر، ومن الوزراء عبيد الله بن زياد الكاتب صاحب رسائله، ومحمد بن جميل كاتب جنده. فلما شارف مدينة السلام استقبله الناس من أهل بيته وغيرهم؛ وقد كلن احتمل على الربيع ما كان منه وما صنع من توجيه الوفود وإعطائه الجنود قبل قدومه؛ وقد كان الربيع وجه ابنه الفضل؛ فتلقاه بما أعد له من الهدايا؛ فاستقبله بهمذان، فأدناه وقربه، وقال: كيف خلفت مولاي؟ فكتب بذلك إلى أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي فاعتذر إليه؛ وأعلمه السبب الذي دعاه إلى ذلك، فقبله، وولاه الوزارة مكان عبيد الله بن زياد بن أبي ليلى، وضم إليه ما كان عمر بن بزيع يتولاه من الزمام، وولى محمد بن جميل ديوان خراج العراقين، وولى عبيد الله بن زياد خراج الشام وما يليه، وأقر على حرسه علي بن عيسى بن ماهان، وضم إليه ديوان الجند، وولى شرطة عبد الله بن مالك مكان عبد الله بن خازم، وأقر الخاتم في يد علي بن يقطين.

وكانت موافاة موسى الهادي بغداد عند منصرفه من جرجان لعشر بقين من صفر في هذه السنة، سار - فيما ذكر عنه - من جرجان إلى بغداد في عشرين يومًا، فلما نزل القصر الذي يسمى الخلد؛ فأقام به شهرًا، ثم تحول إلى بستان أبي جعفر، ثم تحول إلى عيساباذ.

وفي هذه السنة هلك الربيع مولى أبي جعفر المنصور.

وقد ذكر علي بن محمد النوفلي أن أباه حدثه أنه كانت لموسى الهادي جارية، وكانت حظية عنده، وكانت تحبه وهو بجرجان حين وجهه إليها المهدي، فقالت أبياتًا، وكتبت إليه وهو مقيم بجرجان، منها:

يا بعيد المحل أم ** سى بجرجان نازلا

قال: فلما جاءته البيعة وانصرف إلى بغداد؛ لم تكن له همة غيرها، فدخل عليها وهي تغني بأبياتها، فأقام عندها يومه وليلته قبل أن يظهر لأحد من الناس.

وفي هذه السنة اشتد طلب موسى الزنادقة؛ فقتل منهم فيها جماعة؛ فكان ممن قتل منهم يزدان بن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بن يقطين من أهل النهروان؛ ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون، فقال: ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر. وله يقول العلاء بن حداد الأعمى:

أيا أمين الله في خلقه ** ووراث الكعبة والمنبر

ماذا ترى في رجل كافر ** يشبه الكعبة بالبيدر

ويجعل الناس إذا ما سعوا ** حمرًا تدوس البر والدوسر!

فقتله موسى ثم صلبه، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته وقتلت حماره. وقتل من بني هاشم يعقوب بن الفضل.

وذكر عن علي بن محمد الهاشمي، قال: كان المهدي أتى بابن لداود ابن على زنديقًا، وأتى بيعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب زنديقًا، في مجلسين متفرقين، فقال لكل واحد منهما كلامًا واحدًا، وذلك بعد أن أقرا له بالزندقه، أما يقعوب بن الفضل فقال له: أقر بها بيني وبينك؛ فأما أن أظهر ذلك عند الناس فلا أفعل ولو قرضتني بالمقاريض، فقال له: ويلك! لو كشفت لك السموات، وكان الامر كما تقول، كنت حقيقا أن تغضب لمحمد، ولولا محمد صلى الله عليه من كنت! هل كنت إلا إنسانًا من الناس! أما والله لولا أني كنت جعلت لله على عهدًا إذا ولاني هذا الامر ألا أقتل هاشميًا لما ناظرتك ولقتلتك. ثم التفت إلى موسى الهادي، فقال: يا موسى، أقسمت عليك بحقي إن وليت هذا الامر بعدي ألا تناظرهما ساعة واحدة. فمات ابن داود بن علي في الحبس قبل وفاة المهدي؛ وأما يعقوب فبقي حنى مات المهدي. وقدم موسى من جرجان فساعة دخل، ذكر وصية المهدي، فأرسل إلى يعقوب من ألقى عليه فراشأً، واقعدت الرجال عليه حتى مات. ثم لها عنه ببيعته وتشديد خلافته؛ وكان ذلك في يوم شديد الحر، فبقي يعقوب حتى مضى من الليل هدء، فقيل لموسى: يا أمير المؤمنين، إن يعقوب قد انتفخ وأروح. قال: ابعثوا به إلى أخيه إسحاق بن الفضل، فخبروه أنه مات في السجن. فجعل في زورق واتي به إسحاق، فنظر فإذا ليس فيه موضع للغسل، فدفنه في بستان له من ساعته، وأصبح فأرسل إلى الهاشميين يخبرهم بموت يعقوب ويدعوهم إلى الجنازة، وأمر بخشبة فعملت في قد الإنسان فغشيت قطنا، وألبسها أكفانًا، ثم حملها على السرير، فلم يشك من حضرها أنه شيء مصنوع.

وكان ليعقوب ولد من صلبه: عبد الرحمن والفضل وأروى فاطمة، فأما فاطمة فوجدت حبلى منه، وأقرت بذلك.

قال علي بن محمد: قال أبي: فأدخلت فاطمة وامرأة يعقوب بن الفضل - وليست بهاشمية، يقال لها خديجة - على الهادي - أو على المهدي من قبل - فأقرتا بالزندقة، وأقرت فاطمة أنها حامل من أبيها، فأرسل بهما إلى ريطة بنت أبي العباس، فرأتهما مكتحلتين مختضبتين، فعذلتهما، وأكثرت على الابنة خاصة، فقالت: أكرهني، فقالت: فما بال الخضاب والكحل والسرور؛ إن كنت مكرهة! ولعنتهما. قال: وخبرت أنهما فزعتا فماتتا فزعًا، ضرب على رأسيهما بشيء يقال له الرعبوب. ففزعتا منه، فماتتا. وأما أروى فبقيت فتزوجها ابن عمها الفضل بن إسماعيل بن الفضل؛ وكان رجلًا لا بأس به في دينه.

وفيها قدم ونداهرمز صاحب طبرستان إلى موسى بأمان، فأحسن صلته، ورده إلى طبرستان.

ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت سنة تسع وستين ومائة

خروج الحسين بن علي بن الحسن بفخ

ومما كان فيها خروج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المقتول بفخ.

ذكر الخبر عن خروجه ومقتله

ذكر عن محمد بن موسى الخوارزمي أنه قال: كان بين موت المهدي وخلافة الهادي ثمانية أيام. قال: ووصل إليه الخبر وهو بجرجان، وإلى أن قدم من مدينة السلام إلى خروج الحسين بن علي بن الحسن، وإلى أن قتل الحسين، تسعة أشهر وثمانية عشر يومًا.

وذكر محمد بن صالح، أن أبا حفص السلمي حدثه، قال: كان إسحاق بن عيسى بن علي على المدينة، فلما مات المهدي واستخلف موسى، شخص إسحاق وافدًا إلى العراق إلى موسى، واستخلف على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب.

وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن إسحاق بن عيسى بن علي استعفى الهادي وهو على المدينة، واستأذنه في الشخوص إلى بغداد، فأعفاه، وولى مكانه عمر بن عبد العزيز. وإن سبب خروج الحسين بن علي بن الحسن كان أن عمر بن عبد العزيز لما تولى المدينة - كما ذكر الحسين بن محمد بن أبي حفص السلمي - أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ومسلم بن جندب الشاعر الهذلي وعمر بن سلام مولى آل عمر على شراب لهم، فأمر بهم فضربوا جميعًا، ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فكلم فيهم، وصار إليه الحسين بن علي فكلمه، وقال: ليس هذا عليهم وقد ضربتهم، ولم يكن لك أن تضربهم؛ لأن أهل العراق لا يرون به بأسًا، فلم تطوف بهم! فبعث إليهم وقد بلغوا البلاط فردهم، وأمر بهم إلى الحبس، فحبسوا يومًا وليلة، ثم كلم فيهم فأطلقهم جميعًا؛ وكانوا يعرضون، ففقد الحسن بن محمد، وكان الحسين بن علي كفيله.

قال محمد بن صالح: وحدثني عبد الله بن محمد الأنصاري أن العمري كان كفل بعضهم من بعض؛ فكان الحسين بن علي بن الحسن ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفيلين بالحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن؛ وكان قد تزوج مولاةً لهم سوداء ابنة أبي ليث مولى عبد الله بن الحسن؛ فكان يأتيها فيقيم عندها، فغاب عن العرض يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وعرضهم خليفة العمري عشية الجمعة، فأخذ الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله؛ فسألهما عن الحسن بن محمد؛ فغلظ عليهم بعض التغليظ، ثم انصرف إلى العمري فأخبره خبرهم، وقال له: أصلحك الله! الحسن بن محمد غائب مذ ثلاث، فقال: ائتني بالحسين ويحيى؛ فذهب فدعاهما، فلما دخلا عليه، قال لهما: أين الحسن بن محمد؟ قالا: والله ما ندري؛ إنما غاب عنا يوم الأربعاء، ثم كان يوم الخميس؛ فبلغنا أنه اعتل، فكنا نظن أن هذا اليوم لا يكون فيه عرض؛ فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه، فحلف يحيى بن عبد الله ألا ينام حتى يأتيه به أو يضرب عليه باب داره؛ حتى يعلم أنه قد جاءه به. فلما خرجا قال له الحسين: سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسنًا! حلفت له بشيء لا تقدر عليه. قال: إنما حلفت على حسن، قال: سبحان الله! فعلى أي شيء حلفت! قال: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف. قال: فقال حسين: تكسر بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الصلة، قال: قد كان الذي كان فلا بد منه.

وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو بمكة في الموسم - فيما ذكروا - وقد كان قوم من أهل الكوفة من شيعتهم - وممن كان بايع الحسين - متكمنين في دار، فانطلقوا فعملوا في ذلك من عشيتهم ومن ليلتهم، حتى إذا كان في آخر الليل خرجوا. وجاء يحيى بن عبد الله حتى ضرب باب دار مروان على العمري، فلم يجده فيها، فجاء إلى منزله في دار عبد الله بن عمر فلم يجده أيضًا فيها، وتوارى منهم، فجاءوا حتى اقتحموا المسجد حين أذنوا بالصبح؛ فجلس الحسين على المنبر وعليه عمامة بيضاء؛ وجعل الناس يأتون المسجد؛ فإذا رأوهم رجعوا ولا يصلون، فلما صلى الغداة جعل الناس يأتونه، ويبايعونه على كتاب الله وسنة نبيه للمرتضى من آل محمد. وأقبل خالد البربري؛ وهو يومئذ على الصوافي بالمدينة قائد على مائتين من الجند مقيمين بالمدينة، وأقبل فيمن معه، وجاء العمري ووزير بن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد الشروي؛ ومعهم ناس كثير؛ فيهم الحسين بن جعفر بن الحسين بن الحسين على حمار، واقتحم خالد البربري الرحبة، وقد ظاهر بين درعين، وبيده السيف، وعمود في منطقته، مصلتًا سيفه، وهو يصيح بحسين: أنا كسكاس، قتلني الله إن لم أقتلك! وحمل عليهم حتى دنا منهم؛ فقام إليه ابنا عبد الله بن حسن: يحيى وإدريس، فضربه يحيى على أنف البيضة فقطعها وقطع أنفه، وشرقت عيناه بالدم فلم يبصر، فبرك يذبب عن نفسه بسيفه وهو لا يبصر، واستدار له إدريس من خلفه فضربه وصرعه، وعلواه بأسيافهما حتى قتلاه، وشد أصحابهما على درعيه فخلعوهما عنه، وانتزعوا سيفه وعموده، فجاءوا به. ثم أمروا به فجر إلى البلاط، وحملوا على أصحابه فانهزموا. قال عبد الله بن محمد: هذا كله بعيني.

وذكر عبد الله بن محمد أن خالدًا ضرب يحيى بن عبد الله، فقطع البرنس، ووصلت ضربته إلى يد يحيى فأثرت فيها، وضربه يحيى على وجهه، واستدار رجل أعور من أهل الجزيرة فأتاه من خلفه، فضربه على رجليه، واعتوروه بأسيافهم فقتلوه.

قال عبد الله بن محمد: ودخل عليهم المسودة المسجد حين دخل الحسين بن جعفر على حماره، وشدت المبيضة فأخرجوهم، وصاح بهم الحسين: ارفقوا بالشيخ - يغني الحسين بن جعفر - وانتهب بيت المال، فأصيب فيه بضعة عشر ألف دينار، فضلت من العطاء - وقيل: إن ذلك كان سبعين ألف دينار كان بعث بها عبد الله بن مالك، يفرض بها من خزاعة - قال: وتفرق الناس، وأغلق أهل المدينة عليهم أبوابهم؛ فلما كان من الغد اجتمعوا واجتمعت شيعة ولد العباس، فقاتلوهم بالبلاط فيما بين رحبة دار الفضل والزوراء، وجعل المسودة يحملون على المبيضة حتى يبلغوا بهم رحبة دار الفضل، وتحمل المبيضة عليهم حتى يبلغ بهم الزوراء. وفشت الجراحات بين الفريقين جميعًا، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم افترقوا، فلما كان في آخر النهار من اليوم الثاني يوم الأحد، جاء الخبر بأن مباركًا التركي ينزل بئر المطلب، فنشط الناس، فخرجوا إليه فكلموه أن يجيء، فجاء من الغد حتى أتى الثنية، واجتمع الناس إليه شيعة بني العباس ومن أراد القتال، فاقتتلوا بالبلاط أشد قتال إلى انتصاف النهار، ثم تفرقوا. وجاء هؤلاء إلى المسجد، ومضى الآخرون إلى مبارك التركي، إلى دار عمر بن عبد العزيز بالثنية يقيل فيها، وواعد الناس الرواح، فلما غفلوا عنه، جلس على رواحله فانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فناوشوهم شيئًا من القتال إلى المغرب، ثم تفرقوا، وأقام حسين وأصحابه أيامًا يتجهزون. وكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يومًا، ثم خرج يوم أربعة وعشرين لست بقين من ذي القعدة، فلما خرجوا من المدينة عاد المؤذنون فأذنوا؛ وعاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فجعلوا يدعون الله عليهم، ففعل الله بهم وفعل.

قال محمد بن صالح: فحدثني نصير بن عبد الله بن إبراهيم الجمحي، أن حسينًا لما انتهى إلى السوق متوجهًا إلى مكة التفت إلى أهل المدينة، وقال: لا خلف الله عليكم بخير! فقال الناس وأهل السوق: لا بل أنت؛ لا خلف الله عليك بخير، ولا ردك! وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فملؤوه قذرًا وبولًا؛ فلما خرجوا غسل الناس المسجد.

قال: وحدثني ابن عبد الله بن إبراهيم، قال: أخذ أصحاب الحسين ستور المسجد، فجعلوها خفاتين لهم، قال: ونادى أصحاب الحسين بمكة: أيما عبد أتانا فهو حر؛ فأتاه العبيد، وأتاه عبد كان لأبي؛ فكان معه؛ فلما أراد الحسين أن يخرج أتاه أبي فكلمه، وقال له: عمدت إلى مماليك لم تملكهم فأعتقتهم، بم تستحل ذلك! فقال حسين لأصحابه: اذهبوا به، فأي عبد عرفه فادفعوه إليه؛ فذهبوا معه، فأخذ غلامه وغلامين لجيران لنا.

وانتهى خبر الحسين إلى الهادي، وقد كان حج في تلك السنة رجال من أهل بيته؛ منهم محمد بن سليمان بن علي والعباس بن محمد وموسى بن عيسى، سوى من حج من الأحداث. وكان على الموسم سليمان بن أبي جعفر، فأمر الهادي بالكتاب بتولية محمد بن سليمان على الحرب، فقيل له: عمك العباس بن محمد! قال: دعوني لا والله لا أخدع عن ملكي؛ فنفذ الكتاب بولاية محمد بن سليمان بن علي على الحرب، فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج. وكان محمد بن سليمان قد خرج في عدة من السلاح والرجال؛ وذلك لأن الطريق كان مخوفًا معورًا من الأعراب؛ ولم يحتشد له الحسين؛ فأتاه خبرهم، فهم بصوبه، فخرج بخدمه وإخوانه. وكان موسى بن علي بن موسى قد صار ببطن نخل، على الثلاثين من المدينة، فانتهى إليه الخبر ومعه إخوانه وجواريه، وانتهى الخبر إلى العباس بن محمد بن سليمان وكاتبهم، وساروا إلى مكة فدخلوا، فأقبل محمد بن سليمان، وكانوا أحرموا بعمرة. ثم صاروا إلى ذي طوىً، فعسكروا بها، ومعهم سليمان بن أبي جعفر؛ فانضم إليهم من وافى في تلك السنة من شيعة ولد العباس ومواليهم وقوادهم. وكان الناس قد اختلفوا في تلك السنة في الحج وكثروا جدًا. ثم قدم محمد بن سليمان قدامه تسعين حافرًا ما بين فرس إلى بغل، وهو على نجيب عظيم، وخلفه أربعون راكبًا على النجائب عليها الرحال وخلفهم مائتا راكب على الحمير، سوى من كان معهم من الرجالة وغيرهم، وكثروا في أعين الناس جدًا وملئوا صدورهم فظنوا أنهم أضعافهم، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وأحلوا من عمرتهم، ثم مضوا فأتوا ذا طوىً ونزلوا، وذلك يوم الخميس. فوجه محمد بن سليمان أبا كامل - مولى لإسماعيل بن علي - في نيفٍ وعشرين فارسًا؛ وذلك يوم فلقيهم. وكان في أصحابه رجل يقال له زيد، كان انقطع إلى العباس، فأخرجه معه حاجًا لما رأى من عبادته، فلما رأى القوم قلب ترسه وسيفه، وانقلب إليهم؛ وذلك ببطن مر، ثم ظفروا به بعد ذلك مشدخًا بالأعمدة؛ فلما كان ليلة السبت وجهوا خمسين فارسًا، كان أول من ندبوا صباح أبو الذيال، ثم آخر ثم آخر؛ فكان أبو خلوة الخادم مولى محمد خامسًا، فأتوا المفضل مولى المهدي، فأرادوا أن يصيروا عليهم، فأبى وقال: لا، ولكن صيروا عليهم غيري وأكون أنا معهم، فصيروا عليهم عبد الله بن حميد بن رزين السمرقندي - وهو يومئذ شاب بن ثلاثين سنة - فذهبوا وهم خمسون فارسًا؛ وذلك ليلة السبت. فدنا القوم، وزحفت الخيل، وتعبأ الناس؛ فكان العباس بن محمد وموسى بن عيسى في الميسرة، ومحمد بن سليمان في الميمنة؛ وكان معاذ بن مسلم فيما بين محمد بن سليمان والعباس بن محمد، فلما كان قبل طلوع الفجر جاء حسين وأصحابه فشد ثلاثة من موالي سليمان بن علي - أحدهم زنجويه غلام حسان - فجاءوا برأس فطرحوه قدام محمد بن سليمان - وقد كانوا قالوا: من جاء برأس فله خمسمائة درهم - وجاء أصحاب محمد فعرقبوا الإبل، فسقطت محاملها. فقتلوهم وهزموهم؛ وكانوا خرجوا من تلك الثنايا، فكان الذين خرجوا مما يلي محمد بن سليمان أقلهم، وكان جلهم خرجوا مما يلي موسى بن عيسى وأصحابه؛ فكانت الصدمة بهم؛ فلما فرغ محمد بن سليمان ممن يليه وأسفروا، نظروا إلى الذين يلون موسى بن عيسى؛ فإذا هم مجتمعون كأنهم كبة غزل، والتفت الميمنة والقلب عليهم، وانصرفوا نحو مكة لا يدرون ما حال الحسين؛ فما شعروا وهم بذي طوىً أو قريبًا منها إلا برجل من أهل خراسان، يقول: البشرى البشرى! هذا رأس حسين، فأخرجه وبجبهته ضربة طولًا، وعلى قفاه ضربة أخرى؛ وكان الناس نادوا بالأمان حيث فرغوا، فجاء الحسن بن محمد أبو الزفت مغمضًا إحدى عينيه، وقد أصابها شيء في الحرب، فوقف خلف محمد والعباس، واستدار به موسى بن عيسى وعبد الله بن العباس. فأمر به فقتل، فغضب محمد بن سليمان من ذلك غضبًا شديدًا. ودخل محمد بن سليمان مكة من طريق والعباس بن محمد من طريق، واحتزت الرؤوس؛ فكانت مائة رأس ونيفًا؛ فيها رأس سليمان بن عبد الله بن حسن وذلك يوم التروية، وأخذت أخت الحسين، وكانت معه فصيرت عند زينب بنت سليمان، واختلطت المنهزمة بالحجاج، فذهبوا، وكان سليمان بن أبي جعفر شاكيًا فلم يحضر القتال، ووافى عيسى بن جعفر الحج تلك السنة؛ وكان مع أصحاب حسين رجل أعمى يقص عليهم فقتل، ولم يقتل أحد منهم صبرًا.

قال الحسين بن محمد بن عبد الله: وأسر موسى بن عيسى أربعة نفر من أهل الكوفة، ومولى لبنى عجل آخر.

قال محمد بن صالح: حدثني محمد بن داود بن علي، قال: حدثنا موسى بن عيسى، قال: قدمت معي بستة أسارى فقال لي الهادي: هيه! تقتل أسيري! فقلت يا أمير المؤمنين، إني فكرت فيه فقلت: تجيء عائشة وزينب إلى أم أمير المؤمنين، فتبكيان عندها وتكلمانها، فتكلم له أمير المؤمنين فيطلقه. ثم قال: هات الأسرى، فقلت: إني جعلت لهم العهد والمواثيق بالطلاق والعتاق، فقال: ائتني بهم، وأمر باثنين فقتلا، وكان الثالث منكرًا، فقلت: يا أمير المؤمنين؛ هذا أعلم الناس بآل أبي طالب؛ فإن استبقيته دلك على كل بغية لك، فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين؛ إني أرجو أن يكون بقائي صنعًا لك. فأطرق ثم قال: والله لإفلاتك من يدي بعد أن وقعت في يدي لشديد؛ فلم يزل يكلمه حتى أمر به أن يؤخر، وأمره أن يكتب له طلبته، وأما الآخر فصفح عنه، وأمر بقتل عذافر الصيرفي وعلي بن السابق القلاس الكوفي، وأن يصلبا، فصلبوهما بباب الجسر، وكانا أسرا بفخ. وغضب على مبارك التركي، وأمر بقبض أمواله وتصييره في ساسة الدواب، وغضب على موسى بن عيسى لقتله حسن بن محمد، وأمر بقبض أمواله.

وقال عبد الله بن عمر الثلجي: حدثني محمد بن يوسف بن يعقوب الهاشمي، قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى، قال: أفلت إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب من وقعة فخ في خلافة الهادي، فوقع إلى مصر، وعلى بريد مصر على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها وليلة، فاستجاب له من بها وبأعراضها من البربر، فضرب الهادي عنق واضح وصلبه.

ويقال: إن الرشيد الذي ضرب عنقه، وأنه دس إلى إدريس الشماخ اليمامي مولى المهدي، وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب عامله على إفريقية، فخرج حتى وصل إلى وليلة وذكر أنه متطبب، وأنه من أوليائهم، ودخل على إدريس فأنس به واطمأن إليه؛ وأقبل الشماخ يريه الإعظام له والميل إليه والإيثار له فنزل عنده بكل منزلة. ثم إنه شكا إليه علة في أسنانه، فأعطاه سنونًا مسمومًا قاتلًا، وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر لليلته؛ فلما طلع الفجر استن إدريس بالسنون، وجعل يرده في فيه، ويكثر منه، فقتله. وطلب الشماخ فلم يظفر به، وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه، وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت إدريس؛ فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك، فولى الشماخ بريد مصر وأجاره، فقال بعض الشعراء - أظنه الهنازي:

أتظن يا إدريس أنك مفلت ** كيد الخليفة أو يفيد فرار

فليدركنك أو تحل ببلدة ** لا يهتدي فيها إليك نهار

إن السيوف إذا انتضاها سخطه ** طالت وقصر دونها الأعمار

ملك كأن الموت يتبع أمره ** حتى يقال: تطيعه الأقدار

وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن الحسين بن علي لما خرج بالمدينة وعليها العمري لم يزل العمري متخفيًا مقام الحسين بالمدينة، حتى خرج إلى مكة. وكان معه الهادي وجه سليمان بن أبي جعفر لولاية الموسم، وشخص معه من أهل بيته ممن أراد الحج العباس بن محمد وموسى بن عيسى وإسماعيل بن عيسى بن موسى في طريق الكوفة، ومحمد بن سلمان وعدة من ولد جعفر بن سليمان على طريق البصرة، ومن الموالي مبارك التركي والمفضل الوصيف وصاعد مولى الهادي - وكان صاحب الأمر سليمان - ومن الوجوه المعروفين يقطين بن موسى وعبيد بن يقطين وأبو عمر بن مطرف؛ فاجتمعوا عند الذي بلغهم من توجه الحسين ومن معه إلى مكة، ورأسوا عليهم سليمان بن أبي جعفر لولايته؛ وكان قد جعل أبو كامل مولى إسماعيل على الطلائع، فلقوه بفخ، وخلفوا عبيد الله بن قثم بمكة للقيام بأمرها وأمر أهلها؛ وقد كان العباس بن محمد أعطاهم الأمان على ما أحدثوا، وضمن لهم الإحسان إليهم والصلة لأرحامهم؛ وكان رسولهم في ذلك المفضل الخادم، فأبوا قبول ذلك، فكانت الوقعة، فقتل من قتل، وانهزم الناس، ونودي فيهم بالأمان، ولم يتبع هارب؛ وكان فيمن هرب يحيى بن وإدريس ابنا عبد الله بن حسن؛ فأما إدريس فلحق بتاهرت من بلاد المغرب، فلجأ إليهم فأعظموه؛ فلم يزل عندهم إلى أن تلطف له، واحتيل عليه، فهلك، وخلفه ابنه إدريس بن إدريس؛ فهم إلى اليوم بتلك الناحية مالكين لها، وانقطعت عنهم البعوث.

قال المفضل بن سليمان: لما بلغ العمري وهو بالمدينة مقتل الحسين بفخ وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممن خرج مع الحسين، فهدمها وحرق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة. قال: وغضب الهادي على مبارك التركي لما بلغه من صدوده عن لقاء الحسين بعد أن شارف المدينة، وأمر بقبض أمواله وتصييره في سياسة دوابه؛ فلم يزل كذلك إلى وفاة الهادي، وسخط على موسى بن عيسى لقتله الحسن بن محمد بن عبد الله أبي الزفت؛ وتركه أن يقدم به أسيرًا، فيكون المحكم في أمره، وأمر بقبض أمواله، فلم تزل مقبوضة إلى أن توفي موسى. وقدم على موسى ممن أسر بفخ الجماعة، وكان فيهم عذافر الصيرفيوعلي بن سابق القلاس الكوفي، فأمر بضرب أعناقهما وصلبهما بباب الجسر ببغداد؛ ففعل ذلك. قال: ووجه مهرويه مولاه إلى الكوفة، وأمره بالتغليظ عليهم لخروج من خرج منهم مع الحسين.

وذكر علي بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، قال: حدثني يوسف البرم مولى آل الحسن - وكانت أمه مولاة فاطمة بنت حسن - قال: كنت مع حسين أيام قدم علي المهدي، فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها في الناس ببغداد والكوفة؛ ووالله ما خرج من الكوفة وهو يملك شيئًا يلبسه إلا فروًا مل تحته قميص وإزار الفراش؛ ولقد كان في طريقه إلى المدينة؛ إذا نزل استقرض من مواليه ما يقوم بمؤونتهم في يومهم. قال علي: وحدثني السري أبو بشر، وهو حليف بني زهرة، قال: صليت الغداة في اليوم الذي خرج فيه الحسين بن علي بن الحسن صاحب فخ، فصلى بنا حسين، وصعد المنبر منبر رسول الله ، فجلس وعليه قميص وعمامة بيضاء قد سدلها من بين يديه ومن خلفه، وسيفه مسلول قد وضعه بين رجليه؛ إذ أقبل خالد البربري في أصحابه؛ فلما أراد أن يدخل المسجد بدره يحيى بن عبد الله، فشد عليه البربري؛ وإني لأنظر إليه، فبدره يحيى بن عبد الله، فضربه على وجهه، فأصاب عينيه وأنفه، فقطع البيضة والقلنسوة، حتى نظرت إلى قحفه طائرًا عن موضعه، وحمل على أصحابه فانهزموا. ثم رجع إلى حسين، فقام بين يديه وسيفه مسلول يقطر دمًا، فتكلم حسين، فحمد الله وأثنى عليه، وخطب الناس، فقال في آخر كلامه: يا أيها الناس، أنا ابن رسول الله في حرم رسول الله، وفي مسجد رسول الله، وعلى منبر نبي الله، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ؛ فإن لم أف لكم بذلك فلا بيعة لي في أعناقكم. قال: وكان أهل الزيارة في عامهم ذلك كثيرًا، فكانوا قد ملئوا المسجد؛ فإذا رجل قد نهض، حسن الوجه، طويل القامة، عليه رداء ممشق، أخذ بيد ابن له شاب جميل جلد، فتخطى رقاب الناس؛ حتى انتهى إلى المنبر، فدنا من حسين، وقال: يا بن رسول الله، خرجت من بلد بعيد وابني هذا معي، وأنا أريد حج بيت الله وزيارة قبر نبيه ، وما يخطر ببالي هذا الأمر الذي حدث منك؛ وقد سمعت ما قلت، فعندك وفاء بما جعلت على نفسك؟. قال: نعم، قال: ابسط يدك فأبايعك، قال: فبايعه، ثم قال لابنه: ادن فبايع. قال: فرأيت والله رءوسهما في الرءوس بمنىً، وذلك أني حججت في ذلك العام.

قال: وحدثني جماعة من أهل المدينة أن مباركًا التركي أرسل إلى حسين بن علي: والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أيسر علي من أن أشوكك بشوكة، أو أقطع من رأسك شعرة؛ ولكن لا بد من الإعذار؛ فبيتني فإني منهزم عنك. فأعطاه بذلك عهد الله وميثاقه. قال: فوجه إليه الحسين - أو خرج إليه - في نفر يسير، فلما دنوا من عسكره وصاحوا وكبروا، فانهزم أصحابه حتى لحق موسى بن عيسى.

وذكر أبو المضرحي الكلابي، قال: أخبرني المفضل بن محمد بن المفضل بن حسين بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، أن الحسين بن علي بن حسن بن حسن، قال يومئذ في قوم لم يخرجوا معه - وكان قد وعدوه أن يوافوه، فتخلفوا عنه - متمثلًا:

من عاذ بالسيف لاقى فرصة عجبًا ** موتًا على عجل أو عاش منتصفًا

لا تقربوا السهل إن السهل يفسدكم ** لن تدركوا المجد حتى تضربوا عنفًا

وذكر الفضل بن العباس الهاشمي أن عبد الله بن محمد المنقري حدثه عن أبيه، قال: دخل عيسى بن دأب على موسى بن عيسى عند منصرفه من فخ، فوجده خائفًا يلتمس عذرًا من قتل من قتل، فقال له: أصلح الله الأمير! أنشدك شعرًا كتب به يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل الحسين بن علي رضي الله عنه؟ قال: أنشدني، فأنشده، قال:

يا أيها الراكب الغادي لطيته ** على عذافرة في سيرها قحم

أبلغ قريشًا على شحط المزار بها ** بيني وبين الحسين الله والرحم

وموقفٍ بفناء البيت أنشده ** عهد الإله وما تعرى له الذمم

عنفتم قومكم فخرًا بأمكم ** أم حصان لعمري برة كرم

هي التي لا يداني فضلها أحد ** بنت النبي وخير الناس قد علموا

وفضلها لكم فضل وغيركم ** من قومكم لهم من فضلها قسم

إني لأعلم أو ظنًا كعالمه ** والظن يصدق أحيانًا فينتظم

أن سوف يترككم ما تطلبون بها ** قتلى تهاداكم العقبان والرخم

يا قومن لا تشبوا الحرب إذ خمدت ** ومسكوا بحبال السلم واعتصموا

لا تركبوا البغي إن البغي مصرعة ** وإن شارب كاس البغي يتخم

قد جرب الحرب من قد كان قبلكم ** من القرون وقد بادت بها الأمم

فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخًا ** فرب ذي بذخ زلت به القدم

قال: فسرى موسى بن عيسى بعض ما كان فيه.

وذكر عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى أن العلاء حدثه أن الهادي أمير المؤمنين لما ورد عليه خلع أهل فخ خلا ليلة يكتب كتابًا بخطه، فاغتم بخلوته مواليه وخاصته، فدسوا غلامًا له، فقالوا: اذهب حتى تنظر إلى أي شيء انتهى الخبر، قال: فدنا من موسى، فلما رآه قال: ما لك؟ فاعتل عليه، قال: فأطرق ثم رفع رأسه إليه، فقال:

رقد الألى ليس السري من شأنهم ** وكفاهم الإدلاج من لم يرقد

وذكر أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي؛ قال: حدثنا الأصمعي، قال: قال محمد بن سليمان ليلة فخ لعمرو بن أبي عمرو المدني - وكان يرمي بين يديه بين الهدفين: ارم، قال: لا والله لا أرمي ولد رسول الله ؛ إني إنما صحبتك لأرمي بين يديك بين الهدفين، ولم أصحبك لأرمي المسلمين.

قال: فقال المخزومي: ارم، فرمى فما فمات إلا بالبرص.

قال: ولما قتل الحسين بن علي وجاء برأسه يقطين بن موسى، فوضع بين يدي الهادي، قال: كأنكم والله جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم. قال: فحرمهم ولم يعطهم شيئًا.

وقال موسى الهادي: لما قتل الحسين متمثلًا:

قد أنصف القارة من رماها ** إنا إذا ما فئة نلقاها

نرد أولاها على أخراها

وغزا الصائفة في هذه السنة معيوف بن يحيى من درب الراهب، وقد كانت الروم أقبلت مع البطريق إلى الحدث؛ فهرب الوالي والجند وأهل الأسواق، فدخلها العدو، ودخل أرض العدو معيوف بن يحيى، فبلغ مدينة أشنة، فأصابوا سبايا وأسارى وغنموا.

وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن أبي جعفر المنصور.

وكان على المدينة عمر بن عبد العزيز العمري، وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم، وعلى اليمن إبراهيم بن سلم بن قتيبة، وعلى اليمامة والبحرين سويد بن أبي سويد القائد الخراساني، وعلى عمان الحسن بن تسنيم الحواري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها وصدقاتها وبهقباذ الأسفل موسى بن عيسى، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بن سليمان. وعلى قضائها عمر بن عثمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بن حسان، وعلى طبرستان والرويان صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي، وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي.

ثم دخلت سنة سبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك وفاة يزيد بن حاتم بإفريقية فيها، ووليها بعده روح بن حاتم.

وفيها مات عبد الله بن مروان بن محمد في المطبق.

ذكر الخبر عن وفاة موسى الهادي

وفيها توفي موسى الهادي بعيساباذ. واختلف في السبب الذي كان بعد وفاته، فقال بعضهم: كانت وفاته من قرحة كانت في جوفه. وقال آخرون: كانت وفاته من قبل جوارٍ لأمه الخيزران؛ كانت أمرتهن بقتله لأسباب نذكر بعضها.

ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله كانت أمرتهن بقتله

ذكر يحيى بن الحسن أن الهادي نابذ أمه ونافرها؛ لما صارت إليه الخلافة، فصارت خالصة إليه يومًا، فقالت: إن أمك تستكسيك، فأمر لها بخزانة مملوءة كسوة. قال: ووجد للخيزران في منزلها من قراقر الوشي ثمانية عشر ألف قرقر. قال: وكانت الخيزران في أول خلافة موسى تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي، فأرسل إليها ألا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل؛ فإنه ليس من قدر النياء الاعتراض في أمر الملك؛ وعليك بصلاتك وتسبيحك وتبتلك؛ ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك. قال: وكانت الخيزران في خلافة موسى كثيرًا ما تكلمه في الحوائج؛ فكان يجيبها إلى كل ما تسأله حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها، وطمعوا فيها؛ فكانت المواكب تغدو إلى بابها؛ قال: فكلمته يومًا في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلا، فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك. قال: فغضب موسى وقال: ويل علي بن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها؛ والله لا قضيتها لك، قالت: إذًا والله لا سألتك حاجة أبدًا، قال: إذًا والله لا أبالي. وحمي وغضب. فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعي كلامي والله، وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه؛ ولأقبضن ماله؛ فمن شاء فليلزم ذلك. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم! أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك! إياك ثم إياك؛ ما فتحت بابك لملي أو لذمي. فانصرفت ما تعقل ما تطأ؛ فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها.

قال يحيى بن الحسن: وحدثني أبي، قال: سمعت خالصة تقول للعباس بن الفضل بن الربيع: بعث موسى إلى أمه الخيزران بأرزةٍ، وقال: استطبتها فأكلت منها، فكلي منها. قالت خالصة: فقلت لها: أمسكي حتى تنظري؛ فإني أخاف أن يكون فيها شيء تكرهينه، فجاءوا بكلب فأكل منها، فتساقط لحمه؛ فأرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيت الأرزة؟ فقالت: وجدتها طيبة، فقال: لم تأكلي؛ ولو أكلت لكنت استرحت منك، متى أفلح خليفة له أم! قال وحدثني بعض الهاشميين، أن سبب موت الهادي كان أنه لما جد في خلع هارون والبيعة لابنه جعفر، وخافت الخيزران على هارون منه، دست إليه من جواريها لما مرض من قتله بالغم والجلوس على وجهه، ووجهت إلى يحيى بن خالد: إن الرجل قد توفي، فاجدد في أمرك ولا تقصر.

وذكر محمد بن عبد الرحمن بن بشار أن الفضل بن سعيد حدثه، عن أبيه، قال: كان يتصل بموسى وصول القواد إلى أمه الخيزران، يؤملون بكلامها في قضاء حوائجهم عنده، قال: وكانت تريد أن تغلب على أمره كما غلبت على أمر المهدي؛ فكان يمنعها من ذلك ويقول: ما للنساء والكلام في أمر الرجال! فلما كثر عليه مصير من يصير إليها من قواده، قال يومًا وقد جمعهم: أيما خير؟ أنا أو أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين؛ قال: فأيما خير؛ أمي أو أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقولوا: فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قال: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشق ذلك عليها فاعتزلته، وحلفت ألا تكلمه؛ فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة.

ذكر الخبر عما كان من خلع الهادي للرشيد

وكان السبب في إرادة موسى الهادي خلع أخيه هارون حتى اشتد عليه في ذلك وجد - فيما ذكر صالح بن سليمان - أن الهادي لما أفضت إليه الخلافة أقر يحيى بن خالد على ما كان يلي هارون من عمل المغرب؛ فأراد الهادي خلع هارون الرشيد والبيعة لابنه جعفر بن موسى الهادي، وتابعه على ذلك القواد؛ منهم يزيد بن مزيد وعبد الله بم مالك وعلي بن عيسى ومن أشبههم؛ فخلعوا هارون، وبايعوا لجعفر بن موسى، ودسوا إلى الشيعة؛ فتكلموا في أمره، وتنقصوه في مجلس الجماعة، وقالوا: لا نرضى به، وصعب أمرهم حتى ظهر؛ وأمر الهادي ألا يسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس وتركوه؛ فلم يكن أحد يجترئ أن يسلم عليه ولا يقربه.

وكان يحيى بن خالد يقوم بإنزال الرشيد ولا يفارقه هو وولده - فيما ذكر. قال صالح: وكان إسماعيل بن صبيح كاتب يحيى بن خالد، فأحب أن يضعه موضعًا يستعلم له فيه الأخبار، وكان إبراهيم الحراني في موضع الوزارة لموسى، فاستكتب إسماعيل، ورفع الخبر إلى الهادي؛ وبلغ ذلك يحيى بن خالد، فأمر إسماعيل أن يشخص إلى حران، فسار إليها؛ فلما كان بعد أشهر سأل الهادي إبراهيم الحراني: من كاتبك؟ قال: فلان كاتب، وسماه، فقال: أليس بلغني أن إسماعيل بن صبيح كاتبك؟ قال: باطل يا أمير المؤمنين؛ إسماعيل بحران.

قال: وسعى إلى الهادي بيحيى بن خالد، وقيل له: إنه ليس عليك من هارون خلاف؛ وإنما يفسده يحيى بن خالد، فابعث إلى يحيى، وتهدده بالقتل؛ وارمه بالكفر؛ فأغضب ذلك موسى الهادي على يحيى بن خالد.

وذكر أبو حفص الكرماني أن محمد بن يحيى بن خالد حدثه، قال: بعث الهادي إلى يحيى ليلًا، فأيس من نفسه، وودع أهله، وتحنط وجدد ثيابه، ولم يشك أنه يقتله؛ فلما أدخل عليه، قال: يا يحيى، ما لي ولك! قال: أنا عبدك يا أمير المؤمنين؛ فما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته. قال: فلم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي! قال: يا أمير المؤمنين، من أنا حتى أدخل بينكما! إنما صيرني المهدي معه، وأمرني بالقيام بأمره؛ فقمت بما أمرني به، ثم أمرتني بذلك فانتهيت إلى أمرك. قال: فما الذي صنع هارون؟ قال: ما صنع شيئًا، ولا ذلك فيه ولا عنده. قال: فسكن غضبه. وقد كان هارون طاب نفسًا بالخلع، فقال له يحيى: لا تفعل، فقال: أليس يترك لي الهنيء والمريء، فهما يسعانني وأعيش مع ابنة عمي! وكان هارون يجد بأم جعفر وجدًا شديدًا، فقال له يحيى: وأين ذلك من الخلافة! ولعلك ألا يترك هذا في يدك حتى يخرج أجمع؛ ومنعه من الإجابة.

قال الكرماني: فحدثني صالح بن سليمان، قال: بعث الهادي إلى يحيى بن خالد وهو بعيساباذ ليلًا، فراعه ذلك، فدخل عليه وهو في خلوة، فأمر بطلب رجل كان أخافه، فتغيب عنه؛ وكان الهادي يريد أن ينادمه ويمنعه مكانه من هارون، فنادمه وكلمه يحيى فيه، فآمنه وأعطاه خاتم ياقوت أحمر في يده، وقال: هذا أمانه، وخرج يحيى فطلب الرجل، وأتى الهادي به فسر بذلك.

قال: وحدثني غير واحد أن الرجل الذي طلبه كان إبراهيم الموصلي.

قال صالح بن سليمان: قال الهادي يومًا للربيع: لا يدخل علي يحيى بن خالد إلا آخر الناس. قال: فبعث إليه الربيع، وتفرغ له. قال: فلما جلس من غد أذن حتى لم يبق أحد، ودخل عليه يحيى، وعنده عبد الصمد بن علي والعباس بن محمد وجلة أهله وقواده، فما زال يدنيه حتى أجلسه بين يديه، وقال له: إني كنت أظلمك وأكفرك، فاجعلني في حل، فتعجب الناس من إكرامه إياه وقوله؛ فقبل يحيى يده وشكر له، فقال له الهادي: من الذي يقول فيك يا يحيى:

لو يمس البخيل راحة يحيى ** لسخت نفسه ببذل النوال

قال: تلك راحتك يا أمير المؤمنين لا راحة عبدك! قال: وقال يحيى للهادي في خلع الرشيد لما كلمه فيه: يا أمير المؤمنين؛ إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم؛ وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته، فقال: صدقت ونصحت؛ ولي في هذا تدبير.

قال الكرماني: وحدثني خزيمة بن عبد الله، أمر الهادي بحبس يحيى بن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني، فأخلاه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أرأيت إن كان الأمر - أسأل الله ألا نبلغه، وأن يقدمنا قبله - أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر؛ وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم! قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أهلك وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى - قال: وكان يقول: ما كلمت أحدًا من الخلفاء كان أعقل من موسى - قال: وقال له: لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك، أما كان ينبغي أن تعقده له، فكيف بأن تحله عنه، وقد عقده المهدي له! ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله؛ فإذا بلغ جعفر، وبلغ الله به، أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده. قال: فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه. وذكر الموصلي عن محمد بن يحيى، قال: عزم الهادي بعد كلام أبي له على خلع الرشيد، وحمله عليه جماعة من مواليه وقواده؛ وأجابه إلى الخلع أو لم يجبه، واشتد غضبه منه، وضيق عليه. وقال يحيى لهارون: استأذنه في الخروج إلى الصيد، فإذا خرجت فاستبعد ودافع الأيام، فرفع هارون رقعة يستأذن فيها، فأذن له؛ فمضى إلى قصر مقاتل، فأقام به أربعين يومًا حتى أنكر الهادي أمره وغمه احتباسه، وجعل يكتب إليه ويصرفه، فتعلل عليه حتى تفاقم الأمر، وأظهر شتمه، وبسط مواليه وقواده ألسنتهم فيه؛ والفضل بن يحيى إذ ذاك خليفة أبيه، والرشيد بالباب، فكان يكتب إليه بذلك، وانصرف وطال الأمر.

قال الكرماني: فحدثني يزيد مولى يحيى بن خالد، قال: بعثت الخيزران عاتكة - ظئرًا كان لهارون - إلى يحيى، فشقت جيبها بين يديه، وتبكي إليه وتقول له: قالت لك السيدة: الله الله في ابني لا تقتله، ودعه يجيب أخاه إلى ما يسأله ويريده منه، فبقاؤه أحب إلي من الدنيا بجمع ما فيها. قال: فصاح بها وقال لها: وما أنت وهذا! إن يكن ما تقولين فإني وولدي وأهلي سنقتل قبله، فإن اتهمت عليه فلست بمتهم على نفسي ولا عليهم. قال: ولما لم ير الهادي يحيى بن خالد يرجع عما كان عليه لهارون بما بذل له من إكرام وإقطاع وصلة، بعث إليه يتهدده بالقتل إن لم يكف عنه. قال: فلم تزل تلك الحال من الخوف والخطر، وماتت أم يحيى وهو في الخلد ببغداد؛ لأن هارون كان ينزل الخلد، ويحيى معه، وهو ولي العهد، نازل في داره يلقاه في ليله ونهاره.

وذكر محمد بن القاسم بن الربيع، قال: أخبرني محمد بن عمرو الرومي، قال: حدثني أبي، قال: جلس موسى الهادي بعد ما ملك في أول خلافته جلوسًا خاصًا، ودعا بإبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر وإبراهيم بن سلم بن قتيبة الحراني، فجلسوا عن يساره، ومعهم خادم أسود يقال له أسلم، ويكنى أبا سليمان؛ وكان يثق به ويقدمه؛ فبينا هو كذلك، إذ دخل صالح صاحب المصلى، فقال: هارون بن المهدي، فقال: ائذن له، فدخل فسلم عليه، وقبل يده، وجلس عن يمينه بعيدًا من ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك، ثم التفت إليه، فقال: يا هارون، كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت من بعيد، ودون ذلك خرط القتاد؛ تؤمل الخلافة! قال: فبرك هارون على ركبتيه، وقال: يا موسى؛ إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت ختلت؛ وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي؛ فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأصير أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي. قال: فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر؛ ادن مني، فدنا منه، فقبل يده، ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل - أعني أباك المنصور - لا جلست إلا معي، وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قال: يا حراني، احمل إلى أخي ألف ألف دينار؛ وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت اللعنة؛ فيأخذ جميع ما أراد. قال: ففعل ذلك. ولما قام قال لصالح: أدن دابته إلى البساط. قال عمر الرومي: وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي ما الرؤيا التي قال لك أمير المؤمنين؟ قال: قال الهادي: أريت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبًا وإلى هارون قضيبًا، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلًا؛ فأما هارون فأورق قضيبه من أوله إلى آخره. فدعا المهدي الحكم بن موسى الضمري - وكان يكنى أبا سفيان - فقال له: عبر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعًا، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة؛ وتكون أيامه أحسن أيام. قال: ولم يلبث إلا أيامًا يسيرة، ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام.

قال عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون، فزوج حمدونة من جعفر ابن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى؛ ووفى بكل ما قال؛ وكان دهره أحسن الدهور.

وذكر أن الهادي كان قد خرج إلى الحديثة؛ حديثة الموصل؛ فمرض بها، واشتد مرضه، فانصرف. فذكر عمرو اليشكري - وكان في الخدم - قال: انصرف الهادي من الحديثة بعد ما كتب إلى جميع عماله شرقًا وغربًا بالقدوم عليه؛ فلما ثقل اجتمع القوم الذين كانوا بايعوا لجعفر ابنه، فقالوا: إن صار الأمر إلى يحيى قتلنا ولم يستبقنا، فتآمروا على أن يذهب بعضهم إلى يحيى بأمر الهادي، فيضرب عنقه. ثم قالوا: لعل أمير المؤمنين يفيق من مرضه، فما عذرنا عنده! فأمسكوا. ثم بعثت الخيزران إلى يحيى تعلمه أن الرجل لمآبه، وتأمره بالاستعداد لما ينبغي؛ وكانت المستولية على أمر الرشيد وتدبير الخلافة إلى أن هلك؛ فأحضر الكتاب وجمعوا في منزل الفضل بن يحيى، فكتبوا لليلتهم كتبًا إلى الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي، وأنهم قد ولاهم الرشيد ما كانوا يلون؛ فلما مات الهادي أنفذوها على البرد.

وذكر الفضل بن سعيد، أن أباه حدثه أن الخيزران كانت قد حلفت ألا تكلم موسى الهادي، وانتقلت عنه، فلما حضرته الوفاة، وأتاها الرسول فأخبرها بذلك، فقالت: وما أصنع به؟ فقالت لها خالصة: قومي إلى ابنك أيتها الحرة؛ فليس هذا وقت تعتب ولا تغضب. فقالت: أعطوني ماء أتوضأ للصلاة، ثم قالت: أما إنا كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة، ويولد خليفة؛ قال: فمات موسى، وملك هارون، وولد المأمون.

قال الفضل: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن عبيد الله، فساقه لي مثل ما حدثنيه أبي، فقلت: فمن أين كان للخيزران هذا العلم؟ قال: إنها كانت قد سمعت من الأوزاعي.

ذكر يحيى بن الحسن أن محمد بن سليمان بن علي حدثه، قال: حدثتني عمتي زينب ابنة سليمان، قالت: لما مات موسى بعيساباذ، أخبرتنا الخيزران الخبر، ونحن أربع نسوة؛ أنا وأختي وأم الحسن وعائشة، بنيات سليمان، ومعنا ريطة أم علي، فجاءت خالصة، فقالت لها: ما فعل الناس؟ قالت: يا سيدتي، مات موسى ودفنوه؛ قالت: إن كان موت موسى، فقد بقي هارون، هات لي سويقا، فجاءت بسويق، فشربت وسقتنا، ثم قالت: هات لسادتي أربع مائة ألف دينار، ثم قالت: ما فعل ابني هارون؟ قالت: حلف ألا يصلي الظهر إلا ببغداد. قالت هاتوا الرحائل، فما جلوسي ها هنا؛ وقد مضى! فلحقته ببغداد.

ذكر الخبر عن وقت وفاته ومبلغ سنه وقدر ولايته ومن صلى عليه

قال أبو معشر: توفي موسى الهادي ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأول؛ حدثنا بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق. وقال الواقدي: مات موسى بعيساباذ للنصف من شهر ربيع الأول. وقال هشام بن محمد: هلك موسى الهادي لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ليلة الجمعة في سنة سبعين ومائة. وقال بعضهم: توفي ليلة الجمعة لستة عشر يومًا منه؛ وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر. وقال هشام: ملك أربعة عشر شهرًا، وتوفي وهو ابن ست وعشرين سنة. وقال الواقدي: كانت ولايته سنة وشهرًا واثنين وعشرين يومًا. وقال غيرهم: توفي يوم السبت، لعشر خلت من ربيع الأول - أو ليلة الجمعة - وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكانت خلافته سنة وشهرًا وثلاثة وعشرين يومًا، وصلى عليه أخوه هارون بن محمد الرشيد. وكان كنيتة أبو محمد، وأمه الخيرزان أم ولد، ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه.

وذكر الفضل بن إسحاق أنه كان طويلًا جسيمًا جميلًا أبيض، مشبًا حمرة؛ وكان بشفته العليا تقلص، وكان يلقب موسى أطبقن وكان قد ولد بالسيروان من الري.

ذكر أولاده

وكان له من الأولاد تسعة؛ سبعة ذكور وابنتان، أما الذكور فأحدهم جعفر - وهو الذي يرشحه للخلافة - والعباس وعبد الله وإسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى بن موسى الأعمى كلهم من أمهات أولاد. وكان الأعمى - وهو موسى - ولد بعد موت أبيه. والابنتان؛ إحداهما أم عيسى كانت عند المأمون، والأخرى أم العباس بنت موسى، تلقب نوتة.

ذكر بعض أخباره وسيره

ذكر إبراهيم بن عبد السلام، ابن أخي الندي أبو طوطة، قال: حدثني السندي بن شاهك، قال: كنت مع موسى بجرجان، فأتاه نعي المهدي والخلافة، وركب البريد إلى بغداد؛ ومعه سعيد بن سلم، ووجهي إلى خراسان؛ فحدثني سعيد بن سلم، قال: سرنا بين أبات جرجان وبساتينها، قال: فسمع صوتًا من بعض تلك البساتين من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الساعة، قال: فقلت يا أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك! قال: وكيف؟ قال: قلت له: كان سليمان بن عبد الملك في منتزه له ومعه حرمه؛ فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، فقال: علي بصاحب الصوت؛ فأتى به؛ فلما مثل بين يديه، قال له: ما حملك على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي! أما علمت أن الرماك إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه! يا غلام جبه، فجب الرجل. فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المنتزه، فجلس مجلس الذي فيه، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الذي كنا جببناه، فأحضره، فلما مثل بين يديه، قال له: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك، قال: فوالله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قال له: يا سليمان؛ الله الله! إنك قطعت نسلي، فذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك، وإما بعت فوفيناك! لا والله حتى أقف بين يدي الله. قال: فقال يا موسى: يا غلام، رد صاحب الشرطة، فرده فقال: لا تعرض للرجل.

وذكر أبو موسى هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى المهدي؛ أن على ابن صالح حدثه؛ أنه كان يومًا على رأس الهادي وهو غلام - وقد كان جفا المظالم عامة ثلاثة أيام - فدخل عليه الحراني، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ إن العامة لا تنقاد على ما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام؛ فالتفت إلي، وقال: يا علي، ائذن للناس، علي بالجفلي لا بالنقري، فخرجت من عنده أطير على وجهي. ثم وقفت فلم أدري ما قال لي، فقلت: أراجع أمير المؤمنين، فيقول: أتحجبني ولا تعلم كلامي! ثم أدركني ذهني؛ قبعثت إلى أعرابي كان قد وفد، وسألته عن الجفلى النقري، فقال: الجفلى جفالة، والنقري ينقر خواصتهم. فأمرت بالستور فرفعت وبالأبواب ففتحت، فدخل الناس على بكرة أبيهم؛ فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل؛ فلما تقوض المجلس مثلت بين يديه، فقال: كأنك تريد أن تذكر شيئًا يا علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ كلمتني بكلام لم أسمعه قبل يومي هذا، وخفت مراجعتك، فتقول: أتحجبني وأنت لم تعلم كلامي! فبعثت إلى أعرابي كان عندنا، ففسر لي الكلام؛ فكافئه عني يا أمير المؤمنين، قال: نعم مائة ألف درهم تحمل إليه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنه أعرابي جلف، وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه وكفاه، فقال: ويلك يا علي! أجود وتبخل! قال: وحدثني علي بن صالح، قال: ركب الهادي يومًا يريد عيادة أمه الخيزران من علة كانت وجدتها، فاعرضه عمر بن بزيغ، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ ألا أدلك على وجه هو أعود عليك من هذا؟ فقال: وما هو يا عمر؟ قال: الظالم لم تنظر فيها منذ ثلاث، قال: فأومأ إلى المطرقة أن يميلوا إلى دار المظالم، ثم بعث إلى الخيزران بخادم من خدمه يعتذر إليها من تخلفه، وقال: قل لها أن عمر بن بزيع أخبرنا من حق الله بما هو أوجب علينا من حقك، فملنا إليه ونحن عائدون إليك في غد إن شاء الله.

وذكر عن عبد الله بن مالك، أنه قال: كنت أتولى الشرطة للمهدي، وكان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي ومغنيه، ويأمرني بضرهم؛ وكان الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه لهم؛ ولا ألتفت إلى ذلك، وأمضي لما أمرني به المهدي. قال: فلما ولى الهادي الخلافة أيقنت بالتلف؛ فبعث إلي يومًا، فدخلت عليه متكفنًا متحنطًا؛ وإذا هو على كرسي، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله على الآخر! تذكر يومًا بعثت إليك في أمر الحراني، وما أمر أمير المؤمنين به من ضربه وحبسه فلم تجبني؛ وفي فلان وفلان - وعل يعدد ندماءه - فلم تلتفت إلى قولي، ولا أمري! قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قال: نعم، قلت: ناشدتك بالله يا أمير المؤمنين، أيسرك أنك ما ولاني أبوك، فأمرتني بأمر، فبعث إلي بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك. فاستدناني، فقبلت يديه، فأمر بخلع فصبت علي، وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشدًا فخرجت من عنده فصرت إلى منزلي مفكرًا في أمري وأمره، وقلت:

حدث يشرب، والقوم الذي عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه؛ فكأني بهم حين يغلب عليهم الشراب قد أزالوا رأيه في، وحملوه من أمري على ما كنت أكره وأتخوفه. قال: فإني لجالس وبين يديه بنية لي في وقتي ذلك، والكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأسنخه وأضعه للصبية؛ وإذا ضجة عظيمة، حتى توهمت أن الدنيا قد اقتلعت وتزلزلت بوقع الحوافر وكثرة الضوضاء، فقلت: هاه! كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوفت؛ فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم؛ فلما رأيته وثبت عن مجلس مبادرًا، فقبلت يده ورجله وحافر حماره، فقال لي: يا عبد الله، إني فكرت في أمرك، فقلت: يسبق إلى قلبك إني إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا ما حسن من رأيي فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمني مما كنت تأكل، وافعل فيه ما كنت تفعل؛ لتعلم أني قد تحرمت والسكرجة التي فيها الكامخ، فأكل منها ثم قال: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي. فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم، وقال: هذه زلتك، فاستعن بها على أمرك، واحفظ لي هذه البغال؛ لعلي أحتاج إليها يومًا لبعض أسفاري، ثم قال: أظلك الله بخير، وانصرف راجعًا.

فذكر موسى بن عبد الله أن أباه أعطاه بستانه الذي كان وسط داره، ثم بنى حوله معالف لتلك البغال؛ وكان هو يتولى النظر إليها والقيام عليها أيام حياة الهادي كلها.

وذكر محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود بن طهمان السلمي. قال: أخبرنيأبي، قال: كان علي بن عيسى بن ماهان يغضب غضب الخليفة، ويرضى رضا الخليفة؛ وكان أبي يقول: ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي بن عيسى؛ فإنه دخل إلى الحبس وفي يده سوط، فقال: أمرني أمير المؤمنين موسى الهادي أن أضربك مائة سوط، قال: فأقبل يضعه على يدي ومنكبي؛ يمسني به مسًا إلى أن عد مائة، وخرج. فقال له: ما صنعت بالرجل؟ قال: صنعت به ما أمرت. قال: فما حاله؟ قال: مات، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ويلك! فضحتني والله عند الناس؛ هذا رجل صالح، يقول الناس: قتل يعقوب بن داود! قال: فلما رأى شدة جزعه، قال: هو حي يا أمير المؤمنين لم يمت، الحمد لله على ذلك.

قال: وكان الهادي قد استخلف على حجابته بعد الربيع ابنه الفضل، فقال له: لا تحجب عني الناس؛ فإن ذلك يزيل عني البركة، ولا تلق إلي أمرًا إذا كشفته أصبته باطلا؛ فإن ذلك يوقع الملك، ويضر الرعية.

وقال موسى بن عبد الله: أتى موسى برجل، فجعل يقرعه بذنوبه ويتهدده، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، اعتذاري مما تقرعني به رد عليك، وإقراري يوجب علي ذنبًا؛ ولكني أقول:

فإن كنت ترجو في العقوبة رحمةً ** فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر

قال: فأمر بإطلاقه.

وذكر عمر بن شبة أن سعيد بن سلم كان عند موسى الهادي، فدخل عليه وفد الروم وعلى سعيد بن سلم قلنسوة - وكان قد صلع وهو حدث - فقال له موسى: ضع قلنسوتك حتى تتشايخ بصلعتك.

وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق أن أباه حدثه، قال: خرجت إلى عيساباذ أريد الفضل بن الربيع، فلقيت موسى أمير المؤمنين وهو خليفة؛ وأنا لا أعرفه؛ فإذا هو في غلالة على فرس، وبيده قناة لا يدرك أحدًا إلا طعنه. فقال لي: يا بن الفاعلة! قال: فرأيت إنسانًا كأنه صم، وكنت رأيته بالشام، وكان فخذاه كفخذي بعير، فضربت يدي إلى قائم السيف، فقال لي رجل: ويلك! أمير المؤمنين، فحركت دابتي - وكان شهريًا حملني عليه الفضل بن الربيع، وكان اشتراه بأربعة آلاف درهم - فدخلت دار محمد بن القاسم صاحب الحرس، فوقف على الباب، وبيده القناة، وقال: اخرج يا بن الفاعلة! فلم أخرج، ومر فمضى. قلت للفضل: فإني رأيت أمير المؤمنين؛ وكان من القصة كذا وكذا، فقال: لا أرى لك وجهًا إلا ببغداد؛ إذا جئت أصلي الجمعة فالقني، قال: فما دخلت عيساباذ حتى هلك الهادي.

وذكر الهيثم بن عروة الأنصاري أن الحسين بن معاذ بن مسلم - وكان رضيع موسى الهادي - قال:

لقد رأيتني أخلو مع موسى، فلا أجد له هيبةً في قلبي عند الخلوة، لما كان يبسطني. وربما صارعني فأصرعه غير هائب له، وأضرب به الأرض، فإذا تلبس لبسة الخلافة ثم جلس مجلس الأمر والنهي قمت على رأسه؛ فوالله ما أملك نفسي من الرعدة والهيبة له.

وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق أن محمد بن سعيد بن عمر بن مهران، حدثه عن أبيه، عن جده، قال: كانت المرتبة لإبراهيم بن سلم بن قتيبة عند الهادي، فمات ابن لإبراهيم يقال له سلم، فأتاه موسى الهادي يعزيه عنه على حمار أشهب، لا يمنع مقبل ولا يرد عنه مسلم؛ حتى نزل في رواقه، فقال له: يا إبراهيم، سرك هو عدو وفتنة، وحزنك وهو صلاة ورحمة. فقال: يا أمير المؤمنين، ما بقي مني جزء كان فيه حزن إلا وقد امتلأ عزاء. قال: فلما مات إبراهيم صارت المرتبة لسعيد بن سلم بعده.

وذكر عمر بن شبة أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كان يلقب بالجرزي، تزوج رقية بنت عمرو العثمانية - وكانت تحت المهدي - فبلغ ذلك موسى الهادي في أول خلافته، فأرسل إليه فجهله وقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين، فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي ؛ فأما غيرهن فلا ولا كرامة. فشجه بمخصرة كانت في يده، وأمر بضربه خمسمائة سوط، فضرب، وأراده أن يطلقها فلم يفعل، فحمل من بين يديه في نطع فألقى ناحية؛ وكان في يده خاتم سري فرآه بعض الخدم وقد غشي عليه من الضرب، فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح. وأتى موسى فأراه يده، فاستشاط وقال: يفعل هذا بخادمي، مع استخفافه بأبي، وقوله لي! وبعث إليه: ما حملك على ما فعلت؟ قال: قل له وسله، ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك. ففعل ذلك موسى، فصدقه الخادم، فقال: أحسن والله، أنا أشهد أنه ابن عمي؛ لو لم يفعل لانتفيت منه. وأمر بإطلاقه.

وذكر أبو إبراهيم المؤذن، أن الهادي كان يثب على الدابة وعليه درعان، وكان النهدي يسميه ريحاني.

وذكر محمد بن عطاء بن الواسطي، أن أباه حدثه أن المهدي قال لموسى يومًا - وقد قدم إليه زنديق، فاستتابه، فأبى أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبه: يا بني إن صار لك هذا الآمر فتجرد لهذه العصابة - يعني أصحاب ماني - فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن، كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجًا وتحوبًا، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين: أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور؛ فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له؛ فإني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الاثنين. قال: فقال موسى بعد أن مضت من أيامه عشرة أشهر: أما والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها حتى لا أترك منها عينًا تطرف.

ويقال: إنه أمر أن يهيأ له ألف جدع، فقال: هذا في شهر كذا، ومات بعد شهرين.

وذكر أيوب بن عنابة أن موسى بن صالح بن شيخ، حدثه أن عيسى بن دأب كان أكثر أهل الحجاز أدبًا وأعذبهم ألفاظًا؛ وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن عنده لأحد؛ وكان يدعو له بمتكأ، وما كان يفعل ذلك بأحد غيره في مجلسه. وكان يقول: ما استطلت بك يومًا ولا ليلة، ولا غبت عن عيني إلا تمنيت ألا أرى غيرك. وكان لذيذ المفاكهة طيب المسامرة، كثير النادرة، جيد الشعر حسن الانتزاع له. قال: فأمر له ذات ليلة بثلاثين ألف دينار؛ فلما أصبح ابن دأب وجه قهرمانة إلى باب موسى، وقال له: الق الحاجب، وقل له: يوجه إلينا بهذا المال، فلقي الحاجب، فأبلغه رسالته؛ فتبسم وقال: هذا ليس إلي، فانطلق إلى صاحب التوقيع ليخرج له كتابًا إلى الديوان، فتدبره هناك ثم تفعل فيه كذا وكذا. فرجع إلى ابن دأب فأخبره، فقال: دعها ولا تعرض لها، ولا تسأل عنها. قال: فبينا موسى في مستشرف له ببغداد، إذ نظر إلى دأب قد أقبل وليس معه إلا غلام واحد! فقال لإبراهيم الحراني: أما ترى ابن دأب؛ ما غير من حاله، ولا تزين لنا؛ وقد بررناه بالأمس ليرى أثرنا عليه! فقال له إبراهيم: فإن أمرني أمير المؤمنين عرضت له بشيء من هذا؛ قال: لا، هو أعلم بأمره؛ ودخل ابن دأب، فأخذ في حديثه إلى أن عرض له موسى بشيء من أمره، فقال: أرى ثوبك غسيلًا، وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد اللين، فقال: يا أمير المؤمنين، باعي قصير عما أحتاج إليه، قال: وكيف وقد صرفنا إليك من برنا ما ظننا أن فيه صلاح شأنك! قال: ما وصل إلي ولا قبضته، فدعا صاحب بيت مال الخاصة، فقال: عجل له الساعة ثلاثين ألف دينار، فأحضرت وحملت بين يديه.

وذكر علي بن محمد، أن أباه حدثه عن علي بن يقطين، قال: إني لعند موسى ليلة مع جماعة من أصحابه؛ إذ أتاه خادم فسار بشيء، فنهض سريعًا، وقال: لا تبرحوا، ومضى فأبطأ، ثم جاء وهو يتنفس، فألقى بنفسه على فراشه يتنفس ساعة حتى استراح، ومعه خادم يحمل طبقًا مغطى بمنديل، فقام بين يديه، فأقبل يرعد، فعجبنا من ذلك. ثم جلس وقال للخادم: ضع ما معك، فوضع الطبق، وقال: ارفع المنديل، فرفعه فإذا في الطبق رأسًا جاريتين؛ لم أراد والله أحسن من وجوههما قط ولا من شعورهما، وإذا على رءوسهما الجوهر منظوم على الشعر، وإذا رائحة طيبة تفوح، فأعظمنا ذلك، فقال: أتدرون ما شأنهما؟ قلنا: لا، قال: بلغنا أنهما تتحابان قد اجتمعتا على الفاحشة، فوكلت هذا الخادم بهما ينهي إلي أخبارهما، فجاءني فأخبرني أنهما قد اجتمعتا، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد على الفاحشة فقتلتهما، ثم قال: يا غلام، ارفع الرأسين قال: ثم رجع في حديثه كأنه لم يصنع شيئًا.

وذكر أبو العباس بن أبي مالك اليمامي أن عبد الله بن محمد البواب، قال: كنت أحجب الهادي خليفةً للفضل بن الربيع، قال: فإنه ذات يوم جالس وأنا في داره، وقد تغدى ودعا بالنبيذ، وقد كان قبل ذلك دخل على أمه الخيزران، فسألته أن يولي خاله الغطريف اليمن، فقال: أذكريني به قبل أن أشرب، قال: فلما عزم على الشرب وجهت إليه منيرة - أو زهرة - تذكره، فقال: اختاري له طلاق ابنته عبيدة أو ولاية اليمن، فلم تفهم إلا قوله: اختاري له فمرت، فقالت: قد اخترت له ولاية اليمن، فطلق ابنته عبيدة، فسمع الصياح، فقال: ما لكم؟ فأعلمته الخبر، فقال: أنت اخترت له، فقالت: ما هكذا أديت إلي الرسالة عنك. قال: فأمر صالحًا صاحب المصلى أن يقف بالسيف على رءوس الندماء ليطلقوا نساءهم، فخرج إلي بذلك الخدم ليعلموني ألا آذن لأحد. قال: وعلى الباب رجل واقف متلفع بطيلسانه، يراوح بين قدميه، فعن لي بيتان، فأنشدتهما وهما:

خليلي من سعد ألما فسلما ** على مريم، لا يبعد الله مريما

وقولا لها: هذا الفراق عزمته ** فهل من نوالٍ بعد ذلك فيعلما!

قال: فقال لي الرجل المتلفع بطيلسانه: فنعلما، فقلت: ما الفرق بين يعلما ونعلما؟ فقال: أنا أعلم بالشعر منك، قال: فلمن الشعر؟ قلت: للأسود بن عمارة النوفلي، فقال لي: فأنا هو؛ فدنوت منه فأخبرته خبر موسى، واعتذرت إليه من مراجعتي إياه. قال: فصرف دابته، وقال: هذا أحق منزل بأن يترك. قال مصعب الزبيري: قال أبو المعافي: أنشدت العباس بن محمد مديحًا في موسى وهارون:

يا خيزران هناك ثم هناك ** إن العباد يسوسهم إبناك

قال: فقال لي: إني أنصحك، قال اليماني: لا تذكر أمي بخير ولا بشر.

وذكر أحمد بن صالح بن أبي فنن، قال: حدثني يوسف الصقيل الشاعر الواسطي، قال: كنا عند الهادي بجرجان قبل الخلافة ودخوله بغداد، فصعد مستشرفا له حسنًا؛ فغنى بهذا الشعر:

واستقلت رجالهم ** بالرديني شرعا

فقال: كيف هذا الشعر؟ فأنشدوه، فقال: كنت أشتهي أن يكون هذا الغناء في شعر أرق من هذا، اذهبوا إلى يوسف الصقيل حتى يقول فيه، قال: فأتوني فأخبروني الخبر، فقلت:

لا تلمني أن اجزعا ** سيدس قد تمنعا

وابلائي إن كان ما ** بيننا قد تقطعا

إن موسى بفضله ** جمع الفضل أجمعا

قال: فنظر فإذا أمامه، فقال: أوقروا هذا دراهم ودنانير، واذهبوا بها إليه. قال: فأتوني بالبعير موقرًا.

وذكر محمد بن سعد، قال: حدثني أبو زهير، قال: كان ابن دأب أحظى الناس عند الهادي، فخرج الفضل بن الربيع يومًا، فقال:

إن أمير المؤمنين يأمر من بابه بالانصراف؛ فأما أنت يا بن دأب فادخل، قال ابن دأب: فدخلت عليه وهو منبطح على فراشه؛ وإن عينيه لحمراوان من السهر وشرب الليل، فقال لي: حدثني بحديث في الشراب، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت رجله من كنانة ينتجعون الخمر من الشأم، فمات أخ لأحدهم، فجلسوا عند قبره يشربون، فقال أحدهم:

لا تصرد هامةً من شربها ** أسقه الخمر وإن كان قبر

أسق أوصالًا وهامًا وصدى ** قاشعًا يقشع قشع المبتكر

كان حرًا فهوى فيمن هوى ** كل عود وفنون منكسر

قال: فدعا بدواة فكتبها، ثم كتب إلى الحراني بأربعين ألف درهم، وقال: عشرة آلاف لك، وثلاثون ألفًا للثلاثة الأبيات. قال: فأتيت الحراني، فقال: صالحنا على عشرة آلاف، على أنك تحلف لنا ألا تذكرها لأمير المؤمنين، فحلفت ألا أذكرها لأمير المؤمنين، حتى يبدأني، فمات ولم يذكرها حتى أفضت الخلافة إلى الرشيد.

وذكر أبو دعامة أن سلم بن عمرو الخاسر مدح موسى الهادي، فقال:

بعيساباذ حر من قريش ** على جنباته الشرب الرواء

يعوذ المسلمون بحقوتيه ** إذا ما كان خوف أو رجاء

وبالميدان دور مشرفات ** يشيدهن قوم أدعياء

وكم من قائلٍ إني صحيح ** وتأبه الخلائق والرواء

له حسب يضن به ليبقى ** وليس لما يضن به بقاء

على الضبي لؤم ليس يخفي ** يغطيه فينكشف الغطاء

لعمري لو أقام أبو خديج ** بناء الدار ما انهدم البناء

قال: وقال سلم الخاسر لما تولى الهادي الخلافة بعد المهدي:

لقد فاز موسى بالخلافة والهدى ** ومات أمير المؤمنين محمد

فمات الذي عم البرية فقده ** وقام الذي يكفيك من يتفقد

وقال أيضًا:

تخفى الملوك لموسى عند طلعته ** مثل النجوم لقرن الشمس إذ طلعا

وليس خلق يرى بدرًا وطلعته ** من البرية إلا ذل أو خضعا

وقال أيضًا:

لولا الخليفة موسى بعد والده ** ما كان للناس من مهديهم خلف

ألا ترى أمة الأمى واردةً ** كأنها من نواحي البحر تغترف

من راحتي ملك قد عم نائله ** كأنه نائله من جوده سرف

وذكر إدريس بن أبي حفصة أن مروان بن أبي حفصة حدثه، قال: لما ملك موسى الهادي دخلت عليه فأنشدته:

إن خلدت بعد الاٍمام محمد ** نفسي لما فرحت بطول بقائها

قال: ومدحت فقلت فيه:

بسبعين ألفًا شد ظهري وراشني ** أبوك وقد عاينت من ذاك مشهدا

وإني أمير المؤمنين لواثق ** بألا يرى شربي لديك مصردا

فلما أنشدته قال: ومن يبلغ مدى المهدي! ولكنا سنبلغ رضاك. قال: وعاجلته المنية فلم يعطني شيئًا، ولا أخذت من أحد درهمًا حتى قام الرشيد.

وذكر هارون بن موسى الفروي، قال: حدثني أبو غزية، عن الضحاك بن معن السلمي، قال: دخلت على موسى فأنشدته:

يا منزلي شجو الفؤاد تكلما ** فلقد أرى بكما الرباب وكلثما

ما منزلان على التقادم والبلى ** أبكي لما تحت الجوانح منكما

ردا السلام على كبير شاقة ** طللان قد درسا فهاج فسلما

قال: ومدحته فيها، فلما بلغت:

سبط الأنامل بالفعال أخاله ** أن ليس يتركفي الخزائن درهمًا

التفت إلى أحمد الخازن، فقال: ويحك يا أحمد! كأنه نظر إلينا البارحة، قال: وكان قد أخرج تلك الليلة مالًا كثيرًا ففرقه.

وذكر عن إسحاق الموصلي - أو غيره - عن إبراهيم، قال: كنا يوما عند موسى، وعنده ابن جامع ومعاذ بن الطيب - وكان أول يوم دخل علينا معاذ؛ حاذقًا بالأغاني، عارفًا بقديمها - فقال: من أطربني منكم فله حكمه؛ فغناه ابن جامع غناءً فلم يحركه، وفهمت غرضه في الأغاني، فقال هات يا إبراهيم، فغنيته:

سليمى أجمعت بينا ** فأين تقولها أينا!

فطرب حتى قام من مجلسه، ورفع صوته، وقال: أعد، فأعدت، فقال: هذا غرضي فاحتكم، فقلت يا أمير المؤمنين، حائط عبد الملك وعينه الخرارة، فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان، ثم قال: يا بن اللخناء، أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني وأني حكمتك فأقطعتك! أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك لضربت الذي فيه عيناك. ثم أطرق هنيهة، فرأيت ملك الموت بيني وبينه ينتظر أكره. ثم دعا إبراهيم الحراني فقال: خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت المال، فليأخذ منه ما شاء، فأدخلني الحراني بيت المال، فقال: كم تأخذ؟ قلت: ماءة بدرة، قال: دعني أؤامره، قال: قلت: فثمانين، قال: حتى أؤامره، فعملت ما أراد، فقلت: سبعين بدرة لي، وثلاثين لك، قال: الآن جئت بالحق، فشأنك. فانصرفت بسبعمائة ألف وانصرف ملك الموت عن وجهي.

وذكر علي بن محمد، قال: حدثني صالح بن علي بن عطية الأضخم عن حكم الوادي، قال كان الهادي يشتهي من الغناء الوسط الذي يقل ترجيعه، ولا يبلغ أن يستخف به جدًا. قال: فبينا نحن ليلة عنده، وعنده ابن جامع والموصلي والزبير بن دحمان والغنوي إذ دعا بثلاث بدور وأمر بهن فوضعن في وسط المجلس، ثم ضم بعضهن إلى بعض، وقال: من غنائي صوتًا في الطريق الذي أشتهيه، فهن له كلهن. قال: وكان فيه خلق حسن؛ كان إذا كره شيئًا لم يوقف عليه، وأعرض عنه. فغناه ابن الجامع، فأعرض عنه، وغنى القوم كلهم؛ فأقبل يعرض حتى تغنيت، فوافقت ما يشتهي فصاح أحسنت أحسنت! اسقوني، فشرب وطرب، فقمت فجلست على البدور، وعلمت أني قد حويتها، فحضر ابن جامع، فأحسن المحضر، وقال: يا أمير المؤمنين، هو والله كما قلت، وما منا أحد إلا وقد ذهب عن طريقك غيره، قال: هي لك، وشرب حتى بلغ حاجته على الصوت، ونهض، فقال: مروا ثلاثة من الفراشين يحملونها معه، فدخل وخرجنا نمشي في الصحن منصرفين، فلحقني ابن جامع، فقلت: جعلت فداك يا أبا القاسم! فعلت ما يفعل مثلك في نسبك؛ فانظر فيها بما شئت. فقال: هنأك الله، ووددنا أنا زدناك. ولحقنا الموصلي، فقال: أجزنا، فقلت: ولم لم تحسن محضرك! لا والله ولا درهمًا واحدًا.

وذكر محمد بن عبد الله، قال: قال لي سعيد القارئ العلاف - وكان صاحب أبان القارئ -: إنه كان عند موسى جلساؤه، فيهم الحراني وسعيد بن سلم وغيرهما؛ وكانت جارية لموسى تسقيهم؛ وكانت ماجنةً، فكانت تقول لهذا: يا جلفي؛ وتعبث بهذا وهذا؛ ودخل يزيد بن مزيد فسمع ما تقول لهم، فقال لها: والله الكبير؛ لئن قلت لي مثل ما تقولين لهم لأضربنك ضربة بالسيف، فقال لها موسى: ويلك! إنه والله يفعل ما يقول؛ فإياك. قال: فأمسكت عنه ولم تعابثه قط. قال: وكان سعيد العلاف وأبان القارئ إباضيين.

وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود الكاتب، قال: حدثني ابن القداح، قال: كانت للربيع جارية يقال لها أمة العزيز، فائقة الجمال، ناهدة الثديين، حسنة القوام، فأهداها لإلى المهدي، فلما رأى جمالها وهيئتها، قال: هذه لموسى أصلح، فوهبها له؛ فكانت أحب الخلق إليه، وولدت له بنيه الأكابر. ثم إن بعض أعداء الربيع قال لموسى: إنه سمع الربيع يقول: ما وضعت بيني وبين الأرض مثل أمة العزيز، فغار موسى من ذلك غيرة شديدة، وحلف ليقتلن الربيع، فلما استخلف دعا الربيع في بعض الأيام، فتغدى معه وأكرمه، وناوله كأسًا فيها شراب عسل؛ قال: فقال الربيع: فعلمت أن نفسي فيها، وأني إن رددت الكأس ضرب عنقي؛ مع ما قد علمت أن في قلبه علي من دخولي على أمه، وما بلغه عني، ولم يسمع مني عذرًا. فشربتها. وانصرف الربيع إلى منزله، فجمع ولده، وقال لهم: إني ميت في يومي هذا أو من غد، فقال له ابنه الفضل: ولم تقول هذا جعلت فداك! فقال: إن موسى سقاني شربة سم بيده، فأنا أجد عملها في بدني، ثم أوصى بما أراد، ومات في يومه أو من غده. ثم تزوج الرشيد أمة العزيز بعد موت موسى الهادي، فأولدها علي بن الرشيد.

وزعم الفضل بن سليمان بن إسحاق الهاشمي أن الهادي لما تحول إلى عيساباذ في أول السنة التي ولي الخلافة فيها، عزل الربيع عما كان يتولاه من الوزارة وديوان الرسائل، وولى مكانه عمر بن بزيع، وأقر الربيع على الزمام؛ وأوذن بموته فلم يحضر جنازته، وصلى عليه هارون الرشيد؛ وهو يومئذ ولي عهد، وولى موسى مكان الربيع إبراهيم بن ذكوان الحراني، واستخلف على ما تولاه إسماعيل بن صبيح، ثم عزله واستخلف يحيى بن سليم، وولى إسماعيل زمام ديوان الشام وما يليها.

وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، خال الفضل بن الربيع، أن أباه حدثه، أن موسى الهادي قال: أريد قتل الربيع؛ فما أدري كيف أفعل به! فقال له سعيد بن سلم: تأمر رجلًا باتخاذ سكين مسموم، وتأمره بقتله، ثم تأمر بقتل ذلك الرجل. قال: هذا الرأي، فأمر رجلًا فجلس له في الطريق، وأمره بذلك، فخرج بعض خلفاء الربيع، فقال له: إنه قد أمر فيك بكذا وكذا، فأخذ في غير ذلك الطريق، فدخل منزله، فتمارض، فمرض بعد ذلك ثمانية أيام؛ فمات ميتة نفسه.

وكانت وفاته سنة تسع وستين ومائة؛ وهو الربيع بن يونس.

خلافة هارون الرشيد

بويع للرشيد هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة ليلة الجمعة الليلة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي. وكانت سنة يوم ولي اثنتين وعشرين سنة. وقيل كان يوم بويع بالخلافة ابن إحدى وعشرين سنة. وأمه أم ولد يمانية جرشية يقال لها خيزران، وولد بالري لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة في خلافة المنصور.

وأما البرامكة فإنها - فيما ذكر - تزعم أن الرشيد ولد أول يوم من المحرم سنة تسع وأربعين ومائة؛ وكان الفضل بن يحيى ولد قبله بسبعة أيام، وكان مولد الفضل لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة، فجعلت أم الفضل ظئرًا للرشيد، وهي زينب بنت منير، فأرضعت الرشيد بلبان الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد.

وذكر سليمان بن أبي شيخ أنه لما كان الليلة التي توفي فيها موسى الهادي أخرج هرثمة بن أعين هارون الرشيد ليلًا فأقعده للخلافة، فدعا هارون يحيى بن خالد بن برمك - وكان محبوسًا، وقد كان عزم موسى على قتله وقتل هارون الرشيد في تلك الليلة - قال: فحضر يحيى، وتقلد الوزارة، ووجه إلى يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب فأحضره، وأمره بإنشاء الكتب؛ فلما كان غداة تلك الليلة، وحضر القواد قام يوسف بن القاسم، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ، ثم تكلم بكلام أبلغ فيه، وذكر موت موسى وقيام هارون بالأمر من بعده، وما أمر به للناس من الأعطيات.

وذكر أحمد بن القاسم، أنه حدثه عمه علي بن يوسف بن القاسم هذا الحديث، فقال: حدثني يزيد الطبري مولانا أنه كان حاضرًا يحمل دواة أبي يوسف بن القاسم، فحفظ الكلام. قال: قال بعد الحمد لله عز وجل والصلاة على النبي :

إن الله بمنه ولطفه من عليكم معاشر أهل بيت نبيه بيت الخلافة ومعدن الرسالة، وأتاكم أهل الطاعة من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضي مدى الأبد، وأياديه التامة، أن جمع ألفتكم وأعلى أمركم، وشد عضدكم، وأوهن عدوكم، وأظهر كلمة الحق؛ وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزكم الله وكان الله قويًا عزيزًا؛ فكنتم أنصار دين الله المرتضى والذابين بسيفه المنتضى؛ عن أهل بيت نبيه . وبكم استنقذكم من أيدي الظلمة، أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء، والمستأثرين به؛ فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيروا فيغير بكم. وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام، فقبضه إليه، وولى بعده رشيدًا مرضيًا أمير المؤمنين رءوفًا بكم رحيمًا، من محسنكم قبولًا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفًا؛ وهو - أمتعه الله بالنعمة وحفظ له ما اترعاه إياه من أمر الأمة، وتولاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته - يعدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم. وقسم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم، ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء مما في بيوت الأموال ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرًا، غير مقاص لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم، وحامل باقي ذلك؛ للدفع عن حريمكم، وما لعله أن يحدث في النواحي والأقطار من العصاة المارقين إلى بيوت الأموال؛ حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها، والحال التي كانت عليها؛ فاحمدوا الله وجددوا شكرًا يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم؛ بما جدد لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، أيده الله بطاعته. وارغبوا إلى الله له في البقاء؛ ولكم به في إدامة النعماء، لعلكم ترحمون. وأعطوا صفقة أيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم، حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين.

وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدثني محمد بن هشام المخزومي، قال: جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهو نائم في لحاف بلا إزار؛ لما توفي موسى، فقال: قم يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: كم تروعني إعجابًا منك بخلافتي! وأنت تعلم حالي عند هذا الرجل؛ فإن بلغه هذا، فما تكون حالي! فقال له: هذا الحراني وزير موسى وهذا خاتمه. قال: فقعد في فراشه، فقال: أشر علي، قال: فبينما هو يكلمه إذ طلع رسول آخر، فقال: قد ولد لك غلام، فقال: قد سميته عبد الله، ثم قال ليحيى: أشر علي، فقال: أشير عليك أن تقعد لحالك على أرمينية، قال: قد فعلت؛ ولا والله لا صليت بعيساباذ إلا عليها، ولا صليت الظهر إلا ببغداد؛ وإلا ورأس أبي عصمة بين يدي. قال: ثم لبس ثيابه، وخرج فصلى عليه، وقدم أبا عصمة، فضرب عنقه، وشط جمته في رأس قناة، ودخل بها بغداد؛ وذلك أنه كان مضى هو وجعفر بن موسى الهادي راكبين. فبلغا إلى قنطرة من قناطر عيساباذ، فالتفت أبو عصمة إلى هارون، فقال له: مكانك حتى يجوز ولي العهد، فقال هارون: السمع والطاعة للأمير؛ فوقف حتى جاز جعفر؛ فكان هذا سبب قتل أبي عصمة.

قال: ولما صار الرشيد إلى كرسي الجسر دعا بالغواصين، فقال: كان المهدي وهب لي خاتمًا شراؤه مائة ألف دينار يسمى الجبل، فدخلت على أخي وهو في يدي؛ فلما انصرفت لحقني سليم الأسود على الكرسي. فقال: يأمرك أمير المؤمنين أن تعطيني الخاتم، فرميت به في هذا الموضع. فغاصوا فأخرجوه، فسر به غاية السرور.

وقال محمد بن إسحاق الهاشمي: حدثني غير واحد من أصحابنا، منهم صباح بن خاقان التميمي، أن موسى الهادي كان خلع الرشيد وبايع لابنه جعفر؛ وكان عبد الله بن مالك على الشرط، فلما توفي الهادي هجم خزيمة بن خازم في تلك الليلة، فأخذ جعفرًا من فراشه؛ وكان خزيمة في خمسة آلاف من مواليه معهم السلاح، فقال: والله لأضربن عنقك أو تخلعها، فلما كان الغد، ركب الناس إلى باب جعفر، فأتى به خزيمة، فأقامه على باب الدار في العلو، والأبواب مغلقة، فأقبل جعفر ينادي: يا معشر المسلمين، من كان لي في عنقه بيعة فقد أحللته منها؛ والخلافة لعمي هارون؛ ولا حق لي فيها.

وكان سبب مشي عبد الله بن مالك الخزاعي إلى مكة على اللبود؛ لأنه كان شاور الفقهاء في أيمانه التي حلف بها لبيعة جعفر، فقالوا له:

كل يمين لك تخرج منها إلا المشي إلى بيت الله؛ ليس فيه حيلة. فحج ماشيًا. وحظي خزيمة بذلك عند الرشيد.

وذكر أن الرشيد كان ساخطًا على إبراهيم الحراني وسلام الأبرش يوم مات موسى، فأمر بحبسهما وقبض أموالهما، فحبس إبراهيم عند يحيى بن خالد في داره، فكلم فيه محمد بن سليمان هارون، وسأله الرضا عنه وتخلية سبيله، والإذن له في الانحدار معه إلى البصرة، فأجابه إلى ذلك.

وفي هذه السنة عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن مدينة الرسول ؛ وما كان إليه من عملها، وولى ذلك إسحاق بن سليمان بن علي.

وفيها ولد محمد بن هارون الرشيد، وكان مولده - فيما ذكر أبو الكرماني عن محمد بن يحيى بن خالد - يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال من هذه السنة، وكان مولد المأمون قبله في ليلة الجمعة النصف من شهر ربيع الأول.

وفيها قلد الرشيد يحيى بن خالد الوزارة، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. ودفع إليه خاتمه؛ وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:

ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ** فلما ولي هارون أشرق نورها

بيمن أمين الله هارون ذي الندى ** فهارون واليها ويحيى وزيرها

وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحيى يعرض عليها ويصدر عن رأيها.

وفيها أمر هارون بسهم ذوي القربى، فقسم بين بني هاشم بالسوية.

وفيها آمن من كان هاربًا أو مستخفيًا، غير نفر من الزنادقة؛ منهم يونس بن فروة ويزيد بن الفيض.

وكان ممن ظهر من الطالبيين طبابا؛ وهو إبراهيم بن إسماعيل، وعلي بن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن.

وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيزًا واحدًا وسميت العواصم.

وفيها عمرت طرسوس على يدي أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس.

وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد من مدينة السلام، فأعطى أهل الحرمين عطاء كثيرًا، وقسم فيهم مالًا جليلًا.

وقد قيل: إنه حج في هذه السنة وغزا فيها، وفي ذلك يقول داود بن رزين:

بهارون لاح النور في كل بلدة ** وقام به في عدل سيرته النهج

إمام بذات الله أصبح شغله ** وأكثر ما يعني به الغزو والحج

تضيق عيون الناس عن نور وجهه ** إذا ما بدا للناس منظره البلج

وإن أمين الله هارون ذا الندى ** ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو

وغزا الصائفة في هذه السنة سليمان بن عبد الله البكائي.

وكان العامل فيها على المدينة إسحاق بن سليمان الهاشمي، وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم، وعلى الكوفة موسى بن عيسى، وخليفته عليها ابنه العباس بن موسى، وعلى البصرة والبحرين والفرض وعمان واليمامة وكور الأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فما كان فيها من ذلك قدوم أبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي مدينة السلام منصرفًا عن خراسان، وكان خاتم الخلافة حين قدم مع جعفر بن محمد بن الأشعث، فلما قدم أبو العباس الطوسي أخذه الرشيد منه، فدفعه إلى أبي العباس، ثم لم يلبث أبو العباس إلا يسيرًا حتى توفي. فدفع الخاتم إلى يحيى بن خالد، فاجتمعت ليحيى الوزارتان.

وفيها قتل هارون أبا هريرة محمد بن فروخ - وكان على الجزيرة - فوجه إليه هارون أبا حنيفة حرب بن قيس، فقدم به عليه مدينة السلام، فضرب عنقه في قصر الخلد.

وفيها أمر هارون بإخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين إلى مدينة الرسول ، خلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن علي بن أبي طالب، وكان أبوه الحسن بن عبد الله فيمن أشخص.

وخرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبو خالد المروروذي.

وفي هذه السنة كان قدوم روح بن حاتم إفريقية، وخرجت في هذه السنة الخيزران إلى مكة في شهر رمضان، فأقامت بها إلى وقت الحج فحجت.

وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس.

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك شخوص الرشيد فيها إلى مرج القلعة مرتادًا بها منزلا ينزله.

ذكر السبب في ذلك

ذكر أن الذي دعاه إلى الشخوص إليها أنه استثقل مدينة السلام، فكان يسميها البخار، فخرج إلى مرج القلعة، فاعتل بها، فانصرف، وسميت تلك السفرة سفرة المرتاد.

وفيها عزل الرشيد يزيد بن مزيد عن إرمينية، وولاها عبيد الله بن المهدي.

وغزا الصائفة فيها إسحاق بن سليمان بن علي.

وحج بالناس في هذه السنة يعقوب بن أبي جعفر المنصور.

وفيها وضع هارون عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر الخبر عن وفاة سليمان

فمن ذلك وفاة محمد بن سليمان بالبصرة، لليال بقين من جمادى الآخرة منها.

وذكر أنه لما مات محمد بن سليمان وجه الرشيد إلى كل ما خلفه رجلًا أمره باصطفائه، فأرسل إلى ما خلف من الصامت من قبل صاحب بيت ماله رجلًا، وإلى الكسوة بمثل ذلك، وإلى الفرش والرقيق والدواب من الخيل والإبل، وإلى الطيب والجوهر وكل آلة برجلٍ من قبل الذي يتولى كل صنف من الأصناف، فقدموا البصرة، فأخذوا جميع ما كان لمحمد مما يصلح للخلافة، ولميتركوا شيئًا إلا الحرثي الذي لا يصلح للخلفاء، وأصابوا له ستين ألف ألف فحملوها مع ما حمل، فلما صارت في السفن أخبر الرشيد بمكان السفن التي حملت ذلك؛ فأمر أن يدخل جميع ذلك خزائنه إلا المال؛ فإنه أمر بصكاك فكتب للندماء، وكتب للمغنين صكاك صغار لم تدر في الديوان، ثم دفع إلى كل رجل صكًا بما رأى أن يهب له، فأرسلوا وكلاءهم إلى السفن، فأخذوا المال على ما أمر لهم به في الصكاك أجمع؛ لم يدخل منه بيت ماله دينار ولا درهم، واصطفى ضياعه؛ وفيها ضيعة يقال لها برشيد بالأهواز لها غلة كثيرة.

وذكر علي بن محمد، عن أبيه، قال: لما مات محمد بن سليمان أصيب في خزانة لباسه مذ كان صبيًا في الكتاب إلى أن مات مقادير السنين؛ فكان من ذلك ما عليه آثار النقش. قال: وأخرج من خزائنه ما كان يهدى له من بلاد السند ومكران وكرمان وفارس والأهواز واليمامة والري وعمان؛ من الألطاف والأدهان والسمك والحبوب والجبن، وما أشبه ذلك، ووجد أكثره فاسدًا. وكان من ذلك خمسمائة كنعدة ألقيت من دار جعفر ومحمد في الطريق؛ فكانت بلاء. قال: فمكثنا حينًا لا نستطيع أن نمر بالمربد من نتنها.

ذكر وفاة الخيزران أم الهادي والرشيد

وفيها توفيت الخيزران أم هارون الرشيد وموسى الهادي.

ذكر الخبر عن وقت وفاتها

ذكر يحيى بن الحسن أن أباه حدثه، قال: رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران، وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائة، وعليه جبة سعيدية وطيلسان خرق أزرق، قد شد به وسطه، وهو آخذ بقائمة السرير حافيًا يعدو في الطين؛ حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه، ثم دعا بخف وصلى عليها، ودخل قبرها، فلما خرج من المقبرة وضع له كرسي فجلس عليه، ودعا الفضل بن الربيع، فقال له: وحق المهدي - وكان لا يحلف بها إلا إذا اجتهد - إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي فأطيع أمرها، فخذ الخاتم من جعفر. فقال الفضل بن الربيع لإسماعيل بن صبيح: أنا أجل أبا الفضل عن ذلك؛ بأن أكتب إليه وآخذه؛ ولكن إن رأى أن يبعث به! قال وولى الفضل نفقات العامة والخاصة وباد وريا والكوفة، وهي خمسة طساسيج، فأقبلت حاله تنمي إلى سنة سبع وثمانين ومائة.

وقيا إن وفاة محمد بن سليمان والخيزران كانت في يوم واحد.

وفيها أقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان، وولاها ابنه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث.

وحج بالناس فيها هارون؛ وذكر أنه خرج محرمًا من مدينة السلام.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان بالشام من العصبية فيها.

وفيها ولى الرشيد إسحاق بن سليمان الهاشمي السند ومكران.

وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبي يوسف، وأبوه حي.

وفيها هلك روح بن حاتم.

وفيها خرج الرشيد إلى باقردى وبازبدى، وبنى بباقردى قصرًا، فقال الشاعر في ذلك:

بقردى وبازبدى مصيف ومربع ** وعذب يحاكي السلسبيل برود

وبغداد، ما بغداد، أما ترابها ** فخرء، وأما حرها فشديد

وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح.

وحج بالناس فيها هارون الرشيد، فبدأ بالمدينة، فقسم في أهلها مالًا عظيمًا، ووقع الوباء في هذه السنة بمكة، فأبطأ عن دخولها هارون، ثم دخلها يوم التروية، فقضى طوافه وسعيه ولم ينزل بمكة.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر الخبر عن البيعة للأمين

فمن ذلك عقد الرشيد لابنه محمد بمدينة السلام من بعده ولاية عهد المسلمين وأخذه بيعة القواد والجند، وتسميته إياه الأمين، وله يومئذ خمس سنين، فقال سلم الخاسر:

قد وفق الله الخليفة إذ بنى ** بيت الخليفة للهجان الأزهر

فهو الخليفة عن أبيه وجده ** شهدًا عليه بمنظر وبمخبر

قد بايع الثقلان في مهد الهدى ** لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر

ذكر الخبر عن سبب بيعة الرشيد له

وكان السبب في ذلك - فيما ذكر روح مولى الفضل بن يحيى، فقال له: أنشدك الله لما عملت في البيعة لابن أختي - يعني محمد بن زبيدة بنت جعفر بن المنصور - فإنه ولد لك وخلافته لك، فوعده أن يفعل، وتوجه الفضل على ذلك؛ وكانت جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد؛ لأنه لم يكن له ولي عهد؛ فلما بايع له، أنكروا بيعته لصغر سنه.

قال: وقد كان الفضل لما تولى خراسان أجمع على البيعة لمحمد؛ فذكر محمد بن الحسين بن مصعب أن الفضل بن يحيى لما صار إلى خراسان، فرق فيهم أموالًا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد؛ فبايع الناس له وسماه الأمين، فقال في ذلك النمري:

أمست بمرو على التوفيق قد صفقت ** على يد الفضل أيدي العجم والعرب

ببيعة لولي العهد أحكمها ** بالنصح منه وبالاٍشفاق والحدب

قد وكد الفضل عقدًا لا انتقاض له ** لمصطفى من بني العباس منتخب

قال: فلما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهل المشرق، بايع لمحمد، وكتب إلى الآفاق، فبويع له في جميع الأمصار، فقال أبان اللاحقي في ذلك:

عزمت أمير المؤمنين على الرشد ** برأي هدى، فالحمد لله ذي الحمد

وعزل فيها الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر، وولاها خاله الغطريف ابن عطاء.

وفيها صار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم، فتحرك هناك.

وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بن صالح فبلغ إقريطية. وقال الوافدي: الذي غزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بن صالح، قال: وأصابهم في هذه الغزاة برد قطع أيديهم وأرجلهم.

وحج بالناس فيها هارون الرشيد.

ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من تولية الرشيد الفضل بن يحيى كور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وإرمينية وأذربيجان. وفيها ظهر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالديلم.

ذكر الخبر عن مخرج يحيى بن عبد الله وما كان من أمره

ذكر أبو حفص الكرماني، قال: كان أول خبر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه ظهر بالديلم، واشتدت شوكته، وقوي أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكور، فاغتنم لذلك الرشيد، ولم يكن في تلك الأيام يشرب النبيذ، فندب إيه الفضل بن يحيى في خمسين ألف رجل، ومعه صناديد القواد، وولاه كور الري وجرجان وطبرستان وقومس ودنباوند والرويان، وحملت معه الأموال، ففرق الكور على قواده، فولى المثنى بن الحجاج بن قتيبة بن مسلم طبرستان، وولى علي بن الحجاج الخزاعي جرجان، وأمر له بخمسمائة ألف درهم، وعسكر بالنهرين، وامتدحه الشعراء، فأعطاهم أكثر، وتوسل إليه الناس بالشعر، ففرق فيهم أموالا كثيرة. وشخص الفضل بن يحي، واستحلف منصور بن زياد بباب أمير المؤمنين، تجري كتبه على يديه، وتنفذ الجوابات عنها إليه، وكنوا يثقون بمنصور وابنه في جميع أمورهم؛ لقديم صحبته لهم، وحرمته بهم. ثم مضى من معسكره، فلم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبر واللطف والجوائز والخلع؛ فكاتب يحيى ورفق به واستماله، وناشده وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله. ونزل الفضل بطالقان الري ودستبي بموضع يقال له أشب؛ وكان شديد البرد كثير الثلوج؛ ففي ذلك يقول أبان بن عبد الحميد اللاحقي:

لدور أمس بالدولا ** ب حيث السيب ينعرج

أحب إلي من دور ** أشب إذا هم ثلجوا

قال: فأقام الفضل بهذا الموضع، وواتر كتبه على يحي، وكاتب صاحب الديلم، وجعل له ألف ألف درهم؛ على أن يسهل له خروج يحيى إلى ما قبله، وحملت إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج على يديه، على أن يكتب له الرشيد أمانًا بخطه على نسخة يبعث بها إليه. فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وعظم موقعه عنده، وكتب أمانًا ليحي بن عبد الله، وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بي هاشم ومشايخهم؛ منهم عبد الصمد بن علي والعباس ابن محمد ومحمد بن إبراهيم وموسى بن عيسى ومن أشبههم، ووجه به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بن عبد الله عليه، وورد به الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى له أرزاقًا سنية، وأنزله منزلا سريًا بعد أن أقام في منزل يحيى بن خالد أيامًا، وكان يتولى أمره بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه بعد انتقاله من منزل يحيى والتسليم عليه، وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل؛ ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:

ظفرت فلا شلت يد برمكية ** رتقت بها الفتق الذي بين هاشم

على حين أعيا الراتقين التئامه ** فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم

فأصبحت قد فازت يداك بخطة ** من المجد باق ذكرها في المواسم

وما زال قدح الملك يخرج فائزًا ** لكم كلما ضمت قداح المساهم

قال: وأنشدني أبو ثمامة الخطيب لنفسه فيه:

للفضل يوم الطالقان وقبله ** يوم أناخ به على خاقان

ما مثل يوميه اللذين تواليا ** في غزوتين توالتا يومان

سد الثغور ورد ألفة هاشم ** بعد الشتات، فشعبها متدان

عصمت حكومته جماعة هاشم ** من أن يجرد بينها سيفان

تلك الحكومة لا التي عن لبسها ** عظم النبأ وتفرق الحكمان

فأعطاه الفضل مائة ألف درهم، وخلع عليه، وتغنى إبراهيم به.

وذكر أحمد بن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: لما قدم يحيى بن عبد الله من الديلم أتيته، وهو في دار علي بن أبي طالب، فقلت: يا عم، ما بعدك مخبر ولا بعدي مخبر؛ فأخبرني خبرك، فقال: يا ابن أخي، والله إن كنت إلا كما قال يحيى ابن خطب:

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ** ولكنه من يخذل الله يخذل

لجاهد حتى أبلغ النفس حمدها ** وقلل يبغي العز كل مقلل

وذكر الضبي أن شيخًا من النوفليين، قال: دخلنا على عيسى بن جعفر، وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض؛ وهو قائم متكئ عليها؛ وإذا هو يضحك من شيء في نفسه، متعجبًا منه، فقلنا ما الذي يضحك الأمير أدام لله سروره! قال: لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قط، فقلنا تمم الله للأمير سروره، وزاده سرورًا. فقال: والله لا أحدثكم به إلا قائمًا - واتكأ على الفراش وهو قائم - فقال: كنت اليوم عد أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بن عبد الله، فأخرج من السجن مكبلًا في الحديد، وعنده بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير - وكان بكار شديد البغض لآل أبي طالب، وكان يبلغ هارون عنهم، ويسئ بأخبارهم، وكان الرشيد ولاه المدينة، وأمره بالتضييق عليهم - قال: فلما دعي بيحيى قال له الرشيد: هيه هيه! متضاحكًا؛ وهذا يزعم أيضًا أنا سممناه! فقال يحي: ما معنا يزعم؟ ها هو ذا لساني - قال: وأخرج لسانه أخضر مثل السلق - قال: فتربد هارون! واشتد غضبه، فقال يحي: يا أمير المؤمنين؛ إن لنا قرابة ورحمًا، لسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين؛ إنا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكرك الله وقرابتنا من رسول الله ! علام تحبسني وتعذبني؟ فال: فرق له هارون، وأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا؛ فإنه شاق عاصي؛ وإنما هذا منه مكر وخبث؛ إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان. قال: فأقبل يحيى عليه؛ فوالله ما استأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قال: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم عافاكم الله! قال الزبيري: هذا كلامه قدامك؛ فكيف إذا غاب عنك! يقول: ومن أنتم! استخفافًا بنا. قال: فأقبل عليه يحي، فقال: نعم، ومن انتم عافاكم الله! المدينة كانت مهاجر عبد الله ابن الزبير أم مهاجر رسول الله ؟ ومن أنت حتى تقول: أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي هذا هاجر أبوك إلى المدينة. ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إنما الناس نحن وانتم؛ فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا؛ فوجدنا بذلك مقالًا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالًا فينا؛ فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل. يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك؛ يسعى بهم عندك! إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحةً منهلك؛ وإنه يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا؛ إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض. والله يا أمير المؤمنين؛ لقد جاء إلي هذا حيث قتل أخي محمد بن عبد الله، فقال: لعن الله قاتله! وأنشدني فيه مرثيةً قالها نحوًا من عشرين بيتًا وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك! قال: فتغير وجه الزبيري وأسود، فأقبل عليه هارون، فقال: أي شئ يقول هذا؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين؛ ما كان مما قال حرف قال: فأقبل على يحيى بن عبد الله، فقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله! قال: فأنشدها إياه، فقال الزبيري: والله يا أمير المؤمنين الذي لا إله إلا هو - حتى أتى على آخر اليمين الغموس - ما كان مما قاله شيء؛ ولقد تقول علي ما لم أقل. قال: فأقبل الرشيد على يحيى ابن عبد الله، فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه المرثية منه؟ قال: لا يا أمير المؤمنين؛ ولكن أستحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال: فأقبل على الزبيري، فقال: قل: أن بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، إن كنت قلته. فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو، ويستحلفني بشيء لا ادري ما هو! قال يحيى بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقًا فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به! فقال له هارون: احلف له ويلك! قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلي حولي وقوتي؛ قال: فاضرب منها وأرعد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها، وقد حلفت له بالله العظيم اعظم الأشياء! قال: فقال هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته، موكل إلي حولي وقوتي إن كنت قلته. قال: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج، فمات من ساعته.

قال: فقال عيسى بن جعفر: والله ما يسرني أن يحيى نقصه حرفًا مما كان جرى بينهما، ولا قصر في شيء من مخاطبته إياه.

قال: وأما الزبيريون فيزعمون أن امرأته قتلته؛ وهي من ولد عبد الرحمن بن عوف.

وذكر إسحاق بن محمد النخعي أن الزبير بن هشام حدثه عن أبيه، أن بكار بن عبد الله تزوج امرأةً من ولد عبد الرحمن بن عوف، وكان له من قلبها موضع، فاتخذ عليها جارية، وأغارها؛ فقالت لغلامين له زنجيين: أنه قد أراد قتلكما هذا الفاسق - ولاطفتهما - فتعاوناني على قتله؟ قالا: نعم، فدخلت عليه وهو نائم، وهما جميعًا معها، فقعدا على وجهه حتى مات. قال: ثم إنها سقتها نبيذًا حتى تهوعا حول الفراش، ثم أخرجتهما ووضعت عند رأسه قنينة؛ فلما أصبح اجتمع أهله، فقالت: سكر فقاء فشرق فمات. فأخذ الغلامان؛ فضربا ضربًا مبرحًا، فأقرا بقتله، وأنها أمرتهما بذلك؛ فأخرجت من الدار ولم تورث.

وذكر أبو الخطاب أن جعفر بن يحيى بن خالد حدثه ليلة وهو في سمره، قال: دعا الرشيد اليوم بيحيى بن عبد الله بن حسن، وقد أحضره أبو البختري القاضي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بن الحسن: ما تقول في هذا الأمان؟ أصحيح هو؟ قال: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن: ما تصنع للأمان؟ لو كان محاربًا ثم ولى كان آمنًا. فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري: هذا منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة؛ وأنت أعلم بذلك؛ فمزق الأمان، وتفل فيه أبو البختري - وكان بكار بن عبد الله بن مصعب حاضرًا المجلس - فأقبل على يحيى بن عبد الله بوجهه، فقال: شققت العصا، وفارقت الجماعة، وخالفت كلمتنا، وأردت خليفتنا؛ وفعلت بنا وفعلت. فقال يحيى: ومن أنتم رحمكم الله! قال جعفر: فوالله ما تمالك الرشيد أن ضحك ضحكًا شديدًا. قال: وقام يحيى ليمضي إلى الحبس، فقال له الرشيد: انصرف، أما ترون به أثر علة! هذا الآن إن مات قال للناس: سموه. قال يحيى: كلا ما زلت عليلًا منذ كنت في الحبس؛ وقبل ذلك أيضًا كنت عليلًا. قال أبو الخطاب: فما مكث يحيى بعد هذا إلا شهرًا حتى مات.

وذكر أبو يونس إسحاق بن إسماعيل، قال: سمعت عبد الله بن العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي، الذي يعرف بالخطيب، قال: كنت يومًا على باب الرشيد أنا وأبي، وحضر ذلك اليوم من الجند والقواد ما لم أر مثلهم على باب خليفة قبله ولا بعده، قال: فخرج الفضل بن الربيع إلى أبي، فقال له: ادخل، ومكث ساعة ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلمها، فأومأ إلى أبي أنه لا يريد أن يدخل اليوم أحد، فاستأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب؛ فإذا دخلت هذا المدخل زادك ذلك نبلًا عند الناس. فما مكثنا إلا قليلًا حتى جاء الفضل بن الربيع، فقال: إن عبد الله بن مصعب الزبيري يستأذن في الدخول، فقال: إني لا أريد أن أدخل اليوم أحدًا، فقال: قال: إن عندي شيئًا أذكره. فقال: قل له يقله لك، قال: قد قلت له ذلك، فزعم أنه لا يقوله إلا لك، قال: أدخله. وخرج ليدخله، وعادت المرأة وشغل بكلامها، وأقبل علي أبي، فقال: إنه ليس عنده شيء يذكره؛ وإنما أراد الفضل بهذا ليوهم من على الباب أن أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصة خصصنا بها؛ وإنما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري.

وطلع الزبيري، فقال: يا أمير المؤمنين، ها هنا شيء أذكره، فقال له: قل، فقال له: إنه سر، فقال: ما من العباس سر، فنهضت، فقال: ولا منك يا حبيبي، فجلست، فقال: قل، فقال: إني والله قد خفت على أمير المؤمنين من امرأته وبنته وجاريته التي تنام معه، وخادمه الذي يناوله ثيابه وأخص خلق الله به من قواده، وأبعدهم منه. قال: فرأيته قد تغير لونه، وقال: مماذا؟ قال: جاءتني دعوة يحيى بن عبد الله بن حسن، فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينهم، حتى لم يبق على بابك أحدًا إلا وقد أدخله في الخلاف عليك. قال: فتقول له هذا في وجهه! قال: نعم، قال الرشيد: أدخله، فدخل، فأعد القول الذي قال له، فقال يحيى بن عبد الله: والله يا أمير المؤمنين لقد جاء بشيء لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو أكبر مني، وهو مقتدر عليه لما أفلت منه أبدًا، ولي رحم وقرابة، فلم لا تؤخر هذا الأمر ولا تعجل، فلعلك أن تكفي مؤنتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك من حيث لا تعلمه! أباهه بين يديك وتصبر قليلًا. فقال: يا عبد الله، قم فصل إن رأيت ذلك، وقام يحيى فاستقبل القبلة، فصلى ركعتين خفيفتين، وصلى عبد الله ركعتين، ثم برك يحيى، ثم قال: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه. وقال: اللهم إن كنت تعلم أني دعوت عبد الله بن مصعب إلى خلاف على هذا - ووضع يده عليه، وأشار إليه - فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوتي، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين. فقال عبد الله: آمين رب العالمين. فقال يحيى بن عبد الله لعبد الله بن مصعب: قل كما قلت، فقال عبد الله: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين! وتفرقا، فأمر بيحيى فحبس في ناحية من الدار؛ فلما خرج وخرج عبد الله بن مصعب أقبل الرشيد على أبي، فقال: فعلت به كذا وكذا، وفعلت به كذا وكذا، فعدد أياديه عليه، فكلمه أبي بكلمتين لا يدفع بهما عن عصفور، خوفًا على نفسه، وأمرنا بالانصراف فانصرفنا. فدخلت مع أبي أنزع عنه لباسه من السواد - وكان ذلك من عادتي - فبينما أنا أحل عنه منطقته؛ إذ دخل عليه الغلام، فقال: رسول عبد الله بن مصعب، فقال: أدخله، فلما دخل قال له: ما وراءك؟ قال: يقول لك مولاي، أنشدك الله إلا بلغت إلي! فقال أبي للغلام: قل له: لم أزل عند أمير المؤمنين إلى هذا الوقت، وقد وجهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلي فألقه إليه، وقال للغلام: اخرج فإنه يخرج في إثرك؛ وقال لي: إنما دعاني ليستعين بي على ما جاء به من الإفك؛ فإن أعنته قطعت رحمي من رسول الله ، وإن خالفته سعى بي؛ وإنما يتدرق الناس بأولادهم، ويتقون بهم المكاره؛ فاذهب إليه، فكل ما قال لك فليكن جوابك له: أخبر أبي؛ فقد وجهتك وما آمن عليك، وقد كان قال لي أبي حين انصرفا - وذلك أنا احتبسنا عند الرشيد: أما رأيت الغلام المعترض في الدار! لا والله ما صرفنا حتى فرغ منه - يعني يحيى - إنا لله وإنا إليه راجعون! وعند الله نحتسب أنفسنا. فخرجت مع الرسول، فلما صرت في بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول: ويحك! ما أمره! وما أزعجه بالإرسال إلى أبي في هذا الوقت! فقال: إنه لما جاء من الدار، فساعة نزل عن الدابة صاح: بطني بطني! قال عبد الله بن عباس: فما حفلت بهذا الكلام من قول الغلام، ولا التفت إليه، فلما صرنا على باب الدرب - وكان في درب لا منفذ له - فتح البابين؛ فإذا النساء قد خرجن منشورات الشعور محتزمات بالحبال، يلطمن وجوههن وينادين بالويل، وقد مات الرجل، فقلت: والله ما رأيت أمرًا أعجب من هذا! وعطفت دابتي راجعًا أركض ركضًا لم أركض مثله قبله ولا بعده إلى هذه الغاية، والغلمان والحشم ينتظرونني لتعلق قلب الشيخ بي؛ فلما رأوني دخلوا يتعادون، فاستقبلني مرعوبًا في قميص ومنديل، ينادي: ما وراءك يا بني؟ قلت: إنه مات، قال: الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيانا منه؛ فما قطع كلامه حتى ورد خادم الرشيد يأمر أبي بالركوب وإياي معه. فقال أبي ونحن في الطريق نسير: لو جاز أن يدعى ليحيى نبوة لادعاها أهله، رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه! ولا والله ما نشك في أنه قد قتل. فمضينا حتى دخلنا على الرشيد؛ فلما نظر إلينا قال: يا عباس بن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله يا أمير المؤمنين قطع أرحامك. فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحب، ورفع الستر، فدخل يحيى، وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار! قال: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي، وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين؛ لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلح له وأريده فكيف ولست بطالب له ولا مريده، ولو لم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به، ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره ما تقويت به عليك أبدًا! وهذا والله من إحدى آفاتك - وأشار إلى الفضل بن الربيع - والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع مني في زيادة نمرة لباعك بها. فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيرًا، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار، وكان حبسه بعض يوم. ثم قال أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسة، وأوصل إليه أربعمائة ألف دينار.

ذكر الفتنة بين اليمانية والنزارية

وفي هذه السنة هاجت العصبية بالشام بين النزارية واليمانية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام.

ذكر الخبر عن هذه الفتنة

ذكر أن هذه الفتنة هاجت بالشام وعامل السلطان بها موسى بن عيسى، فقتل بين النزارية واليمانية على العصبية من بعضهم لبعض بشر كثير، فولى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد الشام، وضم إليه من القواد والأجناد ومشايخ الكتاب جماعة. فلما ورد الشام أحلت لدخوله إلى صالح بن علي الهاشمي، فأقام موسى بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام أمرها، فانتهى الخبر إلى الرشيد بمدينة السلام، ورد الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى، فعفا عنهم، وعما كان بينهم، وأقدمهم بغداد، وفي ذلك يقول إسحاق بن حسان الخزيمي:

من مبلغ يحيى ودون لقائه ** زأرت كل خنابسٍ همهام

يا راعي الإسلام غير مفرطٍ ** في لين مغتبط وطيب مشم

تعذى مشاربه وتسقى شربةً ** ويبيت بالربوات والأعلام

حتى تنخنخ ضاربًا بجرانه ** ورست مراسيه بدار سلام

فلكل ثغر خارس من قلبه ** وشعاع طرف ما يفتر سام

وقال في موسى غير أبي يعقوب:

قد هاجت الشام هيجًا ** يشيب رأس وليده

فصب موسى عليها ** بخيله وجنوده

فدانت الشأم لما ** أتى نسيج وحيده

هو الجواد الذي ** بد كل جود بجوده

أعداه جود أبيه ** يحيى وجود جدوده

فجاد موسى بن يحيى ** بطارفٍ وتليده

ونال موسى ذرى المج ** د وهو حشو مهوده

خصصته بمديحي ** منشوره وقصيده

من البرامك عود ** له فأكرم بعوده

حووا على الشعر طرًا ** خفيفه ومديده

وفيها عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان، وولاها حمزة بن مالك بن هيثم الخزاعي، وكان حمزة يلقب بالعروس.

وفيها ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك مصر، فولاها عمر بن مهران.

ذكر الخبر عن سبب تولية الرشيد جعفرا مصر وتولية جعفر عمر بن مهران إياها

ذكر محمد بن عمر أن أحمد بن مهران حدثه أن الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى عازم على الخلع - وكان على مصر - فقال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي. انظروا لي رجلًا، فذكر عمر بن مهران - وكان إذ ذاك يكتب للخيزران، ولم يكتب لغيرها، وكان رجلًا أحول مشوه الوجه، وكان لباسه لباسًا خسيسًا، أرفع ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهمًا، وكان يشمر ثيابه ويقصر أكمامه، ويركب بغلًا وعليه رسن ولجام حديد، ويردف غلامه خلفه - فدعا به، فولاه مصر، خراجها وضياعها وحربها. فقال: يا أمير المؤمنين، أتولاها على شريطة، قال: وما هي؟ قال: يكون إذني إلي، إذا أصلحت البلاد انصرفت. فجعل ذلك له، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بن مهران بموسى بن عيسى؛ فكان يتوقع قدومه، فدخل عمر بن مهران مصر على بغل، وغلامه أبو درة على بغل ثقل، فقصد دار موسى بن عيسى والناس عنده، فدخل فجلس في أخريات الناس، فلما تفرق أهل المجلس، قال موسى بن عيسى لعمر: ألك حاجة يا شيخ؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! ثم قام بالكتب فدفعها إليه، فقال: يقدم أبو حفص، أبقاه الله! قال: فأنا أبو حفص، قال: أنت عمر بن مهران؟ قال: نعم، قال: لعن الله فرعون حين يقول: أليس لي ملك مصر، ثم سلم له العمل ورحل، فتقدم عمر بن مهران إلى أبي درة غلامه، فقال له: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلامًا؛ فجعل الناس يبعثون بهداياهم، فجعل يرد ما كان من الألطاف، ويقبل المال والثياب، ويأتي بها عمر؛ فيوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية؛ وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم، فلواه، فقال: والله ما تؤدي ما عليك من الخراج إلا في بيت المال بمدينة السلام إن سلمت، قال: فأنا أؤدي، فتحمل عليه، فقال: قد حلفت ولا أحنث، فأشخصه مع رجلين من الجند - وكان العمال إذ ذاك يكاتبون الخليفة - فكتب معهم الرشيد: إني دعوت بفلان بن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج؛ فلواني واستنظرني، فأنظرته ثم دعوته، فدافع ومال إلى الإلطاط، فآليت ألا يؤديه إلا في بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه كذا وكذا، وقد أنفذته مع فلان بن فلان وفلان بن فلان، من جند أمير المؤمنين، من قيادة فلان بن فلان؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إلي بوصله فعل إن شاء الله تعالى.

قال: فلم يلوه أحد بشيء من الخراج، فاستأدى الخراج، النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث، وقعت المطالبة والمطل، فأحضر أهل الخراج والتجار فطالبهم، فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ؛ فوزن ما فيها وأجزاها عن أهلها، ثم دعا بالأسفاط، فنادى على ما فيها، فباعها وأجزى أثمانها عن أهلها. ثم قال: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا ما لنا؛ فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر؛ فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره، وانصرف، فخرج على بغل، وأبو درة على بغل - وكان إذنه إليه.

وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الرحمن بن عبد الملك، فافتتح حصنًا.

وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن أبي جعفر المنصور، وحجت معه - فيما ذكر الواقدي - زبيدة زوجة هارون وأخوها معها.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فما كان فيها من ذلك عزل الرشيد - فيما ذكر - جعفر بن يحيى عن مصر وتوليته إياها إسحاق بن سليمان، وعزله حمزة بن مالك عن خراسان وتوليته إياها الفضل بن يحيى؛ إلى ما كان يليه من الأعمال من الري وسجستان.

وغزا الصائفة فيها عبد الرزاق بن عبد الحميد التغلبي.

وكان فيها - فيما ذكر الواقدي - ريح وظلمة وحمرة ليلة الأحد لأربع ليال بقين من المحرم، ثم كانت ظلمة ليلة الأربعاء، لليلتين بقيتا من المحرم من هذه السنة؛ ثم كانت ريح وظلمة شديدة يوم الجمعة لليلة خلت من صفر.

وحج بالناس فيها هارون الرشيد.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك وثوب الحوفية بمصر؛ من قيس وقضاعة وغيرهم بعامل الرشيد عليهم إسحاق بن سليمان، وقتالهم إياه، وتوجيه الرشيد إليه هرثمة بن أعين في عدة من القواد المضمومين إليه مددًا لإسحاق بن سليمان؛ حتى أذعن أهل الحوف، ودخلوا في الطاعة، وأدوا ما كان عليهم من وظائف السلطان - وكان هرثمة إذ ذاك عامل الرشيد على فلسطين - فلما انقضى أمر الحوفية صرف هارون إسحاق بن سليمان عن مصر، وولاها هرثمة نحوًا من شهر، ثم صرفه وولاها عبد الملك بن صالح.

وفيها كان وثوب أهل إفريقية بعبدويه الأنباري ومن معه من الجند هنالك، فقتل الفضل بن روح بن حاتم، وأخرج من كان بها من آل المهلب، فوجه الرشيد إليهم هرثمة بن أعين، فرجعوا إلى الطاعة.

وقد ذكر أن عبدويه هذا لما غلب على إفريقية، وخلع السلطان، عظم شأنه وكثر تبعه، ونزع إليه الناس من النواحي، وكان وزير الرشيد يومئذ يحيى بن خالد بن برمك، فوجه إليه يحيى بن خالد بن برمك يقطين بن موسى ومنصور بن زياد كاتبه؛ فلم يزل يحيى بن خالد يتابع على عبدويه الكتب بالترغيب في الطاعة والتخويف للمعصية والإعذار إليه والإطماع والعدة حتى قبل الأمان، وعاد إلى الطاعة وقدم بغداد، فوفى له يحيى بما ضمن له وأحسن إليه، وأخذ له أمانًا من الرشيد، ووصله ورأسه.

وفي هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.

وفيها خرج الوليد بن طريف الشاري بالجزيرة، وحكم بها، ففتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم مضى منها إلى إرمينية.

ولاية الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بها

وفيها شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليًا عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات. وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة؛ وكان ممتنعًا.

وذكر أن الفضل بن يحيى اتخذ بخراسان جندًا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم؛ وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:

ما الفضل إلا شهاب لا أفول له ** عند الحروب إذا ما تأفل الشهب

حامٍ على ملك قوم عز سهمهم ** من الوراثة في أيديهم سبب

أمست يد لبني ساقي الحجيج بها ** كتائب ما لها في غيرهم أرب

كتائب لبني العباس قد عرفت ** ما ألف الفضل منها العجم والعرب

أثبت خمس مئين في عدادهم ** من الألوف التي أحصت لك الكتب

يقارعون عن القوم الذين هم ** أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا

إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق ** يبقى على جود كفيه ولا ذهب

ما مر يوم له مذ شد مئزره ** إلا تمول أقوام بما يهب

كم غايةٍ في الندى والبأس أحرزها ** للطالبين مداها دونها تعب

يعطي الله حين لا يعطي الجواد ولا ** ينبو إذا سلت الهندية القضب

ولا الرضى والرضى لله غايته ** إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب

قد فاض عرفك حتى ما يعادله ** غيث مغيث ولا بحر له حدب

قال: وكان مروان بن أبي حفصة قد أنشد الفضل في معسكره قبل خروجه إلى خراسان:

ألم تر أن الجود من لدن آدمٍ ** تحدر حتى صار في راحة الفضل

إذا ما أبو العباس راحت سماؤه ** فيا لك من هطل ويا لك من وبل

إذا أم طفل راعها جوع طفلها ** دعته باسم الفضل فاستعصم الطفل

ليحيا بك الإسلام إنك عزه ** وإنك من قوم صغيرهم كهل

وذكر محمد بن العباس بن يحيى أمر له بمائة ألف درهم، وكساه وحمله على بغلة. قال: وسمعته يقول: أصبت في قدمتي هذه سبعمائة ألف درهم. وفيه يقول:

تخيرت للمدح بن يحيى بن خالد ** فحسبي ولم أظلم بأن أتخيرا

له عادة أن يبسط العدل والندى ** لمن ساس من قحطان أو من تنزرا

إلى المنبر الشرقي سار ولم يزل ** له والد يعلو سريرًا ومنبرا

يعد ويحيى البرمكي ولا يرى ** لدى الدهر إلا قائدًا أو مومرا

ومدحه سلم الخاسر، فقال:

وكيف تخاف من بؤسٍ بدارٍ ** تكنفها البرامكة البحور

وقوم منهم الفضل بن يحيى ** نفير ما يوازنه نفير

له يومان: يوم ندىً وبأسٍ ** كأن الدهر بينهما أسير

إذا ما البرمكي غدا ابن عشرٍ ** فهمته وزير أو أمير

وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بن جبريل خرج مع الفضل بن يحيى إلى خراسان وهو كاره للخروج، فأحفظ ذلك الفضل عليه. قال إبراهيم: فدعاني يومًا بعد ما أغفلني حينًا، فدخلت عليه؛ فلما صرت بين يديه سلمت، فما رد علي، فقلت في نفسي: شر والله - وكان مضطجعًا، فاستوى جالسًا - ثم قال: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك تمنعني منك؛ قال: ثم عقد لي على سجستان، فلما حملت خراجها، وهبه لي وزادني خمسمائة ألف درهم. قال: وكان إبراهيم على شرطه وحرسه، فوجهه إلى كابل، فافتحها وغنم غنائم كثيرة. قال: وحدثني الفضل بن العباس بن جبريل - وكان مع عمه إبراهيم - قال: وصل إلى إبراهيم في ذلك الوجه سبعة آلاف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغيين استزار الفضل ليريه نعمته عليه، وأعد له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضة، وأمر بوضع الأربعة الآلاف في ناحية من الدار. قال: فلما قعد الفضل بن يحيى قدم إليه الهدايا والطرف، فأبى أن يقبل منها شيئًا، وقال: لم آتك لأسلبك، فقال: إنها نعمتك أيها الأمير. قال: ولك عندنا مزيد، قال: فلم بأخذ من جميع ذلك إلا سوطًا سجزيًا، وقال: هذا من آلة الفرسان، فقال له: هذا المال من مال الخراج، فقال: هو لك، فأعاد عليه، فقال: أما لك بيت يسعه! فسوغه ذلك، وانصرف.

قال: ولما قدم الفضل بن يحيى من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف ألف، وبالخمسمائة ألف، ومدحه مروان بن أبي حفصة، فقال:

حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت ** بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا

وما هجعت حتى رأته عيوننا ** وما زلن حتى آب بالدمع حشدا

لقد صبحتنا خيله ورجاله ** بأروع بذ الناس بأسًا وسوددا

نفى عن خراسان العدو كما نفى ** ضحى الصبح جلباب الدجى فتعردا

لقد راع من أمسى بمرو مسيره ** إلينا، وقالوا شعبنا قد تبددا

على حين ألقى قفل كل ظلامةٍ ** وأطلق بالعفو الأسير المقيدا

وأفشى بلا من مع العدل فيهم ** أيادي عرفٍ باقياتٍ وعودا

فأذهب روعات المخاوف عنهم ** وأصدر باغي الأمن فيهم وأوردا

وأجدى على الأيتام فيهم بعرفه ** فكان من الآباء أحنى وأعودا

إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى ** وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا

سما صاعدًا بالفضل يحيى وخالد ** إلى كل أمر كان أسنى وأمجدا

يلين لمن أعطى الخليفة طاعةً ** ويسقي دم العاصي الحسام المهندا

أذلت مع الشرك النفاق سيوفه ** وكانت لأهل الدين عزًا مؤبدا

وشد القوى من بيعة المصطفى الذي ** على فضله عهد الخليفة قلدا

سمي النبي الفاتح الخاتم الذي ** به الله أعطى كل خير وسددا

أبحت جبال الكابلي ولم تدع ** بهن لنيران الضلالة موقدا

فأطلعتها خيلًا وطئن جموعه ** قتيلًا ومأسورًا وفلًا مشردا

وعادت على ابن البرم نعماك بعدما ** تحوب مخذ ولا يرى الموت مفردا

وذكر العباس بن جرير، أن حفص بن مسلم - وهو أخو رزام بن مسلم، مولى خالد بن عبد الله القسري - حدثه أنه قال: دخلت على الفضل بن يحيى مقدمه خراسان، وبين يديه بدر تفرق بخواتيمها، فما فضت بدرة منها، فقلت:

كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالدٍ ** وجود يديه بخل كل بخيل

قال: فقال لي مروان بن أبي حفصة: وددت أني سبقتك إلى هذا البيت، وأن علي غرم عشرة آلاف درهم.

وغزا فيها الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم، وغزا الشاتية فيها ابن راشد، ومعه البيد بطريق صقلية.

وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وكان على مكة.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك انصراف الفضل بن يحيى عن خراسان واستخلافه عليها عمرو بن شرحبيل.

وفيها ولى الرشيد خراسان منصور بن يزيد بن منصور الحميري.

وفيها شري بخراسان حمزة بن أترك السجستاني.

وفيها عزل الرشيد محمد بن خالد بن برمك عن الحجبة، وولاها الفضل بن الربيع.

وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته، وكثر تبعه، فوجه الرشيد إليه يزيد بن مزيد الشيباني، فراوغه يزيد، ثم لقيه وهو مغتر فوق هيت، فقتله وجماعة كانوا معه، وتفرق الباقون، فقال الشاعر:

وائل بعضها يقتل بعضًا ** لا يفل الحديد إلا الحديد

وقالت الفارعة أخت الوليد:

أيا شجر الخابور ما لك مورقًا ** كأنك لم تجزع على ابن طريف

فتىً لا يحب الزاد إلا من التقى ** ولا المال إلا من قنًا وسيوف

واعتمر الرشيد في هذه السنة في شهر رمضان، شكرًا لله على ما أبلاه في الوليد بن طريف، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة، فأقام بها إلى وقت الحج، ثم حج بالناس، فمشى من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر ماشيًا، ثم انصرف على طريق البصرة.

وأما الواقدي فإنه قال: لما فرغ من عمرته أقام بمكة حتى أقام للناس حجهم.

ثم دخلت سنة ثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر الخبر عن العصبية التي هاجت بالشام

فمما كان فيها من ذلك، العصبية التي هاجت بالشام بين أهلها.

ذكر الخبر عما صار إليه أمرها

ذكر أن هذه العصبية لما حدثت بالشام بين أهلها وتفاقم أمرها، اغتم بذلك من أمرهم الرشيد، فعقد لجعفر بن يحيى على الشام، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر بل أقيك بنفسي؛ فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح، وجعل على شرطه العباس بن محمد بن المسيب بن زهير، وعلى حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، فأتاهم فأصلح بينهم؛ وقتل زواقيلهم، والمتلصصة منهم، ولم يدع بها رمحًا ولا فرسًا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة؛ وأطفأ تلك النائرة، فقال منصور النمري لما شخص جعفر:

لقد أوقدت بالشام نيران فتنةٍ ** فهذا أوان الشأم تخمد نارها

إذا جاش موج البحر من آل برمكٍ ** عليها، خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفرٍ ** وفيه تلاقى صدعها وانجبارها

رماها بميمون النقيبة ماجد ** تراضى به قحطانها ونزارها

تدلت عليهم صخرة برمكيةً ** دموغ لهام الناكبين انحدارها

غدوت تزجى غابة في رءوسها ** نجوم الثريا والمنايا ثمارها

إذا خفقت راياتها وتجرست ** بها الريح هال السامعين انبهارها

فقولوا لأهل الشأم: لا يسلبنكم ** حجاكم طويلات المنى وقصارها

فإن أمير المؤمنين بنفسه ** أتاكم وإلا نفسه فخيارها

هو الملك المأمول للبر والتقى ** وصولاته لا يستطاع خطارها

وزير أمير المؤمنين وسيفه ** وصعدته والحرب تدمى شفارها

ومن تطو أشرار الخليفة دونه ** فعندك مأواها وأنت قرارها

وفيت فلم تغدر لقوم بذمةٍ ** ولم تدن من حالٍ ينالك عارها

طبيب بإحياء الأمور إذا التوت ** من الدهر أعناق، فأنت جبارها

إذا ما ابن يحيى جعفر قصدت له ** ملمي خطب لم ترعه كبارها

لقد نشأت بالشأم منك غمامة ** يؤمل جدواها ويخشى دمارها

فطوبى لأهل الشأم يا ويل أمها ** أتاها حياها، أو أتاها بوارها

فإن سالموا كانت غمامة نائلٍ ** وغيثٍ، وإلا فالدماء قطارها

أبوك أبو الأملاك يحيى بن خالدٍ ** أخو الجود والنعمى الكبار صغارها

كأين ترى في البرمكيين من ندىً ** ومن سابقاتٍ ما يشق غبارها

غدا بنجوم السعد من حل رحله ** إليك، وعزت عصبة أنت جارها

عذيري من الأقدار هل عزماتها ** مخلفتي عن جعفرٍ واقتسارها

فعين الأسى مطروفة لفراقه ** ونفسي إليه ما ينام ادكارها

وولى جعفر بن يحيى صالح بن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف على الشأم عيسى بن العكي وانصرف، فازداد الرشيد له إكرامًا. فلما قدم على الرشيد دخل عليه - فيما ذكر - فقبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه، فقال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته؛ فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني؛ فاعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني وخطايا أحاطت بي؛ ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - لخفت أن يذهب عقلي إشفاقًا على قربك، وأسفًا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك؛ والحمد لله الذي عصمنيفي حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة ومسكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية؛ فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك؛ ولم يخترمني أجل دونك. والله يا أمير المؤمنين - ولا أعظم من اليمين بالله - لقد عاينت ما لو تعرض لي الدنيا كلها لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضًا من المقام معك. ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله يا أمير المؤمنين - لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع إلفتهم، ويلم شعثهم؛ حفظًا لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك؛ والله المحمود على ذلك وهو مستحقه. وفارقت يا أمير المؤمنين أهل كور الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم. وأيم الله يا أمير المؤمنين لئن كنت قد شخصت عنهم، وقد أخمد الله شرارهم وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم؛ فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك، وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتني عليه؛ ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك، وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني - وإن كنت بذلت جهدي، وبلغت مجهودي - قاضيًا ببعض حقك علي؛ بل ما ازدادت نعمتك علي عظمًا؛ إلا وازددت عن شكرك عجزًا وضعفًا وما خلق الله أحدًا من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلًا مهجتي في طاعتك، وكل ما يقرب إلى موافقتك؛ ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري؛ فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكري بإكرامك إياي! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي! وكيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك إلي بما تجدده لي! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي! أم كيف بشكري وأنت وليي! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي! وأنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذا كان الشكر مقصرًا عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره، أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، وأقدر عليه، وأن يقضي عني حقك، وجليل منتك؛ فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه! وفي هذه السنة أخذ الرشيد الخاتم من جعفر بن يحيى، فدفعه إلى أبيه يحيى بن خالد.

وفيها ولى جعفر بن يحيى خراسان وسجستان، واستعمل جعفر عليهما محمد بن الحسن بن قحطبة.

وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريدًا الرقة على طريق الموصل، فلما نزل البردان، ولى عيسى بن جعفر خراسان، وعزل عنها جعفر بن يحيى؛ فكانت ولاية جعفر بن يحيى إياها عشرين ليلة.

وفيها ولى جعفر بن يحيى الحرس.

وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب الخوارج الذين خرجوا منها، ثم مضى إلى الرقة فنزلها واتخذها وطنًا.

وفيها عزل هرثمة بن أعين عن إفريقية، وأقفله إلى مدينة السلام، فاستخلفه جعفر بن يحيى الحرس.

وفيها كانت بأرض مصر زلزلة شديدة، فسقط رأس منارة الإسكندرية.

وفيها حكم خراشة الشيباني وشري بالجزيرة، فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي.

وفيها خرجت المحمرة بجرجان، فكتب علي بن عيسى بن ماهان أن الذي هيج ذلك عليه عمرو بن محمد العمركي، وأنه زنديق، فأمر الرشيد بقتله، فقتل بمرو.

وفيها عزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرويان، وولى ذلك عبد الله بن خازم. وعزل الفضل أيضًا عن الري، ووليها محمد بن يحيى بن الحارث بن شخير، وولي سعيد بن سلم الجزيرة.

وغزا الصائفة فيها معاوية بن زفر بن عاصم.

وفيها صار الرشيد إلى البصرة منصرفة من مكة، فقدمها في المحرم منها، فنزل المحدثة أيامًا، ثم تحول منها إلى قصر عيسى بن جعفر بالخريبة، ثم ركب في نهر سيحان الذي احتفره يحيى بن خالد؛ حتى نظر إليه، وسكر نهر الأبلة ونهر معقل، حتى استحكم أمر سيحان، ثم شخص عن البصرة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقدم مدينة السلام، ثم شخص إلى الحيرة، فسكنها وابتنى فيها المنازل، وأقطع من معه الخطط، وأقام نحوًا من أربعين يومًا فوثب به أهل الكوفة، وأساءوا مجاورته، فارتحل إلى مدينة السلام، ثم شخص من مدينة السلام إلى الرقة، واستخلف بمدينة السلام حين شخص إلى الرقة محمدًا الأمين، وولاه العراقين.

وحج بالناس في هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فكان فيها غزو الرشيد أرض الروم، فافتتح بها عنوةً حصن الصفصاف، فقال مروان بن أبي حفصة:

إن أمير المؤمنين المصطفى ** قد ترك الصفصاف قاعًا صفصفا

وفيها غزا عبد الملك بن صالح الروم، فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.

وفيها توفي الحسن بن قحطبة وحمزة بن مالك.

وفيها غلبت المحمرة على جرجان.

وفيها أحدث الرشيد عند نزوله الرقة في صدور كتبه الصلاة على محمد .

وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد، فأقام للناس الحج، ثم صدر معجلًا. وتخلف عنه يحيى بن خالد، ثم لحقه بالغمرة فاستعفاه من الولاية فأعفاه، فرد إليه الخاتم، وسأله الإذن في المقام فأذن له، فانصرف إلى مكة.

ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فكان فيها انصراف الرشيد من مكة ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بن يحيى، ثم توجيهه إياه إلى مدينة السلام، ومعه من أهل بيته جعفر بن أبي جعفر المنصور وعبد الملك بن صالح، ومن القواد علي بن عيسى، فبويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسماه المأمون.

وفيها حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل بن يحيى، فماتت ببرذعة، وعلى إرمينية يومئذ سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فرجع من كان فيها من الطراخنة إلى أبيها، فأخبروه أن ابنته قتلت غيلة، فحنق لذلك، وأخذ في الأهبة لحرب المسلمين.

وانصرف فيها يحيى بن خالد إلى مدينة السلام.

وغزا فيها الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، فبلغ دفسوس مدينة أصحاب الكهف.

وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن أليون، وأقروا أمه رييني، وتلقب أغسطة.

وحج بالناس فيها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة

ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيه

فمن ذلك خروج الخزر بسبب ابنه خاقان من باب من الأبواب وإيقاعهم بالمسلمين هناك وأهل الذمة، وسبيهم - فيما ذكر - أكثر من مائة ألف. فانتهكوا أمرًا عظيمًا لم يسمع في الإسلام بمثله، فولى الرشيد إرمينية يزيد بن مزيد مع أذربيحان، وقواه بالجند؛ ووجهه، وأنزل خزيمة بن خازم نصيبين ردءًا لا أهل إرمينية.

وقد قيل سبب دخول الخزر إرمينية غير هذا القول؛ وذلك ما ذكره محمد بن عبد الله، أن أباه حدثه أن سبب دخول الخزر إرمينية في زمان هارون كان أن سعيد بن سلم ضرب عنق المنجم السلمي بفأس، فدخل ابنه بلاد الخزر، واستجاشهم على سعيد، فدخلوا إرمينية من الثلمة، فانهزم سعيد، ونكحوا المسلمات، وأقاموا فيها - أظن - سبعين يومًا، فوجه هارون خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد إلى إرمينية حتى أصلحا ما أفسد سعيد، وأخرجا الخزر، وسدت الثلمة.

وفيها كتب الرشيد إلى علي بن عيسى بن ماهان وهو بخراسان بالمصير إليه؛ وكان سبب كتابه إليه بذلك؛ أنه كان حمل عليه، وقيل له: إنه قد أجمع على الخلاف، فاستخلف علي بن عيسى ابنه يحيى على خراسان، فأقره الرشيد، فوافاه علي، وحمل إليه مالًا عظيمًا، فرده الرشيد إلى خراسان من قبل ابنه المأمون لحرب أبي الخصيب، فرجع.

وفيها خرج بنسا من خراسان أبو الخصيب وهيب بن عبد الله النسائي مولى الحريش.

وفيها مات موسى بن جعفر بن محمد ببغداد ومحمد بن السماك القاضي وفيها حج بالناس العباس بن موسى الهادي بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ففيها قدم هارون مدينة السلام في جمادى الآخرة منصرفًا إليها من الرقة في الفرات في السفن، فلما صار إليها أخذ الناس بالبقايا.

وولي استخراج ذلك - فيما ذكر - عبد الله بن الهيثم بن سام بالحبس والضرب، وولي حماد البربري مكة واليمن، وولي داود بن يزيد بن حاتم المهلبي السند، ويحيى الحرشي الجبل، ومهرويه الرازي طبرستان، وقام بأمر إفريقية إبراهيم الأغلب، فولاها إياه الرشيد.

وفيها خرج أبو عمرو الشاري فوجه إليه زهير القصاب فقتله بشهرزور.

وفيها طلب أبو الخصيب الأمان، فأعطاه ذلك علي بن عيسى، فوافاه بمرر فأكرمه.

وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من قتل أهل طبرستان مهرويه الرازي وهو واليها، فولى الرشيد مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي.

وفيها قتل عبد الرحمن الأبناوي أبان بن قحطبة الخارجي بمرج القلعة.

وفيها عاث حمزة الشاري بباذغيس من خراسان، فوثب عيسى بن علي بن عيسى على عشرة آلاف من أصحاب حمزة فقتلهم، وبلغ كابل وزايلستان والقندهار، فقال أبو العذافر في ذلك:

كاد عيسى يكون ذا القرنين ** بلغ المشرقين والمغربين

لم يدع كابلًا ولا زابلستا ** ن فما حولها إلى الرخجين

وفيها خرج أبو الخصيب ثانية بنسا، وغلب عليها وعلى أبيورد وطوس ونيسابور، وزحف إلى مرو، فأحاط بها، فهزم، ومضى نحو سرخس، وقوي أمره.

وفيها مات يزيد بن مزيد ببرذعة، فولي مكانه أسد بن يزيد.

وفيها مات يقطين بن موسى ببغداد.

وفيها مات عبد الصمد بن علي ببغداد في جمادى الآخرة، ولم يكن ثغر قط؛ فأدخل القبر بأسنان الصبي، ومانقص له سن.

وشخص فيها الرشيد إلى الرقة على طريق الموصل.

واستأذنه فيها يحيى بن خالد في العمرة والجوار، فأذن له، فخرج في شعبان، واعتمر عمرة شهر رمضان، ثم رابط بجدة إلى وقت الحج، ثم حج. ووقعت في المسجد الحرام صاعقة فقتلت رجلين.

وحج بالناس فيها منصور بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي.

ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ففيها كان خروج علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا، فقتله بها، وسبى نساءه وذراريه، واستقاما خراسان.

وفيها حبس الرشيد ثمامة بن أشرس لوقوفه على كذبه في أمر أحمد بن عيسى بن زيد.

وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور عند هرثمة. وتوفي العباس بن محمد ببغداد.

ذكر حج الرشيد ثم كتابته العهد لأبنائه

وحج بالناس فيها هارون الرشيد؛ وكان شخوصه من الرقة للحج في شهر رمضان من هذه السنة، فمر بالأنبار، ولم يدخل مدينة السلام؛ ولكنه نزل منزلًا على شاطئ الفرات يدعى الدارات، بينه وبين مدينة السلام سبعة فراسخ، وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نهيك، وأخرج معه ابنيه: محمدًا الأمين وعبد الله المأمون؛ وليي عهده؛ فبدأ بالمدينة، فأعطى أهلها ثلاثة أعطية؛ كانوا يقدمون إليه فيعطيهم عطاء، ثم إلى محمد فيعطيهم عطاءً ثانيًا، ثم إلى المأمون فيعطيهم عطاء ثالثًا، ثم صار إلى مكة فأعطى أهلها، فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار.

وكان الرشيد عقد لابنه محمد ولاية العهد - فيما ذكر محمد بن يزيد عن إبراهيم بن محمد الحجبي - يوم الخميس في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة، وسماه الأمين، وضم إليه الشأم والعراق في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم بايع لعبد الله المأمون بالرقة في سنة ثلاث وثمانين ومائة، وولاه من حد همذان إلى آخر المشرق، فقال في ذلك سلم بن عمرو الخاسر:

بايع هارون إمام الهدى ** لذي الحجى والخلق الفاضل

المخلف المتلف أمواله ** والضامن الأثقال للحامل

والعالم النافذ في علمه ** والحاكم الفاضل والعادل

والراتق الفاتق حلف الهدى ** والقائل الصادق والفاعل

لخير عباس إذا حصلوا ** والمفضل المجدي على العائل

أبرهم برًا وأولاهم ** بالعرف عند الحدث النازل

لمشبه المنصور في ملكه ** إذا تدجت ظلمة الباطل

فتم بالمأمون نور الهدى ** وانكشف الجهل عن الجاهل

وذكر الحسن بن قريش أن القاسم بن الرشيد، كان في حجر عبد الملك بن صالح، فلما بايع الرشيد لمحمد المأمون، كتب إليه عبد الملك بن صالح:

يأيها الملك الذي ** لو كان نجمًا كان سعدا

اعقد لقاسم بيعة ** واقدح له في الملك زندا

الله فرد واحد ** فاجعل ولاة العهد فردا

فكان ذلك أول ما حض الرشيد على البيعة للقاسم. ثم بايع للقاسم ابنه، وسماه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، فقال في ذلك:

حب الخليفة حب لا يدين به ** من كان لله عاصٍ يعمل الفتنا

الله قلد هارونًا سياستنا ** لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا

وقلد الأرض هارون لرأفته ** بنا أمينًا ومأمونًا ومؤتمنا

قال:

ولما قسم الأرض بين أولاده الثلاثة، قال بعض العامة: قد أحكم أمر الملك، وقال بعضهم: بل ألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع في ذلك مخوفة على الرعية، وقالت الشعراء في ذلك، فقال بعضهم:

أقول لغمة في النفس مني ** ودمع العين يطرد اطرادا

خذي للهول عدته بحزمٍ ** سنلقى ما سيمنعك الرقادا

فإنك إن بقيت رأيت أمرًا ** يطيل لك الكآبة والسهادا

رأى الملك المهذب شر رأيٍ ** بقسمته الخلافة والبلادا

رأى ما لو تعقبه بعلمٍ ** لبيض من مفارقه السوادا

أراد به ليقطع عن بنيه ** خلافهم ويبتذلوا الودادا

فقد غرس العداوة غير آلً ** وأورث شمل ألفتهم بدادا

وألقح بينهم حربًا عوانًا ** وسلس لاجتنابهم القيادا

فويل للرعية عن قليل ** لقد أهدى لها الكرب الشدادا

وألبسها بلاءً غير فانٍ ** وألزمها التضعضع والفسادا

ستجري من دمائهم بحور ** زواخر لا يرون لها نفادا

فوزر بلائهم أبدًا عليه ** أغيًا كان ذلك أم رشادا

قال: وحج هارون ومحمد وعبد الله معه وقواده ووزراؤه وقضاته في سنة ست وثمانين ومائة، وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نهيك العكي على الحرم والخزائن والأموال والعسكر، وأشخص القاسم ابنه إلى منبج، فأنزله إياها بمن ضم إليه من القواد والجند، فلما قضى مناسكه كتب لعبد الله المأمون ابنه كتابين، أجهد الفقهاء والقضاة آراءهم فيهما، أحدهما على محمد بما اشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم ما ولي عبد الله من الأعمال، وصير إليه من الضياع والغلات والجواهر والأموال، والآخر نسخة البيعة التي أخذها على الخاصة والعامة والشروط لعبد الله على محمد وعليهم، وجعل الكتابين في البيت الحرام بعد أخذه البيعة على محمد، وإشهاده عليه بها الله وملائكته ومن كان في الكعبة معه من سائر ولده وأهل بيته ومواليه وقواده ووزرائه وكتابه وغيرهم.

وكانت الشهادة بالبيعة والكتاب في البيت الحرام، وتقدم إلى الحجبة في حفظهما، ومنع من أراد إخراجهما والذهاب بهما، فذكر عبد الله بن محمد ومحمد بن يزيد التيمي وإبراهيم الحجبي، وأن الرشيد حضر وأحضر وجوه بني هاشم والقواد والفقهاء، وأدخلوا البيت الحرام، وأمر بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد، وأشهد عليهما جماعة من حضر، ثم رأى أن يعلق الكتاب في الكعبة، فلما رفع ليعلق وقع، فقيل إن هذا الأمر سريع انتقاضه قبل تمامه. وكانت نسخة الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم ". هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد بن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجوازٍ من أمره، طائعًا غير مكره. إن أمير المؤمنين ولاني العهد من بعده، وصير البيعة لي في رقاب المسلمين جميعًا، وولى عبد الله بن هارون العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين بعدي، برضًا مني وتسليم، طائعًا غير مكره، وولاه خراسان وثغورها وكورها وحربها وجندها وخراجها وطرزها وبريدها، وبيوت أموالها، وصدقاتها وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها، في حياته وبعده. وشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين برضًا مني وطيب نفسي، أن لأخي عبد الله بن هارون علي الوفاء بما عقد له هارون أمير المؤمنين من العهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين جميعًا بعدي، وتسليم ذلك له؛ وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها كلها، وما أقطعه أمير المؤمنين من قطعية، أو جعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه، أو ابتاع من الضياع والعقد، وما أعطاه في حياته وصحته من مال أو حلي أو جوهر، أو متاع أو كسوة، أو منزل أو دواب، أو قليل أو كثير؛ فهو لعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، موفرًا مسلمًا إليه. وقد عرفت ذلك كله شيئًا شيئًا.

فإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأفضت الخلافة إلى محمد بن أمير المؤمنين، فعلى محمد إنفاذ ما أمره به هارون أمير المؤمنين في تولية عبد الله بن هارون أمير المؤمنين خراسان وثغورها ومن ضم إليه من أهل بيت أمير المؤمنين بقرماسين؛ وأن يمضي عبد الله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان والري والكور التي سماها أمير المؤمنين حيث كان عبد الله ابن أمير المؤمنين من معسكر أمير المؤمنين وغيره من سلطان أمير المؤمنين وجميع من ضم إليه أمير المؤمنين حيث أحب، من لدن الري إلى أقصى عمل خراسان. فليس لمحمد بن أمير المؤمنين أن يحول عنه قائدًا ولا مقودًا ولا رجلًا واحدًا ممن ضم إليه من أصحابه الذين ضمهم أمير المؤمنين، ولا يحول عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولايته التي ولاه إياها هارون أمير المؤمنين من ثغور خراسان وأعمالها كلها، ما بين عمل الري مما يلي همذان إلى أقصى خراسان وثغورها وبلادها؛ وما هو منسوب إليها، ولا يشخصه إليه، ولا يفرق أحدًا من أصحابه وقواده عنه، ولا يولي عليه أحدًا، ولا يبعث عليه ولا على أحد من عماله وولاة أموره بندارًا، ولا محاسبًا ولا عاملًا، ولا يدخل عليه في صغير من أمره ولا كبير ضررًا، ولا يحول بينه وبين العمل في ذلك كله برأيه وتدبيره، ولا يعرض لأحد ممن ضم إليه أمير المؤمنين من أهل بيته وصحابته وقضاته وعماله وكتابه وقواده وخدمه ومواليه وجنده؛ بما يلتمس إدخال الضرر والمكروه عليهم في أنفسهم ولا أقربائهم ولا مواليهم، ولا أحد بسبيل منهم، ولا في دمائهم ولا في أموالهم ولا في ضياعهم ودورهم ورباعهم وأمتعتهم ورقيقهم ودوابهم شيئًا من ذلك صغيرًا ولا كبيرًا، ولا أحد من الناس بأمره ورأيه وهواه، وبترخيص له في ذلك وإدهانٍ منه فيه لأحد من ولد آدم، ولا يحكم في أمرهم ولا أحد من قضاته ومن عماله وممن كان بسبب منه بغير حكم عبد الله ابن أمير المؤمنين ورأيه ورأي قضاته.

وإن نزع إليه أحد ممن ضم أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين من أهل بيت أمير المؤمنين وصحابته وقواده وعماله وكتابه وخدمه ومواليه وجنده، ورفض اسمه ومكتبه ومكانه مع عبد الله ابن أمير المؤمنين عاصيًا له أو مخالفًا عليه؛ فعلى محمد ابن أمير المؤمنين رده إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين بصغر له وقماء حتى ينفذ فيه رأيه وأمره.

فإن أراد محمد ابن أمير المؤمنين خلع عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية العهد من بعده، أو عزل عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية خراسان وثغورها وأعمالها، والذي من حد عملها مما يلي همذان والكور التي سماها أمير المؤمنين في كتابه هذا أو صرف أحد من قواده الذين ضمهم أمير المؤمنين إليه ممن قدم قرماسين، أو أن ينتقصه قليلًا أو كثيرًا مما جعله أمير المؤمنين له بوجهٍ من الوجوه، أو بحيلة من الحيل؛ صغرت أو كبرت؛ فلعبد الله ابن هارون أمير المؤمنين الخلافة بعد أمير المؤمنين، وهو المقدم على محمد ابن أمير المؤمنين، وهو ولي الأمر بعد أمير المؤمنين والطاعة من جميع قواد أمير المؤمنين هارون من أهل خراسان وأهل العطاء وجميع المسلمين في جميع الأجناد والأمصار لعبد الله ابن أمير المؤمنين، والقيام معه، والمجاهدة لمن خالفه، والنصر له والذب عنه؛ ما كانت الحياة في أبدانهم. وليس لأحدٍ منهم جميعًا منكانوا، أو حيث كانوا، أن يخالفه ولا يعصيه، ولا يخرج من طاعته، ولا يطيع محمد ابن أمير المؤمنين في خلع عبد الله ابن هارون أمير المؤمنين وصرف العهد عنه من بعده إلى غيره، أو ينتقصه شيئًا مما جعله له أمير المؤمنين هارون في حياته وصحته، واشترط في كتابه الذي كتبه عليه في البيت الحرام في هذا الكتاب. وعبد الله ابن أمير المؤمنين المصدق في قوله، وأنتم في حل من البيعة التي في أعناقكم محمد ابن أمير المؤمنين هارون إن نقص شيئًا مما جعله له أمير المؤمنين هارون، وعلى محمد بن هارون أمير المؤمنين أن ينقاد لعبد الله ابن أمير المؤمنين هارون ويسلم له الخلافة.

وليس لمحمد ابن أمير المؤمنين هارون، ولا لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن يخلعا القاسم ابن أمير المؤمنين هارون، ولا يقدما عليه أحدًا من أولادهما وقراباتهما ولا غيرهم من جميع البرية؛ فإذا أفضت الخلافة إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين، فالأمر إليه في إمضاء ما جعله أمير المؤمنين من العهد للقاسم بعده، أو صرف ذلك عنه إلى من رأى من ولده وإخوته، وتقديم من أراد أن يقدم قبله، وتصيير القاسم ابن أمير المؤمنين بعد من يقدم قبله، يحكم في ذلك بما أحب وأرى.

فعليكم معشر المسلمين إنفاذ ما كتب به أمير المؤمنين في كتابه هذا، وشرط عليهم وأمر به، وعليكم السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما ألزمكم وأوجب عليكم لعبد الله ابن أمير المؤمنين، وعهد الله وذمته وذمة رسوله وذمم المسلمين والعهود والمواثيق التي أخذ الله على الملائكة المقربين والنبيين المرسلين، ووكدها في أعناق المؤمنين والمسلمين، لتفن لعبد الله أمير المؤمنين بما سمى، ولمحمد وعبد الله والقاسم بني أمير المؤمنين بما سمى وكتب في كتابه هذا، واشترط عليكم وأقررتم به على أنفسكم؛ فإن أنتم بدلتم من ذلك شيئًا، أو غيرتم، أو نكثتم، أو خالفتم ما أمركم به أمير المؤمنين، واشترط عليكم في كتابه هذا، فبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله محمد وذمم المؤمنين والمسلمين، وكل مال هو اليوم لكل رجل منكم أو يستفيده إلى خمسين سنة فهو صدقة على المساكين، وعلى كل رجل منكم المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة خمسين حجة، نذرًا واجبًا ولا يقبل الله منه إلا الوفاء بذلك؛ وكل مملوك لأحد منكم - أو يملكه فيما يستقبل إلى خمسين - حر، وكل امرأة له فهي طالق ثلاثًا البتة طلاق الحرج، لا مثنوية فيها. والله عليم بذلك كفيل وراع، وكفى بالله حسيبا.

نسخة الشرط الذي كتب عبد الله ابن أمير المؤمنين بخط يده في الكعبة

هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، في صحة عقله، وجوازٍ من أمره، وصدق نية فيما كتب في كتابه هذا، ومعرفة بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة المسلمين. إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن هارون، وولاني في حياته ثغور خراسان وكور وجميع أعمالها، وشرط على محمد بن هارون الوفاء بما عقد لي من الخلافة وولاية أمور العباد والبلاد بعده، وولاية خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين، أو أبتاع من الضياع والعقد والرباع أو ابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب والرقيق وغير ذلك، ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي بسبب محاسبة، ولا يتبع لي في ذلك ولا لأحد منهم أبدًا، ولا يدخل علي ولا على ولا عليهم ولا على من كان معي ومن استعنت به من جميع الناس مكروهًا؛ في نفس ولا دم ولا شعر ولا بشر ولا مال، ولا صغير من الأمور ولا كبير. فأجابه إلى ذلك، وأقر به وكتب له كتابًا، أكد فيه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين هارون وقبله، وعرف صدق نيته فيه. فشرطت لأمير المؤمنين وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد وأطيع ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي بيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن موازرته وجهاد عدوه في ناحيتي، ما وفى لي بما شرط لأمير المؤمنين في أمري، وسمى في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، ورضي به أمير المؤمنين، ولم يتبعني بشيء من ذلك، ولم ينقض أمرًا من الأمور التي شرطها أمير المؤمنين لي عليه.

فإن احتاج محمد بن أمير المؤمنين إلى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصه إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو عدو من أعدائه؛ خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه أو سلطاني الذي أسنده أمير المؤمنين إلينا وولانا إياه؛ فعلي أن أنفذ أمره ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلي. وإن أراد محمد أن يولي رجلًا من ولده العهد والخلافة من بعدي؛ فذلك له ما وفى لي بما جعله أمير المؤمنين إلي واشترطه لي عليه، وشرط على نفسه في أمري، وعلى إنفاذ ذلك والوفاء له به؛ ولا أنقص من ذلك ولا أغيره ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحدًا من ولدي، ولا قريبًا ولا بعيدًا من الناس أجمعين؛ إلا أن يولي أمير المؤمنين هارون أحدًا من ولده العهد من بعدي؛ فيلزمني ومحمدًا الوفاء له.

وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد على الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفى لي محمد بجميع ما اشترط لي أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في هذا الكتاب الذي كتبه لي، وعلى عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمم آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين من خلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها، ونهى عند نقضها وتبديلها؛ فإن أنا نقضت شيئًا مما شرطت وسميت في كتابي هذا أو غيرت أو بدلت، أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله عز وجل ومن ولايته ودينه، ومحمد رسول الله ، ولقيت الله يوم القيامة كافرًا مشركًا؛ وكل امرأة هي لي اليوم أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثًا البتة طلاق الحرج؛ وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة، نذرًا واجبًا علي في عنقي حافيًا راجلًا؛ لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال لي أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدى بالغ الكعبة؛ وكل ما جعلت لأمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لا أضمر غيره، ولا أنوي غيره.

وشهد سليمان بن أمير المؤمنين وفلان وفلان. وكتب في ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائة.

نسخة كتاب هارون بن محمد الرشيد إلى العمال

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن الله ولي أمير المؤمنين وولي ما ولاه، والحافظ لما استرعاه وأكرمه به من خلافته وسلطانه، والصانع له فيما قدم وأخر من أموره، والمنعم عليه بالنصر والتأييد في مشارق الأرض ومغاربها، والكالئ والحافظ والكافي من جميع خلقه؛ وهو المحمود على جميع آلائه، المسئول تمام حسن ما أمضى من قضائه لأمير المؤمنين، وعادته الجميلة عنده، وإلهام ما يرضى به، ويوجب عليه أحسن المزيد من فضله. وقد كان من نعمة الله عز وجل عند أمير المؤمنين وعندك وعند عوام المسلمين ما تولى الله من محمد وعبد الله ابني أمير المؤمنين، من تبليغه بهما أحسن ما أملت الأمة، ومدت إليه أعناقها، وقذف الله لهما في قلوب العامة من المحبة والمودة والسكون إليهما والثقة بهما، لعماد دينهم، وقوام أمورهم؛ وجمع ألفتهم، وصلاح دهمائهم، ودفع المحذور والمكروه من الشتات والفرقة عنهم؛ حتى ألقوا إليهما أزمتهم، وأعطوهما بيعتهم وصفقات أيمانهم، بالعهود والمواثيق ووكيد الأيمان المغلظة عليهم. أراد الله فلم يكن له مرد، وأمضاه فلم يقدر أحد من العباد على نقضه ولا إزالته، ولا صرفٍ له عن محبته ومشيئته، وما سبق في علمه منه. وأمير المؤمنين يرجو تمام النعمة عليه وعليهما في ذلك وعلى الأمة كافة؛ ولا عاقب لأمر الله ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ اجتمعت الأمة على عقد العهد لمحمد بن أمير المؤمنين من بعد أمير المؤمنين ولعبد الله ابن أمير المؤمنين من بعد محمد ابن أمير المؤمنين، يعمل فكره ورأيه ورويته فيما فيه الصلاح لهما ولجميع الرعية والجمع للكلمة، واللم للشعث، والدفع للشتات والفرقة، والحسم لكيد أعداء النعم؛ من أهل الكفر والنفاق والغل والشقاق، والقطع لآمالهم من كل فرصة يرجون إدراكها وانتهازها منهما بانتقاص حقهما. ويستخير الله أمير المؤمنين في ذلك، ويسأله العزيمة له على ما فيه الخيرة لهما ولجميع الأمة، والقوة في أمر الله وحقه وائتلاف أهوائهما، وصلاح ذات بينهما، وتحصينهما من كيد أعداء النعم، ورد حسدهم ومكرهم وبغيهم وسعيهم بالفساد بينهما.

فعزم أمير المؤمنين على الشخوص بهما إلى بيت الله، وأخذ البيعة منهما لأمير المؤمنين بالسمع والطاعة والإنفاذ لأمره، واكتتاب الشرط على كل واحد منهما لأمير المؤمنين ولهما بأشد المواثيق والعهود، وأغلظ الأيمان والتوكيد، والأخذ لكل واحد منهما على صاحبه بما التمس به أمير المؤمنين اجتماع إلفتهما ومودتهما وتواصلهما وموازرتهما ومكانفتهما على حسن النظر لأنفسهما ولرعية أمير المؤمنين التي استرعاهما، والجماعة لدين الله عز وجل وكتابه وسنن نبيه ، والجهاد لعدو المسلمين؛ من كانوا وحيث كانوا، وقطع طمع كل عدو مظهر للعداوة، ومسر لها، وكل منافق ومارق، وأهل الأهواء الضالة المضلة من تكيد بكيد توقعه بينهما، وبدحس يدحس به لهما، وما يلتمس أعداء الله وأعداء النعم وأعداء دينه من الضرب بين الأمة، والسعي بالفساد في الأرض، والدعاء إلى البدع والضلالة؛ نظرًا من أمير المؤمنين لدينه ورعيته وأمة نبيه محمد ومناصحة لله ولجميع المسلمين، وذبًا عن سلطان الله الذي قدره، وتوحد فيه للذي حمله إياه والاجتهاد في كل ما فيه قربة إلى الله، وما ينال به رضوانه، والوسيلة عنده.

فلما قدم مكة أظهر لمحمد وعبد الله رأيه في ذلك، وما نظر فيه لهما، فقبلا كل ما دعاهما إليه من التوكيد على أنفسهما بقبوله، وكتبا لأمير المؤمنين في بطن بيت الله الحرام بخطوط أيديهما، بمحضر ممن شهد الموسم من أهل بيت أمير المؤمنين وقواده وصحابته وقضاته وحجبة الكعبة وشهاداتهم عليها كتابين استودعهما أمير المؤمنين الحجبة، وأمر بتعليقهما في داخل الكعبة.

فلما فرغ أمير المؤمنين من ذلك كله في داخل بيت الله الحرام وبطن الكعبة، أمر قضاته الذين شهدوا عليهما، وحضروا كتابهما، أن يعلموا جميع من حضر الموسم من الحجاج والعمار ووفود الأمصار ما شهدوا عليه من شرطهما وكتابهما، وقراءة ذلك عليهم ليفهموه ويعوه، ويعرفوه ويحفظوه، ويؤده إلى إخوانهم وأهل بلدانهم وأمصارهم، ففعلوا ذلك، وقرئ عليهم الشرطان جميعًا في المسجد الحرام، فانصرفوا. وقد اشتهر ذلك عندهم، وأثبتوا الشهادة عليه، وعرفوا نظر أمير المؤمنين وعنايته بصلاحهم وحقن دمائهم، ولم شعثهم وإطفاء جمرة أعداء الله؛ أعداء دينه وكتابه وجماعة المسلمين عنهم، وأظهروا الدعاء لأمير المؤمنين والشكر لما كان منه في ذلك.

وقد نسخ لك أمير المؤمنين ذينك الشرطين اللذين كتبهما لأمير المؤمنين ابناه محمد وعبد الله في بطن الكعبة في أسفل كتابه؛ هذا فأحمد الله عز وجل على ما صنع لمحمد وعبد الله وليي عهد المسلمين حمدًا كثيرًا، وأشكره ببلائه عند أمير المؤمنين وعند وليي عهد المسلمين وعندك وعند جماعة أمة محمد كثيرًا.

واقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلك من المسلمين، وأفهمهم إياه وقم به بينهم، وأثبته في الديوان قبلك وقبل قواد أمير المؤمنين ورعيته قبلك واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله وحسبنا الله ونعم الوكيل وبه الحول والقوة والطول. وكتب إسماعيل بن صبيح يوم السبت لسبع ليال بقين من المحرم سنة ست وثمانين ومائة.

قال: وأمر هارون الرشيد لعبد الله المأمون بمائة ألف دينار، وحملت له إلى بغداد من الرقة.

قال وكان الرشيد بعد مقتل جعفر بن يحيى بالعمر، صار إلى الرقة، ثم قدم بغداد؛ وقد كانت توالت عليه الشكاية من علي بن عيسى بن ماهان من خراسان وكثر عليه القول عنده، فأجمع على عزله من خراسان، وأحب أن يكون قريبًا منه. فلما صار إلى بغداد شخص بعد مدة منها إلى قرماسين، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائة، وأشخص إليها عدة رجال من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سواه أجمع لعبد الله المأمون، وأنه ليس فيه قليل ولا كثير بوجه ولا سبب، وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بن هارون أمير المؤمنين وعلى من كان بحضرته لعبد الله والقاسم على النسخة التي كان أخذها عليه الرشيد بمكة، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله إذا أفضت إليه الخلافة؛ فقال إبراهيم الموصلي في بيعة هارون لابنيه في الكعبة:

خير الأمور مغبةً ** وأحق أمر بالتمام

أمر قضى إحكامه الر ** حمان في البيت الحرام

ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر الخبر عن إيقاع الرشيد بالبرامكة

فمما كان فيها من ذلك قتل الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد وإيقاعه بالبرامكة.

ذكر الخبر عن قتله إياه وكيف كان قتله وما فعل به وبأهل بيته

أما سبب غضبه عليه الذي قتله عنده، فإنه مختلف، فمن ذلك ما ذكر عن بختيشوع بن جبريل، عن أبيه أنه قال: إني لقاعد في مجلس الرشيد، إذ طلع يحيى بن خالد - وكان فيما مضى يدخلان بلا إذن - قلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلم رد عليه ردًا ضعيفًا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغير.

قال: ثم أقبل على الرشيد، فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك! فقام يحي، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمني الله قبلك؛ والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري؛ حتى أن كنت لأدخل وهو في فراشه مجردًا حينا، وحينا في بعض إزاره؛ وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب؛ وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الأذن، أو الثالثة إن أمرني سيدي بذلك. قال: فاستحيا - قال: وكان من أرق الخلفاء وجهًا - وعيناه في الأرض، ما يرفع إليه طرفه، ثم قال: ما أردت ما تكره؛ ولكن الناس يقولون. قال: فظننت أنه لم يسنح له جواب يرتضيه فأجاب بهذا القول ثم أمسك عنه، وخرج يحيى.

وذكر عن أحمد بن يوسف أن ثمامة بن أشرس؛ قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله؛ فكيف أنت إذا وقفت بين يديه، فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب إني استكفيت يحيى أمور عبادك! أتراك تحتج بحجة يرضى بها! مع كلام فيه توبيخ وتقريع. فدعا الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبر الرسالة - فقال: تعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم، قال: فأي الرجال هو؟ قال: متهم على الإسلام، فأمر به فوضع في المطبق دهرًا؛ فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه، فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: تقول هذا! قال: نعم، وضعت في رجلي الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت، ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله؛ فكيف أحبك! قال: صدقت، وأمر بإطلاقه، ثم قال: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين؛ ولكن قد ذهب ما في قلبي، فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم؛ قد أنعمت علي وأحسنت إلي. قال: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك. قال: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغيير حالهم. قال: وحدثني محمد بن الفضل بن سفيان، مولى سليمان بن أبي جعفر، قال: دخل يحيى بن خالد بعد ذلك على الرشيد، فقام الغلمان إليه، قال: فدخل فلم يقم إليه أحد، فأربد لونه. قال: وكان الغلمان والحجاب بعد أن رأوه أعرضوا عنه. قال: فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره، فلم يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعوا بها مرارًا.

وذكر أبو محمد اليزيدي - وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم - قال: من قال أن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تصدقه؛ وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، إلى أن قال: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك غدًا محمد ؛ فوالله ما أحدثت حدثًا ولا آويت محدثًا، فرق عليه، وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك! فوجه معه من أداه إلى مأمنه. وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فعلا الأمر، فوجده حقًا، وانكشف عنده؛ فدخل على الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره، وقال: وما أنت وهذا لا أم لك! فلعل ذلك عن أمري؛ فانكسر الفضل؛ وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس والضيق والأكبال. قال: بحياتي! فأحجم جعفر - وكان من أدق الخلق ذهنًا، وأصحهم فكرًا - وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. قال: نعم ما فعلت؛ ما عدوت ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه، ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك! فكان من أمره ما كان.

وحدث إدريس بن بدر، قال: عرض رجل شديد وهو يناظر يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة؛ فادع بي إليك، فقال لهرثمة: خذ الرجل إليك، وسله عن نصيحة هذه، فسأله، فأبى أن يخبره وقال: هي سر من أسرار الخليفة، فأخبر هرثمة الرشيد بقوله، قال: فقل له لا يبرح الباب حتى أفرغ له، قال: فلما كان في الهاجرة انصرف من كان عنده، ودعا به، فقال: أخلني، فالتفت هارون إلى بنيه، فقال: انصرفوا يا فتيان؛ فوثبوا وبقي خاقان وحسين على رأسه؛ فنظر إليهما الرجل، فقال الرشيد: تنحيا عني، ففعلا، ثم أقبل على الرجل، فقال: هات ما عندك، قال: على أن تؤمنني! قال: على أن أؤمنك وأحسن إليك. قال: كنت بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف أخضر غليظ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرحلون إذا رحل، ويكونون منه بصدد يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم من أعوانه، ومع كل واحد منهم منشور يأمن به إن عرض له. قال: أوتعرف يحيى بن عبد الله؟ قال: أعرفه قديمًا، وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس، قال: فصفه لي، قال: مربوع أسمر رقيق السمرة، أجلح، حسن العينين، عظيم البطن. قال: صدقت؛ هو ذاك. قال: فما سمعته يقول؟ قال: ما سمعته يقول شيئًا؛ غير أني رأيته يصلي، ورأيت غلامًا من غلمانه أعرفه قديمًا جالسًا على باب الخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوبٍ غسيل، فألقاه في عنقه ونزع جبة الصوف، فلما كان بعد الزوال صلى صلاة ظننتها العصر، وأنا أرمقه؛ أطال في الأوليين، وخفف في الأخريين، فقال: لله أبوك! لجاد ما حفظت عليه، نعم تلك صلاة العصر؛ وذاك وقتها عند القوم، أحسن الله جزاءك، وشكر سعيك! فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أعقاب أبناء هذه الدولة، وأصلي من مرو، ومولدي مدينة السلام، قال: فمنزلك بها؟ قال: نعم؛ فأطرق مليًا ثم قال: كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي! قال: أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين، قال: كن بمكانك حتى أرجع. فطفر في حجرة كانت خلف ظهره، فأخرج كيسًا فيه ألفا دينار، فقال: خذ هذه، ودعني ما أدبر فيك، فأخذها، وضم عليها ثيابه، ثم قال: يا غلام، فأجابه خاقان وحسين، فقال: اصفعا ابن اللخناء، فصفعاه نحوًا من مائة صفعة، ثم قال: أخرجاه إلى من بقي في الدار، وعمامته في عنقه، وقولا: هذا جزاء من يسعى بباطنة أمير المؤمنين وأوليائه! ففعلا ذلك؛ وتحثوا بخبره؛ ولم يعلم بحال الرجل أحد، ولا بما كان ألقى إلى الرشيد؛ حتى كان من أمر البرامكة ما كان.

وذكر يعقوب بن إسحاق أن إبراهيم بن المهدي حدثه. قال:

أتيت جعفر بن يحيى في داره التي ابتناها، فقال لي: أما تعجب من منصور بن زياد؟ قال: قلت فبماذا؟ قال: سألته: هل ترى في داري عيبًا؟ قال: نعم؛ ليس فيها لبنة ولا صنوبرة، قال إبراهيم: فقلت: الذي يعيبها عندي أنك أنفقت عليها نحوًا من عشرين ألف ألف درهم، وهو شيء لا آمنه عليك غدًا بين يدي أمير المؤمنين، قال: هو يعلم أنه قد وصلني بأكثر من ذلك وضعف ذلك، سوى ما عرضني له. قال: قلت: إن العدو إنما يأتيه في هذا من جهة أن يقول: يا أمير المؤمنين، إذا أنفق على دار عشرين ألف ألف درهم، فأين نفقاته! وأين صلاته! وأين النوائب التي تنوبه! ما أظنك يا أمير المؤمنين بما وراء ذلك! وهذه جملة سريعة إلى القلب، والموقف على الحاصل منها صعب. قال: إن سمع مني قلت: إن أمير المؤمنين نعمًا على وم قد كفروها بالستر لها أو بإظهار القليل من كثيرها؛ وأنا رجل نظرت إلى نعمته عندي، فوضعتها في رأس جبل، ثم قلت للناس: تعالوا فانظروا.

وذكر زيد بن علي بن حسين بن زيد أن إبراهيم بن المهدي حدثه أن جعفر بن يحيى، قال له يومًا - وكان جعفر بن يحيى صاحبه عند الرشيد، وهو الذي قربه منه: إني استربت بأمر هذا الرجل - يعني الرشيد - وقد ظننت أن ذلك لسابق سبق في نفسي منه، فأردت أن أعتبر ذلك بغيري، فكنت أنت؛ فارمق ذلك في يومك هذا وأعلمني ما ترى منه. قال: ففعلت ذلك في يومي؛ فلما نهض الرشيد من مجاسه كنت أول أصحابه نهض عنه، حتى صرت إلى شجر في طريقي، فدخلتها ومن معي، وأمرتهم بإطفاء الشمع، وأقبل الندماء يمرون بي واحدًا واحدًا، فأراهم ولا يروني؛ حتى إذا لم يبق منهم أحد؛ إذا أنا بجعفر قد طلع، فلما جاوز الشجر قال: أخرج يا حبيبي، قال: فخرجت، فقال: ما عندك؟ فقلت: حتى تعلمني كيف علمت أني ها هنا؛ قال: عرفت عنايتك بما أعني به، وأنك لم تكن لتنصرف أو تعلمني ما رأيت منه؛ وعلمت أنك تكره أن ترى واقفًا في مثل هذا الوقت، وليس في طريقك موضع أستر من هذا الموضع، فقضيت بأنك فيه، قلت: نعم؛ قال: فهات ما عندك، قلت: رأيت الرجل يهزل إذا هزلت.

قال: كذا هو عندي، فانصرف يا حبيبي. قال: فانصرفت. قال: وحدثني علي بن سليمان أنه سمع جعفر بن يحيى يومًا يقول: ليس لدارنا هذه عيب؛ إلا أن صاحبها فيها قليل البقاء - يعني نفسه.

وذكر عن موسى بن يحيى، قال: خرج أبي إلى الطواف في السنة التي أصيب فيها، وأنا معه من بين ولده، فجعل يتعلق بأستار الكعبة، ويردد الدعاء، ويقول: اللهم ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك، ولا يعرفها سواك. اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي في الدنيا؛ وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري، ومالي وولدي، حتى تبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة.

قال: وحدثني أحمد بن الحسن بن حرب، قال: اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني نعمتك عندي فاسلبني، اللهم إن رضاك في أن تسلبني أهلي وولدي فاسلبني، اللهم إلا الفضل. قال: ثم ولى ليمضي؛ فلما قرب من باب المسجد كر مسرعًا، ففعل مثل ذلك، وجعل يقول: اللهم إنه سمج بمثلي أن يرغب إليك ثم يستثني عليك.. اللهم والفضل. قال: فلما انصرفوا من الحج نزلوا الأنبار، ونزل الرشيد بالعمر ومعه وليا العهد؛ الأمين والمأمون، ونزل الفضل مع الأمين، وجعفر مع المأمون، ويحيى في منزل خالد بن عيسى كاتبه، ومحمد بن يحيى في منزل ابن نوح صاحب الطراز، ونزل محمد بن خالد مع المأمون بالعمر مع الرشيد، قال: وخلا الرشيد بالفضل ليلًا، ثم خلع عليه وقلده، وأمره أن ينصرف مع محمد الأمين، ودعا بموسى بن يحيى فرضي عنه وكان غضب عليه بالحيرة في بدأته، لان على عيسى بن ماهان اتهمه عند الرشيد في أمر خراسان واعلمه طاعة أهلها له، ومحبتهم إياه، وإنه يكاتبهم ويعمل على الانسلال إليهم والوثوب به معهم؛ فوقر ذلك في نفس الرشيد عليه وأوحشه منه؛ وكان موسى أحد الفرسان الشجعان، فلما قدح علي بن عيسى فيه أسرع ذلك في الرشيد، وعمل فيه القليل منه، ثم ركب موسى دين، اختفى من غرمائه، فتوهم الرشيد عليه أنه صار إلى خراسان؛ كما قيل له، فلما صار إلى الحيرة في هذه الحجة وافاه موسى من بغداد، فحبسه الرشيد عند العباس بن موسى بالكوفة؛ فكان ذلك أول ثلمة ثلموا بها؛ فركبت أم الفضل بن يحيى في أمره، ولم يكن يردها في شيء، فقال: يضمنه أبوه فقد رفع إلى فيه، فضمنه يحيى ودفعه إليه، ثم رضي عنه، وخلع عليه، وكان الرشيد قد عتب على الفضل بن يحيى، وثقل مكانه عليه لتركه الشرب معه؛ فكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما شربته؛ وكان مشغوفًا بالسماع. قال: وكان جعفر يدخل في منادمة الرشيد؛ حتى كان أبوه ينهاه عن منادمته، ويأمره بترك الأنس به، فيترك أمر أبيه، ويدخل معه فيما يدعوه إليه.

وذكر عن سعيد بن هريم أن يحيى كتب إلى جعفر حين أعيته حيلته فيه: إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة تعرف بها أمرك؛ وإن كنت لأخشى أن تكون التي لا شوى لها. قال: وقد كان يحيى قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، أنا والله أكره مداخلة جعفر معك؛ ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك علي منك، فلو أعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك، كان ذلك واقعًا بموافقتي، وآمن لك علي. قال الرشيد: يا أبت ليس بك هذا؛ ولكنك إنما تريد أن تقدم عليه الفضل.

وقد حدثني أحمد بن زهير - أحسبه عن عمه زاهر بن حرب - أن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرههما إذا جاس للشرب؛ وذلك بعد أن أعلم جعفرًا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي، وتقدم إليه ألا يمسها، ولايكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته؛ فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب، وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحملت منه وولدت غلامًا، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستورًا عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه؛ ومع من هو من جواريها، وما معه من الحلي الذي كانت زينته به أمه؛ فلما حج هارون هذه الحجة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به من يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد - فيما زعم - قتل الصبي، ثم تحوب من ذلك.

وكان جعفر يتخذ للرشيد طعامًا كلما حج بعسفان فيقريه إذا انصرف شاخصًا من مكة إلى العراق؛ فلما كان في هذا العام، اتخذ الطعام جعفر كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتل عليه الرشيد، ولم يحضر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار؛ فكان من أمره وأمر أبيه ما أنا ذاكره إن شاء الله تعالى.

ذكر الخبر عن مقتل جعفر

ذكر الفضل بن سليمان بن علي أن الرشيد حج في سنة ست وثمانين ومائة وأنه انصرف من مكة، فوافى الحيرة في المحرم من سنة سبع وثمانين ومائة عند انصرافه من الحج، فأقام في قصر عون العبادي أيامًا، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلما كان ليلة السبت لانسلاخ المحرم أرسل مسرورًا الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجفر بن يحيى ليلًا، فدخل عليه مسرور وعنده بختيشوع المتطبب وأبو زكار الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في لهوه، فأخرجه إخراجًا عنيفًا يقوده، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد بأخذه إياه ومجيئه به، فأمر بضرب عنقه، ففعل ذلك.

وذكر عن علي بن أبي سعيد أن مسرورًا الخادم، حدثه قال: أرسلني الرشيد لآتيه بجعفر بن يحيى لما أراد قتله، فأتيته وعنده أبو زكار الأعمى المغني وهو يغنيه:

فلا تبعد فكل فتىً سيأتي ** عليه الموت يطرق أو يغادي

قال: فقلت له: يا أبا الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك، أجب أمير المؤمنين. قال: فرفع يديه، ووقع على رجلي يقبلهما، وقال: حتى أدخل فأوصي، قلت: أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت، فتقدم في وصيته بما أراد، وأعتق مماليكه، ثم أتتني رسل أمير المؤمنين تستحثني به، قال: فمضيت إليه فأعلمته، فقال لي وهو في فراشه: ائتني برأسه، فأتيت جعفرًا فأخبرته، فقال: يا أبا هاشم، الله الله! والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهو سكران؛ فدافع بأمري حتى أصبح أؤامره في ثانية، فعدت لأؤامره، فلما سمع حسي، قال: يا ماص بظر أمه، ائتني برأس جعفر! فعدت إلى جعفر، فأخبرته، فقال: عاوده في ثالثة، فأتيته، فحذفني بعمود ثم قال: نفيت من المهدي إن أنت جئتني ولم تأتني برأسه، لأرسلن إليك من يأتيني برأسك أولًا، ثم برأسه آخرًا. قال: فخرت فأتيته برأسه.

قال: وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه، ومن كان منهم بسبيل، فلم يفلت منهم أحد كان حاضرًا، وحول الفضل بن يحيى ليلًا فحبس في ناحية من منازل الرشيد، وحبس يحيى بن خالد في منزله، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها، ووجه من ليلتهرجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم وما كان لهم؛ وأخذ كل ما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم، وولاه أمورهم، وفرق الكتب من ليلته إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم، وأخذ وكلائهم.

فلما أصبح بعث بجثة جعفر بن يحيى مع شعبة الخفتاني وهرثمة بن أعين وإبراهيم بن حميد المروروذي، وأتبعهم عدة من خدمه وثقاته؛ منهم مسرور الخادم إلى منزل جعفر بن يحيى، وإبراهيم بن حميد وحسين الخادم إلى منزل الفضل بن يحيى، ويحيى بن عبد الرحمن ورشيد الخادم إلى منزل يحيى ومحمد بن يحيى، وجعل معه هرثمة بن أعين، وأمر بقبض جميع ما لهم، وكتب إلى السندي الحرشي بتوجيه جيفة جعفر إلى مدينة السلام، ونصب رأسه على الجسر الأوسط وقطع جثته، وصلب كل قطعة منها على الجسر الأعلى والجسر الأسفل. ففعل السندي ذلك، وأضى الخدم ما كانوا وجهوا فيه، وحمل عدة من أولاد الفضل وجعفر ومحمد الأصاغر إلى الرشيد، فأمر بإطلاقهم، وأمر بالنداءفي جميع البرامكة: ألا أمان آواهمإلا محمد بن خالد وولده وأهله وحشمه؛ فإنه استثناهم؛ لما ظهر من نصيحة محمد له، وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة. وخلى سبيل يحيى قبل شخوصه من العمر، ووكل بالفضل ومحمد وموسى بني يحيى، وبأبي المهدي صهرهم حفظةً من قبل هرثمة بن أعين، إلى أن وافى بهم الرقة، فأمر الرشيد بقتل أنس بن أبي شيخ يوم قدم الرقة، وتولى قتله إبراهيم بن عثمان بن نهيك، ثم صلب. وحبس يحيى بن خالد مع الفضل ومحمد في دير القائم، وجعل عليهم حفظة من قبل مسرور الخادم وهرثمة بن أعين، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه، وصير معهم زبيدة بنت منير أم الفضل ودنانير جارية يحيى وعدة من خدمهم وجواريهم. ولم تزل حالهم سهلة إلى أن سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح، فعمهم بالتثقيف بسخطه، وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد، فضيق عليهم.

وذكر الزبير بن بكار أن جعفر بن الحسين اللهبي حدثه أن الرشيد أتى بأنس بن أبي شيخ صبح الليلة التي قتل فيها جعفر بن يحيى، فدار بينه وبينه كلام، فأخرج الرشيد سيفًا من تحت فراشه، وأمر بضرب عنقه، وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك:

تلمظ السيف من شوق إلى أنسٍ ** فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر

قال: فضرب عنقه، فسبق السيف الدم، فقال الرشيد: رحم الله عبد الله بن مصعب. وقال الناس: إن السيف كان سيف الزبير بن العوام.

وذكر بعضهم أن عبد الله بن مصعب كان على خبر الناس للرشيد، فكان أخبره عن أنس أنه على الزندقة، فقتله لذلك، وكان أحد أصحاب البرامكة.

وذكر محمد بن إسحاق أن جعفر بن محمد بن حكيم الكوفي، حدثه قال: حدثني السندي بن شاهك، قال: إني لجالس يومًا، فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد، ودفع إلي كتابًا صغيرًا، ففضضته، فإذا كتاب الرشيد بخطه فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم ": يا سندي، إذا نظرت في كتابي هذا، فإن كنت قاعدًا فقم، وإن كنت قائمًا فلا تقعد حتى تصير إلي. قال السندي: فدعوت بدوابي، ومضيت. وكان الرشيد بالعمر؛ فحدثني العباس بن الفضل بن الربيع، قال: جلس الرشيد في الزو في الفرات ينتظرك، وارتفعت غبرة، فقال لي: يا عباس، ينبغي أن يكون هذا السندي وأصحابه! قلت: يا أمير المؤمنين، ما أشبهه أن يكون هو! قال: فطلعت. قال السندي: فنزلت عن دابتي، ووقفت، فأرسل إلي الرشيد فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم: قوموا، فقاموا فلم يبق إلا العباس بن الفضل وأنا، ومكث ساعة، ثم قال للعباس: اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزو، ففعل ذلك، فقال لي: ادن مني، فدنوت منه، فقال لي: تدري فيما أرسلت إليك؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: قد بعثت إليك في أمر لو علم به زر قميصي رميت به في الفرات، يا سندي من أوثق قوادي عندي؟ قلت: هرثمة، قال: صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ قلت: مسرور الكبير، قال: صدقت، امض من ساعتك هذه وجد في سيرك حتى توافي مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا وأعوانهم على أهبة فإذا انقطعت الزجل، فصر إلى دور البرامكة، فوكل بكل باب من أبوابهم صاحب ربع، ومره أن يمنع من يدخل ويخرج - خلا باب محمد بن خالد - حتى يأتيك أمري. قال: ولم يكن حرك البرامكة في ذلك الوقت. قال السندي: فجئت أركض، حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي، وفعلت ما أمرني به. قال: فلم ألبث أن أقدم على هرثمة بن أعين، ومعه جعفر بن يحيى على بغل بلا أكاف، مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني أن أشطره باثنين؛ وأن أصلبه على ثلاثة جسور. قال: ففعلت ما أمرني به.

قال محمد بن إسحاق: فلم يزل جعفر مصلوبًا حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلما صار بالجانب الشرقي على باب خزيمة بن خازم، دعا بالوليد بن جثم الشاري من الحبس، وأمر أحمد بن الجنيد الختلي - وكان سيافه - فضرب عنقه، ثم التفت إلى السندي، فقال: ينبغي أن يحرق هذا - يعني جعفرًا - فلما مضى، جمع السندي له شوكًا وحطبًا وقال محمد بن إسحاق: لما قتل الرشيد جعفر بن يحيى، قيل ليحيى بن خالد: قتل أمير المؤمنين ابنك جعفرًا، قال: كذلك يقتل ابنه، قال: فقيل له: خربت ديارك، قال: كذلك تخرب دورهم.

وذكر الكرماني أن بشارًا التركي حدثه أن الرشيد خرج إلى الصيد وهو بالعمر في اليوم الذي قتل جعفرًا في آخره؛ فكان ذلك اليوم يوم جمعة، وجعفر بن يحيى معه، قد خلا به دون ولاة العهد؛ وهو يسير معه، وقد وضع يده على عاتقه؛ وقبل ذلك ما غلفه بالغالية بيد نفسه؛ ولم يزل معه ما يفارقه حتى انصرف مع المغرب، فلما أراد الدخول ضمه إليه، وقال له: لولا أني علي الجلوس الليلة مع النساء لم أفارقك، فأقم أنت في منزلك، واشرب أيضًا واطرب؛ لتكون أنت في مثل حالي، فقال: لا والله ما أشتهي ذلك إلا معك، فقال له: بحياتي لما شربت؛ فانصرف عنه إلى منزله؛ فلم تزل رسل الرشيد عنده ساعة بعد ساعة تأتيه بالأنفال والأبخرة والرياحين؛ حتى ذهب الليل. ثم بعث إليه مسرورًا فحبس عنده، وأمر بقتله وحبس الفضل ومحمد وموسى، ووكل سلامًا الأبرش بباب يحيى بن خالد، ولم يعترض لمحمد بن خالد ولا لأحد من ولده وحشمه.

قال: فحدثني العباس بن بزيع عن سلام، قال: لما دخلت على يحيى في ذلك الوقت - وقد هتكت الستور وجمع المتاع - قال لي: يا أبا مسلمة؛ هكذا تقوم الساعة! قال سلام: فحدثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه؛ فأطرق مفكرًا.

قال وحدثني أيوب بن هارون بن سليمان بن علي، قال: كان سكني إلى يحيى، فلما نزلوا الأنبار خرجت إليه فأنا معه في تلك العشية التي كان آخر أمره، وقد صار إلى أمير المؤمنين في حراقته، فدخل إليه من باب صاحب الخاصة، فكلمه في حوائج الناس وغيرها من إصلاح الثغور وغزو البحر، ثم خرج، فقال للناس: قد أمر أمير المؤمنين بقضاء حوائجكم، وبعث إلى أبي صالح بن عبد الرحمن يأمره بإنفاذ ذلك، ثم لم يزل يحدثنا عن أبي مسلم وتوجيه معاذ بن مسلم حتى دخل منزله بعد المغرب، ووافانا في وقت السحر خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم. قال: فكتبت إلى يحيى أعزيه، فكتب إلي: أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما ربك بظلام للعبيد. وما يعفو الله أكثر، ولله الحمد.

قال: قتل جعفر بن يحيى ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة - وفي ذلك يقول الرشاقي:

أيا سبت يا شر السبوت صبحيةً ** ويا صفر المشئوم ما جئت أشأما

أتى السبت بالأمر الذي هد ركننا ** وفي صفرٍ جاء البلاء مصمما

قال: وذكر عن مسرور أنه أعلم الرشيد أن جعفرًا سأله أن تقع عينه عليه، فقال: لا، لأنه يعلم إن وقعت عيني عليه لم أقتله.

ما قيل في البرامكة من الشعر بعد زوال أمرهم

قال: وفيهم يقول الرقاشي، وقد ذكر أن هذا الشعر لأبي نواس:

ألان استرحنا واستراحت ركابنا ** وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي

فقل للمطايا قد أمنت من السري ** وطي الفيافي فدفدًا بعد فدفد

وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفرٍ ** ولن تظفري من بعده بمسود

وقل للعطايا بعد فضلٍ تعطلي ** وقل للرزايا كل يوم تجددي

ودونك سيفًا برمكيًا مهندًا ** أصيب بسيفٍ هاشمي مهند

وفيهم يقول في شعر له طويل:

إن يغدر الزمن الخئون بنا فقد ** غدر الزمان بجعفرٍ ومحمد

حتى إذا وضح النهار تكشفت ** عن قتل أكرم هالك لم يلحد

والبيض لولا أنها مأمورة ** ما فل حد مهند بمهند

يا آل برمك كم لكم من نائل ** وندى، كعد الرمل غير مصرد

إن الخليفة لايشك أخوكملكنه في برمكٍ لم يولد

نازعتموه رضاع أكرم حرةٍ ** مخلوقة من جوهرٍ وزبرجد

ملك له كانت يد فياضة ** أبدًا تجود بطارفٍ وبمتلد

كانت يدًا للجود حتى غلها ** قدر فأضحى الجود مغلول اليد

وفيهم يقول سيف بن إبراهيم:

هوت أنجم لجدوى وشلت يد الندى ** وغاضت بحور الجود بعد البرامك

هوت أنجم كانت لأبناء برمكٍ ** بها يعرف الحادي طريق المسالك

وقال بن أبي كريمة:

كل معير أعير مرتبةً ** بعد فتى برمكٍ على غرر

صالت عليه من الزمان يد ** كان بها صائلًا على البشر

وقال العطوي أبو عبد الرحمن:

أما والله لولا قول واشٍ ** وعين للخليفة لا تنام

لطفنا حول جذعك واستلمنا ** كما للناس بالحجر استلام

على الدنيا وساكنها جميعًا ** ودولة آل برمكٍ السلام

وفي قتل جعفر قال أبو العتاهية:

قولا لمن يرتجي الحياة أما ** في جعفرٍ عبرة ويحياه!

كانا وزيري خليفة الله ها ** رون هما ما هما خليلاه

فذاكم جعفر برمته ** في حلق رأسه ونصفاه

والشيخ يحيى الوزير أصبح قد ** نحاه عن نفسه وأقصاه

شتت بعد التجميع شملهم ** فأصبحوا في البلاد قد تاهوا

كذاك من يسخط الإله بما ** يرضي به العبد قد تاهوا

سبحان من دانت الملوك له ** أشهد أن لا إله إلا هو

طوبى لمن تاب بعد غرته ** فتاب قبل الممات، طوباه!

قال: وفي هذه السنة هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية، فوجه الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم.

وفيها زلزلت المصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعة الليل.

وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بن سعيد العقيلي.

وفيها مات يعقوب بن داود بالرقة.

وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قربانًا له ووسيلة، وولاه العواصم.

ذكر الخبر عن غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح

وفيها غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه.

ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وما أوجب حبسه

ذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل أن عبد الملك بن صالح كان له ابن يقال له عبد الرحمن، كان من رجال الناس، وكان عبد الملك يكنى به؛ وكان لابنه عبد الرحمن لسان، على فأفأة فيه، فنصب لأبيه عبد الملك وقمامة، فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع؛ فذكر أن عبد الملك بن صالح أدخل على الرشيد حين سخط عليه، فقال له الرشيد: أكفرًا بالنعمة، وجحودًا لجليل المنة والتكرمة! فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بؤت إذًا بالندم، وتعرضت لاستحلال النقم؛ وما ذاك إلا بغي حاسد نافسني فيك مودة القرابة وتقديم الولاية. إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله في أمته، وأمينه على عترته، لك فيها فرض الطاعة وأداة النصيحة، ولها عليك العدل في حكمهاوالتثبت في حادثها، والغفران لذنوبها. فقال له الرشيد: أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك! هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك، وفساد نيتك، فاسمع كلامه. فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده؛ ولعله لا يقدر أن يعضهنى ولا يبهتني بما لم يعرفه مني. وأحضر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قال: أقول: إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك، فقال عبد الملك: أهو كذلك يا قمامة! قال قمامة: نعم، لقد أردت ختل أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي وهو يبهتني في وجهي! فقال له الرشيد: وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك، ولو أردت أن أحتج عليك بحجة لم أجد أعدل من هذين لك، فيما تدفعهما عنك؟ فقال عبد الملك بن صالح: هو مأمور، أو عاق مجبور؛ فإن كان مأمورًا فمعذور، وإن كان عاقًا ففاجر كفور؛ أخبر الله وجل بعداوتة، وحذر منه بقوله: " إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم فاحذروهم ". قال: فنهض الرشيد، وهو يقول: أما أمرك فقد وضح؛ ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضى الله فيك؛ فإنه الحكم بيني وبينك. فقال عبد الملك: رضيت بالله حكمًا، وبأمير المؤمنين حاكمًا؛ فإني أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه، وأمر الله على رضاه.

قال: فلما كان بعد ذلك جلس مجلسًا آخر، فسلم لما دخل، فلم يرد عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يومًا أحتج فيه، ولا أجاذب منازعًا وخصمًا. قال: ولم؟ قال: لأن أوله جرى على غير السنة؛ فأنا أخاف آخره. قال: وما ذاك؟ قال: لم ترد علي السلام، أنصف نصفة العوام. قال: السلام عليكم؛ اقتداء بالسنة، وإيثارًا للعدل، واستعمالًا للتحية. ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر، فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك: أريد حياته ويريد قتلي.. البيت.

ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع؛ وكأني بالوعيد قد أروى نارًا تسطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم ورءوس بلا غلاصم؛ فمهلًا؛ فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فنذار لكم نذار، قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرجل. فقال عبد الملك: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك، وفي رعيته التي استرعاك؛ ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك مشتغلا. فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه، بعد أن بللته بظن أفصح الكتاب لي بعضهه، أو ببغي باغ ينهس اللحم، ويالغ الدم، فقد والله سهلت لك الوعور، وذللت لك الأمور، وجمعت على طاعة القلوب في الصدور؛ فكم من ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق قمته؛ كنت كما قال أخو بني جعفر بن كلاب:

ومقام ضيق فرجته ** ببناني ولساني وجدل

لو يقوم الفيل أو فياله ** زل عن مثل مقامي وزحل قال:

فقال له الرشيد: أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك.

وذكر زيد بن علي بن الحسين العلوي، قال: لما حبس الرشيد عبد الملك ابن صالح، دخل عليه عبد الله بن مالك - وهو يومئذ على شرطه - فقال: أفي إذن انا قأتكلم، قال: تكلم، قال: لا، والله العظيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلا ناصحًا، فعلام حبسته! قال: ويحك! بلغني عنه ما أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين - يعني الأمي والمأمون - فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه. قال: أما إذ حبسته يا أمير المؤمنين، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه؛ ولكن أرى أن تحبسه محبسًا كرمًا يشبه محبس مثلك مثله. قال: فإني أفعل. قال: فدعا الرشيد الفضل بن الربيع، فقال: امض إلى عبد الملك بن صالح إلى محبسه، فقل له أنظر ما تحتاج إليه في محبسك فأمر به حتى يقام لك؛ فذكر قصته وما سأل. قال: وقال الرشيد يومًا لعبد الملك بن صالح في بعض ما كلمته: ما أنت لصالح! قال: فلمن أنا؟ قال: لمروان الجعدي، قال: ما أبالي أي الفحلين غلب علي؛ فحبسه الرشيد عند الفضل بن ربيع؛ فلم يزل محبوسًا حتى توفي الرشيد، فأطلقه محمد، وعقد له على الشأم؛ فكان مقيمًا بالرقة، وجعل لمحمد عهد الله وميثاقه: لئن قتل وهو حي لا يعطى المأمون طاعةً أبدًا. فمات قبل محمد، فدفن في دار من دور الإمارة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له: حول أباك من داري، فنبشت عظامه وحولت. وكان قال لمحمد: إن خفت فالجأ إلي، فوالله لأصوننك.

وذكر أن الرشيد بعث في بعض أيامه إلى يحيى بن خالد: إن عبد الملك بن صالح أراد الخروج ومنازعتي في الملك، وقد علمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أطلعت من عبد الملك على شيء من هذا؛ ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك؛ لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي ولي؛ فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك أكثر مني! وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك! أعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن؛ ولكنه كان زجلًا محتملًا يسرني أن يكون في أهلك مثله، فوليته، لما أحمدت من مذهبه، وملت إليه لأدبه واحتماله. قال: فلما أتاه الرسول بهذا أعاد إليه، فقال: إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك، فقال له: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت؛ على أنه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي، فبم يدخل الفضل في ذلك! فقال الرسول للفضل: قم؛ فإنه لا بد لي من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك؛ فلم يشك أنه قاتله، فودع أباه، وقال له: ألست راضيًا عني؟ قال: بلى، فرضي الله عنك. ففرق بينهما ثلاثة أيام؛ فلما لم يجد عنده من ذلك شيئًا جمعهما كما كانا.

وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل، لما كان أعداؤهم يقرفونهم به عنده، فلما أخذ مسرور بيد الفضل كما أعلمه، بلغ من يحيى، فأخرج ما في نفسه، فقال له: قل له يقتل ابنك مثله. قال مسرور: فلما سكن عن الرشيد الغضب، قال: كيف قال؟ فأعدت عليه القول، قال: قد خفت والله قوله؛ لأنه قلما قال لي شيئًا إلا رأيت تأويله.

وقيل: بينما الرشيد يسير وفي موكبه عبد الملك بن صالح، إذ هتف به هاتف وهو يساير عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، طأطئ من إشرافه وقصر من عنانه، واشدد من شكائمه؛ وإلا أفسد عليك ناحيته. فالتفت إلى عبد الملك، فقال: ما يقول هذا يا عبد الملك؟ فقال عبد الملك: مقال باغ ودسيس حاسد؛ فقال له هارون: صدقت، نقص القوم ففضلتهم، ونخلفوا وتقدمتهم؛ حتى برز شأوك، فقصر عنه غيرك؛ ففي صدورهم جمرات التخلف، وحزازات النقص. فقال عبد الملك: لا أطفأها الله وأضرمها عليهم حتى تورثهم كمدًا دائمًا أبدًا.

وقال الرشيد لعبد الملك بن صالح وقد مر بمنبج، وبها مستقر عبد الملك: هذا منزلك؟ قال: هو لك يا أمير المؤمنين، ولي بك. قال: كيف هو؟ قال: دون بناء أهلي وفوق منازل منبج، قال: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله.

ذكر الخبر عن دخول القاسم بن الرشيد أرض الروم

وفي هذه السنة دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان، فأناخ على قرة وحاصرها، ووجه العباس بن جعفر بن محمد الأشعث، فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا، فبعث إليه الروم تبذل له ثلثمائة وعشرين رجلًا من أسارى المسلمين؛ على أن يرحل عنهم؛ فأجابهم إلى ذلك، ورحل عن قرة وحصن سنان صلحًا.

ومات علي بن عيسى بن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم، وهو مع القاسم.

ذكر الخبر عن نقض الروم الصلح

وفي هذه السنة نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الملك لهم قبله.

ذكر الخبر عن سبب نقضهم ذلك

وكان سبب ذلك أن الصلح كان جرى بين المسلمين وصاحب الروم وصاحبتهم يومئذ ريني - وقد ذكرنا قبل سبب الصلح الذي كان بين المسلمين وبينها - فعادت الروم على ريني فخلعتها، وملكت عليها نقفور. والروم تذكر أن نقفور هذا من أولاد جفنة من غسان، وأنه قبل الملك كان يلي ديوان الخراج، ثم ماتت ريني بعد خمسة أشهر من خلع الروم إياها؛ فذكر أن نقفور لما ماك واستوسقت له الروم بالطاعة، كتب إلى الرشيد:

من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب؛ أما بعد؛ فإن الملكة التي كانت قبلي، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أمثالها إليها؛ لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن؛ فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.

قال: فلما قرأ الرشيد الكتاب، استفزه الغضب حتى لم يمكن أحدًا أن ينظر إليه دون أن يخاطبه؛ وتفرق جلساؤه خوفًا من زيادة قول أو فعل يكون منهم؛ واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه. والسلام.

ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى وأفاد، وخرب وحرق، واصطلم. فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وخان الميثاق. وكان البرد شديدًا، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عما أخذ عليه؛ فما تهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقًا عليه وعلى أنفسهم من الكرة في مثل تلك الأيام، فاحتيل له بشاعر من أهل خرة يكنى أبا محمد عبد الله بن يوسف - ويقال: هو الحجاج بن يوسف التيمي، فقال:

نقض الذي أعطيته نقفور ** وعليه دائرة البوار تدور

أبشر أمير المؤمنين فإنه ** غنم أتاك به الإله كبير

فلقد تباشرت الرعية أن أتى ** بالنقض عنه وافد وبشير

ورجت يمينك أن تعجل غزوة ** تشفي النفوس مكانها مذكور

أعطاك جزيته وطأطأ خده ** حذر الصوارم والردى محذور

فأجرته من وقعها وكأنها ** بأكفنا شعل الضرام تطير

وصرفت بالطول العساكر قافلًا ** عنه وجارك آمن مسرور

نقفور إنك حين تغدر إن نأى ** عنك الإمام لجاهل مغرور

أظننت حين غدرت أنك مفلت ** هبلتك أمك ما ظننت غرور!

ألقاك حينك في زواجر بحره ** فطمت عليك من الإمام بحور

إن الإمام على اقتسارك قادر ** قربت ديارك أم نأت بك دور

ليس اللإمام وإن غفلنا غافلًا ** عما يسوس بحزمه ويدير

ملك تجرد للجهاد بنفسه ** فعدوه أبدًا به مقهور

يا من يريد رضا الإله بسعيه ** والله لا يخفى عليه ضمير

لا نصح ينفع من يغش إمامه ** والنصح من نصحائه مشكور

نصح الإمام على الأنام فريضة ** ولأهلها كفارة وطهور

وفي ذلك يقول إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية:

إمام الهدى أصبحت بالدين معنيًا ** وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا

لك اسمان شقا من رشاد ومن هدىً ** فأنت الذي تدعى رشيدًا ومهديا

إذا ما سخطت الشيء كان مسخطًا ** وإن ترض شيئًا كان في الناس مرضيا

بسطت لنا شرقًا وغربًا يد العلا ** فأوسعت شرقيًا وأوسعت غربيا

ووشيت وجه الأرض بالجود والندى ** فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا

قضى الله يصفو أن لهارون ملكه ** وكان قضاء الله في الخلق مقضيا

تحلبت الدنيا لهارون بالرضا ** فأصبح نقفور لهارون ذميا

وقال التيمي:

لجت بنقفور أسباب الردى عبثا ** لما رأته بغيل الليث قد عبثا

ومن يزر غيله لا يخل من فزعٍ ** إن فات أنيابه والمخلب الشبثا

خان العهود ومن ينكث بها فعلى ** حوبائه، لا على أعدائه نكثا

كان الإمام الذي ترجى فواضله ** أذاقه ثمر الحلم الذي ورثا

فرد ألفته من بعد أن عطفت ** أزواجه مرهًا يبكينه شعثا

فلما فرغ من إنشاده، قال:

أوقد فعل نقفور ذلك! وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك، فكر راجعًا في أشد محنة وأغلظ كلفة، حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، فقال أبو العتاهية:

ألا نادت هرقلة بالخراب ** من الملك الموفق بالصواب

غدا هارون يرعد بالمنايا ** ويبرق بالمذكرة القضاب

ورايات يحل النصر فيها ** تمر كأنها قطع السحاب

أمير المؤمنين ظفرت فاسلم ** وأبشر بالغنيمة والإياب

خبر مقتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك

وفيها قتل - في قول الوافدي - إبراهيم بن عثمان بن ناهيك. وأما غير الواقدي؛ فإنه قال: في سنة ثمان وثمانين ومائة.

ذكر الخبر عن سبب مقتله

ذكر عن صالح الأعمى - وكان في ناحية إبراهيم بن عثمان بن نهيك - قال: كان إبراهيم بن عثمان كثيرًا ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعًا عليهم، وحبًا لهم، إلى أن خرج من حد البكاء، ودخل في باب طالبي الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوي عليه النبيذ، قال: يا غلام، سيفي ذا المنية - وكان قد سمى سيفه ذا المنية - فيجيئه غلامه بالسيف فينتضيه، ثم يقول: وا جعفراه! وا سيداه! والله لأقتلن قاتلك، ولأثأرن بدمك عن قليل! فلما كثر هذا من فعله، جاء ابنه عثمان إلى الفضل بن الربيع، فأخبره بقوله، فدخل الفضل فأخبر الرشيد، فقال: أدخله، فدخل فقال: ما الذي قال الفضل عنك؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك؟ قال: نعم خادمه نوال، فدعا خادمه سرًا فسأله، فقال: لقد قال ذلك غير مرة ولا مرتين، فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل وليًا من أوليائي بقول غلام وخصي، لعلهما تواصيا على هذه المنافسة؛ الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم لطول الصحبة، فترك ذلك أيامًا، ثم أراد أن يمتحن إبراهيم بن عثمان بمحنة تزيل الشك عن قلبه، والخاطر عن وهمه، فدعا الفضل بن الربيع، فقال: إني أريد محنة إبراهيم بن عثمان فيما رفع ابنه عليه؛ فإذا رفع الطعام فادع بالشراب، وقل له: أجب أمير المؤمنين فينادمك؛ إذ كنت منه بالمحل الذي أنت به، فإذا شرب فاخرج وخلني وإياه، ففعل ذلك الفضل بن الربيع؛ وقعد إبراهيم للشراب، ثم وثب حين وثب الفضل بن الربيع للقيام، فقال الرشيد: مكانك يا إبراهيم، فقعد، فلما طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان فينحوا عنه، ثم قال: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر منك؟ قال: يا سيدي إنما أنا كأخص عبيدك، وأطوع خدمك؛ قال: إن في نفسي أمرًا أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به، وأسهرت به ليلي، قال: يا سيدي إذًا لا يرجع عني إليك أبدًا، وأخفيه عن جنبي أن يعلمه، ونفسي أن تذيعه. قال: ويحك! إني ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامةً ما أحسن أن أصفها؛ فوددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي؛ فما وجدت طعم النوم منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ قتلته! قال: فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وأذرى عبرته، وقال: رحم الله أبا الفضل، وتجاوز عنه! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت العشوة في أمره! وأين يوجد في الدنيا مثله! وقد كان منقطع القرين في الناس أجمعين. فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يابن اللخناء! فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمه، فقال: يا أم، ذهبت والله نفسي، فقالت: كلا إن شاء الله، وما ذاك يا بني؟ قال: ذاك أن الرشيد امتحنني بمحنة والله؛ ولو كان لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها. فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه - فضربه بسيفه حتى مات - إلا ليال قلائل.

وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خبر غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة

فمما كان فيها من ذلك غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة، ودخوله أرض الروم من درب الصفصاف، فخرج للقائه نقفور، فوردعليه من ورائه أمر صرفه عن لقائه، فانصرف، ومر بقوم من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وانهزم. وقتل من الروم - فيما ذكر - أربعون ألفًا وسبعمائة، وأخذ أربعة آلاف دابة.

وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق.

وحج بالناس فيها الرشيد، فجعل طريقه على المدينة، فأعطى أهلها نصف العطاء؛ وهذه الحجة هي آخر حجة حجها الرشيد، فيما زعم الواقدي وغيره.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خبر شخوص الرشيد إلى الري

فمن ذلك ما كان من شخوص الرشيد أمير المؤمنين فيها إلى الري.

ذكر الخبر عن سبب شخوصه إليها وما أحدث في خرجته تلك في سفره

ذكر أن الرشيد كان استشار يحيى بن خالد في تولية خراسان علي بن عيسى بن ماهان، فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد في أمره، وولاه إياها، فلما شخص علي بن عيسى إليها ظلم الناس، وعسر عليهم، وجمع مالًا جليلًا، ووجه إلى هارون منها هدايا لم ير مثلها قط من الخيل والرقيق والثيلب والمسك والأموال، فقعد هارون بالشماسية على دكان مرتفع حين وصل ما بعث به إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه، فعظمت في عينه، وجل عنده قدرها، وإلى جانبهيحيى بن خالد، فقال له: يا أبا علي؛ هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان في خلافك البركة - وهو كالمازح معه إذ ذاك - فقد ترى ما أنتج رأينا فيه، وما كان من رأيك! فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فأنا أحب من ذلك أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي؛ وما أحسن هذا وأكثره وإن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه ويعفيه من سوء علقبته ونتائج مكروهه، قال: وما ذاك؟ فأعلمه، قال: ذاك أني أحسب أن هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم فيها الأشراف، وأخذ أكثرها ظلمًا وتعديًا؛ ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفها الساعة من بعض تجار الكرخ، قال: وكيف ذاك؟ قال: قد ساومنا عونًا على السفط الذي جاءنا به من الجوهر، وأعطيناه به سبعة آلاف ألف، فأبى أن يبيعه، فأبعث إليه الساعة بحاجتي فآمره أن يرده إلينا؛ لنعيد فيه نظرنا؛ فإذا جاء به جحدناه، وربحنا سبعة آلاف ألف، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك. وعلى أن هذا أسلم عاقبة، وأستر أمرًا من فعل علي بن عيسى في هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين في ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعي، وأيسر أمر، وأجمل جباية؛ مما جمع علي في ثلاث سنين.

فوقرت في نفس الرشيد وحفظها، وأمسك على ذكر علي بن عيسى عنده، فلما عاث علي بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها، وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم، كتب رجال من كبرائها ووجوهها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى قراباتها وأصحابها، تشكو سوء سيرته، وخبث طعمته، ورداءة مذهبه، وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحب من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقواده. فدعا يحيى بن خالد، فشاوره في أمر علي بن عيسى وفي صرفه، وقال له: أشر علي برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق. فأشار عليه بيزيد بن مزيد، فلم يقبل مشورته.

وكان قيل للرشيد: إن علي بن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من أجل ذلك، منصرفه من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، ثم سار إلى الري، فلما صار بقرماسين أشخص إليه جماعة من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره ذلك من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سوى ذلك لعبد الله المأمون، وأنه ليس فيه قليل ولا كثير. وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بن هارون الرشيد وعلى من بحضرته لعبد الله والقاسم، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله؛ إذا أفضت الخلافة إليه. ثم مضى الرشيد عند انصراف هرثمة إليه إلى الري، فأقام بها نحوًا من أربعة أشهر؛ حتى قدم عليه علي بن عيسى من خراسان بالأموال والهدايا والطرف، من المتاع والمسك والجوهر وآنية الذهب والفضة والسلاح والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان معه من ولده وأهل بيته وكتابه وخدمه وقواده على قدر طبقاتهم ومراتبهم، ورأى منه خلاف ما كان ظن به وغير ما كان يقال فيه. فرضي عنه، ورده إلى خراسان، وخرج وهومشيع له؛ فذكر أن البيعة أخذت للمأمون والقاسم بولاية العهد بعد أخويه محمد وعبد الله، وسمي المؤتمن حين وجه هارون هرثمة لذلك بمدينة السلام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب من هذه السنة، فقال الحسن بن هلنئ في ذلك:

تبارك من ساس الأمور بعلمه ** وفضل هارونًا على الخلفاء

نزال بخير ما انطوينا على التقى ** وما ساس دنيانا أبو الأمناء

وفي هذه السنة - حين صار الرشيد إلى الري - بعث حسينًا الخادم إلى طبرستان، فكتب له ثلاثة كتب؛ من ذلك كتاب فيه أمان لشروين أبي قارن، والآخر فيه أمان لونداهرمز، جد مازيار، والثالث فيه أمان لمرزيان بن جستان، صاحب الديلم. فقدم عليه صاحب الديلم، فوهب له وكساه ورده. وقدم عليه سعيد الحرشي بأربعمائة بطل من طبرستان، فأسلموا على يد الرشيد، وقدم ونداهرمز، وقبل الأمان، وضمن السمع والطاعة وأداء الخراج، وضمن على شروين مثل ذلك؛ فقبل ذلك منه الرشيد وصرفه، ووجه معه هرثمة فأخذ ابنه وابن شروين رهينة. وقدم عليه الري أيضًا خزيمة بن خازم، وكان والي إرمينية، فأهدى هدايا كثيرة.

وفي هذه السنة ولى هارون عبد الله بن مالك طبرستان والري والرويان ودنباوند وقومس وهمذان. وقال أبو اللعتاهية في خرجة هارون هذه - وكان هارون ولد بالري:

إن أمين الله في خلقه ** حن به البر إلى مولده

ليصلح الري وأقطارها ** ويمطر الخير بها من يده

وولى هارون في طريقه محمد بن الجنيد الطريق ما بين همذان والري، وولى عيسى بن جعفر بن سليمان عمان، فقطع البحر من ناحية جزيرة ابن كاوان، فافتتح حصنًا بها وحاصر آخر، فهجم عليه ابن مخلد الأزدي وهو غار، فأسره وحمله إلى عمان في ذي الحجة، وانصرف الرشيد بعد ارتحال علي بن عيسى إلى خراسان عن الري بأيام، فأدركه الأضحى بقصر اللصوص؛ فضحى بها، ودخل مدينة السلام يوم الاثنين، لليلتين نقيتا من ذي الحجة، فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بن يحيى، وطوى بغداد ولم ينزلها، ومضى من فوره متوجهًا إلى الرقة، فنزل السيلحين.

وذكر عن بعض قواد الرشيد أن الرشيد قال لما ورد بغداد: والله إني لأطوي مدينةً ما وضعت بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها؛ وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها؛ وما رأى أحد من آبائي سوءًا ولا نكبة منها، ولا سيء بها أحد منهم قط، ولنعم الدار هي! ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجرة اللعنة - بني أمية - مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل؛ ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت ولا خرجت عنها أبدًا.

وقال العباس ن الأحنف في طي الرشيد بغداد:

ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نف ** رق بين المناخ والارتحال

ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ** فقرنا وداعهم بالسؤال

وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم مسلم إلا فودي به - فيما ذكر - فقال مروان بن أبي حفصة في ذلك:

وفكت بك الأسرى التي شيدت لهل ** محابس ما فيها حميم يزورها

على حين أعيا المسلمين فكاكها ** وقالوا: سجون المشركين قبورها

ورابط فيها القاسم بدابق.

وحج بالناس فيها العباس بن موسى بن عيسى بن موسى.

ثم دخلت سنة تسعون ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خبر ظهور خلاف رافع بن ليث

فمن ذلكما كان من ظهور خلاف رافع بن ليث بن نصر بن سيار بسمرقند، مخالفًا لهارون وخلعه إياه، ونزعه يده من طاعته.

ذكر الخبر عن سبب ذلك

وكان سبب ذلك - فيما ذكر لنا - أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام، وتركها بسمرقند، فلما طال مقامه بها، وبلغها أنه قد اتخذ أمهات أولاد، التمست سببًا للتخلص منه، فعي عليها، وبلغ رافعًا خبرها، فطمع فيها وفي مالها، فدس إليها من قال لها: إنه لا سبيل لها إلى التخلص من صاحبها؛ إلا أن تشرك بالله، وتحضر لذلك قومًا عدولًا، وتكشف شعرها بين أيديهم، ثم تتوب فتحل للأزواج؛ ففعلت ذلك وتزوجها رافع. وبلغ الخبر يحيى بن الأشعث، فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علي بن عيسى يأمره أن يفرق بينهما، وأن يعاقب رافعًا ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في مدينة سمرقند مقيدًا على حمار؛ حتى يكون عظة لغيره. فدرأ سليمان بن حميد الأزدي عنه الحد، وحمله على حمار مقيدًا حتى طلقها، ثم حبسه في سجن سمرقند - فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فطلب الأمان فلم يجبه علي إليه، وهم بضرب عنقه، فكلمه فيه ابنه عيسى بن علي، وجدد طلاق المرأة، وأذن له في الانصراف إلى سمرقند، فانصرف إليها، فوثب بسليمان بن حميد؛ عامل علي بن عيسى فقتله. فوجه علي بن عيسى إليه ابنه، فمال الناس إلى سباع بن مسعدة، فرأسوه عليهم، فوثب على رافع فقيده، فوثبوا على سباع، فقيدوه ورأسوا رافعًا وبايعوه، وطابقه من وراء النهر، ووافاه عيسى بن علي، فلقيه رافع فهزمه، فأخذ علي بن عيسى في فرض الرجال والتأهب للحرب.

وفي هذه السنة غزا الرشيد الصائفة، واستخلف ابنه عبد الله المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع له والطاعة، ودفع إليه خاتم المنصور يتيمن به؛ وهو خاتم الخاصة، نقشه: " الله ثقتي آمنت به ".

وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون.

وفيها خرجت الروم إلى عين زربة وكنيسة السوداء، فأغارت وأسرت، فاستنقذ أهل المصيصة ما كان في أيديهم.

فتح الرشيد هرقلة

وفيها فتح الرشيد هرقلة، وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم؛ وكان دخلها - فيما قيل - في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق؛ سوى الأتباع وسوى المطوعة وسوى من لا ديوان له، وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بن عيسى بن موسى سائحًا في أرض الروم في سبعين ألفًا، وافتتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودبسة، وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقوبية - وكان فتح الرشيد هرقلة في شوال - وأخربها وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يومًا عليها، وولى حميد بن معيوف سواحل بحر الشأم إلى مصر، فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرق وسبى من أهلها ستة عشر ألفًا، فأقدمهم الرافقة، فتولى بيعهم أبو البختري القاضي، فبلغ أسقف قبرس ألفي دينار.

وكان شخوص هارون إلى بلاد الروم لعشر بقين من رجب؛ واتخذ قلنسوة مكتوبًا عليها " غاز حاج "، فكان يلبسها، فقال أبو المعالي الكلابي:

فمن يطلب لقاءه أو يرده ** فبالحرمين أو أقصى الثغور

ففي أرض العدو على طمر ** وفي أرض الترفه فوق كور

وما حاز الثغور سواك خلق ** من المتخلفين على الأمور

ثم صار الرشيد إلى الطوانة، فعسكر بها، ثم رحل عنها، وخلف عليها عقبة بن جعفر، وأمره ببناء منزل هنالك، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية، عن رأسه وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار؛ منها عن رأسه أربعة دنانير؛ وعن رأس ابنه استبراق دينارين. وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جاريه من سبي هرقلة كتابًا نسخته: لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم. سلام عليكم، أما بعد أيها الملك، فإن لي إليك حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك، هينة يسيرة؛ أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة، كنت قد خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفي بحاجتي فعلت. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

واستهداه أيضًا طيبًا وسرادقًا من سرلدقته فأمر الرشيد بطلب الجارية، فأحضرت وزينت وأجلست على سرير في مضربه الذي كان نازلًا فيه، وسلمت الجاريه والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور، وبعث إليه بما سأل من العطر، وبعث إليه من التمور والأ خبصة والزبيب والترياق، فسلم ذلك كله إليه رسول الرشيد، فأعطاه نقفور وقر دارهم إسلامية على برذون كميت كان مبلغهخمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج ومائتي ثوب بزيون، واثنى عشر بازيًا، وأربعة أكلب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين. وكان نفور اشترط ألا يخرب ذا الكلاع ولا صمله ولا حصن سنان، واشترط عليه ألا يعمر هرقلة، وعلى أن يحمل نقفور ثلثمائة ألف دينار. وخرج في هذه السنة خارجي من عبد القيس يقال له سيف بن بكر، فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد بن مز، فقتله بعين النورة. ونقض أهل قبس العهد، فغزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها.

وحج بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من خروج خارجي يقال له ثروان بن سيف بناحية حولايا؛ فكان يتنقل بالسواد، فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه طوق وجرحه، وقتل عامة أصحابه، وظن طوق أنه قد قتل ثروان، فكتب بالفتح، وهرب ثروان مجروحًا. وفيها خرج أبو النداء بالشام فوجه الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ، وعقد له على الشام.

وفيها وقع الثلج بمدينة السلام.

وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني.

وفيها غلظ أمر رافع بن ليث بسمرقند.

وفيها كتب أهل نسف إلى رافع يعطونه الطاعة، ويسألونه أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بن علي، فوجه صاحب الشاش في إتراكه قائدًا من قواده، فأتوا عيسى بن علي، فأحدقوا به وقتلوه في ذي القعدة، ولم يعرضوا لأصحابه.

وفيها ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان.

وفيها غزا يزيد ن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضيق، فقتلوه على مرحلتين من طرطوس في خمسين رجلا، وسلم الباقون.

وفيها ولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفًا من جند خراسان، ومعه مسرور الخادم؛ إليه النفقات وجميع الأمور، خلا الرياسة. ومضى الرشيد إلى درب الحدث، فرتب هنالك عبد الله بن مالك، ورتب سعيد بن سلم بن قتيبة بمرعش، فأغارت الروم عليها، وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بن سلم مقيم بها، وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرطوس، فأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان، ثم انصرف إلى الرقة.

وفيها أمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم.

وفيها عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاها هرثمة.

ذكر الخبر عن سبب عزل الرشيد علي بن عيسى وسخطه عليه

قال أبو جعفر: قد ذكر قبل سبب هلاك ابن علي بن عيسى وكيف قتل. ولما ابنه عيسى خرج علي عن بلخ حتى أتى مرو مخافة أن يسير إليها رافع بن الليث، فيستولي عليها. وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ أموالًا عظيمة - قيل إنها كانت ثلاثين ألف ألف - ولم يعلم بها علي بن عيسى ولا اطلع على ذلك إلا جارية كانت له، فلما شخص علي عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها، فدخلوا البستان فانتهبوه وأباحوه للعامة، فبلغ الرشيد الخبر، فقال: خرج علي عن بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال؛ وهو يزعم أنه قد أفضى إلى حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع! فعزله عند ذلك، وولى هرثمة بن أعين، واستصفى أموال علي بن عيسى، فبلغت أمواله ثمانين ألف ألف.

وذكر عن بعض الموالي أنه قال: كنا بجرجان مع الرشيد وهو يريد خراسان، فوردت خزائن علي بن عيسى التي أخذت له على ألف وخمسمائة بعير، وكان علي مع ذلك قد أذل الأعالي من أهل خراسان وأشرافهم.

وذكر أنه دخل عليه يومًا هشام بن فرخسرو والحسين بن مصعب، فسلما عليه، فقال للحسين: لا سلم الله عليك يا ملحد يا بن الملحد! والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوتك للإسلام وطعنك في الدين، وما أنتظر بقتلك إلا إذن الخليفة فيه، فقد أباح الله دمك، وأرجو أن يسفكه الله على يدي عن قريب، ويعجلك إلى عذابه. ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد ما ثملت من الخمر، وزعمت أنه جاءتك كتب من مدينة السلام بعزلي! اخرج إلى سخط الله، لعنك الله، فعن قريب ما تكون من أهلها! فقال له الحسين: أعيذ بالله الأمير أن يقبل قول واشٍ، أو سعاية باغٍ، فإني بريء مما قرفت به. قال: كذبت لا أم لك! قد صح عندي أنك ثملت من الخمر، وقلت ما وجب عليك به أغلظ الأدب؛ ولعل الله أن يعاجلك ببأسه ونقمته؛ اخرج عني غير مستور ولا مصاحب. فجاء الحاجب فأخذ بيده فأخرجه، وقال لهشام بن فرخسرو: صارت دارك دار الندوة؛ يجتمع فيها إليك السفهاء، وتطعن على الولاة! سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! فقال هشام: جعلت فداء الأمير! أنا والله مظلوم مرحوم؛ والله ما أدع في تقريظ الأمير جهدًا، وفي وصفه قولًا إلا خصصته به وقلته فيه؛ فإن كنت إذا قلت خيرًا نقل إليك شرًا فما حيلتي! قال: كذبت لا أم لك؛ لأنا أعلم بما تنطوي عليه جوانحك من ولدك وأهلك، فاخرج فعن قريب أريح منك نفسي. فلما كان في آخر الليل دعا ابنته عالية - وكانت من أكبر ولده - فقال لها: أي بنية، إني أريد أن أفضي إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت؛ وإن حفظته سلمت، فاختاري بقاء أبيك على موته، قالت: وما ذاك جعلت فداك! قال: إني أخاف هذا الفاجر علي بن عيسى على دمي، وقد عزمت على أن أظهر أن الفالج أصابني، فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك، وتعالي إلى فراشي وحركيني؛ فإذا رأيت حركتي قد ثقلت، فصيحي أنت وجواريك، وابعثي إلى إخوتك فأعلميهم علتي. وإياك ثم إياك أن تطلعي على صحة بدني أحدًا من خلق الله من قريب أو بعيد. ففعلت - وكانت عاقلة حازمة - فأقام مطروحًا على فراشه حينًا لا يتحرك إلا إن حرك، فيقال إنه لم يعلم من أهل خراسان أحد من عزل علي بن عيسى بخبر ولا أثر غير هشام؛ فإنه توهم عزله، فصح توهمه.

ويقال: إنه خرج في اليوم الذي قدم فيه هرثمة لتلقيه. فرآه في الطريق رجل من قواد علي بن عيسى، فقال: صح الجسم؟ فقال: ما زال صحيحًا بحمد الله! وقال بعضهم: بل رآه علي بن عيسى، فقال: أين بك؟ فقال: أتلقى أميرنا أبا حاتم، قال: ألم تكن عليلًا؟ قال: بلى؛ فوهب الله العافية؛ وعزل الله الطاغية في ليلة واحدة.

وأما الحسين بن مصعب فإنه خرج إلى مكة مستجيرًا بالرشيد من علي بن عيسى، فأجاره.

ولما عزم الرشيد على عزل علي بن عيسى دعا - فيما بلغني - هرثمة بن أعين مستخليًا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدًا، ولم أطلعه على سري فيك، وقد اضطرب علي ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بن عيسى؛ إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره؛ وقد كتب يستمد ويستجيش، وأنا كاتب إليه، فأخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابًا بخطي فلا تفضنه، ولا تطلعن فيه حتى تصل إلى مدينة نيسابور؛ فإذا نزلتها فاعمل بما فيه، وامتثله ولا تجاوزه، إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بن عيسى بخطي؛ ليتعرف ما يكون منك ومنه؛ وهون عليه أمر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير، وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددًا لعلي بن عيسى وعونًا له. قال: ثم كتب إلى علي بن عيسى بن ماهان كتابًا بخطه نسخته:

" بسم الله الرحمن الرحيم ". يا بن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك؛ فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري؛ حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته؛ بسوء سيرتك، ورداءة طعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان، وأمرته أن يشد وطأته عليك وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهمًا، ولا حقًا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به؛ حتى ترده إلى أهله؛ فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم، انتقامًا لله عز وجل بادئًا، ولخليفته ثانيًا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثًا؛ فلا تعرض نفسك للتي لا شوى لها، واخرج مما يلزمك طائعًا أو مكرهًا.

وكتب عهد هرثمة بخطه: هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه؛ أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله ومراقبته، وأن يجعل كتاب الله إمامًا في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه؛ ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده، وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين؛ فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم؛ فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين؛ فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته؛ حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم، وبطلت أرواحهم؛ فإذا خرجوا من حق كل ذي حق، أشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطاء وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس، مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين، إن شاء الله. فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك، وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحشون معه إلى أمرٍ يريبهم وظن يرعبهم. وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضي الله منك وخليفته، ومن ولاك الله أمره إن شاء الله. هذا عهدي وكتابي بخطي، وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سمواته وكفى بالله شهيدًا.

وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.

ثم أمر أن يكتب كتاب هرثمة إلى علي بن عيسى في معاونته وتقوية أمره والشد على يده؛ فكتب وظهر الأمر بها؛ وكانت كتب حمويه وردت على هارون: إن رافعًا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وإنما غايتهم علي بن عيسى الذي قد سامهم المكروه.

خبر شخوص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليا عليها

ومن ذلك ما كان من شخوص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليًا عليها.

ذكر الخبر عما كان من أمره في شخوصه إليها وأمر علي بن عيسى وولده

ذكر أن هرثمة مضى في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له عهده الرشيد وشيعه الرشيد، وأوصاه بما يحتاج إليه، فلم يعرج هرثمة على شيء، ووجه إلى علي بن عيسى في الظاهر أموالًا وسلاحًا، وخلعًا وطيبًا؛ حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من ثقات أصحابه وأولى الين والتجربة منهم؛ فدعا كل رجل منهم سرًا، وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره، ويطووا سره، وولى كل رجل منهم كورة، على نحو ما كانت حاله عنده؛ فولى جرجان ونيسابور والطبسين ونسا وسرخس، وأمر كل واحد منهم، بعد أن دفع إليه عهده بالمسير إلى عمله الذي ولاه على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهمإلى الوقت الذي سماه لهم، وولى إسماعيل بن حفص بن مصعب جرجان بأمر الرشيد، ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه، وكتب لهم أسماء ولد علي بن عيسى وأهل بيته وكتابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكله بحفظه إذا هو دخل مرو، خوفًا من أن يهربوا إذا أظهر أمره. ثم وجه إلى علي بن عيسى:

إن أحب الأمير أكرمه الله أن يوجه ثقاته لقبض ما معي من أموال فعل؛ فإنه إذا تقدم المال أمامي كان أقوى للأمير، وأفت في عضد أعدائه. وأيضًا فإني لا آمن عليه إن خلفته وراء ظهري؛ أن يطمع فيه بعض من تسمو إليه نفسه إلى أن يقتطع بعضه، ويفترض غفلتنا عند دخول المدينة. فوجه علي بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال، وقال هرثمة لخزانه: اشغلوهم هذه الليلة، واعتلوا عليهم في حمل المال بعلة تقرب من أطماعهم، وتزيل الشك عن قلوبهم، ففعلوا. وقال لهم الخزان: حتى تؤامروا أبا حاتم في دواب المال والبغال. ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلما صار منها على ميلين تلقاه علي بن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده بأحسن لقاء وآنسه؛ فلما وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابته فصاح به علي: والله لئن نزلت لأنزلن، فثبت على سرجه، ودنا كل منهما من صاحبه فاعتنقا، وسارا، وعلي يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيئته وحال خاصته وقواده وأنصار دولته؛ وهرثمة يجيبه؛ حتى صار إلى قنطرة لا يجوزها إلا فارس، فحبس هرثمة لجام دابته، وقال لعلي: سر على بركة الله، فقال علي: لا والله لا أفعل حتى تمضي أنت، فقال: إذًا والله لا أمضي، فأنت الأمير وأنا الوزير؛ فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصارا إلى منزل علي، ورجاء الخادم لا يفارق هرثمة في ليل ولا نهار، ولا ركوب ولا جلوس؛ فدعا علي بالغداء فطعما، وأكل معهما رجاء الخادم، وكان عازمًا على ألا يأكل معهما، فغمزه هرثمة وقال: كل فأنت جائع، ولا رأي لجائع ولا حاقن؛ فلما رفع الطعام قال له علي: قد أمرت أن يفرغ لك قصر على الماشان؛ فإن رأيت أن تصير إليه فعلت. فقال له هرثمة: إن معي من الأمور ما لا يتحمل تأخير المناظرة فيها؛ ثم دفع رجاء الخادم كتاب الرشيد إلى علي، وأبلغه رسالته. فلما فض الكتاب فنظر إلى أول حرف منه سقط في يده، وعلم أن حل به ما يخافه ويتوقعه، ثم أمر هرثمة بتقيه وتقييد ولده وكتابه وعماله وكان رحل ومعه وقر من قيود وأغلال - فلما استوسق منه صار إلى المسجد الجامع، فخطب وبسط من آمال الناس، وأخبر المؤمنين ولاه ثغورهم لما انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق علي بن عيسى، وما أمره به وفي عماله وأعوانهن وأنه بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة، والأخذ لهم بحقوقهم أقصى مواضع الحق. وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهروا السرور بذلك، وانفسحت آمالهم، وعظم رجاؤهم، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر الدعلء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.

ثم انصرف، فدعا لعلي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، فقال: اكفوني مئونتكم، واعفوني من الإقدام بالمكروه عليكم. ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمة من رجل كانت لعلي عنده وديعة أو لأحد من ولده أو كتابه أو أعماله وأخفاها ولم يظهر عليها؛ فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلا رجلًا من أهل مرو - وكان من أبناء المجوس - فإنه لم يزل يتلطف للوصول إلى علي بن عيسى حتى صار إليه، فقال له سرًا: لك عندي مال، فإن احتجت إليه حملته إليك أولًا فأولًا، وصبرت للقتل فيك؛ إيثارًا للوفاء وطلبًا لجميل الثناء، وإن استغنيت عنه حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك. فعجب علي منه، وقال: لو اصطنعت مثلك ألف رجل ما طمع في في السلطان ولا الشيطان أبدًا. ثم سأله عن قيمة ما عنده، فذكر له أنه أودعه مالًا وثيابًا ومسكًا، وأنه لا يدري ما قدر ذلك؛ غير أنه أودعه بخطه، وأنه محفوظ لم يشذ منه شيء، فقال له: دعه فإن ظهر عليه سلمته ونجوت بنفسك، وإن سلمت به رأيت فيه رأيي. وجزاه الخير، وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبره. وكان يضرب به المثل بوفائه؛ فذكر أنه لم يتستر عن هرثمة من مال علي إلا ما كان أودعه هذا الرجل - وكان يقال له: العلاء بن ماهان - فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حلي نسائهم؛ فكان الرجل يدخل إلى المنزل فيأخذ جميع ما فيه؛ حتى إذا لم يبق فيه إلا صوف أو خشب أو ما لا قيمة له قال للمرأة: هاتي ما عليك من الحلي، فتقول للرجل إذا دنا منها لينزع ما عليها:

يا هذا، إن كنت محسنًا فاصرف بصرك عني، فوالله لا تركت شيئًا من بغيتك علي إلا دفعته إليك؛ فإن كان الرجل يتحوب من الدنو إليها أجابها إلى ذلك حتى ربما نبذت إليه بالخاتم والخلخال وما قيمته عشرة دراهم، ومن كان بخلاف هذه الصفة، قال: لا أرضى حتى أفتشك؛ لا تكونين قد خبأت ذهبًا أو درًا أو ياقوتًا؛ فيضرب يده إلى مغابنها وأرفاغها؛ فيطلب فيها ما يظن أنها قد سترته عنه؛ حتى إذا ظن أنه قد أحكم هذا كله وجهه على بعير بلا وطاء تحته، وفي عنقه سلسلة، وفي رجله قيود ثقال ما يقدر معها على نهوض واعتماد.

فذكر عمن شهد أمر هرثمة وأمره؛ أن هرثمة لما فرغ من مطالبة علي بن عيسى وولده وكتابه وعماله بأموال أمير المؤمنين، أقامهم لمظالم الناس، فكان إذا برد للرجل عليه أو على أحد من أصحابه حق، قال: اخرج للرجل من حقه، وإلا بسطت عليك، فيقول علي: أصلح الله الأمير! أجلني يومًا أو يومين، فيقول: ذلك إلى صاحب الحق، فإن شاء فعل. ثم يقبل على الرجل، فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال نعم، قال: فانصرف وعد إليه، فيبعث علي إلى العلاء بن ماهان، فيقول له: صالح فلانًا عني من كذا وكذا على كذا وكذا، أو على ما رأيت، فيصالحه ويصلح أمره.

وذكر أنه قام إلى هرثمة رجل، فقال له: أصلح الله الأمير! إن هذا الفاجر أخذ مني درقة ثمينة لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم؛ فأتيت قهرمانة أطلب ثمنها، فلم يعطني شيئًا، فأقمت حولًا أنتظر ركوب هذا الفاجر؛ فلما ركب عرضت له وصحت به: أيها الأمير، أنا صاحب الدرقة، ولم آخذ لها ثمنًا إلى هذه الغاية، فقذف أمي ولم يعطني حقي، فخذ لي بحقي من مالي وقذفه أمي، فقال: لك بينة؟ قال: نعم، جماعة حضروا كلامه؛ فأحضرهم فأشهدهم على دعواه، فقال هرثمة: وجب عليك الحد، قال: ولم؟ قال: لقذفك أم هذا، قال: من فقهك وعلمك هذا؟ قال: هذا دين المسلمين، قال: فأشهد أن أمير المؤمنين قد قذفك غير مرة ولا مرتين؛ وأشهد أنك قد قذفت بنيك ما لا أحصي، مرة حاتمًا ومرة أعين؛ فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك؟ ومن يأخذ لك من مولاك! فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة، فقال: أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك ومطالبته بقذفه أمك.

كتاب هرثمة إلى الرشيد في أمر علي بن عيسى

ولما حمل هرثمة عليًا إلى الرشيد، كتب إليه كتابًا يخبره ما صنع؛ نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإن الله عز وجل لم يزل يبلي أمير المؤمنين في كل ما قلده من خلافته واسترعاه من أمور عباده وبلاده أجمل البلاء وأكمله، ويعرفه في كل ما حضره ونأى عنه من خاص أموره وعامها، ولطيفها وجليلها أتم الكفاية وأحسن الولاية، ويعطيه في ذلك كله أفضل الأمنية، ويبلغه في أقصى غاية الهمة، امتنانًا منه عليه، وحفظًا لما جعل إليه، مما تكفل بإعزازه وإعزاز أوليائه وأهل حقه وطاعته؛ فسيتم الله أحسن ما عوده وعودنا من الكفية في كل ما يؤدينا إليه، ونسأله توفيقنا لما نقضي به المفترض من حقه في الوقوف عند أمره، والاقتصار على رأيه.

ولم أزل أعز الله أمير المؤمنين، مذ فصلت عن معسكر أمير المؤمنين ممتثلًا ما أمرني به فيما أنهضني له؛ لا أجاوز ذلك ولا أتعداه إلى غيره، ولا أتعرف اليمن والبركة إلا في امتثاله؛ إلى أن حللت أوائل خراسان؛ صائنًا للأمر الذي أمرني أمير المؤمنين بصيانته وستره؛ لا أفضي ذلك إلى خاصي ولا إلى عامي، ودبرت في مكاتبة أهل الشاش وفرغانة وخزلهما عن الخائن، وقطع طمعه وطمع من قبله عنهما، ومكاتبة من ببلخ بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين وفسرت له، فلما نزلت نيسابور عملت في أمر الكور التي اجتزت عليها بتولية من وليت عليها، قبل مجاوزتي إياها؛ كجرجان ونيسابور ونسا وسرخس، ولم آل الأحتياط في ذلك، واختيار الكفاءة وأهل الأمانة والصحة من ثقات أصحابي، وتقدمت إليهم في ستر الأمر وكتمانه، وأخذت عليهم بذلك أيمان البيعة، ودفعت إلى كل رجل منهم عهده بولايته، وأمرتهم بالمسير إلى كور أعمالهم على أخفى أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم بها إلى الوقت الذي سميت لهم؛ وهو اليوم الذي قدرت فيه دخولي إلى مرو، والتقائي وعلي بن عيسى، وعملت في استكفائي إسماعيل بن حفص بن مصعب أمر جرجان بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين، فنفذ أولئك العمال لأمري، وقام كل رجل منهم في الوقت الذي وقت له بضبط عمله وإحكام ناحيته، وكفى الله أمير المؤمنين المؤنة في ذلك، بلطيف صنعه.

ولما صرتمن مدينة مرو على منزل، اخترت عدةً من ثقات أصحابي، وكتبت بتسمية ولد علي بن عيسى وكتابه وأهل بيته وغيرهم رقاعًا، ودفعت إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكلته بحفظه في دخولي، ولم آمن لو قصرت في ذلك وأخرته أن يصيروا عند ظهور الخبر وانتشاره إلى التغيب والانتشار، فعملوا بذلك، ورحلت عن موضعي إلى مدينة مرو، فلما صرت منها على ميلين تلقاني علي بن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده، فلقيته بأحسن لقاء، وآنسته، وبلغت من توقيره وتعظيمه والتماس النزول إليه أول ما بصرت به ما ازداد به أنسًا وثقة، إلى ما كان ركن إليه قبل ذلك؛ مما كان يأتيه من كتبي؛ فإنها لم تنقطع عنه بالتعظيم والإجلال مني له والالتماس، لإلقاء سوء الظن عنه؛ لئلا يسبق إلى قلبه أمر ينتقض به ما دبر أمير المؤمنين في أمره، وأمرني به في ذلك. وكان الله تبارك وتعالى هو المنفرد بكفاية أمير المؤمنين الأمر فيه إلى أن ضمني وإياه مجلسه، وصرت إلى الأكل معه، فلما فرغنا من ذلك بدأني يسألني المصير إلى منزل كان ارتاده لي؛ فأعلمته ما معي من الأمور التي لا تحتمل تأخير المناظرة فيها. ثم دفع إليه رجاء الخادم كتاب أمير المؤمنين وأبلغه رسالته، فعلم عند ذلك أنه قد حل به الأمر الذي جناه على نفسه، وكسبته يداه؛ من سخط أمير المؤمنين، وتغير رأيه بخلافه أمره وتعديه سيرته.

ثم صرت إلى التوكيل به، ومضيت إلى المسجد الجامع، فبسطت آمال الناس ممن حضر، وافتتحت القول بما حملني أمير المؤمنين إليهم، وأعلمتهم إعظام أمير المؤمنين ما أتاه، ووضح عنده من سوء سيرة علي، وما أمرني به فيه وفي عماله وأعوانه؛ وإني بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة والأخذ بحقوقهم أقصى غايتهم. وأمرت بقراءة عهدي عليهم، وأعلمتهم أن ذلك مثالي وإمامي؛ وأني به أقتدي وعليه أحتذي؛ فمتى زلت عن باب واحد من أبوابه فقد ظلمت نفسي، وأحللت بها ما يحل بمن خالف رأي أمير المؤمنين وأمره؛ فأظهروا السرور بذلك والاستبشار، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر دعاؤهم لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.

ثم انكفأت إلى المجلس الذي كان علي بن عيسى فيه، فصرت إلى تقييده وتقييد ولده وأهل بيته وكتابه وعماله والاستيثاق منهم جميعًا، وأمرتهم بالخروج إلي من الأموال التي احتجنوها من أموال أمير المؤمنين وفيء المسلمين، وإعفائي بذلك من الإقدلم عليهم بالمكروه والضرب، وناديت في أصحاب ودائعهم بإخراج ما كان عندهم. فحملوا إلي إلى أن كتبت إلى أمير المؤمنين صدرًا صالحًا من الورق والعين، وأرجو أن يعين الله على استيفاء ما قبلهم، واستنظاف ما وراء ظهورهم، ويسهل الله من ذلك أفضل ما لم يزل يعوده أمير المؤمنين من الصنع في مثله من الأمور التي تعنى بها إن شاء الله تعالى.

ولم أدع عند قدومي مرو التقدم في توجيه الرسل وإنفاذ الكتب البالغة في الإعذار والإنذار، والتبصير والإرشاد، إلى رافع ومن قبله من أهل سمرقند، وإلى من ببلخ، على حسن ظني بهم في الإجابة، ولزوم الطاعة والاستقامة؛ ومهما تنصرف به رسلي إلى أمير المؤمنين من أخبار القوم في إجابتهم وامتناعهم، وأعمل على حسبه من أمرهم، وأكتب بذلك إلى أمير المؤمنين على حقه وصدقه. وأرجو أن يعرف الله أمير المؤمنين في ذلك من جميل صنعه ولطيف كفايته؛ ما لم تزل عادته جاريةً به عنده، بمنه وطوله وقوته والسلام.

الجواب من الرشيد

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك بقدومك مرو في اليوم الذي سميت، وعلى الحال التي وصفت وما فسرت، وما كنت قدمت من الحيل قبل ورودك إياها، وعملت به في أمر الكور التي سميت وتولية من وليت عليها قبل نفوذك عنها، ولطفت له من الأمر الذي استجمع لك به ما أردت من أمر الخائن علي بن عيسى وولده وأهل بيته، ومن صار في يدك من عماله واحتذائك في ذلك كله ما كلن أمير المؤمنين مثل لك ووقفك عليه، وفهم أمير المؤمنين كل ما كتبت به، وحمد الله على ذلك كثيرًا وعلى تسديده إياك وما أعانك به من توفيقه، حتى بلغت إرادة أمير المؤمنين، وأدركت طلبته، وأحسنت ما كان يحب بك وعلى يدك إحكامه، مما كان اشتد به اعتناؤه، ولج به اهتمامه، وجزاك الخير على نصيحتك وكفايتك، فلا أعدم الله أمير المؤمنين أحسن ما عرفه منك في كل ما أهاب بك إليه، واعتمد بك عليه.

وأمير المؤمنين يأمرك أن تزداد جدًا واجتهادًا فيما أمرك به من تتبع أموال الخائن علي بن عيسى وولده وكتابه وعماله ووكلائه وجهابذته والنظر فيما اختانوا به أمير المؤمنين في أمواله، وظلموا به الرعية في أموالهم، وتتبع ذلك واستخراجه من مظانه ومواضعه، التي صارت إليه، ومن أيدي أصحاب الودائع التي استودعوها إياهم؛ واستعمال اللين والشدة في ذلك كله؛ حتى تصير إلى استنظاف ما وراء ظهورهم؛ ولا تبقي من نفسك في ذلك بقية، وفي إنصاف الناس منهم في حقوقهم ومظالمهم؛ حتى لا تبقى لمتظلم منهم قبلهم ظلامة إلا استقضيت ذلك له، وحملته وإياهم على الحق والعدل فيها، فإذا بلغت أقصى غاية الإحكام والمبالغة في ذلك، فأشخص الخائن وولده وأهل بيته وكتابه وعماله إلى أمير المؤمنين في وثاق، وعلى الحال التي استحقوها من التغيير والتنكيل بما كسبت أيديهم؛ وما الله بظلام للعبيد.

ثم اعمل بما أمرك به أمير المؤمنين من الشخوص إلى سمرقند، ومحاولة ما قبل خامل، ومن كان على رأيه ممن أظهر خلافًا وامتناعًا من أهل كور ما وراء النهر وطخارستان بالدعاء إلى الفيئة والمراجعة، وبسط أمانات أمير المؤمنين التي حملكها إليهم؛ فإن قبلوا وأنابوا وراجعوا ما هو أملك بهم، وفرقوا جموعهم، فهو ما يحب أمير المؤمنين أن يعاملهم به من العفو عنهم والإقالة لهم؛ إذ كانوا رعيته؛ وهو الواجب على أمير المؤمنين لهم إذ أجابهم إلى طلبتهم، وآمن روعتهم، وكفاهم ولاية من كرهوا ولايته، وأمر بإنصافهم في حقوقهم وظلاماتهم - وإن خالفوا ما ظن أمير المؤمنين، فحاكمهم إلى الله إذ طغوا وبغوا، وكرهوا العافية وردوها؛ فإن أمير المؤمنين قد قضى ما عليه، فغير ونكل، وعزل واستبدل، وعفا عمن أحدث، وصفح عمن اجترم؛ وهو يشهد الله عليهم بعد ذلك فيإن آثروه، وعنودٍ إن أظهروه. وكفى بالله شهيدًا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه يتوكل وإليه ينيب. والسلام.

وكتب إسماعيل بن صبيح بين يدي أمير المؤمنين.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان والي مكة.

ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ففيها كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي ثابت بن ناصر بن مالك.

ذكر الخبر عن مسير الرشيد إلى خراسان

وفيها وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام، يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع؛ وكان مصيره ببغداد يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر، واستخلف بالرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بن خازم، ثم شخص من مدينة السلام عشية الاثنين، لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر، من الخيزرانية، فبات في بستان أبي جعفر، ثم سار من غد إلى النهروان، فعسكر هنالك، ورد حمادًا البربري إلى أعماله، واستخلف ابنه محمدًا بمدينة السلام.

وذكر عن ذي الرياستين أنه قال: قلت للمأمون لما أراد الرشيد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع: لست تدري ما يحدث بالرشيد وهو خارج إلى خراسان، وهي ولايتك، ومحمد المقدم عليك! وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك؛ وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها، فاطلب إليه أن يشخصك معه. فسأله الإذن فأبى عليه، فقلت له: قل له: أنت عليل؛ وإنما أردت أن أخدمك، ولست أكلفك شيئًا. فأذن له وسار.

فذكر محمد بن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد حين خرج إلى خراسان، فمضى معه إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال له: يا صباح، لا أحسبك تراني أبدًا. قال: فقلت: بل يردك الله سالمًا؛ قد فتح الله عليك، وأراك في عدوك أملك. قال:؟ يا صباح، لا أحسبك تدري ما أجد! قلت: لا والله، قال: فتعال حتى أريك، قال: فانحرف عن الطريق قدر مائة ذراع، فاستظل بشجرة، فأومأ إلى خدمه الخاصة فتنحوا، ثم قال: أمانة الله يا صباح أن تكتم علي، فقلت: يا سيدي، عبدك الذليل تخاطبه مخاطبة الولد! قال: فكشف عن بطنه؛ فإذا عصابة حرير حوالي بطنه، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم؛ ولكل واحد من ولدي علي رقيب؛ فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بن بختيشوع رقيب الأمين - وسمى الثالث فذهب عني اسمه - وما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي، ويعد أيامي ويستطيل عمري، فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو بدابة، فيجيئونني ببرذون أعجف قطوف، ليزيد في علتي، فقلت: يا سيدي ما عندي في الكلام جواب؛ ولا في ولاة العهود؛ غير أني أقول: جعل الله من يشنؤك من الجن والإنس والقريب والبعيد فداك؛ وقدمهم إلى تلك قبلك، ولا أرانا فيك مكروهًا أبدًا، وعمر بك الله الإسلام، ودعم ببقائك أركانه، وشد بك أرجاءه، وردك الله مظفرًا مفلحًا، على أفضل أملك في عدوك، وما رجوت من ربك. قال: أما أنت فقد تخلصت من الفريقين.

قال: ثم دعا ببرذون، فجاءوا به كما وصف، فنظر إلي فركبه، وقال انصرف غير مودع؛ فإن لك أشغالًا، فودعته وكان آخر العهد به.

وفيها تحرك الخرمية بناحية أذربيجان، فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فارس، فأسر وسبى، ووافاه بقرماسين، فأمر بقتل الأسارى وبيع السبي.

وفيها مات علي بن ظبيان القاضي بقصر اللصوص.

وفيها قدم يحيى بن معاذ بأبي النداء على الرشيد وهو بالرقة فقتله.

وفيها فارق عجيف بن عنبسة والأحوص بن مهاجر في عدة من أبناء الشيعة رافع بن ليث، وصاروا إلى هرثمة.

وفيها قدم بابن عائشة وبعدة من أهل أحواف مصر.

وفيها ولى ثابت بن نصر بن مالك الثغور وغزا، فافتتح مطمورة.

وفيها كان الفداء بالبدندون.

وفيها تحرك ثروان الحروري، وقتل عامل السلطان بطف البصرة.

وفيها قدم بعلي بن عيسى بغداد، فحبس في داره.

وفيها مات عيسى بن جعفر بطرارستان - وقيل بالدسكرة - وهو يريد اللحاق بالرشيد.

وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني.

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن عبيد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر الخبر عن وفاة الفضل بن يحيى

فمن ذلك وفاة الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة في المحرم، وكان بدء علته - فيما ذكر - من ثقل أصابه في لسانه وشقه؛ وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد، فيقال له: أما تحب أن يفرج الله عنك! فيقول: إن أمري قريب من أمره. ومكث يعالج أشهرًا، ثم صلح، فجعل يتحدث، ثم اشتد عليه فعقد لسانه وطرفه، ووقع لمآبه، فمكث في تلك الحال يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي مع أذان الغداة، قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر؛ وهو في خمس وأربعين سنة، وجزع الناس عليه، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم اخرج فصلى الناس على جنازته.

وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري.

ذكر الخبر عن مقام الرشيد بطوس

وفيها وافى هارون جرجان في صفر، فوافاه بها خزائن علي بن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان - فيما ذكر - في صفر، وهو عليل، إلى طوس؛ فلم يزل بها إلى أن توفي - واتهم هرثمة، فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بن مالك ويحيى ين معاذ وأسد بن يزيد بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسندي بن الحرشي ونعيم بن حازم؛ وعلى كتابته ووزارته أيوب بن أبي سمير، ثم اشتد بهارون الوجع حتى ضعف عن السير.

وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، فتح فيها بخارى، وأسر أخا رافع بشير بن ليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس؛ فذكر عن ابن جامع المروزي، عن أبيه، قال: كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع. قال: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع، وعليه فرش بقدر ذلك - أو قال أكثر - وفي يده مرآة ينظر فيها إلى وجهه. قال: فسمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ونظر إلى أخي رافع، فقال: أما والله يابن اللخناء؛ إني لأرجو ألا يفوتني خامل - يريد رافعًا - كما لم تفتني. فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كنت لك حربًا، وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله، أكن لك سلمًا؛ ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذًا علم أنك قد مننت علي! فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. ثم دعا بقصاب، فقال: لا تشحذ مداك، اتركها على حالها، وفصل هذا الفاسق ابن الفاسق، وعجل؛ لا يحضرن أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه. ففصله حتى جعله أشلاء. فقال: عد أعضاءه، فعددت له أعضاءه، فإذا هي أربعة عشر عضوًا، فرفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك، فبلغت فيه رضاك، فمكني من أخيه. ثم أغمي عليه، وتفرق من حضره.

ذكر الخبر عن موت هارون الرشيد

وفيها مات هارون الرشيد.

ذكر الخبر عن سبب وفاته والموضع الذي توفي فيه

ذكر عن جبريل بن بختيشوع أنه قال: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، فأتعرف حاله في ليلته؛ فإن كان أنكر شيئًا وصفه، ثم ينبسط فيحدثني بحديث جواريه وما عمل في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالها؛ فدخلت عليه في غداة يوم، فسلمت فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابسًا مفكرًا مهمومًا، فوقفت بين يديه مليًا من النهار، وهو على تلك الحال؛ فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: يا سيدي، جعلني الله فداك! ما حالك هكذا، أعلة فأخبرني بها؛ فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب فذاك ما لا يدفع ولا حيلة فيه إلا التسليم والغم، لا درك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك منذلك؛ وأنا أولى من أفضيت إليه بالخبر، وتروحت إليه بالمشورة. فقال: ويحك يا جبريل! ليس غمي وكربي لشيء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه، وقد أفزعتني وملأت صدري، وأقرحت قلبي، قلت: فرجت عني يا أمير المؤمنين؛ فدنوت منه، فقبلت رجله، وقلت: أهذا الغم كله لرؤيا! الرؤيا إنما تكون من مخاطر أو بخارات رديئة أو من تهاويل السوداء؛ وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله. قال: فأقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذا؛ إذ من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكهف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة؟ قال: بطوس. وغابت اليد وانقطع الكلام، وانتهت. فقلت: يا سيدي، هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أحسبك أخذت مضجعك، ففكرت في خراسان وحروبها وما قد ورد عليك من انتفاض بعضها. قال: قد كان ذاك، قال: قلت: فلذلك الفكر خالطك في منامك ما خالطك، فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها جعلني الله فداك! وأتبع هذا الغم سرورًا، يخرجه من قلبك لا يولد علة. قال:

فما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل، حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في ذلك اليوم في لهوه. ومرت الأيام فنسي، ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين خرج رافع، فلما صار في بعض الطريق، ابتدأت به العلة فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس، فنزلنا في منزل الجنيد بن عبد الرحمن في ضيعة له تعرف بسناباذ، فبينا هو يمرض في بستان له في ذلك القصر إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملًا يقوم ويسقط؛ فاجتمعنا إليه؛ كل يقول: يا سيدي ما حالك؟ وما دهاك؟ فقال: يا جبريل، تذكر بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذا البستان، فمضى مسرور، فأتى بالتربة في كفه حاسرًا عن ذراعه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئًا؛ وأقبل على البكاء والنحيب. ثم مات بها والله بعد ثلاثة ودفن في ذلك البستان.

وذكر بعضهم أن جبريل بن بختيشوع كان غلط على الرشيد في علته في علاج عالجه به، كان سبب منيته؛ فكان الرشبد هم ليلة مات بقتله، وأن يفصله كما فصل أخا رافع، ودعا بجبريل ليفعل ذلك به، فقال له جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين، فإنك ستصبح في عافية. فمات في ذلك اليوم.

وذكر الحسن بن علي الربعي أن أباه حدثه عن أبيه - وكان جمالًا معه مائة جمل، قال: هو حمل الرشيد إلى طوس - قال: قال الرشيد احفروا لي قبرًا قبل أن أموت، فحفروا له، قال: فحملته في قبة أقود به؛ حتى نظر إليه. قال، فقال: يابن آدم تصير إلى هذا! وذكر بعضهم أنه لما اشتدت به العلة أمر بقبره فحفر في موضع الدار التي كان فيها نازلًا، بموضع يسمى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم الطائي، فلما فرغ من حفر القبر، أنزل فيه قومًا فقرءوا فيه القرآن حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر.

وذكر محمد بن زياد بن محمد بن حاتم بن عبد الله بن أبي بكرة، أن سهل بن صاعد حدثه، قال: كنت عند الرشيد في بيته الذي قبض فيه، وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة فاحتبى بها، وجعل يقاسي ما يقاسي؛ فنهضت فقال لي: اقعد يا سهل، فقعدت وطال جلوسي لا يكلمني ولا أكلمه، والملحفة تنحل فيعيد الاحتباء بها، فلما طال ذلك نهضت، فقال لي: إلى أين يا سهل؟ قلت يا أمير المؤمنين ما يسع قلبي أن أرى أمير المؤمنين يعاني من العلة ما يعاني؛ فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أروح لك، ثم قال: يا سهل إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:

وإني من قوم كرام يزيدهم ** شماسًا وصبرًا شدة الحدثان

وذكر عن مسرور الكبير، قال: لما حضرت الرشيد الوفاة، وأحس بالموت أمرني أن أنشر الوشي فآتيه بأجود ثوب أقدر عليه وأغلاه قيمة، فلم أجد ذلك في ثوب واحد، ووجدت ثوبين أغلى شيء قيمة، وجدتهما متقاربين في أثمانهما، إلا أن أحدهما أغلى من الآخر شيئًا، وأحدهما أحمر والآخر أخضر، فجئته بهما، فنظر إليهما وخبرته قيمتهما، فقال: اجعل أحسنهما كفني، ورد الآخر إلى موضعه.

وتوفي - فيما ذكر - في موضع يدعى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم، نصف الليل؛ ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح، ومن خدمه مسرور وحسين ورشيد.

وكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يومًا. أولها ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وآخرها ليلة السبت لثلاث ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.

وقال هشام بن محمد: استخلف أبو جعفر الرشيد هارون بن محمد ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وهو يومئذ ابن اثنتين وعشرين سنة، وتوفي ليلة الأحد غرة جمادى الأولى وهو ابن خمس وأربعين سنة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فملك ثلاثًا وعشرين سنة وشهرًا وستة عشر يومًا.

وقيل: كان سنه يوم توفي سبعًا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، أولها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة، وآخرها يومان مضيا من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.

وكان جميلًا وسيمًا أبيض جعدًا، وقد وخطه الشيب.

ذكر ولاة الأمصار في أيام هارون الرشيد

ولاة المدينة: إسحاق بن عيسى بن علي، عبد الملك بن صالح بن علي، محمد بن عبد الله، موسى بن عيسى بن موسى، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، علي بن عيسى بن موسى، محمد بن إبراهيم، عبد الله بن مصعب الزبيري، بكار بن عبد الله بن مصعب، أبو البختري وهب بن وهب.

ولاة مكة: العباس بن محمد بن إبراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بن عيسى بن موسى، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، عبد الله بن قثم بن العباس؛ محمد بن إبراهيم، عبيد الله بن قثم، عبد الله بن محمد بن عمران، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، العباس بن موسى بن عيسى، علي بن موسى بن عيسى، محمد بن عبد الله العثماني، حماد البربري، سليمان بن جعفر بن سليمان، أحمد بن إسماعيل بن علي، الفضل بن العباس بن محمد.

ولاة الكوفة: موسى بن عيسى، يعقوب بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، إسحاق بن الصباح الكندي، جعفر بن جعفر بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، موسى بن عيسى بن موسى.

ولاة البصرة: محمد بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، خزيمة بن خازم، عيسى بن جعفر، جرير بن يزيد؛ جعفر بن سليمان، جعفر بن أبي جعفر، عبد الصمد بن علي، مالك بن علي الخزاعي، إسحاق بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر، الحسن بن جميل مولى أمير المؤمنين؛ إسحاق بن عيسى بن علي.

ولاة خراسان: أبو العباس الطوسي، جعفر بن محمد بن الأشعث، العباس بن جعفر، الغطريف بن عطاء، سليمان بن راشد على الخراج، حمزة ابن مالك، الفضل بن يحيى، منصور بن يزيد بن منصور، جعفر بن يحيى خليفته بها، علي بن الحسن بن قحطبة، علي بن عيسى بن ماهان، هرثمة بن أعين.

ذكر بعض سير الرشيد

ذكر العباس بن محمد عن أبيه، عن العباس، قال: كان الرشيد يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا؛ إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور، ويطلب العمل بها إلا في بذل المال؛ فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده. وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه. وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شيء لانتيجة له، وبالحري ألا يكون فيه ثواب، وكان يحب؛ ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي.

وذكر ابن أبي حفصة أن مروان بن أبي حفصة دخل عليه في سنة إحدى وثمانين ومائة يوم الأحد لثلاث خلون من شهر رمضان، فأنشده شعره الذي يقول فيه:

وسدت بهارون الثغور فأحكمت ** به من أمور المسلمين المرائر

وما انفك معقودًا بنصر لواؤه ** له عسكر عنه تشظى العساكر

وكل ملوك الروم أعطاه جزية ** على الرغم قسرًا عن يد وهو صاغر

لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا ** كأن لم يدمنه من الناس حاضر

أناخ على الصفصاف حتى استباحه ** فكابره فيها ألج مكابر

إلى وجهه تسمو العيون وما سمت ** إلى مثل هارون العيون النواظر

ترى حوله الأملاك من آل هاشم ** كما حفت البدر النجوم الزواهر

يسوق يديه من قريش كرامها ** وكلتاهما بحر على الناس زاخر

إذا فقد الناس الغمام تتابعت ** عليهم بكفيك الغيوم المواطر

على ثقة ألقت إليك أمورها ** قريش، كما ألقى عصاه المسافر

أمور بميراث النبي وليتها ** فأنت لها بالحزم طاوٍ وناشر

إليكم تناهت فاستقرت وإنما ** إلى أهله صارت بهن المصاير

خلفت لنا المهدي في العدل والندى ** فلا العرف منزور ولا الحكم جائر

وأبناء عباس نجوم مضيئة ** إذا غاب نجم لاح آخر زاهر

علي بني ساقي الحجيج تتابعت ** أوائل من معروفكم وأواخر

فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغًا ** مدى شكر نعماكم وإني لشاكر

وما الناس إلا وارد لحياضكم ** وذو نهل بالري عنهن صادر

حصون بني العباس في كل مأزق ** صدور العوالي والسيوف البواتر

فطورًا يهزون القواطع والقنا ** وطورًا بأيديهم تهز المخاصر

بأيدي عظام النفع والضر لا تني ** بهم للعطايا والمنايا بوادر

ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم ** أسرته مختالةً والمنابر

أبوك ولي المصطفى دون هاشمٍ ** وإن رغمت من حاسديك المناخر

فأعطاه خمسة آلاف دينار، فقبضها بين يديه وكساه خلعته، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه.

وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدني، وكان مضاحكًا له محادثًا فكيهًا، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته؛ وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوأه منزلًا في قصره، وخلطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه؛ فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائمًا، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قال له: كيف أصبحت؟ قال: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك! قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي. فمضى وتركه نائمًا، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام فألقى عليه ثيابه، ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: " ومالي لا أعبد الذي فطرني " فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو كالمغضب، فقال: يابن أبي مريم، في الصلاة أيضًا! قال: يا هذا وما صنعت؟ قال: قطعت علي صلاتي، قال: والله ما فعلت؛ إنما سمعت منك كلامًا غمني حين قلت: " ومالي لا أعبد الذي فطرني " فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك، وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.

وذكر بعض خدم الرشيد أن العباس بن محمد أهدى غاليةً إلى الرشيد، فدخل عليه وقد حملها معه، فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! قد جئتك بغالية ليس لأحد مثلها، أما مسكها فمن سرر الكلاب التبتية العتيقة، وأما عنبرها فمن عنبر بحر عدن، وأما بانها فمن فلان المدني المعروف بجودة عمله، وأما مركبها فإنسان بالبصرة عالم بتأليفها، حاذق بتركيبها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يمن علي بقبولها فعل، فقال الرشيد لخاقان الخادم وهو على رأسه: يا خاقان، أدخل هذه الغالية؛ فأدخلها خاقان، فإذا هي في برنية عظيمة من فضة، وفيها ملعقة، فكشف عنها وابن أبي مريم حاضر، فقال: يا أمير المؤمنين، هبها لي، قال: خذها إليك. فاغتاظ العباس، وطار أسفًا، وقال: ويلك! عمدت إلى شيء منعته نفسي، وآثرت به سيدي فأخذته! فقال: أمه فاعلة إن دهن بها إلا استه! قال: فضحك الرشيد ثم وثب ابن أبي مريم، فألقى طرف قميصه على رأسه، وأدخل يده في البرنية، فجعل يخرج منها ما حملت يده، فيضعه في استه مرة وفي أرفاغه ومغابنه أخرى، ثم سود بها وجهه وأطرافه، حتى أتى على جميع جوارحه وقال لخاقان: أدخل إلي غلامي، فقال الرشيد وما يعقل مما هو فيه من الضحك، ادع غلامه، فدعاه، فقال له: اذهب بهذه الباقية، إلى فلانة، امرأته، فقل لها: ادهني بهذا حرك إلى أن انصرف فأنيكك. فأخذها الغلام ومضى، والرشيد يضحك، فذهب به الضحك. ثم أقبل على العباس فقال: والله أنت شيخ أحمق، تجيء إلى خليفة الله فتمدح عنده غالية! أما تعلم أن كل شيء تمطر السماء وكل شيء تخرج الأرض له، وكل شيء هو في الدنيا فملك يده، وتحت خاتمه وفي قبضته! وأعجب من هذا أنه قيل لملك الموت: انظر كل شيء يقول لك هذا فأنفذه، فمثل هذا تمدح عنده الغالية، ويخطب في ذكرها، كأنه بقال أو عطار أو تمار! قال: فضحك الرشيد حتى كاد ينقطع نفسه، ووصل ابن أبي مريم في ذلك اليوم بمائة ألف درهم.

وذكر عن زيد بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: أراد الرشيد أن يشرب الدواء يومًا، فقال له ابن أبي مريم: هل لك أن تجعلني حاجبك غدًا عند أخذك الدواء؛ وكل شيء أكسبه فهو بيني وبينك؟ قال: أفعل، فبعث إلى الحاجب: الزم غدًا منزلك؛ فإني قد وليت ابن أبي مريم الحجابة. وبكر ابن أبي مريم، فوضع له الكرسي، وأخذ الرشيد دواءه، وبلغ الخبر بطانته، فجاء رسول أم جعفر يسأل عن أمير المؤمنين وعن دوائه، فأوصله إليه، وتعرف حاله وانصرف بالجواب، وقال للرسول: أعلم السيدة ما فعلت في الإذن لك قبل الناس؛ فأعلمها، فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل كذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بن الربيع فرده ولم يأذن له، وجاءت رسل القواد والعظماء؛ فما أحد سهل إذنه إلا بعث إليه بصلة جزيلة؛ فما صار العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما خرج الرشيد من العلة، ونقي بدنه من الدواء دعاه، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قال: يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فاستكثرها وقال: وأين حاصلي؟ قال: معزول، قال: قد سوغناك حاصلنا؛ فأهد إلينا عشرة آلاف تفاحة، ففعل، فكان أربح من تاجره الرشيد.

وذكر عن إسماعيل بن صبيح، قال: دخلت على الرشيد، فإذا جارية على رأسه، وفي يدها صحيفة وملعقة في يدها الأخرى، وهي نلعقه أولًا فأولًا، قال: فنظرت إلى شيء أبيض رقيق فلم أدر ما هو! قال: وعلم أني أحب أن أعرفه، فقال: يا إسماعيل بن صبيح، قلت: لبيك يا سيدي، قال: تدري ما هذا؟ قلت: لا، قال: هذا حشيش الأرز والحنطة وماء نخالة السميد؛ وهو نافع لأطراف المعوجة وتشنيج الأعصاب ويصفى البشرة، ويذهب بالكلف، ويسمن البدن، ويجلو الأوساخ. قال: فلم تكن لي همة حين انصرفت إلا أن دعوت الطباخ؛ فقلت: بكر على كل غداة بالحشيش، قال: وما هو؟ فوصفت له الصفة التي سمعتها. قال: تضجر من هذا في اليوم الثالث، فعماه في اليوم الأول فاستطبته، وعمله في اليوم الثاني فصار دونه، وجاء به في اليوم الثالث، فقلت: لا تقدمه. وذكرت أن الرشيد اعتل علة، فعالجه الأطباء، فلم يجد من علته إفاقة، فقال له أبو العجمي: بالهند طبيب يقال له منكة؛ رأيتهم يقدمونه على كل من بالهند؛ وهو أحد عبادهم وفلاسفتهم، فلو بعث إليه أمير المؤمنين لعل الله أن يبعث له الشفاء على يده! قال: فوجه الرشيد من حمله، ووجه إليه بصلة تعينه على سفره. قال: فقدم فعالج الرشيد فبرىء من علته بعلاجه، فأجرى له رزقًا واسعًا وأموالًا كافية، فبينما منكه مارًا بالخلد؛ إذا هو برجلمن المانيين قد بسط كساءه، وألقي عليه عقاقير كثيرة، وقام يصف دواء عنده معجونًا، فقال في صفته: هذا دواء للحمى الدائمة وحمى الغب وحمى الربع، والمثلثة؛ ولوجع الظهر والركبتين والبواسير والرياح، ولوجع المفاصل ووجع العينين، ولوجع البطن والصداع والشقيقة ولتقطير البول والفالج والارتعاش؛ فلم يدع علة في البدن إلا ذكر أن الدواء شفاء منها، فقال منكه لترجمانه: ما يقول هذا؟ فترجم له ما سمع، فتبسم منكه، وقال: على كل حال ملك العرب جاهل؛ وذاك أنه كان الأمر على ما قال هذا، فلم حملني من بلادي، وقطعني عن أهلي، وتكلف الغيظ من مؤنتي، وهو يجد هذا نصب عينيه وبإزائه! وإن كان الأمر ليس كما يقول هذا فلم لا يقتله! فإن الشريعة قد أباحت دمه ودم من أشبهه؛ لأنه إن قتل، فإنما هي نفس يحيا بقتلها خلق كثير؛ وإن ترك هذا الجاهل قتل في كل يوم نفسًا، وبالحري أن يقتل اثنين وثلاثًا وأربعًا ففي كل يوم؛ وهذا فساد في التدبير، ووهن في المملكة.

وذكر أن يحيى بن خالد بن برمك ولى رجلأ بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد يودعه؛ وعنده يحيى وجعفر بن يحي، فقال الرشيد ليحي وجعفر: أوصياه، فقال له يحي: وفر واعمر، وقال له جعفر: أنصف وانتصف، فقال الرشيد: اعدل وأحسن.

وذكر عن الرشيد أنه غضب على يزيد بن مزيد الشيباني، ثم رضي عنه، وأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ الحمد لله الذي سهل لنا سبيل الكرامة، وحل لنا النعمة بوجه لقائك، وكشف عنا صبابة الكرب بإفضالك، فجزاك الله في حال سخطك رضا المنيبين، وفي حال جزاء المنعمين الممتنين المتطولين؛ فقد جعلك الله وله الحمد، تتثبت تحرجًا عند الغضب، وتتطول ممتنًا بالنعم، وتعفو عن المسيء تفضلًا بالعفو.

وذكر مصعب بن عبد الله بن مصعب أخبره أن الرشيد قال له: ما تقول في الذين طعنوا على عثمان؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس؛ وكان معه ناس؛ فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه؛ فهم أنواع الشيع، وأهل البدع، وأنواع الخوارج؛ وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة إلى اليوم. فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد هذا اليوم عن هذا.

قال مصعب: وقال أبي - وسألني عن منزلة أبي بكر وعمر كانت من رسول الله ؛ فقلت له: كانت منزلتهما في حياته منه منزلتهما في مماته، فقال: كيفتني ما أحتاج إليه. قال: وولى سلام، أو رشيد الخادم - بعض خدام الخاصة - ضياع الرشيد بالثغور والشأمات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، كفيتني ما أحتاج إليه. قال: وولى سلام، أو رشيد الخادم - بعض خدام الخاصة - ضياع الرشيد بالثغور والشأمات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، فأمر الرشيد بتقديمه والإحسان إليه، وضم ما أحب أن يضم إليه من ضياع الجزيرة ومصر. قال: فقدم فدخل عليه وهو يأكل سفرجلًا قد أتى به من بلخ؛ وهو يقشره ويأكل منه، فقال له: يا فلان، ما أحسن ما انتهى إلى مولاك عنك، ولك عنده ما تحب، وقد أمرت لك بكذا وكذا، ووليتك كذا وكذا، فسل حاجتك، قال: فتكلم وذكر حسن سيرته، وقال: أنسيتم والله يا أمير المؤمنين سيرة العمرين. قال: فغضب واستشاط، وأخذ سفرجلة فرماه بها، وقال: يابن اللخناء، العمرين، العمرين، العمرين! هبنا احتملناها لعمر بن عبد العزيز، نحتملها لعمر ابن الخطاب! وذكر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز حدثه، عن الضحاك بن عبد الله، وأثنى عليه خيرًا؛ قال: أخبرني بعض ولد عبد الله بن عبد العزيز، قال: قال الرشيد: والله ما أدري ما آمر في هذا العمري! أكره أن أقدم عليه وله خلف أكرههم؛ وإني لأحب أن أعرف طريقه ومذهبه، وما أثق بأحد أبعثه إليه، فقال عمر بن بزيع والفضل بن الربيع: فنحن يا أمير المؤمنين، قال: فأنتما، فخرجا من العرج إلى موضع من البادية يقال له خلص، وأخذا معهما أدلاء من أهل العرج؛ حتى إذا وردا عليه في منزله أتياه مع الضحى؛ فإذا هو في المسجد، فأناخا راحلتيهما ومن كان من أصحابهما، ثم أتياه على زي الملوك من الريح والثياب والطيب؛ فجلسا إليه وهو في مسجد له، فقالا له: يا أبا عبد الرحمن، نحن رسل من خلفنا من أهل المشرق، يقولون لك: اتق الله ربك؛ فإذا شئت فقم. فأقبل عليهما، وقال: ويحكما! فيمن ولمن! قالا: أنت، فقال: والله ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم امرئ مسلم، وأن لي ما طلعت عليه الشمس؛ فلما أيسا منه قالا: فإن معنا شيئًا تستعين به على دهرك، قال: لا حاجة لي فيه، أنا عنه غني، فقالا له: إنها عشرون ألف دينار، قال: لا حاجة لي فيها، قالا: فأعطها من شئت، قال: أنتما، فأعطياها من رأيتما، ما أنا بخادم ولا عون. قال: فلما يئسا منه ركبا راحلتيهما حتى أصبحا مع الخليفة بالسقيا في المنزل الثاني، فوجدا الخليفة ينتظرهما؛ فلما دخلا عليه حدثاه بما كان بينهما وبينه، فقال: ما أبالي ما أصنع بعد هذا. فحج عبد الله في تلك السنة، فبينا هو واقف على بعض أولئك الياعة يشتري لصبيانه؛ إذا هارون يسعى بين الصفا والمروة على دابة، إذ عرض له عبد الله وترك ما يريد، فأتاه حتى أخذ بلجام دابته، فأهوت إليه الأجناد والأحراس، فكفهم عنه هارون فكلمه. قال: فرأيت دموع هارون؛ وإنها لتسيل على معرفة دابته، ثم انصرف.

وذكر محمد بن أحمد مولى بني سليم قال: حدثني الليث بن عبد العزيز الجوزجاني - وكان مجاورًا بمكة أربعين سنة - أن بعض الحجبة حدثه أن الرشيد لما حج دخل الكعبة، وقال على أصابعه، وقال:

يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردًا حاضرًا، وجوابًا عتيدًا، ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة؛ ورحمتك الواسعة. صل على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا. يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء، صل على محمد، وخر لي في جميع أمري. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات يسألونك الحاجات؛ إن حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي. اللهم لك الحمد حمدًا يفضل على كل حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صل على محمد صلاة تكون له رضًا، وصل على محمد صلاة تكون له حرزًا، واجزه عنا خير الجزاء في الآخرة والأولى. اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين! وذكر علي بن محمد عن عبد الله، قال: أخبرني القاسم بن يحيى، قال: بعث الرشيد إلى أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بن علي الحير، فأتى بهم، فنظر إليه الحسن بن راشد، وقال: ما لك؟ قال: بعث إلي هذا الرجل - يعني الرشيد - فأحضرني، ولست آمنة على نفسي، قال له: فإذا دخلت عليه فسألك، فقل له: الحسن بن راشد وضعني في ذلك الموضع. فلما دخل عليه قال هذا القول، قال: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن! أحضروه، قال: فلما حضر قال: ما حملك على أن صيرت هذا الرجل في الحير؟ قال: رحم الله من صيره في الحير، أمرتني أم موسى أن أصيره فيه، وأن أجري عليه كل شهر ثلاثين درهمًا فقال: ردوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى - وأم موسى هي أم المهدي ابنة يزيد بن منصور.

وذكر علي بن محمد أن أباه حدثه قال: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي فإذا هو في هيئة الصيف، وفي بيت مكشوف؛ وليس فيه فرش على مقعد عند باب في الشق الأيمن من البيت، وعليه غلالة رقيقة، وإزار رشيدي عريض الأعلام، شديد التضريج؛ وكان لا يخيش البيت الذي هو فيه؛ لأنه كان يؤذيه؛ ولكنه كان يدخل عليه برد الخيش؛ ولا يجلس فيه. وكان أول من اتخذ في بيت مقيله في الصيف سقفًا دون سقف؛ وذلك أنه لما بلغه أن الأكاسرة كانوا يطينون ظهور بيوتهم في كل يوم من خارج ليكف عنهم حر الشمس؛ فاتخذ هو سقفًا يلي سقف البيت الذي يقيل فيه.

وقال علي عن أبيه: خبرت أنه كان في كل يوم القيظ تغار من فضة يعمل فيه العطار الطيب والزعفران والأفاوية وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل معه سبع غلائل قصب رشيدية تقطيع النساء، ثم تغمس الغلال في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فتخلع عن كل جارية ثيابها عليها غلالة، وتجلس على كرسي مثقب، وترسل الغلالة على الكرسي فتجلله، ثم تبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر أمدًا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن، ويكون ذلك في بيت مقبله، فيعبق ذلك البيت بالبخور والطيب.

وذكر علي بن حمزة أن عبد الله بن عباس بن الحسن بن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قال: قال لي العباس بن الحسن: قال لي الرشيد: أراك تكثر من ذكر ينبع وصفتها، فصفها لي وأوجز، قال: قلت: بكلام أو بشعر؟ قال: بكلام وشعر، قال: قلت: جدتها في أصل عذقها، وعذقها مسرح شأنها، قال: فتبسم، فقلت له:

يا وادي القصر نعم القصر والوادي ** من منزل حاضر إن شئت أو بادي

ترى قراقيره والعيس واقفةً ** والضب والنون والملاح والحادي

وذكر محمد بن هارون، عن أبيه، قال: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بن الربيع: يا أمير المؤمنين، قد أحضرت ابن السماك كما أمرتني، قال: أدخله، فدخل، فقال له: عظني، قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غدًا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما؛ جنة أو نار. قال: فبكى هارون حتى اخضلت لحيته، فأقبل الفضل على ابن السماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالج أحد شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله! لقيامه بحق الله وعدله في عباده، وفضله! قال: فلم يحفل بذلك ابن السماك من قوله، ولم يلتفت إليه، وأقبل على أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا - يعني الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك. قال: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه. وأفحم الفضل بن الربيع فلم ينطق بحرف حتى خرجنا.

قال: ودخل ابن السماك على الرشيد يومًا؛ فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتى بقلة ماء؛ فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قال ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين؛ بقرابتك من رسول الله ، لو منعت هذه الشربة فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله؛ فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله ، لو منعت خروجها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي؛ قال ابن السماك: إن ملكًا قيمته شربة ماء، لجدير ألا ينافس فيه. فبكى هارون؛ فأشار الفضل بن الربيع إلى السماك بالانصراف فانصرف.

قال: ووعظ الرشيد عبد الله بن عبد العزيز العمري، فتلقى قوله بنعم يا عم، فلما ولى لينصرف؛ بعث إليه بألفي دينار في كيس مع الأمين والمأمون فاعترضاه بها، وقالا: يا عم؛ يقول لك أمير المؤمنين: خذها وانتفع بها أو فرقها، فقال: هو أعلم بمن يفرقها عليه، ثم اخذ من الكيس دينارًا، وقال: كرهت أن اجمع سوء القول وسوء الفعل. وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيره إلى بغداد، وجمع العمريين، فقال: مالي ولابن عمتكم! احتملته بالحجاز، فشخص إلى دار مملكتي؛ يريد أن يفسد علي أوليائي! ردوه عني، فقالوا: لا يقبل منا؛ فكتب إلى موسى بن عيسى أن يرفق به حتى يرده، فدعا له عيسى ببني عشر سنين، قد حفظ الخطب والمواعظ، فكلمه كلامًا كثيرًا، ووعظه بما لم يسمع العمري بمثله، ونهاه عن التعرض لأمير المؤمنين. فأخذ نعله، وقام وهو يقول: " فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير ".

وذكر بعضهم أنه كان مع الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج يومًا مع الرشيد إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى انصرف، فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به، فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمسألة، قال: ذاك أقل ما يجب لك، قال: فأخبرني: أنا شر وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون، قال: " أنا ربكم الأعلى " وقال: " ما علمت لكم من إله غيري "، قال: صدقت؛ فأخبرني فمن خير؟ أنت أم موسى بن عمران؟ قال: موسى كليم الله وصفيه، اصطنعه لنفسه، وأتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قال: صدقت؛ أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قال لهما: " فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى "، ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه؛ وهذا وهو في عتوه وجبريته؛ على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم، أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحدًا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه؛ فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام وأفظعه؛ فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك! فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيًا. قال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين؛ وأنا أستغفرك؛ قال: قد غفر لك الله؛ وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها، وقال: لا حاجة لي في المال؛ أنا رجل سائح. فقال هرثمة - وخزره: أترد على أمير المؤمنين يا جاهل صلته! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه؛ ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه؛ فاقبل من صلتنا ما شئت؛ وضعها حيث أحببت. فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب.

ذكر من كان عند الرشيد من النساء والمهائر

قيل: إنه تزوج زبيدة؛ وهي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، وأعرس بها في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي ببغداد، في دار محمد بن سليمان - التي صارت بعد للعباسة، ثم صارت للمعتصم بالله - فولدت له محمدًا الأمين، وماتت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين.

وتزوج أمة العزيز أم ولد موسى، فولدت له علي بن الرشيد.

وتزوج أم محمد ابنة صالح المسكين، وأعرس بها بالرقة في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، وأمها أم عبد الله ابنة عيسى بن علي صاحبة دار أم عبد الله بالكرخ التي فيها أصحاب الدبس؛ كانت أملكت من إبراهيم بن المهدي، ثم خلعت منه فتزوجها الرشيد.

وتزوج العباسة ابنة سليمان بن أبي جعفر، وأعرس بها في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، حملت هي وأم محمد ابنة صالح إليه.

وتزوج عزيزة ابنة الغطريف؛ وكانت قبله عند سليمان بن أبي جعفر، فطلقها، فخلف عليها الرشيد، وهي ابنة أخي الخيزران.

وتزوج الجرشية العثمانية، وهي ابنة عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وسميت الجرشية لأنها ولدت بجرش باليمن، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعم أبيها عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

ومات الرشيد عن أربع مهائر: أم جعفر، وأم محمد ابنة صالح، وعباسة ابنة سليمان، والعثمانية.

ذكر ولد الرشيد

وولد للرشيد من الرجال: محمد الأكبر وأمه زبيدة، وعبد الله المأمون وأمه أم ولد يقال لها مراجل، والقاسم المؤتمن وأمه أم ولد يقال لها قصف، ومحمد أبو إسحاق المعتصم وأمه أم ولد يقال لها ماردة، وعلي وأمه أمة العزيز، وصالح وأمه أم ولد يقال لها رثم، ومحمد أبو عيسى وأمه أم ولد يقال لها عرابة، ومحمد أبو يعقوب وأمه أم ولد يقال لها خبث ومحمد أبو سليمان وأمه أم ولد يقال لها رواح، ومحمد أبو علي وأمه أم ولد يقال لها دواج، ومحمد أبو أحد وأمه أم ولد يقال لها كتمان.

ومن النساء: سكينة وأمها قصف وهي أخت القاسم، وأم حبيب وأمها ماردة وهي أخت أبي إسحاق المعتصم، وأروى أمها حلوب، وأم الحسن وأمها عرابة، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص واسمها مصفى، وأم أبيها وأمها سكر، وأم سلمة وأمها رحيق، وخديجة وأمها شجر، وهي أخت كريب، وأم القاسم وأمها خزق، ورملة أم جعفر وأمها حلى، وأم علي وأمها أنيق، وأم الغالية أمها سمندل، وريطة وأمها زينة.

بقية ذكر بعض سير الرشيد

ذكر يعقوب بن إسحاق الأصفهاني، قال: قال المفضل بن محمد الضبي: وجه الرشيد؛ فما علمت إلا وقد جاءتني الرسل ليلًا، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فخرجت حتى صرت إليه؛ وذلك في يوم خميس؛ وإذا هو متكئ ومحمد بن زبيدة عن يساره، والمأمون عن يمينه؛ فسلمت، فأومأ إلي فجلست، فقال لي: يا مفضل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كم إسمًا في: " فسيكفيكهم "؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: الكاف لرسول الله ، والهاء والميم، وهي للكفار، والياء وهي لله عز وجل. قال: صدقت؛ هكذا أفادنا هذا الشيخ - يعني الكسائي - ثم التفت إلى محمد، فقال له: أفهمت يا محمد؟ قال: نعم، قال: أعد علي المسألة كما قال المفضل، فأعادها، ثم التفت إلي فقال: يا مفضل، عندك مسألة تسألنا عنها بحضرة هذا الشيخ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال وما هي؟ قلت: قول الفرزدق:

أخذنا بآفاق السماء عليكم ** لنا قمراها والنجوم الطوالع

قال: هيهات أفادناها متقدمًا قبلك هذا الشيخ؛ لنا قمراها، يعني الشمس والقمر كما قالوا سنة العمرين: سنة أبي بكر وعمر، قال: قلت: فأزيد في السؤال؟ قال: زد، قلت: فلم استحسنوا هذا؟ قال: لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه وسموا به الآخر؛ فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر، واسمه أخف غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، قال الله عز وجل: " بعد المشرقين " وهو المشرق والمغرب. قلت: قد بقيت زيادة في المسألة! فالتفت إلى الكسائي فقال: يقال في هذا غير ما قلنا؟ قال: هذا أوفى ما قالوا، وتمام المعنى عند العرب. قال: ثم التفت إلي فقال: ما الذي بقي؟ قلت: بقيت الغاية التي إليها أجرى الشاعر المفتخر في شعره، قال: وما هي؟ قلت: أراد بالشمس إبراهيم، وبالقمر محمدًا ، وبالنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين. قال: فاشرأب أمير المؤمنين؛ وقال: يا فضل بن الربيع؛ احمل إليه مائة ألف درهم لقضاء دينه، وانظر من بالباب من الشعراء فيؤذن لهم، فإذا العماني ومنصور النمري، فأذن لهما، فقال:

أذن مني الشيخ، فدنا منه وهو يقول:

قل للإمام المقتدي بأمه ** ما قاسم دون مدى ابن أمه

فقد رضيناه فقم فسمه

فقال الرشيد: ما ترضى أن تدعو إلى عقد البيعة له وأنا جالس حتى تنهضني قائمًا! قال: قيام عزم يا أمير المؤمنين، لا قيام حتم، فقال: يؤتى بالقاسم، فأتي به، وطبطب في أرجوزته، فقال الرشيد للقاسم: إن هذا الشيخ قد دعا إلى عقد البيعة لك، فأجزل له العطية، فقال: حكم أمير المؤمنين، قال: وما أنا وذاك! هات النمري، فدنا منه، وأنشده:

ما تنقضي حسرة مني ولا جزع

حتى بلغ:

ما كان أحسن أيام الشباب وما ** أبقى حلاوة ذكراه التي تدع

ما كنت أوفي شبابي كنه غرته ** حتى مضى فإذا الدنيا له تبع

قال الرشيد: لا خير في دنيا لا يخطر فيها ببرد الشباب.

وذكر أن سعيد بن سلم الباهلي دخل على الرشيد، فسلم عليه، فأومأ إليه الرشيد فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، أعرابي من باهلة واقف على باب أمير المؤمنين؛ ما رأيت قط أشعر منه، قال: أما أنك استبحت هذين - يعني العماني ومنصور النمري، وكانا حاضريه - نهبي لهما أحجارك، قال: هما يا أمير المؤمنين يهباني لك؛ فيؤذن للأعرابي؟ فأذن له، فإذا أعرابي في جبة خز، ورداء يمان، قد شد وسطه ثم ثناه على عاتقه، وعمامة قد عصبها على خديه، وأرخى لها عذبة، فمثل بين يدي أمير المؤمنين، وألقيت الكراسي، فجلس الكسائي والمفضل وابن سلم والفضل بن الربيع، فقال بن سلم للأعرابي: خذ في شرف أمير المؤمنين، فاندفع الأعرابي في شعره، فقال أمير المؤمنين،: أسمعك مستحسنًا، وأنكرك متهمًا عليك؛ فإن يكن هذا الشعر لك وأنت قلته من نفسك، فقل لنا في هذين بيتين - يعني محمدا والمأمون - وهما حفا فاه فقال: يا أمير المؤمنين حملتني على القدر في غير الحذر روعة الخلافة، وبهر البديهة، ونفور القوافي عن الروية، فيمهلني أمير المؤمنين؛ يتألف إلي نافراتها، ويسكن روعي. قال: قد أمهلتك يا أعرابي، وجعلت اعتذارك بدلًا من امتحانك، فقال: يا أمير المؤمنين نفست الخناق، وسهلت ميدان النفاق، ثم أنشأ يقول:

هما طنباها بارك الله فيهما ** وأنت أمير المؤمنين عمودها

بنيت بعبد الله بعد محمدٍ ** ذري قبة الإسلام فاهتز عودها

فقال: وأنت يا أعرابي بارك الله فيك؛ فسلنا، ولا تكن مسألتك دون إحسانك، قال: الهنيدة يا أمير المؤمنين، قال: فتبسم أمير المؤمنين، وأمر له بمائة ألف درهم وسبع خلع. وذكر أن الرشيد قال لابنه القاسم - وقد دخل عليه قبل أن يبايع له: أنت للمأمون ببعض لحمك هذا، قال: ببعض حظه.

وقال للقاسم يومًا قبل البيعة له: قد أوصيت الأمين والمأمون بك، قال: أما أنت يا أمير المؤمنين فقد توليت النظر لهما، ووكلت النظر لي إلى غيرك.

وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: قدم الرشيد مدينة الرسول ومعه ابناه الأمين وعبد الله المأمون، فأعطى فيها العطايا وقسم في تلك السنة في رجالهم ونسائهم ثلاثة أعطية؛ فكانت الثلاثة الأعطية التي قسمها فيهم ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وفرض في تلك السنة لخمسمائة من وجوه موالي المدينة، ففرض لبعضهم في الشرف منهم يحيى بن مسكين وابن عثمان، ومخراق مولى بني تميم، وكان يقرئ القرآن بالمدينة.

وقال إسحاق المولى: لما بايع الرشيد لولده، كان فيمن بايع عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، فلما قدم ليبايع، قال:

لا قصرا عنها ولا بلغتهما ** حتى يطول على يديك طوالها

فاستحسن الرشيد ما تمثل، وأجزل له صلته. قال: والشعر لطريح بن إسماعيل، قال في الوليد بن يزيد وفي ابنيه.

وقال أبو الشيص يرثي هارون الرشيد:

غربت في الشرق شمس ** فلها عينان تدمع

ما رأينا قط شمسًا ** غربت من حيث تطلع

وقال أبو نواس الحسن بن هانئ:

جرت جوارٍ بالسعد والنحس ** فنحن في مأتمٍ وفي عرس

القلب يبكي والسن ضاحكة ** فنحن في وحشة وفي أنس

يضحكنا القائم الأمين ويب ** كينا وفاة الإمام بالأمس

بدران: بدر أضحى ببغداد بال ** خلد، وبدر بطوس في رمس

وقيل: مات هارون الرشيد، وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف.

خلافة الأمين

وفي هذه السنة بويع لمحمد الأمين بن هارون بالخلافة في عسكر الرشيد، وعبد الله بن هارون المأمون يومئذ بمرو؛ وكان - فيما ذكر - قد كتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى أبي مسلم سلام، مولاه وخليفته ببغداد على البريد والأخبار، يعلمه وفاة الرشيد. فدخل على محمد فعزاه وهنأه بالخلافة، وكان أول الناس فعل ذلك، ثم قدم عليه رجاء الخادم يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، كان صالح بن الرشيد أرسله إليه بالخبر بذلك - وقيل: أتاه الخبر بذلك - ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة، فأظهره يوم الجمعة، وستره الخبر بقية يومه وليلته، وخاض الناس في أمره.

ولما قدم كتاب صالح على محمد الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد - وكان نازلًا في قصره بالخلد - تحول إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلى بهم؛ فلما قضى صلاته صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد إلى الناس، وعزى نفسه والناس، ووعدهم خيرًا، وبسط الآمال، وآمن الأسود والأبيض، وبايعه جلة أهل بيته وخاصته ومواليه وقواده، ثم دخل. ووكل ببيعته على من بقي منهم عم أبيه سليمان بن أبي جعفر، فبايعهم، وأمر السندي بمبايعته جميع الناس من القواد وسائر الجند، وأمر للجند ممن بمدينة السلام برزق أربعة وعشرين شهرًا، وبخواص من كانت له خاصة بهذه الشهور.

ذكر الخبر عن بدء الخلاف بين الأمين والمأمون

وفي هذه السنة كان بدء اختلاف الحال بين الأمين محمد وأخيه المأمون، وعزم كل واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهما العمل به، في الكتاب الذي ذكرنا أنه كان كتبه عليهما وبينهما.

ذكر الخبر عن السبب الذي كان أوجب اختلاف حالهما فيما ذكرت

قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل أن الرشيد جدد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القواد الذين معه، وأشهد من معه من القواد وسائر الناس وغيرهم أن جميع من معه من الجند مضمومون إلى المأمون، وأن جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. فلما بلغ محمد بن هارون أن أباه قد اشتدت علته، وأنه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كل يوم، وأرسل بكر بن المعتمر، وكتب معه كتبًا، وجعلها في قوائم صناديق منقورة وألبسها جلود البقر، وقال: لا يظهرن أمير المؤمنين ولا أحد ممن في عسكره على شيء من أمرك ولو قتلت حتى بموت أمير المؤمن؛ فإذا مات فادفع إلى كل رجل منهم كتابه.

فلما قدم بكر بن المعتمر طوس، بلغ هارون قدومه، فدعا به، فسأله. ما أقدمك؟ قال: بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به، قال: فهل معك كتاب؟ قال: لا، فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا معه شيئًا، فهدده بالضرب فلم يقر بشيء، فأمر به فحبس وقيد. فلما كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر فيقرره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه، فصار إليه، فقرره فلم يقر بشيء، ثم غشي على هارون، فصاح النساء، فأمسك الفضل عن قتله، وصار إلى هارون ليحضره، ثم أفاق هارون وهو ضعيف، قد شغل عن بكر وعن غيره لحس الموت، ثم غشي عليه غشيةً ظنوا أنها هي، وارتفعت الضجة، فبعث بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع مع عبد الله بن أبي نعيم، يسأله ألا يعجلون بأمر، ويعلمه أن معه أشياء يحتاجون إلى علمها - وكان بكر محبوسًا عند حسين الخادم - فلما توفي هارون في الوقت الذي توفي فيه، دعا الفضل بن الربيع ببكر من ساعته، فسأله عما عنده، فأنكر أن يكون عنده شيء، وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيًا، حتى صح عنده موت هارون، وأدخله عليه، فأخبره أن عنده كتبًا من أمير المؤمنين محمد، وأنه لا يجوز له إخراجها؛ وهو على حاله في قيوده وحبسه، فامتنع حسين الخادم من إطلاقه حتى أطلقه الفضل، فأتاهم بالكتب التي عنده، وكانت في قوائم المطابخ المجلدة بجلود البقر، فدفع إلى كل إنسان منهم كتابه. وكان في تلك الكتب كتاب من محمد بن هارون إلى حسين الخادم بخطه، يأمره بتخلية بكر بن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى عبد الله المأمون. فاحتبس كتاب المأمون عنده ليبعثه إلى المأمون بمرو، وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد - وكان مع أبيه بطوس، وذلك أنه كان أكبر من يحضر هارون من ولده - فأتاهم في تلك الساعة، فسألهم عن أبيه هارون، فأعلموه، فجزع جزعًا شديدًا، ثم دفعوا إليه كتاب أخيه محمد الذي جاء به بكر. وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا أمره وغسله وتجهيزه، وصلى عليه ابنه صالح.

وكانت نسخة كتاب محمد إلى أخيه عبد الله المأمون: إذا ورد عليك كتاب أخيك - أعاذه الله من فقدك - عند حلول ما لامرد له ولا مدفع مما قد أخلف وتناسخ في الأمم الخالية والقرون الماضية فعز نفسك بما عزاك الله به. واعلم أن الله جل ثناؤه قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين، واجزل الحظين فقبضه الله طاهرًا زاكيًا، قد شكر سعيه، وغفر ذنبه إن شاء الله. فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، والناظر لأخيه ونفسه وسلطانه وعامة المسلمين. وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحبط الأجر، ويعقب الوزر. وصلوات الله على أمير المؤمنين حيًا وميتًا، وإنا لله وإنا إليه راجعون! وخذ البيعة عمن قبلك من قوادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم بن أمير المؤمنين من نسخها له وإثباتها، فإنك مقلد من ذاك ما قلدك الله من قبلك رأيي في صلاحهم وسد خلتهم والتوسعة عليهم؛ فمن أنكرته عند بيعته أو اتهمته على طاعته، فابعث إلي برأسه مع خبره. وإياك وإقالته؛ فإن النار أولى به. واكتب إلى عمال ثغورك وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أن الله لم يرض الدنيا له ثوابًا حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته، مغبوطًا محمودًا قائدًا لجميع خلفائه إلى الجنة إن شاء الله. ومرهم أن يأخذوا البيعة على أجنادهم وخواصهم وعوامهم على مثل ما أمرتك به من أخذها على من قبلك وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوة على عدوهم. وأعلمهم أني متفقد حالاتهم ولام شعثهم، وموسع عليهم، ولا تني في تقوية أجنادي وأنصاري، ولتكن كتبك إليهم كتبًا عامة، لتقرأ عليهم؛ فإن في ذلك ما يسكنهم ويبسط أملهم. واعمل بما تأمر به لمن حضرك، أو نأى عنك من أجنادك؛ على حسب ما ترى وتشاهد؛ فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبعد نظرك؛ وهو يستحفظ الله لك، ويسأله أن يشتد بك عضده، ويجمع بك أمره؛ إنه لطيف لما يشاء.

وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة ثنتين وتسعين ومائة. وإلى أخيه صالح: بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سبق في علم الله ونفذ من قضائه في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فقل: " كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون "، فاحمدوا الله ما صار إليه أمير المؤمنين من عظيم ثوابه ومرافقه وأنبيائه، صلوات الله عليهم، وإنا إليه راجعون. وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمة نبيه محمد ، وقد كان لهم عصمةً وكهفًا، وبهم رءوفًا رحيمًا؛ فشمر في أمرك، وإياك أن تلقي بيديك؛ فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو متفقد مواقع فقدانك، فحقق ظنه ونسأل الله التوفيق. وخذ البيعة على من قبلك من ولد أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير المؤمنين، ثم لعبد الله بن أمير المؤمنين، ثم للقاسم بن أمير المؤمنين؛ على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين، صلوات الله عليه من فسخها على القاسم أو إثباتها، فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده، والمضي على مناهجه. وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، ورد مظالمهم وتفقد حالاتهم، وأداء أرزاقهم وأعطياتهم عليهم؛ فإن شغب شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين. واضمم إلى الميمون بن الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله؛ ومره بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصير إلى عبد الله بن مالك أمر العسكر وأحداثه؛ فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة، واضمم إليه جميع جند الشرط من الروابط وغيرهم إلى من معه من جنده، ومره بالجد والتيقظ وتقديم الحزم في أمره كله، ليلة نهاره؛ فإن أهل العداوة والنفاق لهذا السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة. وأقر حاتم بن هرثمة على ما هو عليه، ومره بحراسة ما يحفظ به قصور أمير المؤمنين، فإنه ممن لا يعرف إلا بالطاعة، ولا يدين إلا بها بمعاقد من الله مما قدم له من حال أبيه المحمود عند الخلفاء. ومر الخدم بإحضار روابطهم ممن يسد بهم وبأجنادهم مواضع الخلل من عسكرك؛ فإنهم حد من حدودك، وصير مقدمتك إلى أسد بن يزيد بن مزيد، وساقتك إلى يحيى بن معاذ، فيمن معه من الجنود، ومرهما بمناوبتك في كل ليلة، والزم الطريق الأعظم، ولا تعدون المراحل؛ فإن ذلك أرفق بك. ومر أسد بن يزيد بن مزيد أن يتخير رجلًا من أهل بيته أو قواده، فيصير إلى مقدمته ثم يصير أمامه لتهيئة المنازل، أو بعض الطريق؛ فإن لم يحضرك في عسكرك بعض من سميت، فاختر لمواضعهم من تثق بطاعته ونصيحته وهيبته عند العوام؛ فإن ذلك لن يعوزك من قوادك وأنصارك إن شاء الله. وإياك أن تنفذ رأيًا أو تبرم أمرًا إلا برأي شيخك وبقية آبائك الفضل بن الربيع، وأقرر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير ذلك؛ ولا تخرجن أحدًا منهم من ضمن ما يلي إلى أن تقدم علي.

وقد أوصيت بكر بن المعتمر بما سيبلغكه، واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد وما ترى، وان أمرت لأهل العسكر بعطاء أو رزق؛ فليكن الفضل بن الربيع المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه؛ بمحضر من أصحاب الدواوين؛ فإن الفضل بن الربيع لم يزل يتقلد مثل ذلك لمهمات الأمور. وأنفذ إلي عند وصول كتابي هذا إليك إسماعيل بن صبيح وبكر بن المعتمر على مركبيهما من البريد؛ ولا يكون لك عرجة ولا مهلة بموضعك الذي أنت فيه حتى توجه إلي بعسكرك بمافية من الأموال والخزائن إن شاء الله. أخوك يستدفع الله عنك، ويسأله لك حسن التأييد برحمته.

وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة ثنتين وتسعين ومائة. وخرج رجاء الخادم بالخاتم والقضيب والبردة، وبنعي هارون حين دفن حتى قدم بغداد ليلة الخميس - وقيل الأربعاء - فكان من الخبر ما قد ذكر قبل.

وقيل: إن نعي الرشيد لما ورد بغداد صعد إسحاق بن عيسى بن علي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أعظم الناس رزيئةً، وأحسن الناس بقية رزؤنا، فإنه لم يرزأ كرزئنا، فمن له مثل عوضنا! ثم نعاه إلى الناس، وحض الناس على الطاعة.

وذكر الحسن بن الفضل بن سهل أخبره، قال: استقبل الرشيد وجوه أهل خراسان، وفيهم الحسين بن مصعب. قال: ولقيني فقال لي: الرشيد ميت أحد هذين اليومين، وأمر محمد بن الرشيد ضعيف، والأمر أمر صاحبك؛ مد يدك. فمد يده فبايع للمأمون بالخلافة. قال: ثم أتاني بعد أيام ومعه الخليل بن هشام، فقال: هذا ابن أخي، وهو لك ثقة خذ بيعته.

وكان المأمون قد رحل من مرو إلى قصر خالد بن حماد على فرسخ من مرو يريد سمرقند، وأمر العباس بن المسيب بإخراج الناس واللحوق بالعسكر، فمر به إسحاق الخادم ومعه نعي الرشيد، فغم العباس قدومه، فوصل إلى المأمون فأخبره، فرجع المأمون إلى مرو، ودخل دار الإمارة، دار أبي مسلم، ونعى الرشيد على المنبر، وشق ثوبه ونزل، وأمر للناس بمال، وبايع لمحمد ولنفسه وأعطى الجند رزق اثني عشر شهرًا.

قال: ولما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القواد والجند وأولاد هارون؛ تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكًا حاضرًا لآخر لا يدري ما يكون من أمره، وأمر الناس بالرحيل، ففعلوا ذلك محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون، فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قواد أبيه، فكان معه منهم عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ، وشبيب بن حميد بن قحطبة، والعلاء مولى هارون، والعباس ابن المسيب بن زهير وهو على شرطته، وأيوب بن أبي سمير وهو على كتابته؛ وكان معه من أهل بيته عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذو الرياستين؛ وهو عنده من أعظم الناس قدرًا وأخصهم به، فشاورهم وأخبرهم الخبر، فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة، فيردهم، وسمي لذلك قوم، فدخل عليه ذو الرياستين، فقال له: إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابًا، وتوجه إليهم رسولًا؛ فتذكرهم البيعة، وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين. قال: قلت له: إن كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم، وتوجه سهل بن صاعد - وكان على قهرمته - فإنه يأملك، ويرجو أن ينال أمله؛ فلن يألوك نصحًا، وتوجه نوفلًا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين - وكان عاقلًا. فكتب كتابًا، ووجههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل.

فذكر الحسن بن أبي سعيد عن سهل بن صاعد، أنه قال له: فأوصلت إلى الفضل بن الربيع كتابه، فقال لي: إنما أنا واحد منهم، قال لي سهل: وشد علي عبد الرحمن بن جبلة بالرمح، فأمره على جنبي، ثم قال لي: قل لصاحبك: والله لو كنت حاضرًا لوضعت الرمح فيك، هذا جوابي.

قال: ونال من المأمون، فرجعت بالخبر.

قال الفضل بن سهل: قلت للمأمون: أعداء قد استرحت منهم؛ ولكن افهم عني ما أقول لك؛ إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر، فخرج عليه المقنع وهو يدعي الربوبية، وقال بعضهم: طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع العسكر بخروجه بخراسان، فكفاه الله المؤنة، ثم خرج بعد يوسف البرم وهو عند بعض المسلمين كافر؛ فكفا الله المؤنة، ثم خرج أستاذسيس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري إلى نيسابور فكفي المؤنة؛ ولكن ما أصنع! أكثر عليك! أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع؟ قال: رأيتهم اضطربوا اضطرابًا شديدًا، قلت: وكيف بك وأنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم! كيف يكون اضطراب أهل بغداد! اصبر وأنا أضمن لك الخلافة - ووضعت يدي على صدري - قال: قد فعلت، وجعلت الأمر إليك فقم به. قال: قلت: والله لأصدقنك، إن عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمينا من أمراء الرؤساء، إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع مني لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادمًا له حتى تصير إلى محبتك، وترى رأيك في. فلقيتهم في منازلهم، وذكرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء. قال: فكأني جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم: هذا لا يحل، اخرج، وقال بعضهم: من الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه! فجئت فأخبرته، قال: قم بالأمر قال: قلت: قد قرأت القرآن، وسمعت الأحاديث، وتفقهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وتقعد على اللبود، وترد المظالم. ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء، وأكرمنا القواد والملوك وأبناء الملوك؛ فكنا نقول للتيمي: نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعي: نقيمك مقام أبي داود خالد بن إبراهيم، ولليماني:

نقيمك مقام قحطبة ومالك بن الهيثم؛ فكنا ندعو كل قبيلة إلى نقباء رءوسهم، واستلمنا الرءوس، وقلنا لهم مثل ذلك، وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذلك منهم، وسروا به، وقالوا: ابن أختنا، وابن عم النبي صلى الله عليه.

قال علي بن إسحاق: لما أفضت الخلافة إلى محمد، وهدأ الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت بعد بيعته بيوم؛ فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:

بنى أمين الله ميدانا ** وصير الساحة بستانا

وكانت الغزلان فيه بانا ** يهدى إليه فيه غزلانا

وفي هذه السنة شخصت أم جعفر من الرقة بجميع ما كان معها هنالك من الخزائن وغير ذلك في شعبان؛ فتلقاها ابنها محمد الأمين بالأنبار في جميع من كان ببغداد من الوجوه، وأقام المأمون على ما كان يتولى من عمل خراسان ونواحيها إلى الري، وكاتب الأمين، وأهدى إليه هدايا كثيرة، وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح.

وفي هذه السنة دخل هرثمة حائط سمرقند، ولجأ رافع إلى المدينة الداخلة، وراسل رافع الترك فوافوه، فصار هرثمة بين رافع والترك، ثم انصرف الترك، فضعف رافع.

وقتل في هذه السنة نقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه - فيما قيل - سبع سنين، وملك بعده إستبرق بن نقفور وهو مجروح، فبقي شهرين ومات. وملك ميخائيل بن جورجس ختنه على أخته.

وحج بالناس في هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وكان والي مكة.

وأقر محمد بن هارون أخاه القاسم بن هارون في هذه السنة على ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الجزيرة، واستعمل عليها خزيمة بن خازم، وأقر القاسم على قنسرين والعواصم.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من مخالفة أهل حمص عاملهم إسحاق بن سليمان، وكان محمد ولاه إياها، فلما خالفوه انتقل إلى سلمية، فصرفه محمد عنهم، وولى مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي ومعه عافية بن سليمان، فحبس عدة من وجوههم، وضرب مدينتهم من نواحيها بالنار، وسألوه الأمان فأجابهم، وسكنوا ثم هاجوا؛ فضرب أيضًا أعناق عدة منهم.

وفيها عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الشأم وقنسرين والعواصم والثغور، وولى مكانه خزيمة بن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام.

وفي هذه السنة أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة.

ذكر تفاقم الخلاف بين الأمين والمأمون

وفيها مكر كل واحد منهما بصاحبه: محمد الأمين وعبد الله المأمون، وظهر بينهما الفساد.

ذكر الخبر عن سبب ذلك

ذكر أن الفضل بن الربيع فكر بعد مقدمه العراق على محمد منصرفًا عن طوس، وناكثًا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يومًا وهو حي لم يبق عليه؛ وكان في ظفره به عطبه، فسعى في إغراء محمد به، وحثه على خلعه، وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى؛ ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه - فيما ذكر عنه - الوفاء لأخويه: عبد الله والقاسم، بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل الفضل به يصغر في عينه شأن المأمون، ويزين له خلعه؛ حتى قال له: ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك! فإن البيعة كانت لك متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا فيها بعدك واحدًا بعد واحد، وأدخل في ذلك من رأيه معه علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته؛ فأزال محمدًا عن رأيه.

فأول ما بدء به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالاٍمرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم بن الرشيد، فذكر الفضل بن إسحاق بن سليمان أن المأمون لما بلغه ما أمر به محمد من الدعاء لابنه موسى وعزله القاسم عما يدبر عليه في خلعه، فقطع البريد عن محمد، واسقط اسمه من الطرز والضرب.

وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون حسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم، بعث في طلب الأمان لنفسه، فسارع إلى ذلك هرثمة وخرج رافع فلحق بالمأمون، وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعًا. وكان مع هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين؛ فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين؛ فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه، فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد، فتلقاه الناس، وولاه المأمون الحرس. فأنكر ذلك كله محمد، فبدأ بالتدبير على المأمون؛ فكان من التدبير أنه كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك - وهو عامل المأمون على الري - وأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري - مريدًا بذلك امتحانه - فبعث إليه ما أمره به، وكتم المأمون وذا الرياستين. فبلغ ذلك من أمره المأمون، فوجه الحسن بن علي المأموني وأردفه بالرستمي على البريد، وعزل العباس بن عبد الله بن مالك؛ فذكر عن الرستمي أنه لم ينزل عن دابته حتى اجتمع إليه ألف رجل من أهل الري. ووجه محمد إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلًا: أحدهم العباس بن موسى بن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلى، والثالث محمد بن عيسى بن نهيك؛ وكتب معهم كتابًا إلى صاحب الري؛ أن استقبلهم بالعدة والسلاح الظاهر. وكتب إلى والي قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك؛ ففعلوا. ثم وردت الرسل مرو، وقد أعد لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد، ثم صاروا إلى المأمون؛ فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه؛ ويذكر له أنه سماه الناطق بالحق؛ وكان الذي أشار عليه بذلك علي بن عيسى بن هامان، وكان يخبره أن أهل خراسان يطيعونه؛ فرد المأمون ذلك وأباه. قال: فقال لي ذو الرئاستين: قال العباس بن موسى بن عيسى بن موسى: وما عليك أيها الأمير من ذلك؛ فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع فما ضره ذلك، قال: فصحت به: اسكت، فإن جدك كان في أيديهم أسيرًا؛ وهذا بين أخواله وشيعته. قال: فانصرفوا، وأنزل كل واحد منهم منزلًا. قال ذو الرياستين: فأعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بن موسى، فخلوت به فقلت: أيذهب عليك في فهمك وسنك أن تأخذ بحظك من الإمام - وسمي المأمون في ذلك اليوم بالإمام ولم يسم بالخلافة، وكان سبب ما سمي به الإمام ما جاء من خلع محمد له، وقد كان محمد قال للذين أرسلهم: قد تسمى المأمون بالإمام، فقال لي العباس: قد سميتموه الإمام! قال: قلت له: قد يكون إمام المسجد والقبيلة، فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك. قال: ثم قلت للعباس: لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت.

قال: فما برح حتى أخذ عليه البيعة للمأمون بالخلافة؛ فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأي.

قال: فأخبرني علي بن يحيى السرخسي، قال: مر بي العباس بن موسى ذاهبًا إلى مرو - وقد كنت وصفت له سيرة المأمون وحسن تدبير ذي الرياستين واحتماله الموضع، فلم يقبل ذلك مني - فلما رجع مر بي، فقلت له: كيف رأيت؟ قال: ذو الرياستين أكثر مما وصفت، فقلت: صافحت الإمام؟ قال: نعم، قلت: امسح يدك على رأسي. قال: ومضى القوم إلى محمد فأخبروه بامتناعه، قال: فألح الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون، وأعطى الفضل الأموال حتى بايع لابنه موسى، وسماه الناطق بالحق، وأحضنه علي بن عيسى وولاه العراق. قال: وكان أول من أخذ له البيعة بشر بن السميدع الأزدي، وكان واليًا على بلد، ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة على خواص من الناس قليل، دون عامة. قال: ونهى الفضل بن الربيع عن ذكر عبد الله والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر، ودس لذكر عبد الله والوقيعة فيه، ووجه إلى مكة كتابًا مع رسول من حجبة البيت يقال له محمد بن عبد الله بن عثمان بن طلحة في أخذ الكتابين اللذين كان هارون كتبهما، وجعلهما في الكعبة لعبد الله على محمد، فقدم بهما عليه، وتكلم في ذلك بقية الحجبة، فلم يحفل بهم، وخافوا على أنفسهم، فلما صار بالكتابين إلى محمد قبضهما منه، وأجازه بجائزة عظيمة، ومزقهما وأبطلهما.

وكان محمد - فيما ذكر - كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان - سماها - وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره. فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك، كبر ذلك عليه واشتد، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن، فشاورهما في ذلك، فقال الفضل: الأمر مخطر، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس بالمشاورة، وفي قطع الأمر دونهم وحشة، وظهوره قلة ثقة، فرأي الأمير في ذلك. وقال الحسن: كان يقال: شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألف العدو فيما لا اكتتام له بمشاورته، فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعًا له: أيها الأمير، تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظًا من الروية، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجلهم ثلاثًا، فلما اجتمعوا بعد ذلك، قال أحدهم: أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما. وقال آخر: كان يقال أيها الأمير، أسعدك الله، إذا كان الأمر مخطرًا، فإعطاؤك من نازعك طرفًا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته. وقال آخر: إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيبًا عنك، فخذ ما أمكنك من هدنة يومك؛ فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعًا بفساد غدك. وقال آخر: لئن خيفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث الإباء من الفرقة. وقال آخر: لا أرى مفارقة منزلة سلامة؛ فلعلي أعطى معها العافية. فقال الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم؛ وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، فقال له المأمون: فناظرهم، قال: لذلك ما كان الاجتماع. وأقبل الحسن عليهم، فقال: هل تعلمون أن محمدًا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ قالوا نعم؛ ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه. قال: فهل تثقون بكفه بعد إعطائه إياها، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ قالوا: لا، ولعل سلامة تقع دون ما يخاف ويتوقع. قال: فإن تجاوز بعدها بالمسألة؛ أفما ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه! قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبة بمدافعة محذور في عاجله! قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا، قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك. قال المأمون للفضل: ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قال: أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غدًا على مخالفتك! وهل يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبةٍ؛ بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم. فقال المأمون: بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا أو أمر آخرة. قال القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي؛ والله يؤيد الأمير بالتوفيق. فقال: اكتب يا فضل إليه، فكتب: قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره؛ غير أن الذي جعل إلى الطرف الذي أنابه، لا ظنين في النظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إلي من أمره، ولو لم يكن ذلك مثبتًا بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال وطرف من الإفضال - لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرًا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله؛ فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكد به مأخوذ العهد! وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة ما كتب بمسألته إلي. ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله.

وكان المأمون قد وجه حارسه إلى الحد، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرًا ولا يؤثر أثرًا، ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحدًا، ولا يبلغ أحدًا قولًا ولا كتابًا. فحصر أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة، أو أن تودع صدورهم رهبة، أو يحملوا على منزل خلاف أو مفارقة. ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره ممن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه، ومنع الأشتاتات من جواز السبل والقطع بالمتاجر والوغول في البلدان في هيئة الطارئة والسابلة، وفتشت الكتب. وكان - فيما ذكر - أول من أقبل من قبل محمد مناظرًا في منعه ما كان سأل جماعة، وإنما وجهوا ليعلم أنهم قد عاينوا وسمعوا، ثم يلتمس منهم أن يبذلوا أو يحرموا فيكون مما قالوا حجة يحتج بها، أو ذريعة إلى ما التمس منها. فلما صاروا إلى حد الري، وجدوا تدبيرًا مؤبدًا، وعقدًا مستحصدًا متأكدًا، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم، فحفظوا في حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فجاء الإذن في حملهم فحملوا محروسين؛ لا خبر يصل إليهم، ولا خبر يتطلع منهم إلى غيرهم؛ وقد كانوا معدين لبث الخبر في العامة وإظهار الحجة بالمفارقة والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة؛ يبذلون الأموال، ويضمنون لهم معظم الولايات والقطائع والمنازل؛ فوجدوا جميع ذلك ممنوعًا محسومًا؛ حتى صاروا إلى باب المأمون. وكان الكتاب النافذ معهم إلى المأمون: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم إليك من كور الجبل؛ تأييدًا لأمرك، وتحصينًا لطرفك؛ فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك. وقد كان هذا الطرف وخراجه كافيًا لحدثه، ثم تتجاوز بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده؛ وقد ضم لك إلى الطرف كورًا من أمهات كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودةً في أهلها، ومواضع حقها. فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور إلى ما كانت عليه من حالها؛ لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها؛ وأن تأذن لقائم بالخبر يكون بحضرتك يؤدي إلينا علم ما نعنى به من خبر طرفك؛ فكتبت تلط دون ذلك بما تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك؛ فاثن عن همك اثن عن مطالبتك، إن شاء الله.

فلما قرأ المأمون الكتاب كتب مجيبًا له: أما بعد؛ فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن وجهه، ولم يسأل ما يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته؛ وإنما يتجاوز المتناظران منزلة النصفة عن أهلها؛ فمتى تجاوز متجاوز - وهي موجودة الوسع - ولم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها؛ فلا تبعثني يابن أبي على مخالفتك وأنا مذعن بطاعتك، ولا على قطيعتك. وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك. والسلام.

ثم أحضر الرسل، فقال: إن أمير المؤمنين كتب في أمر كتبت له في جوابه، فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته؛ حتى يضطرني بترك الحق الواجب إلى مخالفته. فذهبوا يقولون، فقال: قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم، وأحسنوا تأدية ما سمعتم؛ فقد أبلغتمونا من كتابنا ما عسى أن تقولوه لنا. فانصرف الرسل ولم يثبتوا لأنفسهم حجة، ولم يحملوا خبرًا يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا جدًا غير مشوب بهزل، في منع ما لهم من حقهم الواقع - بزعمهم.

فلما وصل كتاب المأمون إلى محمد وصل منه ما فظع به، وتخمط غيظًا بما تردد منه في سمعه، وأمر عند ذلك بما ذكرناه من الإمساك عن الدعاء له على المنابر؛ وكتب إليه: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك غامطًا لنعمة الله عليك فيما مكن لك من ظلها، متعرضًا لحراق نار لا قبل لك بها، ولحظك عن الطاعة كان أودع لك؛ وإن كان قد تقدم مني متقدم؛ من مواضع نفعك إذ كان راجعًا على العامة من رعيتك؛ وأكثر من ذلك ما يمكن لك من منزلة السلامة، ويثبت لك من حال الهدنة؛ فأعلمني رأيك أعمل عليه. إن شاء الله.

وذكر سهل بن هارون عن الحسن بن سهل، أن المأمون قال لذي الرياستين:

إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي بحضرة محمد - وهو مائة ألف ألف - وأنا إليها محتاج، وهي قبله فما ترى في ذلك؟ وراجعه في ذلك مرارًا. فقال له ذو الرياستين: أيها الأمير، بك حاجة إلى فضلة مالك؛ وأن يكون أهلك في دارك وجنابك؛ وإن أنت كتبت فيه كتاب عزمة فمنعك صار إلى خلع عهده؛ فإن فعل حملك ولو بالكره على محاربته؛ وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك؛ ولكن تكتب كتاب طالب لحقك، وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثًا لعهدك؛ فإن أطاع فنعمة وعافية؛ وإن أبى لم تكن بعثت على نفسك حربًا أو مشاقة. فاكتب إليه، فكتب عنه: أما بعد؛ فإن نظر أمير المؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر عنه على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببره وصلته؛ وإذا كان ذلك رأيه في عامته؛ فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك بصنوه وقسيم نسبه؛ فقد تعلم يا أمير المؤمنين حالًا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها، وأجناد لا تزال موقنة بنشر غيها وبنكث آرائها، وقلة الحرج قبلي، والأهل والولد قبل أمير المؤمنين، وما للأهل - وإن كانوا في كفاية من بر أمير المؤمنين، فكان لهم والدًا - بد من الإشراف والنزوع إلى كنفي، ومالي بالمال من القوة والظهير على لم الشعث بحضرتي، وقد وجهت لحمل العيال وحمل ذلك المال؛ فرأى أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى الرقة في حمل ذلك المال، والأمر بمعونته عليه، غير محرج له فيه إلى ضيقة يقع بمخالفته، أو حامل له على رأي يكون على غير موافقة. والسلام.

فكتب إليه محمد: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك بما ذكرت مما عليه رأي أمير المؤمنين في عامته فضلًا عما يجب من حق لذي حرمته وخليط نفسه، ومحلك بين لهوات ثغور، وحاجتك لمحلك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك؛ والمال الذي سمي لك من مال الله، وتوجيهك من وجهت في حمله وحمل أهلك من قبل أمير المؤمنين.

ولعمري ما ينكر أمير المؤمنين رأيًا هو عليه مما ذكرت لعامته، يوجب عليه من حقوق أقربيه وعامته. وبه إلى ذلك المال الذي ذكرت حاجة في تحصين أمور المسلمين؛ فكان أولى به إجراؤه منه على فرائضه، ورده على مواضع حقه؛ وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامة من رعيتك. وأما ما ذكرت من حمل أهلك؛ فإن رأي أمير المؤمنين تولي أمرهم؛ وإن كنت بالمكان الذي أنت به من حق القرابة. ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي رأيت من تعريضهم بالسفر للتشتت؛ وإن أر ذلك من قبلي أوجههم إليك مع الثقة من رسلي إن شاء الله. والسلام.

قال: ولما ورد الكتاب على المأمون، قال: لاط دون حقنا يريد أن نتوهن مما يمنع من قوتنا، ثم يتمكن للوهنة من الفرصة في مخالفتنا. فقال له ذو الرياستين: أوليس من المعلوم دفع الرشيد ذلك المال إلى الأمين لجمعه، وقبض الأمين إياه على أعين الملأ من عامته؛ على أن يحرسه قنيةً، فهو لا ينزع إليها؛ فلا تأخذ عليه مضايقها، وأمل له ما لم تضطرك جريرته إلى مكاشفته بها؛ والرأي لزوم عروة الثقة، وحسم الفرقة؛ فإن أمسك فبنعمة وإن تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة، وتعرضت منه بالإمساك للتأييد والمعونة.

قال: وعلم المأمون والفضل أنه سيحدث بعد كتابه من الحدث ما يحتاج إلى لمه، ومن الخبر ما يحتاج أن يباشره بالثقة من أصحابه، وأنه لا يحدث في ذلك حدثًا دون مواطأة رجال النباهة والأقدار من الشيعة وأهل السابقة؛ فرأى أن يختار رجلًا يكتب معه إلى أعيان أهل العسكر من بغداد؛ فإن أحدث محمد خلعًا للمأمون صار إلى دفعها، وتلطف لعلم حالات أهلها؛ وإن لم يفعل من ذلك شيئًا خنس في حقته، وأمسك عن إيصالها، وتقدم إليه في التعجيل.

ولما قدم أوصل الكتب، وكان كتابه مع الرسول الذي وجهه لعلم الخبر:

أمما بعد؛ فإن أمير المؤمنين كأعضاء البدن، يحدث العلة في بعضها؛ فيكون كره ذلك مؤلمًا لجميعها؛ وكذلك الحدث في المسلمين، يكون في بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم؛ للذي يجمعهم من شريعة دينهم، ويلزمهم من حرمة أخوتهم، ثم ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم؛ وقد كان من الخبر ما لا أحسبه إلا سيعرب عن محنة، ويسفر عما استتر من وجهه؛ وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع أمر الله إلا كان أول معونة المسلمين وموالاتهم في ذات الله؛ وأنت يرحمك الله من الأمر بمرأى ومسمع؛ وبحيث إن قلت أذن لقولك؛ وإن لم تجد للقول مساغًا فأمسكت عن مخوف أقتدي فيه بك؛ ولن يضيع على الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا بالإحسان من حقك، ولحظ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظين، مع التعرض لعدمهما، فاكتب إلي برأيك، وأعلم ذلك لرسولي ليؤديه إلي عنك. إن شاء الله.

وكتب إلى رجال النباهة من أهل العسكر بمثل ذلك.

قال: فوافق قدوم الرسول بغداد ما أمر به من الكف عن الدعاء للمأمون في الخطبة يوم الجمعة، وكان بمكان الثقة من كل من كتب إليه معه؛ فمنهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عما في نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه؛ فكتب أحدهم: أما بعد فقد بلغني كتابك وللحق برهان يدل على نفسه تثبت به الحجة على كل من صار إلى مفارقته؛ وكفى غبنًا بإضاعة حظ من حظ العاقبة؛ لمأمول من حظ عاجلة، وأبين من الغبن إضاعة حظ عاقبة مع التعرض للنكبة والوقائع؛ ولي من العلم بمواضع حظي ما أرجو أن يحسن معه النظر مني لنفسي، ويضع عني مؤنة استزادتي. إن شاء الله.

قال: وكتب الرسول المتوجه إلى بغداد إلى المأمون وذي الرياستين: أما بعد، فإني وافيت البلدة، وقد أعلن خليطك بتنكره، وقدم علمًا من اعتراضه ومفارقته وأمسك عما كان يجب ذكره وتوفيته بحضرته؛ ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السريرة ونفاة العلانية، ووجدت المشرفين بالرعية لا يحوطون إلا عنها ولا يبالون ما احتملوا فيها؛ والمنازع مختلج الرأي، لا يجد دافعًا منه عن همه، ولا راغبًا في عامه، والمحلون بأنفسهم يحلون تمام الحدث؛ ليسلموا من منهزم حدثهم، والقوم على جد، ولا تجعلوا للتواني في أمركم نصيبًا إن شاء الله والسلام.

قال: ولما قدم على محمد من معسكر المأمون سعيد بن مالك بن قادم وعبد الله بن حميد بن قحطبة والعباس بن الليث مولى أمير المؤمنين ومنصور بن أبي مطر وكثير بن قادرة، ألطفهم وقربهم، وأمر لمن كان قبض منهم الستة الأشهر برزق اثني عشر شهرًا، وزادهم في الخاصة والعامة، ولمن لم يقبضها بثمانية عشر شهرًا.

قال: ولما عزم محمد على خلع المأمون دعا يحيى بن سليم فشاوره في ذلك، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للإيمان والشرائط في الكتاب الذي كتبه! فقال له محمد: إن رأى الرشيد شيئًا كان فلتةً شبهها عليه جعفر بن يحيى بسحره، واستماله برقاه وعقده، فغرس لنا غرسًا مكروهًا لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور باجتثاثه والراحة منه فقال: أما إذا كان رأى أمير المؤمنين خلعة، فلا يجاهره مجاهرة فستنكرها الناس، ويستشنعها العامة؛ ولكن تستدعي الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرق ثقاته ومن معه، وترغبهم بالأموال، وتستميلهم بالأطماع؛ فإذا أوهنت قوته، واستفرغت رجاله، أمرته بالقدوم عليك؛ فإن قدم صار إلى الذي تريد منه؛ وإن كنت قد تناولته وقد كل حده وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه. فقال محمد: ما قطع أمرًا كصريمة، أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي، فزل عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح؛ قم فالحق بمدادك وأقلامك؛ قال يحيى: فقلت: غضب يشوبه صدق ونصيحة، أشرت إلى رأي يخلطه غش وجهل. قال: فوالله ما ذهبت الأيام حتى ذكر كلامه، وقرعه بخطئه وخرقه.

قال سهل بن هارون: وقد كان الفضل بن سهل دس قومًا اختارهم ممن يثق به من القواد والوجوه ببغداد ليكاتبوه بالأخبار يومًا يومًا، فلما هم محمد بخلع المأمون، بعث الفضل بن الربيع إلى أحد هؤلاء الرجال يشاوره فيما يرى من ذلك، فعظم الرجل عليه أمر نقض العهد للمأمون، وقبح الغدر به، فقال له الفضل: صدقت؛ ولكن عبد الله قد أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما أخذ الرشيد له. قال: لا، قال: أفتثبت الحجة عند العوام بمعلوم حدثه كما تثبت الحجة بما جدد من عهده! قال: أفحدث هذا منكم يوجب عند العامة نقض عهدكم ما لم يكن حدثه معلومًا يجب به فسخ عهده! قال: نعم، قال الرجل - ورفع صوته: بالله ما رأيت كاليوم رأى رجل يرتاد به النظر، يشاور في رفع ملك في يده بالحجة ثم يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة! قال: فأطرق الفضل مليًا، ثم قال: صدقتني الرأي، واحتملت ثقل الأمانة؛ ولكن أخبرني إن نحن أغمضنا من قالة العامة ووجدنا مساعدين من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟ قال: أصلحك الله، وهل أجنادك إلا من عامتك في أخذ بيعتهم وتمكن برهان الحق في قلوبهم! أفليسوا وإن أعطوك ظاهر طاعة هم مع ما تأكد من وثائق العهد في معارفهم؛ قال: فإن أعطونا بذلك الطاعة قال: لا طاعة دون تكون على تثبت من البصائر. قال: نرغبهم بتشريف حظوظهم، قال: إذًا يصيروا إلى التقبل، ثم إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم. قال: فما ظنك بأجناد عبد الله؟ قال: قوم على بصيرة من أمرهم لتقدم بيعتهم وما يتعاهدون من حظهم، قال: فما ظنك بعامتهم؟ قال: قوم كانوا بلوى عظيمة من تحيف ولاتهم في أموالهم، ثم في أنفسهم صاروا به إلى الأمنية من المال والرفاغة في المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكرون بلية لا يأمنون العودة إليها. قال: فهل من سبيل إلى استفساد عظماء البلاد عليه؛ لتكون محاربتنا إياه بالمكيدة من ناحيته، لا بالزخرف نحوه لمناجزته! قال: أما الضعفاء فقد صاروا له إلبًا لما نالوا به من الأمان والنصفة، وأما ذوو القوة فلم يجدوا مطعنًا ولا موضع حجة، والضعفاء السواد الأكثر. قال: ما أراك أبقيت لنا موضع رأي في اعتزالك إلى أجنادنا، ولا تمكن النظر في ناحيته باحتيالنا، ثم أشد من ذلك ما قلت به وهنة أجنادنا وقوة أجناده في مخالفته. وما تسخو نفس أمير المؤمنين بترك ما لا يعرف من حقه، ولا نفسي بالهدنة مع تقدمٍ جرى في أمره، وربما أقبلت الأمور مشرفة بالمخافة، ثم تكشف عن الفلج والدرك في العاقبة. ثم تفرقًا.

قال: وكان الفضل بن الربيع أخذ بالمراصد لئلا تجاوز الكتب الحد؛ فكتب الرسول مع امرأة، وجعل الكتاب وديعة في عود منقور من أعواد الأكاف، وكتب إلى صاحب البريد بتعجيل الخبر؛ وكانت المرأة تمضي على المسالح كالمجتازة من القرية إلى القرية، لا تهاج ولا تفتش. وجاء الخبر إلى المأمون موافقًا لسائر ما ورد عليه من الكتب، وقد شهد بعضها ببعض، فقال لذي الرياستين: هذه أمور قد كان الرأي أخبر عن عيبها، ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحق، ولعل كرهًا يسوق خيرًا. قال: وكان أول ما دبره الفضل بن سهل بعد ترك الدعاء للمأمون وصحة الخبر به، أن جمع الأجناد التي كان أعدها بجنبات الري مع أجناد قد كان مكنها فيها، وأجناد للقيام بأمرهم؛ وكانت البلاد أجدبت بحضرتهم؛ فأعد لهم من الحمولة ما يحمل إليهم من كل فج وسبيل؛ حتى ما فقدوا شيئًا احتاجوا إليه، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه ولا يطلقون يدًا بسوء في عامد ولا مجتاز. ثم أشخص طاهر بن الحسين فيمن ضم إليه من قواده وأجناده، فسار طاهر مغذًا لا يلوى على شيء، حتى ورد الري، فنزلها ووكل بأطرافها، ووضع مسالحه، وبث عيونه وطلائعه، فقال بعض شعراء خراسان:

رمى أهل العراق ومن عليها ** إمام العدل والملك الرشيد

بأحزم من مشى رأيًا وحزمًا ** وكيدًا نافذًا فيما يكيد

بداهية نآدٍ خنفقيقٍ ** يشيب لهول صولتها الوليد

وذكر أن محمدًا وجه عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في ألف رجل، وولاه حرب كور الجبل، وأمره بالمقام بهمذان، وأن يوجه مقدمته إلى ساوة، واستخلف أخاه عبد الرحمن بن حماد على الحرس، وجعل الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى يلهبان محمدًا، ويبعثانه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى.

وفي هذه السنة عقد محمد بن هارون في شهر ربيع الأول لابنه موسى على جميع ما استخلفه عليه، وجعل صاحب أمره كله علي بن عيسى بن ماهان، وعلى شرطه محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك، وعلى خراجه عبد الله بن عبيدة وعلى ديوان رسائله علي بن صالح صاحب المصلى.

وفي هذه السنة وثب الروم على ميخائيل صاحب الروم فهرب وترهب، وكان ملكه سنتين فيما قيل.

وفيها ملك على الروم ليون القائد.

وفيها صرف محمد بن هارون إسحاق بن سليمان عن حمص، وولاها عبد اله بن سعيد الحرشي، ومعه عافية بن سليمان، فقتل عدة من وجوههم، وحبس عدة، وحرق مدينتهم من نواحيها بالنار، فسألوه الأمان، فأجابهم فسكنوا ثم هاجوا، فضرب أعناق عدة منهم.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلكما كان من أمر محمد بن هارون بإسقاط ما كان ضرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير والدراهم بخراسان في سنة أربع وتسعين ومائة؛ لأن المأمون كان أمر ألا يثبت فيها اسم محمد، وكان يقال لتلك الدنانير والدراهم الرباعية، وكانت لا تجوز حينًا

النهي عن الدعاء للمأمون على المنابر

وفيها نهى الأمين عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له عليها ثم من بعده لابنه موسى، وذلك في صقر من هذه السنة، وابنه موسى يومئذ طفل صغير، فسماه الناطق بالحق، وكان ما فعل من ذلك عن رأي الفضل بن الربيع، فقال في ذلك بعض الشعراء:

أضاع الخلافة غش الوزير ** وفسق الأمير وجهل المشير

ففضل وزير، وبكر مشير ** يريدان ما فيه حتف الأمير

فبلغ ذلك المأمون، فتسمى بإمام الهدى، وكوتب بذلك.

عقد الإمرة لعلي بن عيسى

وفيها عقد محمد لعلي بن عيسى بن ماهان يوم الأربعاء لليلة خلت من شهر ربيع الآخر على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان، حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد وأمر له - فيما ذكر - بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالًا عظيمًا، وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف وستة آلاف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة، فصلى محمد الجمعة، ودخل وجلس لهم ابنه موسى في المحراب، ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرأ عليهم كتابًا من الأمين يعلمهم رأيه فيهم وحقه عليهم، وما سبق لهم من البيعة متقدمًا مفردًا بها، ولزوم ذلك لهم، وما أحدث عبد الله من التسمي بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع ذكره في دور الضرب والطرز؛ وأن ما أحدث من ذلك ليس له؛ ولا ما يدعي من الشروط التي شرطت له بجائزة له. وحثهم على طاعته، والتمسك ببيعته. وقال سعيد بن الفضل الخطيب بعد قراءة الكتاب، فعرض ما في الكتاب بتصديقه والقول بمثله. ثم تكلم الفضل بن الربيع وهو جالس، فبالغ في القول فأكثر وذكر أنه لا حق لأحد في الإمامة والخلافة إلا لأمير المؤمنين محمد الأمين؛ وأن الله لم يجعل لعبد الله ولا لغيره في ذلك حظًا له ولا نصيبًا. فلم يتكلم أحد من أهل بيت محمد ولا غيرهم بشيء إلا محمد بن عيسى بن نهيك ونفر من وجوه الحرس. وقال الفضل بن الربيع في كلامه: إن الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم يا معاشر أهل خراسان من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم. ثم انصرف الناس، وأقبل علي بن عيسى على محمد يخبره أن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن خرج هو أطاعوه وانقادوا معه.

شخوص علي بن عيسى إلى حرب المأمون

وفيها شخص علي بن عيسى إلى الري إلى حرب المأمون.

ذكر الخبر عن شخوصه إليها وما كان من أمره في شخوصه ذلك

ذكر الفضل بن إسحاق، أن علي بن عيسى شخص من مدينة السلام عشية الجمعة لخمس عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة، سخص عشية تلك فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة العصر إلى معسكره بنهر بين، فأقام فيه في زهاء أربعين ألفًا، وحمل معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، وشخص معه محمد الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الآخرة، فعرض بها الذين ضموا إلى علي بن عيسى، ثم أقام بقية يومه ذلك بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وأقام علي بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص إلى ما وجه له مسرعًا حتى نزل همذان، فولى عليها عبد الله بن حميد بن قحطبة. وقد كان محمد كتب إلى عصمة بن حماد بالانصراف في خاصة أصحابه وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال وغير ذلك إلى علي بن عيسى، وكتب إلى أبي دلف القاسم بن عيسى بالانضمام إليه فيمن معه من أصحابه، ووجه معه هلال بن عبد الله الحضرمي، وأمر له بالفرض، ثم عقد لعبد الرحمن بن جبلة الأبناوي على الدينور، وأمره بالسير في بقية أصحابه، ووجه معه ألفي ألف درهم حملت إليه قبل ذلك، ثم شخص علي بن عيسى من همذان يريد الري قبل ورود عبد الرحمن عليه فسار حتى بلغ الري على تعبئة، فلقيه طاهر بن الحسين وهو أقل من أربعة آلاف - وقيل كان في ثلاثة آلاف وثمانمائة - وخرج من عسكر طاهر ثلاثة أنفس إلى علي بن عيسى يتقربون إليه بذلك، فسألهم: من هم؟ ومن أي البلدان هم؟ فأخبره أحدهم أنه كان من جند عيسى أبيه الذي قتله رافع. قال: فأنت من جندي! فأمر به فضرب مائتي سوط، واستخف بالرجلين. وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر، فازدادوا جدًا في محاربته ونفورًا منه.

فذكر أحمد بن هشام أنه لم يكن ورد عليهم الكتاب من المأمون، بأن تسمى بالخلافة، إذ التقيا - وكان أحمد على شرطة طاهر - فقلت لطاهر: قد ورد علي بن عيسى فيمن ترى، فإن ظهرنا له؛ فقال: أنا عامل أمير المؤمنين وأقررنا له بذلك، لم يكن لنا أن نحاربه. فقال لي طاهر: لم يجئني في هذا شيء، فقلت: دعني وما أريد، قال: شأنك، قال: فصعدت المنبر، فخلعت محمدًا، ودعوت للمأمون بالخلافة، وسرنا من يومنا أو من غد يوم السبت، وكان ذلك في شعبان سنة خمس وتسعين ومائة، فنزلنا قسطانة، وهي أول مرحلة من الري إلى العراق. وانتهى علي بن عيسى إلى برية يقال لها مشكويه، وبيننا وبينه سبعة فراسخ، وجعلنا مقدمتنا على فرسخين من جنده. وكان علي بن عيسى ظن أن طاهرًا إذا رآه يسلم إليه العمل؛ فلما رأى الجد منه، قال: هذا موضع مفازة، وليس موضع مقام فأخذ يساره إلى رستاق يقال له رستاق بني الرازي؛ وكان معنا الأتراك، فنزلنا على نهر، ونزل قريبًا منا، وكان بيننا وبينه دكادك وجبال؛ فلما كان في آخر الليل جاءني رجل فأخبرني أن علي بن عيسى دخل الري - وقد كان كاتبهم فأجابوه - فخرجت معه إلى الطريق، فقلت له: هذا طريقهم؛ وما هنا أثر حافر، وما يدل على أنه سار. وجئت إلى طاهر فأنبهته، فقلت له: تصلي؟ قال: نعم فدعا بماء فتهيأ، فقلت له: الخبر كيت وكيت. وأصبحنا، فقال لي: تركب، فوقفنا على الطريق، فقال لي: هل لك أن تجوز هذه الدكادك؟ فأشرفنا على عسكر علي بن عيسى وهم يلبسون السلاح، فقال: ارجع أخطأنا؛ فرجعنا فقال لي: أخرج أصحابنا.

قال: فدعوت المأموني والحسن بن يونس المحاربي والرستمي؛ فخرجوا جميعًا؛ فكان على الميمنة المأموني، وعلى الميسرة الرستمي ومحمد بن مصعب. قال: وأقبل علي في جيشه؛ فامتلأت الصحراء بياضًا وصفرة من السلاح والمذهب، وجعل على ميمنته الحسين بن علي ومعه أبو دلف القاسم بن عيسى بن إدريس، وعلى ميسرته آخر، وكروا، فهزمونا حتى دخلوا العسكر، فخرج إليهم الساعة السوعاء فهزموهم.

قال: وقال طاهر لما رأى علي بن عيسى: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن نجعلها خارجية، فقصد قصد القلب، فجمع سبعمائة رجل من الخوارزمية؛ فيهم ميكائيل وداود سياه.

قال أحمد بن هشام: قلنا لطاهر: نذكر علي بن عيسى البيعة التي كانت، والبيعة التي أخذها هو للمأمون خاصة على معاشر أهل خراسان، فقال: نعم؛ قال: فعلقناهما على رمحين، وقمت بين الصفين، فقلت: الأمان! لا ترمونا ولا نرميكم؛ فقال علي بن عيسى: ذلك لك، فقلت: يا علي بن عيسى، ألا تتقي الله! أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة! اتق الله فقد بلغت باب قبرك، فقال: من أنت؟ قلت: أحمد بن هشام - وقد كان علي بن عيسى ضربه أربعمائة سوط - فصاح علي بن عيسى: يا أهل خراسان، من جاء به فله ألف درهم. قال: وكان معنا قوم بخارية، فرموه، وقالوا: نقتلك ونأخذ مالك: وخرج من عسكره العباس بن الليث مولى المهدي، وخرج رجل يقال له حاتم الطائي، فشد عليه طاهر، وشد يديه على مقبض السيف، فضربه فصرعه، وشد داود سياه على علي بن عيسى فصرعه؛ وهو لا يعرفه. وكان علي بن عيسى على برذون أرحل، حمله عليه محمد - وذلك يكره في الحرب ويدل على الهزيمة - قال: فقال داود: ناري أسنان كتبتم. قال: فقال طاهر الصغير - وهو طاهر بن التاجي: علي بن عيسى أنت؟ قال: نعم، أنا علي بن عيسى، وظن أنه يهاب فلا يقدم عليه أحد، فشد عليه فذبحه بالسيف. ونازعهم محمد بن مقاتل بن صالح الرأس، فنتف محمد خصلة من لحيته، فذهب بها إلى طاهر وبشره؛ وكانت ضربة طاهر هي الفتح، فسمي يومئذ ذا اليمينين بذلك السبب لأنه أخذ السيف بيديه جميعًا. وتناول أصحابه النشاب ليرمونا، فلم أعلم بقتل علي حتى قيل: قتل والله الأمير. فتبعناهم فرسخين، وواقفونا اثني عشرة مرة، كل ذلك نهزمهم؛ فلحقني طاهر بن التاجي، ومعه رأس علي بن عيسى؛ وكان آلى أن ينصب رأس أحمد عند المنبر الذي خلع عليه محمد، وقد كان علي أمر أن يهيأ له الغداء بالري. قال: فانصرفت فوجدت عيبة علي فيها دراعة وجبة وغلالة، فلبستها، وصليت ركعتين شكرًا لله تبارك وتعالى. ووجدنا في عسكره سبعمائة كيس؛ في كل كيس ألف درهم، ووجدنا عدة بغال عليها صناديق في أيدي أولئك البخارية الذين شتموه، وظنوا أنه مال؛ فكسروا الصناديق؛ فإذا فيها خمر سوادي، وأقبلوا يفرقون القناني، وقالوا: عملنا الجد حتى نشرب.

قال أحمد بن هشام: وجئت إلى مضرب طاهر، وقد اغتم لتأخري عنه، فقال: لي البشرى! هذه خصلة من لحية علي، فقلت له: البشرى! هذا رأس علي. قال: فأعتق طاهر من كان بحضرته من غلمانه شكرًا لله، ثم جاءوا بعلي وقد شد الأعوان يديه إلى رجليه، فحمل على خشبة كما يحمل الحمار الميت وأمر به فلف في لبد وألقي في بئر. قال: وكتب إلى ذي الرياستين بالخبر.

قال: فسارت الخريطة وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ؛ ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، ووردت عليهم يوم الأحد.

قال ذو الرياستين: كنا قد وجهنا هرثمة، واحتشدنا في السلاح مددًا، وسار في ذلك اليوم، وشيعه المأمون فقلت للمأمون: لا تبرح حتى يسلم عليك بالخلافة فقد وجبت لك، ولا نأمن أن يقال: يصلح بين الأخوين، فإذا سلم عليك بالخلافة لم يمكن أن ترجع. فتقدمت أنا وهرثمة والحسن بن سهل، فسلمنا عليه بالخلافة، وتبادر شيعة المأمون، فرجعت وأنا كال تعب لم أنم ثلاثة أيام في جهاز هرثمة، فقال لي الخادم: هذا عبد الرحمن بن مدرك - وكان يلي البريد، ونحن نتوقع الخريطة لنا أو علينا - فدخل وسكت، قلت: ويلك! ما وراءك؟ قال: الفتح؛ فإذا كتاب طاهر إلي: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك؛ كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في إصبعي؛ والحمد لله رب العالمين. فوثبت إلى دار أمير المؤمنين، فلحقني الغلام بالسواد، فدخلت على المأمون فبشرته، وقرأت عليه الكتاب، فأمر بإحضار أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، ثم ورد رأس يوم الثلاثاء، فطيف به في خراسان.

وذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: عقدنا لطاهر سنة أربع وتسعين ومائة فاتصل عقده إلى الساعة.

وذكر محمد بن يحيى بن عبد الملك النيسابوري، قال: لما جاء نعي علي بن عيسى وقتله إلى محمد بن زبيدة - وكان في وقته ذلك على الشط يصيد السمك - فقال للذي أخبره: ويلك! دعني؛ فإن كوثرًا قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئًا بعد. قال: وكان بعض أهل الحسد يقول: ظن طاهر أن عليًا يعلو عليه، وقال: متى يقوم طاهر لحرب علي مع كثرة جيشه وطاعة أهل خراسان له! فلما قتل علي تضاءل، وقال: والله لو لقيه طاهر وحده لقاتله في جيشه حتى يغلب أو يقتل دونه.

وقال رجل من أصحاب علي له بأس ونجدة قي قتل علي ولقاء طاهر:

لقينا الليث مفترسًا لديه ** وكنا ما ينهنهنا اللقاء

نخوض الموت والغمرات قدمًا ** إذا ما كر ليس به خفاء

فضعضع ركبنا لما التقينا ** وراح الموت وانكشف الغطاء

وأردى كبشنا والرأس منا ** كأن بكفه كان القضاء

ولما انتهى الخبر بمقتل علي بن عيسى إلى محمد والفضل، بعث إلى نوفل خادم المأمون - وكان وكيل المأمون ببغداد وخازنه، وقيمه في أهله وولده وضياعه وأمواله - عن لسان محمد، فأخذ منه الألف ألف درهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلاته بالسواد، وولى عمالًا قبله، ووجه عبد الرحمن الأبناوي بالقوة والعدة فنزل همذان.

وذكر بعض من سمع عبد الله بن خازم عند ذلك يقول: يريد محمد إزالة الجبال وفل العساكر بتدبيره والمنكوس من تظهيره، هيهات! هو والله كما قال الأول: " قد ضيع الله ذودًا أنت راعيها " ولما بايع محمد لابنه موسى ووجه علي بن عيسى، قال الشاعر من أهل بغداد في ذلك لما رأى تشاغل محمد بلهوه وبطالته وتخليته عن تدبير علي والفضل بن الربيع:

أضاع الخلافة غش الوزير ** وفسق الأمير وجهل المشير

ففضل وزير، وبكر مشير ** يريدان ما فيه حتف الأمير

وما ذاك إلا طريق غرورٍ ** وشر المسالك طرق الغرور

لواط الخليفة أعجوبة ** وأعجب منه خلاق الوزير

فهذا يدوس وهذا يداس ** كذاك لعمري اخترف الأمور

فلو يستعينان هذا بذاك ** لكانا بعرضة أمرستير

ولكن ذا لج في كوثرٍ ** ولم يشف هذا دعاس الحمير

فشنع فعلاهما منهما ** وصارا خلافًا كبول البعير

وأعجب من ذا وذا أننا ** نبايع للطفل فينا الصغير

ومن ليس يحسن غسل استه ** ولم يخل من بوله حجر ظير

وما ذاك إلا بفضل وبكرٍ ** يريدان نقض الكتاب المنير

وهذان لولا انقلاب الزمان ** أفي العير هذان أم في النفير

ولكنها فتن كالجبال ** ترفع فيها الوضيع الحقير

فصبرًا ففي الصبر خير كثير ** وإن كان قد ضاق صدر الصبور

فيا رب فاقبضهما عاجلًا ** إليك وأوردهم عذاب السعير

ونكل بفضلٍ وأشياعه ** وصلبهم حول هذي الجسور

وذكر أن محمدًا لما بعث إلى المأمون في البيعة لابنه موسى، ووجه الرسل إليه في ذلك، كتب المأمون جواب كتابه: أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين منكرًا لإبائي منزلة تهضمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق فيها، ولعمري أن لو رد أمير المؤمنين الأمر إلى النصفة فلم يطالب إلا بها، ولم يوجب نكرة على تركها، لانبسطت بالحجة مطالع مقالته؛ ولكنت محجوجًا بمفارقة ما يجب من طاعته؛ فأما وأنا مذعن بها وهو على ترك إعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به، ويعطي من نفسه؛ فإن صرت إلى الحق فرغت عن قلبه؛ وإن أبيت الحق قام الحق بمعذرته. وأما ما وعد من بر بطاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في فعله فأبقى للمستبين موضع ثقة بقوله! والسلام.

قال: وكتب إلى علي بن عيسى لما بلغه ما عزم عليه:

أما بعد؛ فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذب عن حريمها؛ وعلى العناية بحفظها ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يدًا على أهل مخالفتكم، وحزبًا وأعوانًا لأهل موافقتكم، تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون فيما تصرفوا فيه من منزلة شديدة ورجاء، لا ترون شيئًا أبلغ في صلاحكم من الأمر الجامع لألفتكم؛ ولا أحرى لبواركم مما دعا إلى شتات كلمتكم، وترون من رغب عن ذلك جائرًا عن القصد وعن أمه على منهاج الحق، ثم كنتم على أولئك سيوفًا من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مسبعة، وجزرًا جامجة؛ قد سفت الرياح في وجهه، وتداعت السباع إلى مصرعه، غير ممهد ولا موسد قد صار إلى أمة، وغير عاجل حظه؛ ممن كانت الأئمة تنزلكم لذلك؛ بحيث أنزلتم أنفسكم، من الثقة بكم في آثارها؛ وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها؛ حتى بلغ الله بك في نفسك أن كنت قريع أهل دعوتك، والعلم القائم بمعظم أمر أئمتك؛ إن قلت: ادنوا دنوا وإن أشرت: أقبلوا أقبلوا وإن أمسكت وقفوا وأقروا، وئامًا لك واستنصاحًا، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر مدتك، لا ينتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضى ما تقدم من صالح فعلك؛ أو خلاف فيضل له متقدم سعيك؛ وقد ترى يا أبا يحيى حالًا عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك؛ من طعن بعقدة كنت القائم بشدها، وخثر بعهود توليت معاقد أخذها؛ يبدأ فيها بالأخصين، حتى أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجة والمواثيق المؤكدة. وما طلع مما يدعو إلى نشر كلمة، وتفريق أمر أمة وشت أمر جماعة، وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطأت الأسلاف من الأئمة؛ ومتى زالت نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص أنفسكم؛ ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وليس الساعي في نشرها بساعٍ فيها على نفسه دون السعي على حملتها، القائمين بحرمتها؛ قد عرضوهم أن يكونوا جزرًا لأعدائهم، وطعمة قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم. ومكانك المكان الذي إن قلت رجع إلى قولك، وإن أشرت لم تتهم في نصيحتك؛ ولك مع إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق. ولا سواء من حظي بعاجل مع فراق الحق فأوبق نفسه في عاقبته، ومن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة؛ مع وفور الحظ في عاجلته، وليس لك ما تستدعى ولا عليه ما تستعطف؛ ولكنه حق من حق أحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك؛ فإن أعجزك قول أو فعل فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك، وتحكم فيها برأيك وتنحاز إلى من يحسن تقبلًا لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك وأموالك؛ ولك بذلك الله، وكفى بالله وكيلا. وإن تعذر ذلك بقيةً على نفسك، فإمساكًا بيدك، وقولًا بحق، ما لم تخف وقوعه بكرهك؛ فلعل مقتديًا بك، ومغتبطًا بنهيك. ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله.

قال: فأتى علي بالكتاب إلى محمد، فشب أهل النكث من الكفاة من تلهيبه، وأوقدوا نيرانه، وأعان على ذلك حميًا قدرته، وتساقط طبيعته، ورد الرأي إلى الفضل بن الربيع لقيامه كان بمكانفته.

وكانت كتب ذي الرياستين ترد إلى الدسيس الذي كان يشاوره في أمره: إن أبى القوم إلا عزمة الخلاف؛ فألطف لأن يجعلوا أمره لعلي بن عيسى. وإنما خص ذو الرياستين عليًا بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه؛ وإن العامة قائلة بحربه. فشاور الفضل الدسيس الذي كان يشاوره، فقال: علي بن عيسى إن فعل فلم ترمهم بمثله، في بعد صوبه وسخاوة نفسه، ومكانه في بلاد خراسان في طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم، ثم هو شيخ الدعوة وبقية أهل المشايعة؛ فأجمعوا على توجيه علي؛ فكان من توجيهه ما كان. وكان يجتمع للمأمون بتوجيه علي جندان: أجناده الذين يحاربه بهم، والعامة من أهل خراسان حرب عليه لسوء أثره فيهم؛ وذلك رأي يكثر الأخطار به إلا في صدور رجال ضعاف الرأي لحال علي في نفسه، وما تقدم له ولسلفه؛ فكان ما كان من أمره ومقتله.

وذكر سهل أن عمر بن حفص مولى محمد قال:

دخلت على محمد في جوف الليل - وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل إليه أحد من مواليه وحشمة - فوجدته والشمع بين يديه، وهو يفكر، فسلمت عليه فلم يرد علي، فعلمت أنه في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفًا على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم رفع رأسه إلي، فقال: أحضرني عبد الله بن خازم، فمضيت إلى عبد الله، فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو يقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض ميثاقه، واستخف بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله! فقال: اسكت، لله أبوك! فعبد الملك كان أفضل منك رأيًا، وأكمل نظرًا؛ حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة. قال عمرو بن حفص: وسمعت محمدًا يقول للفضل بن الربيع: ويلك يا فضل! لا حياة مع بقاء عبد الله وتعرضه؛ ولا بد من خلعه، والفضل يعينه على ذلك، ويعده أن يفعل؛ وهو يقول: فمتى ذلك! إذا غلب على خراسان وما يليها! وذكر بعض خدم محمد أن محمدًا لما هم بخلع المأمون والبيعة لابنه؛ ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم؛ فشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول. وأقبل علي بن عيسى بن ماهان، فتبسم محمد، ثم قال: لكن شيخ هذه الدعوة، وناب هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته، ثم رفعه إلى موضع لم أره رفعه إليه فيما مضى، فيقال: إنه أول القواد أجاب إلى خلع عبد الله، وتابع محمدًا على رأيه. قال أبو جعفر ك ولما عزم محمد على خلع عبد الله، قال له الفضل بن الربيع: ألا تعذر إليه يا أمير المؤمنين فإنه أخوك؛ ولعله يسلم هذا الأمرفي عافية، فتكون قد كفيت مؤونته، وسلمت من محاربته ومعاندته! قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكتب إليه كتابا، تستطيب به نفسه، وتسكن وحشته، وتسأله الصفح لك عما في يده؛ فإن ذلك أبلغ في التدبير، وأحسن في القالة من مكارثه بالجنود، ومعالجته بالكبد. فقال له: أعمل في ذلك برأيك. فلما حضر إسماعيل بن صبيح للكتاب إلى عبد الله قال: يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر ولكن اكتب فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه؛ فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته. فقال الفضل: القول ما قال يا أمير المؤمنين، قال: فليكتب بما رأى، قال: فكتب إليه: من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين. أما بعد، فإن أمير المؤمنين روى في أمرك، والموضع الذي أنت فيه من ثغره، وما يؤمل في قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله، وقلده من أمور عباده وبلاده؛ وفكر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك على ما يصير إليك منها، فرجا أمير المؤمنين ألا يدخل عليه وكف في دينه، ولا نكث في يمينه إذ كان إشخاصه إياك فيما يعود على المسلمين نفعه، ويصل إلى عامتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسد للثغور، وأصلح للجنود، وآكد للفيء، وأرد على العامة من مقامك ببلاد خراسان منقطعًا عن أهل بيتك، متغيبًا عن أمير المؤمنين أن يولى موسى بن أمير المؤمنين فيما يقلده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك. فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد عاقبة وأنفذ بصيرة؛ فإنك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه من صلاح أهل ملته وذمته. والسلام.

ودفع الكتاب إلى العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وإلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك، وإلى صالح صاحب المصلى، وأمرهم أن يتوجهوا به إلى عبد الله المأمون، وألا يدعوا وجهًا من اللين والرفق إلا بلغوه، وسهلوا الأمر عليه فيه؛ وحمل بعضهم الأموال والألطاف والهدايا؛ وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة. فتوجهوا بكتابه، فلما وصلوا إلى عبد الله، أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد، وما كان بعث به معهم من الأموال والألطاف والهدايا.

ثم تكلم العباس بن موسى بن عيسى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الأمير؛ إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلًا عظيمًا، ومن النظر في أمور الناس عبئًا جليلًا، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزه الوزراء والأعوان والكفاة في العدل؛ وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه؛ وقد فزع إليك في أموره، وأملك للموازرة والمكانفة؛ ولسنا نستبطئك في بره اتهامًا لنصرك له، ولا نحضك على طاعة تخوفًا لخلافك عليه، وفي قدومك عليه أنس عظيم، وصلاح لدولته وسلطانه؛ فأجب أيها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته، وأعنه على ما استعانك عليه في أمره؛ فإن في ذلك قضاء الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة. عزم الله للأمير على الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه.

وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، فقال: إن الإكثار على الأمير - أيده الله - في القول خرق، والاقتصاد في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير؛ وقد غاب الأمير أكرمه الله عن أمير المؤمنين ولم يستغن عن قربه، ومن شهد غيره من أهل بيته فلا يجد عنده غناءً، ولا يجد منه خلفًا ولا عوضًا؛ والأمير أولى من بر أخاه، وأطاع إمامه؛ فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين، بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته؛ فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وكف في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين.

وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك، فقال: أيها الأمير؛ إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين، ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور المسلمين. وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعًا إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب أمير المؤمنين فيما دعاك فنعمة عظيمة تتلافى بها رعيتك وأهل بيتك؛ وإن تقعد يغن الله أمير المؤمنين عنك؛ ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك والاعتماد على طاعتك ونصيحتك.

وتكلم صاحب المصلى، فقال: أيها الأمير؛ إن الخلافة ثقيلة والأعوان قليل؛ ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده، والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أمور، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة. وفق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له! فحمد الله المأمون وأثنى عليه، ثم قال: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين أكرمه الله ما لا أنكره، من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه؛ وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سره ووافقه حريص، وفي الروية تبيان الرأي، وفي إعمال الرأي نصح الاعتزام؛ والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبيطًا ومدافعةً، ولا أتقدم عليه اعتسافًا وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوه، شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت لم آمن فوت ما أحب من معونة أمير المؤمنين وموازرته، وإيثار طاعته؛ فانصرفوا حتى أنظر في أمري، ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله. ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم.

فذكر سفيان بن محمد أن المأمون لما قرأ الكتاب أسقط في يده، وتعاظمه ما ورد عليه منه، ولم يدر ما يرد عليه، فدعا الفضل بن سهل، فأقرأه الكتاب، وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قال: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل عليك سبيلا؛ وأنت تجد من ذلك بدًا. قال: وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد، وعظم القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده! وإنما الناس مائلون مع الدراهم، منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة، ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة. فقال له الفضل:

إذا وقعت التهمة حق الاحتراس، وأنا لغدر محمد متخوف، ومن شرهه إلى ما في يديك مشفق؛ ولأن تكون في جندك وعزك مقيمًا بين ظهراني أهل ولايتك أحرى؛ فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته؛ فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمت محافظًا مكرمًا، غير ملق بيديك، ولا ممكن عدوك من الاحتكام في نفسك ودمك. قال: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري، وصلاح من الأمور؛ كان خطبه يسيرًا، والاحتيال في دفعه ممكنًا؛ ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقة جبغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك إبراز بنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يد؛ وأنا أعلم أن محمدًا لم يطلب قدومي إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه، واللحاق بخاقان ملك الترك، والاستجارة به وببلاده، فبالحري أن آمن على نفسي، وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي.

فقال له الفضل: أيها الأمير؛ إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعة الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورب مستذل قد عاد عزيزًا، ومقهور قد عاد قاهرًا مستطيلًا؛ وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أيسر من حرج الذل والضيم؛ وما أرى أن تفارق ما أنت فيه وتصير إلى طاعة محمد متجردًا من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه، فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تبلى عذرًا في جهاد ولا قتال؛ ولكن اكتب إلى جبغويه وخاقان، فولهما بلادهما، وعدهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وطرفها، وسله الموادعة تجده على ذلك حريصًا، وسلم الملك إبرازبنده ضريبته في هذه السنة، وصيرها صلة منك وصلته بها، ثم اجمع إليك أطرافك، واضمم إليك من شذ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل، والرجال بالرجال؛ فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادرًا. فعرف عبد الله صدق ما قال، فقال: أعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى، وأنفذ الكتب إلى أولئك العصاة، فرضوا وأذعنوا؛ وكتب إلى من كان شاذًا عن مرو من القواد والجنود، فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بن الحسين وهو يومئذ عامل عبد الله على الري، فأمره أن يضبط ناحيته، وأن يجمع إليه أطرافه؛ ويكون على حذر وعدة من جيش إذا طرقه، أو عدو إن هجم عليه. واستعد للعرب، وتهيأ لدفع محمد عن بلاد خراسان.

ويقال: إن عبد الله بعث إلى الفضل بن سهل فاستشاره في أمر محمد، فقال: أيها الأمير، أنظرني في يومي هذا أغد عليك برأيي؛ فبات يدبر الرأي ليلته؛ فلما أصبح غدًا عليه، فأعلمه أنه نظر في النجوم فرأى أنه سيغلبه، وأن العاقبة له. فأقام عبد الله بموضعه، ووطن نفسه على محاربة محمد ومناجزته.

فلما فرغ عبد الله مما أراد إحكامه من أمر خراسان، كتب إلى محمد: لعبد الله محمد أمير المؤمنين من عبد الله بن هارون؛ أما بعد؛ فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين؛ وإنما أنا عامل من عماله وعون من أعوانه، أمرني الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين؛ ولعمري إن مقامي به، أرد على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطًا بقربه، مسرورًا بمشاهدة نعمة الله عنده؛ فإن رأى أن يقرني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه، فعل إن شاء الله والسلام.

ثم دعا العباس بن موسى وعيسى بن جعفر ومحمدًا وصالحًا؛ فدفع الكتاب إليهم، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف خراسان، وسألهم أن يحسنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره.

قال سفيان بن محمد: لما قرأ محمد كتاب عبد الله، عرف أن المأمون لا يتابعه على القدوم إليه، فوجه عصمة بن حماد بن سالم صاحب حرسه، وأمره أن يقيم مسلحةً فيما بين همذان والري، وأن يمنع التجار من حمل شيء إلى خراسان من الميرة، وأن يفتش المارة، فلا يكون معهم كتب بأخباره وما يريد؛ وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة. ثم عزم على محاربته، فدعا علي بن عيسى بن ماهان، فعقد له خمسين ألف فارس ورجل من أهل بغداد، ودفع إليه دفاتر الجند، وأمره أن ينتقي ويتخير من أراد على عينه، ويخص من أحب ويرفع من أراد إلى الثمانين، وأمكنه من السلاح وبيوت الأموال، ثم وجهوا إلى المأمون.

فذكر يزيد بن الحارث، قال: لما أراد علي الشخوص إلى خراسان ركب إلى باب أم جعفر، فودعها، فقالت: يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي؛ إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حذري؛ فإني على عبد الله منعطفة ومشفقة، لما يحدث عليه من مكروه وأذى؛ وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه، وغاره على ما في يده؛ والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره؛ فاعرف لعبد اله حق والده وأخوته، ولا تجبه بالكلام، فإنك لست نظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا ترهقه بقيد ولا غل، ولا تمنع منه جارية ولا خادمًا، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير؛ ولا تركب قبله، ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده. ثم دفعت إليه قيدًا من فضة، فقالت: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد. فقال لها: سأقبل أمرك، وأعمل في ذلك بطاعتك.

وأظهر محمد خلع المأمون، وبايع لابنيه - في جميع الآفاق إلا خراسان - موسى وعبد الله؛ وأعطى عند بيعتهما بني هاشم والقواد والجند الأموال والجوائز، وسمى موسى الناطق بالحق، وسمى عبد الله القائم بالحق. ثم خرج علي بن عيسى لسبع ليال خلون من شعبان سنة خمس وتسعين ومائة من بغداد حتى عسكر بالنهروان، وخرج معه يشيعه محمد، وركب القواد والجنود، وحشرت الأسواق، وأشخص معه الصناع والفعلة؛ فيقال: إن عسكره كان فرسخًا بفسطاطيه وأهبته وأثقاله، فذكر بعض أهل بغداد أنهم لم يروا عسكرًا كان أكثر رجالًا، وأفره كراعًا، وأظهر سلاحًا، وأتم عدة، وأكمل هيئة؛ من عسكره. وذكر عمر بن سعيد أن محمدًا لما جاز باب خراسان نزل علي فترجل، وأقبل يوصيه، فقال: امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع الشجر وانتهاك النساء؛ وول الري يحيى بن علي، واضمم إليه جندًا كثيفًا، ومره ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجبى من خراجها؛ وول كل كورة ترحل عنها رجلًا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخًا بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع الخراج، ولا تؤمن أحدًا رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح؛ ولا تأذن لعبد الله في المقام أكثر من ثلاثة من اليوم الذي تظهر فيه عليه؛ فإذا أشخصته فليكن مع أوثق أصحابك عندك؛ فإن غره الشيطان فناصبك فاحرص أن تأسره أسرًا، وإن هرب منك إلى بعض كور خراسان فتول إليه المسير بنفسك. أفهمت كل ما أوصيك به؟ قال: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين! قال: سر على بركة الله وعونه! وذكر أن منجمه أتاه فقال: أصلح الله الأمير! لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر؛ فإن النحوس عليه عالية، والسعود عنه ساقطة منصرفة! فقال لغلام له: يا سعيد؛ قل لصاحب المقدمة يضرب بطبله ويقدم علمه؛ فإنا لا ندري ما فساد القمر من صلاحه؛ غير أنه من نازلنا نازلناه، ومن وادعنا وادعناه وكففنا عنه؛ ومن حاربنا وقاتلنا لم يكن لنا إلا إرواء السيف من دمه. إنا لا نعتد بفساد القمر؛ فإنا وطنا أنفسنا على صدق اللقاء ومناجزة الأعداء.

قال أبو جعفر: وذكر بعضهم أنه قال: كنت فيمن خرج في معسكر علي بن عيسى بن ماهان؛ فلما جاز حلوان لقيته القوافل من خراسان؛ فكان يسألها عن الأخبار، يستطلع علم أهل خراسان؛ فيقال له: إن طاهرًا مقيم بالري يعرض أصحابه، ويرم آلته، فيضحك ثم يقول: وما طاهر! فوالله ما هو إلا شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري؛ وما مثل طاهر يتولى علي الجيوش، ويلقى الحروب؛ ثم اتفت إلى أصحابه فقال: والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف؛ إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد؛ فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظباة السيوف وأسنة الرماح.

وذكر يزيد بن الحارث أن علي بن عيسى لما صار إلى عقبة همذان استقبل قافلة قدمت من خراسان، فسأله عن الخبر، فقالوا: إن طاهرًا مقيم بالري، وقد استعد للقتال، واتخذ آلة الحرب، وإن المدد يترى عليه من خراسان وما يليها من الكور؛ وإنه في كل يوم يعظم أمره، ويكثر أصحابه؛ وإنهم يرون أنه صاحب جيش خراسان. قال علي: فهل شخص من أهل خراسان أحد يعتد به؟ قالوا: لا؛ غير أن الأمور بها مضطربة، والناس رعبون، فأمر بطي المنازل والمسير، وقال لأصحابه: إن نهاية القوم الري، فلو قد صيرناها خلف ظهورنا فت ذلك في أعضادهم، وانتشر نظامهم، وتفرقت جماعتهم. ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وجبال طبرستان وما والاها من الملوك، يعدهم الصلات والجوائز. وأهدى إليهم التيجان والأسورة والسيوف المحلاة بالذهب، وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان، ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد؛ فأجابوه إلى ذلك، وسار حتى صار في أول البلاد الري، وأتاه صاحب مقدمته، فقال: لو كنت - أبقى الله أمير المؤمنين - أذكيت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعًا تعسكر فيه، وتتخذ خندقًا لأصحابك يأمنون به؛ كان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند. قال: لا؛ ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ؛ إن حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إما أن يتحصن بالري فيبيته أهلها فيكفوننا مؤنته، أو يخليها ويدبر راجعًا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه. واتاه يحيى بن علي، فقال: اجمع متفرق العسكر واحذر على جندك البيات، ولا تسرح الخيل إلا ومعها كنف من القوم؛ فإن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار؛ والثقة أن تحترز، ولا تقل: إن المحارب أي طاهر؛ فالشرارة الخفية ربما صارت ضرامًا، والثلمة من السيل ربما اغتر بها وتهون فصارت بحرًا عظيمًا؛ وقد قربت عساكرنا من طاهر؛ فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا. قال: اسكت؛ فإن طاهرًا ليس في هذا الموضع الذي ترى؛ وإنما تتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعد إذا كان المناوئ لها أكفاءها ونظراءها.

وذكر عبد الله بن مجالد، قال: أقبل علي بن عيسى حتى نزل من الري على عشرة فراسخ، وبها طاهر قد سد أبوابها، ووضع المسالح على طرقها، واستعد لمحاربته؛ فشاور طاهر أصحابه، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الري، ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه المدد من الخيل، وقائد يتولى الأمر دونه، وقالوا: إن مقامك بمدينة الري أرفق بأصحابك، وأقدر لهم على المبرة، وأكن من البرد، وأحرى إن دهمك قتال أن يعتصموا بالبيوت، وتقوى على المماطلة والمطاولة؛ إلى أن يأتيك مدد، أو ترد عليك قوة من خلفك. فقال طاهر: إن الرأي ليس ما رأيتم؛ إن أهل الري لعلي هائبون، ومن معرته وسطوته متقون؛ ومعه من قد بلغكم من أعراب البوادي وصعاليك الجبال ولفيف القرى؛ ولست آمن إن هجم علينا مدينة الري أن يدعوا أهلها خوفهم إلى الوثوب بنا، ويعينوه على قتالنا،؛ مع أنه لم يكن قوم قط رعبوا في ديارهم، وتورد عليهم عسكرهم إلا وهنوا وذلوا، وذهب عزهم واجترأ عليهم عدوهم. وما الرأي إلا أن نصير مدينة الري قفا ظهورنا؛ فإن أعطانا الله الظفر، وإلا عولنا عليها فقاتلنا في سككها، وتحصنا في منعتها إلى أن يأتينا مدد أو قوة من خراسان. قالوا: الرأي ما رأيت. فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا. فعسكروا على خمسة فراسخ من الري بقرية يقال لها كلواص؛ وأتاه محمد بن العلاء فقال: أيها الأمير؛ إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأت قلوبهم خوفًا ورعبًا، فلو أقمت بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامهم أصحابك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم! فقال: لا؛ إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم؛ إن أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن دافعت القتال، وأخرت المناجزة لم آمن أن يطلعوا على قلتنا وعورتنا؛ وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة، فينفر عني أكثر أصحابي، ويخذلني أهل الحفاظ والصبر، ولكن ألف الرجال بالرجال، وألحم الخيل بالخيل، واعتمد على الطاعة والوفاء، وأصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهادة؛ فإن يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو؛ وإن تكن الأخرى؛ فلست بأول من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل.

وقال علي لأصحابه: بادروا القوم؛ فإن عددهم قليل، ولو زحفتم إليهم لم يكن لهم صبر على حرارة السيوف وطعن الرماح. وعبأ جنده ميمنة وميسرة وقلبًا؛ وصير عشر رايات؛ في كل راية ألف رجل، وقدم الرايات رايةً رايةً، فصير بين كل راية وراية غلوة، وأمر أمراءها: إذا قاتلت الأولى فصبرت وحمت وطال بها القتال أن تقدم التي تليها وتؤخر التي قاتلت حتى ترجع إليها أنفسها، وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة. وصير أصحاب الدروع والجواشن والخوذ أمام الرايات، ووقف في القلب في أصحابه من آهل البأس والحفاظ والنجدة منهم.

وكتب طاهر بن الحسين كتائبه وكردس كراديسه، وسوى صفوفه، وجعل يمر بقائد قائد، وجماعة جماعة؛ فيقول: يا أولياء الله وأهل الوفاء والشكر؛ إنكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل النكث والغدر؛ إن هؤلاء ضيعوا ما حفظتم وصغروا ما عظمتم، ونكثوا الأيمان التي رعيتم؛ وإنما يطلبون الباطل ويقاتلون على الغدر والجهل؛ أصحاب سلب ونهب؛ فلو قد غضضتم الأبصار، وأثبتم الأقدام! قد أنجز الله وعده، وفتح عليكم أبواب عزه ونصره؛ فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار عن دينكم، ودافعوا بحقكم باطلهم؛ فإنما هي ساعة واحدة حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين. وقلق قلقًا شديدًا، وأقبل يقول: يا أهل الوفاء والصدق؛ الصبر الصبر الحفاظ الحفاظ! وتزاحف الناس بعضهم إلى بعض، ووثب أهل الري، فغلقوا أبواب المدينة، ونادى طاهر: يا أولياء الله، اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم؛ فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق. وتلاحموا واقتتلوا قتالًا شديدًا، وصبر الفريقان جميعًا، وعلت ميمنة علي على ميسرة طاهر ففضتها فضًا منكرًا، وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها. وقال طاهر: اجعلوا بأسكم وجدكم على كراديس القلب؛ فإنكم لو فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها. فصبر أصحابه صبرًا صادقا، ثم حملوا على أوائل رايات القلب فهزموهم؛ وأكثروا فيهم القتل؛ ورجعت الرايات بعضها على بعض، وانتقضت ميمنة علي. ورأى أصحاب ميمنة طاهر وميسرته ما عمل أصحابه، فرجعوا على من كان في وجوههم، فهزموهم، وانتهت الهزيمة إلى علي فجعل ينادي أصحابه: أين أصحاب الأسورة والأكاليل! يا معشر الأبناء، إلى الكرة بعد الفرة؛ معاودة الحرب من الصبر فيها. ورماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله، ووضعوا فيهم السيوف يقتلونهم ويأسرونهم؛ حتى حال الليل بينهم وبين الطلب، وغنموا غنيمة كثيرة؛ ونادى طاهر في أصحاب علي: من وضع سلاحه فهو آمن، فطرحوا أسلحتهم، ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى مدينة الري، وبعث بالأسرى والرءوس إلى المأمون.

وذكر أن عبد الله بن علي بن عيسى طرح نفسه في ذلك اليوم بين القتلى، وقد كانت به جراحات كثيرة، فلم يزل بين القتلى متشبها بهم يومه وليلته؛ حتى أمن الطلب، ثم قام فانضم إلى جماعة من فل العسكر، ومضى إلى بغداد، وكان من أكابر ولده.

وذكر سفيان بن محمد أن عليًا لما توجه إلى خراسان بعث المأمون إلى من كان معه من القواد يعرض عليهم قتاله رجلًا رجلًا؛ فكلهم يصرخ بالهيبة، ويعتل بالعلل، ليجدوا إلى الإعفاء من لقائه ومحاربته سبيلًا.

وذكر بعض أهل خراسان أن المأمون لما أتاه كتاب طاهر، بخبر علي وما أوقع الله به، قعد للناس؛ فكانوا يدخلون فيهنئونه ويدعون له بالعز والنصر. وإنه في ذلك اليوم أعلن خلع محمد، ودعي له بالخلافة في جميع كور خراسان وما يليها، وسر أهل خراسان، وخطب بها الخطباء، وأنشدت الشعراء، وفي ذلك يقول شاعر من أهل خراسان:

أصبحت الأمة في غبطةٍ ** من أمر دنياها ومن دينها

إذ حفظت عهد إمام الهدى ** خير بني حواء مأمونها

على شفًا كانت فلما وفت ** تخلصت من سوء تحيينها

قامت بحق الله إذ زبرت ** في ولده كتب دواوينها

ألا تراها كيف بعد الردى ** وفقها الله لتزيينها!

وهي أبيات كثيرة.

وذكر علي بن صالح الحربي أن علي بن عيسى لما قتل، أرجف الناس ببغداد إرجافًا شديدًا، وندم محمد على ما كان من نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة خمس وتسعين ومائة، فقالوا: إن عليًا قد قتل، ولسنا نشك أن محمدًا يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب الصنائع؛ وإنما يحرك الرجال أنفسها، ويرفعها بأسها وإقدامها؛ فليأمر كل رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز؛ فلعلنا أن نصيب منه في هذه الحالة ما يصلحنا، ويصلح جندنا. فاتفق على ذلك رأيهم وأصبحوا، فتوافوا إلى باب الجسر وكبروا، فطلبوا الأرزاق والجوائز. وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب، فتراموا بالنشاب والحجارة، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وسمع محمد التكبير والضجيج؛ فأرسل بعض مواليه أن يأتيه بالخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم. قال: فهل يطلبون شيئًا غير الأرزاق؟ قال: لا، قال: ما أهون ما طلبوا! ارجع إلى عبد الله بن خازم فمره فلينصرف عنهم؛ ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواص بالصلات والجوائز.

توجيه الأمين عبد الرحمن بن جبلة لحرب طاهر

وفي هذه السنة وجه محمد المخلوع عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي إلى همذان لحرب طاهر.

ذكر الخبر عن ذلك

ذكر عبد الله بن صالح أن محمدًا لما انتهى إليه قتل علي بن عيسى بن ماهان، واستباحة طاهر عسكره، وجه عبد الرحمن الأبناوي في عشرين ألف رجل من الأبناء، وحمل معه الأموال، وقواه بالسلاح والخيل، وأجازه بجوائز، وولاه حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وندب معه فرسان الأبناء وأهل البأس والنجدة والغناء منهم، وأمره بالإنكماش في السير، وتقليل اللبث والتضجع؛ حتى ينزل مدينة همذان، فيسبق طاهرًا إليها، ويخندق عليه وعلى أصحابه، ويجمع إليه آلة الحرب، ويغادي طاهرًا وأصحابه إلى القتال. وبسط يده وانفذ أمره في كل ما يريد العمل به، وتقدم إليه في التحفظ والاحتراس، وترك ما عمل به من الاغترار والتضجع، فتوجه عبد الرحمن حتى نزل مدينة همذان، فضبط طرقها، وحصن سورها وأبوابها، وسد ثلمها، وحشر إليها الأسواق والصناع، وجمع الآلات والمير، واستعد للقاء طاهر ومحاربته. بين الري وهمذان؛ فكان لا يمر به أحد من قبل أبيه إلا احتسبه؛ وكان يرى أن محمدًا سيوليه مكان أبيه، ويوجه إليه الخيل والرجال؛ فأراد أن يجمع الفل إلى أن يوافيه القوة والمدد؛ وكتب إلى محمد يستمده ويستنجده؛ فكتب إليه محمد يعلمه توجيه عبد الرحمن الأبناوي، ويأمره بالمقام موضعه؛ وتلقى طاهر فيمن معه؛ وإن احتاج إلى قوة ورجال كتب إلى عبد الرحمن فقواه وأعانه. فلما بلغ طاهرًا الخبر توجه نحو عبد الرحمن وأصحابه، فلما قرب من يحيى، قال يحيى لأصحابه: إن طاهرًا قد قرب منا ومعه من تعرفون من رجال خراسان وفرسانها، وهو صاحبكم بالأمس، ولا آمن عن لقيته بمن معي من هذا الفل أن يصدعنا صدعًا يدخل وهنه على من خلفنا، وأن يعتل عبد الرحمن بذلك، ويقلدني به العار والوهن والعجز عند أمير المؤمنين، وأن أستنجد به وأقمت على انتظار مدده؛ لم آمن أن يمسك عنا ضنًا برجاله وإبقاءً عليهم، وشحًا بهم على القتل؛ ولكن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريبًا من عبد الرحمن؛ فإن استعنا به قرب منا عونه؛ وإن احتاج إلينا أعناه وكنا بفنائه، وقاتلنا معه. قالوا: الرأي ما رأيت؛ فانصرف يحيى، فلما قرب من مدينة همذان خذله أصحابه، وتفرق أكثر من كان اجتمع إليه، وقصد طاهر لمدينة همذان؛ فأشرف عليها، ونادى عبد الرحمن في أصحابه، فخرج على تعبية، فصادف طاهرًا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وصبر الفريقان جميعًا، وكثر القتلى والجرحى فيهم. ثم إن عبد الرحمن انهزم، فدخل مدينة همذان، فأقام بها أيامًا حتى قوي أصحابه، واندمل جرحاهم، ثم أمر بالاستعداد، وزحف إلى طاهر؛ فلما رأى طاهر أعلامه وأوائل أصحابه قد طلعوا، قال لأصحابه:

إن عبد الرحمن يريد أن يتراءى لكم؛ فإذا قربتم منه قاتلكم؛ فإن هزمتموه بادر إلى المدينة فدخلها، وقاتلكم على خندقها، وامتنع بأبوابها وسورها؛ وإن هزمكم اتسع لهم المجال عليكم، وأمكنته سعة المعترك من قتالكم، وقتل من انهزم وولى منكم؛ ولكن قفوا من خندقنا وعسكرنا قريبًا؛ فإن تقارب منا قاتلناه؛ وإن بعد من خندقهم قربنا منه. فوقف طاهر مكانه، وظن عبد الرحمن أن الهيبة بطأت به من لقائه والنهود إليه، فبادر قتاله فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وصبر طاهر، وأكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن، وجعل عبد الرحمن يقول لأصحابه: يا معشر الأبناء، يا أبناء الملوك وألفاف السيوف؛ إنهم العجم، وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر؛ فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي! وجعل يمر على راية راية، فيقول: اصبروا؛ إنما صبرنا ساعة، هذا أول الصبر والظفر. وقات بيديه قتالًا شديدًا، وحمل حملات منكرة ما منها حملة إلا وهو يكثر في أصحاب طاهر القتل؛ فلا يزول أحد ولا يتزحزح. ثم إن رجلًا من أصحاب طاهر حمل على أصحاب علم عبد الرحمن فقتله، وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولوهم أكتافهم، فوضعوا فيهم السيوف، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى باب مدينة همذان؛ فأقام طاهر على باب المدينة محاصرًا لهم وله؛ فكان عبد الرحمن يخرج في كل يوم فيقاتل على أبواب المدينة، ويرمي أصحابه بالحجارة من فوق السور، واشتد بهم الحصار، وتأذى بهم أهل المدينة، وتبرموا بالقتال والحرب، وقطع طاهر عنهم المادة من كل وجه. فلما رأى عبد الرحمن، ورأى أصحابه قد هلكوا وجهدوا، وتخوف أن يثب به أهل همذان أرسل إلى طاهر فسأله الأمان له ولمن معه؛ فآمنه طاهر ووفى له، واعتزل عبد الرحمن فيمن كان استأمن معه من أصحابه وأصحاب يحيى بن علي.

تسمية طاهر بن الحسين ذا اليمينين

وفي هذه السنة سمي طاهر بن الحسين ذا اليمينين.

ذكر الخبر عن ذلك

قد مضى الخبر عن السبب الذي من أجله سمي بذلك، ونذكر الذي سماه بذلك.

ذكر أن طاهرًا لما هزم جيش علي بن عيسى بن ماهان، وقتل علي بن عيسى، وكتب إلى الفضل بن سهل: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداك! كتبت إليك ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي، والحمد لله رب العالمين. فنهض الفضل، فسلم على المأمون بأمير المؤمنين؛ فأمد المأمون طاهر بن الحسين بالرجال والقواد، وسماه ذا اليمين، وصاحب حبل الدين، ورفع من كان معه في دون الثمانين إلى الثمانين.

ظهور السفياني بالشام

وفي هذه السنة ظهر بالشأم السفياني علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، فدعا إلى نفسه؛ وذلك في ذي الحجة منها، فطرد عنها سليمان بن أبى جعفر بعد حصره إياه بدمشق - وكان عامل محمد عليها - فلم يفلت منه إلا بعد اليأس، فوجه إليه محمد المخلوع الحسين بن علي بن ماهان، فلم ينفذ إليه؛ ولكنه لما صار إلى الرقة أقام بها.

طرد طاهر عمال الأمين عن قزوين وكور الجبال

وفي هذه السنة طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال.

ذكر الخبر عن سبب لك

ذكر علي بن عبد الله بن صالح أن طاهرًا لما توجه إلى عبد الرحمن الأبناوي بهمذان، تخوف أن يثب به كثير بن قادرة - وهو بقزوين عامل من عمال محمد - في جيش كثيف إن هو خلفه وراء طهره؛ فلما قرب طاهر من همذان أمر أصحابه بالنزول فنزلوا. ثم ركب في ألف فارس وألف راجل، ثم قصد كثير بن قادرة، فلما قرب منه هرب كثير وأصحابه. وأخلى قزوين، وجعل طاهر فيها جندًا كثيفًا، وولاها رجلًا من أصحابه، وأمر أن يحارب من أراد دخولها من أصحاب عبد الرحمن الأبناوي وغيرهم.

ذكر قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي

وفي هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي بأسداباذ.

ذكر الخبر عن مقتله

ذكر عبد الرحمن بن صالح أن محمدًا المخلوع لما وجه عبد الرحمن الأبناوي إلى همذان، أتبعه بابني الحرشي: عبد الله وأحمد، في خيل عظيمة من أهل بغداد، وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص، وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن، ويكونا مددًا له إن احتاج إلى عونهما. فلما خرج عبد الرحمن إلى طاهر في الأمان أقام عبد الرحمن يري طاهرًا وأصحابه أنه له مسالم، راض بعهودهم وأيمانهم؛ ثم اغترهم وهم آمنون. فركب في أصحابه، فلم يشعر طاهر وأصحابه حتى هجموا عليهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثبت لهم رجالة أصحاب طاهر بالسيوف والتراس والنشاب، وجثوا على الركب، فقاتلوه كأشد ما يكون من القتال، ودافعهم الرجال إلى أن أخذت الفرسان عدتها وأهبتها، وصدقوهم القتال، فاقتتلوا قتالًا منكرًا، حتى تقطعت السيوف، وتقصفت الرماح. ثم إن أصحاب عبد الرحمن هربوا، وترجل هو في ناس من أصحابه، فقاتل حتى قتل، فجعل أصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب؛ فإن القوم قد كلوا من القتال، وأتعبتهم الحرب، وليس بهم حراك ولا قوة على الطلب، فيقول: لا أرجع أبدًا، ولا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزمًا. وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي، فدخلهم الوهن والفشل، وامتلأت قلوبهم خوفًا ورعبًا فولوا منهزمين لا يلوون على شيء من غير أن يلقاهم أحد؛ حتى صاروا إلى بغداد، وأقبل طاهر وقد خلت له البلاد، يحوز بلدةً بلدةً، وكورةً كورةً؛ حتى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها شلاشان؛ فخندق بها، وحصن عسكره، وجمع إليه أصحابه. وقال رجل من الأبناء يرثي عبد الرحمن الأبناوي:

ألا إنما تبكي العيون لفارس ** نفى العار عنه بالمناصل والقنا

تجلى غبار الموت عن صحن وجهه ** وقد أحرز العليا من المجد واقتنى

فتى لا يبالي إن دنا من مروءةٍ ** أصاب مصون النفس أو ضيع الغنى

يقيم لأطراف الذوابل سوقها ** ولا يرهب الموت المتاح إذ ادنا

وكان العامل في هذه السنة على مكة والمدينة من قبل محمد بن هارون داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة وسنتين قبلها وذلك سنة ثلاث وتسعين ومائة، وأربع وتسعين ومائة.

وعلى الكوفة العباس بن موسى الهادي من قبل محمد.

وعلى البصرة منصور بن المهدي من قبل محمد.

وبخراسان المأمون، وببغداد أخوه محمد.

ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر توجيه الأمين الجيوش لحرب طاهر بن الحسين

فمما كان من ذلك حبس محمد بن هارون أسد بن يزيد بن مزيد، وتوجيهه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر.

ذكر الخبر عن سبب حبسه وتوجيهه من ذكرت

ذكر عبد الرحمن بن وثاب أن أسد بن يزيد بن مزيد حدثه، أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن الأبناوي. قال: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدًا في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها، واحمرت عيناه واشتد غضبه، وهو يقول: ينام نوم الظربان؛ وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه، يخاتل الرعاء والكلاب ترصده. لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة؛ قد ألهاه كأسه وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام توضع في هلاكه؛ قد شمر عبد الله له عن ساقه، وفوق له أصوب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متن الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف. ثم استرجع، وتمثل بشعر البعيث:

ومجدولة جدل العنان خريدة ** لها شعر جعد ووجه مقسم

وثغر نقي اللون عذب مذاقه ** تضيء لها الظلماء ساعة تبسم

وثديان كالحقين، والبطن ضامر ** خميص، وجهم ناره تتضرم

لهوت بها ليل التمام ابن خالدٍ ** وأنت بمرو الروذ غيظًا تجرم

أظل أناغيها وتحت ابن خالدٍ ** أمية نهد المركلين عثمثم

طواه طراد الخيل في كل غارة ** لها عارض فيه الأسنة ترزم

يقارع أتراك ابن خاقان ليلةً ** إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم

فيصبح من طول الطراد، وجسمه ** نحيل وأضحى في النعيم أصمصم

أباكرها صهباء كالمسك ريحها ** لها أرج في دنها حين ترشم

فشتان ما بيني وبين ابن خالد ** أمية في الرزق الذي الله قاسم

ثم التفت إلي فقال: يا أبا الحارث، أنا وإياك نجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا؛ وإنما نحن شعب من أصل؛ إن قوي قوينا؛ وإن ضعف ضعفنا؛ إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا؛ وقد أمكن مسامعه من أهل اللهو والجسارة، فهم يعدونه الظفر، ويمنونه عقب الأيام؛ والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل؛ وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه؛ فارس العرب وابن فارسها؛ قد فزع إليك في لقاء هذا الرجل وأطمعه فيما قبلك أمران؛ أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك، والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك؛ وقد أمرني إزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت؛ غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعجل المبادرة إلى عدوك؛ فإني أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح، ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة. فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين - أعزه الله - وطاعتك مقدم، ولكل ما أدخل الوهن والذل على عدوه وعدوك حريص؛ غير أن المحارب لا يعمل بالغرور، ولا يفتتح أمره بالتقصير والخلل؛ وإنما ملاك المحارب الجنود، وملاك الجنود المال؛ وقد ملأ أمير المؤمنين أعزه الله أيدي من شهد العسكر من جنوده، وتابع لهم الأرزاق والدارة والصلات والفوائد الجزيلة، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلعة إلى من خلفهم من إخوانهم لم أنتفع بهم في لقاء من أمامي، وقد فضل أهل السلم على أهل الحرب، وجاز بأهل الدعة منازل أهل النصب والمشقة؛ والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة، ويحمل معهم أرزاق سنة، ويخص من لا خاصة له منهم من أهل الغناء والبلاء، وأبدل من فيهم من الزمنى والضعفاء، وأحمل ألف رجل ممن معي على الخيل؛ ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. فقال: قد اشتططت؛ ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين. ثم ركب وركبت معه، فدخل قبلي على محمد، وأذن لي فدخلت، فما كان بيني وبينه إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي.

وذكر عن بعض خاصة محمد أن أسدًا قال لمحمد: ادفع إلي ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي؛ فإن أعطاني الطاعة، وألقى إلي بيده، وإلا عملت فيهما أمري. فقال: أنت أعرابي مجنون؛ أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وارفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط. وكان ببغداد ابنان لعبد الله المأمون، وهما مع أمهما أم عيسى ابنة موسى الهادي، نزولأ في قصر المأمون ببغداد؛ فلما ظفر المأمون ببغداد خرجا إليه مع أمهما إلى خراسان؛ فلم يزالا بها حتى قدموا بغداد، وهما اكبر ولده. وذكر عن زياد بن علي، قال: لما غضب محمد على أسد بن زيد، وأمر بحبسه، قال: هل في أهل بيت هذا من يقوم من مقامه؛ فإني أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم؟ قالوا: نعم؛ فيهم أحمد بن مزيد، وهو أحسنهم طريقة، وأصحهم نية في الطاعة، وله مع هذا بأس ونجده وبصر بسياسة الجنود ولقاء الحروب؛ فأنفذ إليه محمد بريدًا يأمره بالقدوم عليه؛ فذكر بكر بن أحمد، قال: كان أحمد متوجهًا إلى قرية تدعى إسحاقية، ومعه نفر من أهل بينه ومواليه وحشمه؛ فلما جاوز نهر أبان سمع صوت بريد في جوف الليل، فقال: إن هذا لعجيب، بريد في مثل هذه الساعة وفي مثل هذا الموضع! إن هذا الأمر لعجيب. ثم لم يلبث البريد أن وقف، ونادى الملاح: هل معك أحمد ابن مزيد؟ قال: نعم؛ فنزل فدفع إليه كتاب محمد، فقرأه ثم قال: إني قد بلغت ضيعتي؛ وإنما بيني وبينها ميل؛ فدعني أقعها وقعة فآمر فيها بما أريد ثم أغدو معك، فقال: لا، إن أمير المؤمنين أمرني ألا أنظرك ولا أرفهك؛ وأن أشخصك أي ساعة صادفتك فيها؛ من ليل أو نهار فانصرف معه حتى الكوفة، فأقام بها يومًا حتى تجمل وأخذ أهبة السفر، ثم مضى إلى محمد.

فذكر عن أحمد، قال: لما دخلت بغداد، بدأت بالفضل بن الربيع، فقلت: أسلم عليه، وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد؛ فلما أذن لي دخلت عليه؛ وإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة، وهو يريده على الشخوص إلى طاهر، وعبد الله يشتط عليه في طلب المال والإكثار من الرجال؛ فلما رآني رحب بي وأخذ بيدي، ورفعني حتى صيرني معه على صدر المجلس، وأقبل على عبد الله يداعبه ويمازحه، فتبسم في وجهه، ثم قال:

إنا وجدنا لكم إذ رث حبلكم ** من آل شيبان أما دونكم وأبا

الأكثرون إذا عد الحصى عددًا ** والأقربون إلينا منكم نسبا

فقال عبد الله: إنهم لكذلك؛ وإن منهم لسد الخلل ونكاء العدو، ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة. ثم أقبل على الفضل، فقال: إن أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحه والشدة على أهل المعصيه، والتقدم بالرأي، فاحب اصطناعك والتنويه باسمك، وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك. والتفت إلى خادمه، فقال: يا سراج؛ مر دوابي، فلم ألبث أن أسرج له، فمضى ومضيت معه، حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره، له ساج، فلم يزل يأمرني بالدنو حتى كدت ألاصقه، فقال: إنه قد كثر علي تخليط ابن أخيك وتنكره، وطال خلافه علي حتى أوحشني ذلك منه، وولد في قلبي التهمة له، وصيرني لسوء المذهب وخبث الطاعة إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أحب أن أكون أتناوله، وقد وصفت لي بخير، ونسبت إلى جميل فأحببت أن أرفع قدرك وأعلي منزلتك، وأقدمك على أهل بيتك، وأن أوليك جهاد هذه الفئة الباغية الناكثة، وأعرضك للأجر والثواب في قتالهم ولقائهم؛ فانظر كيف تكون، وصحح نيتك، وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك، وسره في عدوه ينعم سرورك وتشريفك. فقلت: سأبذل في طاعة أمير المؤمنين أعزه الله مهجتي، وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي، ورجاه من غنائي وكفايتي، إن شاء الله. فقال: يا فضل، قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب، وقال: أكمش على أمرك، وعجل المسير إليه. فخرجت فانتخبت الرجال واعترضت الدفاتر، فبلغت عدة من صححت اسمه عشرين ألف رجل. ثم توجهت بهم إلى حلوان.

وذكر أن أحمد بن مزيد لما أراد الشخوص دخل على محمد، فقال: أوصني أكرم الله أمير المؤمنين! فقال: أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي، فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلًا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفًا إلا بعد إعذار؛ ومهما قدرت باللين فلا تتعده إلى الخرق والشره، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي؛ ولا تستقها فيما تتخوف رجوعه علي، وكن لعبد الله أخًا مصافيًا، وقرينًا برًا، وأحسن مجامعته وصحبته ومعاشرته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك؛ ولتكن أيديكما واحدةً، وكلمتكما متفقة. ثم قال: سل حوائجك، وعجل السراح إلى عدوك. فدعا له أحمد، وقال: يا أمير المؤمنين، كثر لي الدعاء ولا تقبل في قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي لك، ولا تنقض علي ما استجمع من رأي، ومن علي بالصفح عن ابن أخي، قال: ذلك لك. ثم بعث إلى أسد فحل قيوده وخلى سبيله، فقال أبو الأسد الشيباني في ذلك يمدح أحمد ويذكر حاله ومنزلته:

ليهن أبو العباس رأي إمامه ** وما عنده منه القضا بمزيد

دعاه أمير المؤمنين إلى التي ** يقصر عنها ظل كل عميد

فبادرها بالرأي والحزم والحجى ** ورأي أبي العباس رأي سديد

نهضت بما أعيا الرجال بحمله ** وأنت بسعد حاضر وسعيد

رددت بها للرائدين أعزهم ** ومثلك والى طارفًا بتليد

كفى أسدًا ضيق الكبول وكربها ** وكان عليه عاطفًا كيزيد

وحصله فيها كليث غضنفر ** أبي أشبل عبل الذراع مديد

وذكر يزيد بن الحارث أن محمدًا وجه أحمد بن مزيد في عشرين ألف رجل من الأعراب، وعبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألف رجل من الأبناء، وأمرهما أن ينزلا حلوان، ويدفعا طاهرًا وأصحابه عنها؛ وإن أقام طاهر بشلاشان أن يتوجها إليه في أصحابهما حتى يدفعاه، وينصبا له الحرب، وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على الطاعة؛ فتوجها حتى نزلا قريبًا من حلوان بموضع يقال له خانقين، وأقام طاهر بموضعه، وخندق عليه وعلى أصحابه، ودس الجواسيس والعيون إلى عسكريهما؛ فكانوا يأتونهم بالأراجيف، ويخبرونهم أن محمدًا قد وضع العطاء لأصحابه؛ وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا؛ ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضًا، فأخلوا خانقين، ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرًا، ويكون بينهم وبينه قتال. وتقدم طاهر حتى نزل حلوان؛ فلما دخل طاهر حلوان لم يلبث إلا يسيرًا حتى أتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل، يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه، والتوجه إلى الأهواز، فسلم ذلك إليه، وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها، وتوجه طاهر إلى الأهواز.

ذكر رفع منزلة الفضل بن سهل عند المأمون

وفي هذه السنة رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل وقدره.

ذكر الخبر عما كان من المأمون إليه في ذلك

ذكر أن المأمون لما انتهى إليه الخبر عن قتل طاهر علي بن عيسى واستيلائه على عسكره وتسميته إياه أمير المؤمنين؛ وسلم الفضل بن سهل عليه بذلك، وصح عنده الخبر عن قتل طاهر عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي وغلبته على عسكره، دعا الفضل بن سهل، فعقد له في رجب من هذه السنة على المشرق؛ من جبل همذان إلى جبل سقينان والتبت طولًا، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الديلم وجرجان عرضًا؛ وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم، وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين، وأعطاه علمًا، وسماه ذا الرياستين؛ فذكر بعضهم أنه رأى سيفه عند الحسن بن سهل مكتوبا عليه بالفضة من جانب: رياسة الحرب، ومن الجانب الآخر: رياسة التدبير. فحمل اللواء علي بن هاشم، وحمل العلم نعيم بن حازم، وولى الحسن بن سهل ديوان الخراج.

ذكر خبر ولاية عبد الملك بن صالح على الشام

وفي هذه السنة ولى محمد بن هارون عبد الملك بن صالح بن علي على الشأم وأمره بالخروج إليها، وفرض له من رجالها جنودًا يقاتل بها طاهرًا وهرثمة.

ذكر الخبر عن سبب توليته ذلك

ذكر داود بن سليمان أن طاهرًا لما قوي واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد - وكان عبد الملك محبوسًا في حبس الرشيد؛ فلما توفي الرشيد، وأفضى الأمر إلى محمد أمر بتخلية سبيله؛ وذلك في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين ومائة، فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته - فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك؛ فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم؛ وليس تملك الجنود بالإمساك، ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسرف؛ ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم، ونهكتهم وأضعفتم الحرب والوقائع؛ وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولًا عن لقائهم ومناهضتهم؛ فإن سيرنهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم، وأهل الشأم قوم قد ضرستهم الحروب، وأدبتهم الشدائد، وجلهم منقاد إلي، مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندًا تعظم نكايتهم في عدوه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته. فقال محمد: فإني موليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعدة، فعجل الشخوص إلى ما هنالك؛ فاعمل عملًا يظهر أثره، ويحمد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله. فولاه الشام والجزيرة، واستحثه بالخروج استحثاثًا شديدًا، ووجه معه كنفًا من الجند والأبناء.

وفي هذه السنة سار عبد الملك بن صالح إلى الشأم، فلما بلغ الرقة أقام بها، وأنفذ رسله وكتبه إلى رؤساء أجناد أهل الشأم بجمع الرجال بها، وإمداد محمد بهم لحرب طاهر.

ذكر الخبر عن ذلك

قد تقدم ذكري عن سبب توجيه محمد إياه لذلك؛ فذكر داود بن سليمان أنه لما قدم عبد الملك الرقة، أنفذ رسله، وكتب إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته، فقدموا عليه رئيسًا بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة؛ فكان لا يدخل عليه أحد إلى أجازه وخلع عليه وحمله؛ فأتاه أهل الشأم: الزواقيل والأعراب من كل فج، واجتمعوا عنده حتى كثروا. ثم إن بعض جند أهل خراسان نظر إلى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل فتعلق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا؛ واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فتلاحموا، وأعان كل فريق منهم صاحبه، وتلاطموا وتضاربوا بالأيدي، ومشى بعض الأبناء إلى بعض، فاجتمعوا إلى محمد بن أبي خالد، فقالوا: أنت شيخنا وفارسنا؛ وقد ركب الزواقيل منا ما قد بلغك؛ فاجمع أمرنا وإلا استذلونا، وطمعوا فينا، وركبوا بمثل هذا في كل يوم. فقال: ما كنت لأدخل في شغب، ولا أشاهدكم على مثل الحالة. فاستعد الأبناء وتهيئوا، وأتوا الزواقيل وهم غارون فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذبحوهم في رحالهم، وتنادى الزواقيل، فركبوا خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، ونشبت الحرب بينهم. وبلغ ذلك عبد الملك بن صالح فوجه إليهم رسولًا يأمرهم بالكف ووضع السلاح، فرموه بالحجارة، واقتتلوا يومهم ذلك قتالًا شديدًا، وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل؛ فأخبر عبد الملك بكثرة من قتل - وكان مريضًا مدنفًا - فضرب بيده على يد، ثم قال: وا ذلاه! تستضام العرب في دارها ومحلها وبلادها! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء، وتفاقم الأمر فيما بينهم، وقام بأمر الأبناء الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وأصبح الزواقيل؛ فاجتمعوا بالرقة، واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة؛ وقام رجل من أهل حم، فقال: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل؛ إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة! ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم. إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم. النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل! وقال رجل من كلب في غرز ناقته، ثم قال:

شؤبوب حرب خاب من يصلاها ** قد شرعت فرسانها قناها

فأورد الله لظى لظاها ** إن غمرت كلب بها لحاها

ثم قال: يا معشر كلب؛ إنها الراية السوداء؛ والله ما ولت ولا عدلت ولا ذل ناصرها، ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم. اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضرم. شأمكم شأمكم، داركم داركم! الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري. ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي. ثم سار وسار معه عامة أهل الشأم، وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان التجار جمعوا من الأعلاف بالنار، وأقام الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان مع جماعة أهل خراسان والأبناء على باب الرافقة تخوفًا لطوق بن مالك. فأتى طوقًا رجل من بني تغلب، فقال: ألا ترى ما لقيت العرب من هؤلاء! انهض فإن مثلك لا يقعد عن هذا الأمر، قد مد أهل الجزيرة أعينهم إليك، وأملوا عونك ونصرك. فقال: والله ما أنا من قيسها ولا يمنها، ولا كنت في أول هذا الأمر لأشهد آخره؛ وإني لأشهد إبقاء على قومي، وأنظر لعشيرتي من أن أعرضهم للهلاك بسبب هؤلاء السفهاء من الجند وجهال قيس، وما أرى السلامة إلا في الإعتزال. وأقبل نصر بن شبث في الزواقيل على فرس كميت أغر، عليه دراعة سوداء قد ربطها خلف ظهره، وفي يده رمح وترس، وهو يقول:

فرسان قيس اصمدن للموت ** لاترهبني عن لقاء الفوت

دع التمني بعسى وليت

ثم حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالًا شديدًا، فصبر لهم الجند، وكثر القتل في الزواقيل، وحملت الأبناء حملات، في كلها يقتلون ويجرحون؛ وكان أكثر القتل والبلاء في تلك الدفعة لكثير بن قادرة وأبي الفيل وداود بن موسى بن عيسى الخراساني، وانهزمت الزواقيل، وكان على حاميتهم يومئذ نصر بن شبث وعمرو السلمي والعباس بن زفر.

وتوفي في هذه السنة عبد الملك بن صالح.

ذكر خلع الأمين والمبايعة للمأمون

وفي هذه السنة خلع محمد بن هارون، وأخذت عليه البيعة لأخيه عبد الله المأمون ببغداد وفيها حبس محمد بن هارون في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر.

ذكر الخبر عن سبب خلعه

ذكر عن داود بن سليمان أن عبد الملك بن صالح لما توفي بالرقة، نادى الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان في الجند، فصير الرجالة في السفن والفرسان على الظهر ووصلهم، وقوى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة؛ وذلك في سنة ست وتسعين ومائة.

وذكر أحمد بن عبد الله، أنه كان فيمن شهد مع عبد الملك الجزيرة لما انصرف بهم الحسين بن علي، وذلك في رجب من سنة ست وتسعين ومائة. وذكر أنه تلقاه الأبناء وأهل بغداد بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة؛ فلما كان في جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه؛ فقال للرسول: والله ما أنا بمغن ولا بمسامر ولا مضحك؛ ولا وليت له عملًا، ولا جرى له على يدي مال؛ فلأي شيء يريدني في هذه الساعة! انصرف؛ فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.

فانصرف الرسول، فلما أصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبد الله بن علي وباب سوق يحيى وقال: يا معشر الأبناء؛ إن خلافة الله لا تجاور بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبر والتكبر؛ وإن محمدًا يريد أن يوتغ أديانكم، وينكث بيعتكم، ويفرق جمعكم؛ وينقل عزكم إلى غيركم؛ وهو صاحب الزواقيل بالأمس، وبالله إن طالت به مدة وراجعه من أمره قوة، ليرجعن وبال ذلك عليكم؛ وليعرفن ضرره وكروهه في دولتكم ودعوتكم؛ فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم، فوالله لا ينصره منكم ناصر إلا خذل، ولا يمنعه مانع إلا قتل؛ وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بأيمانه. ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا؛ حتى صاروا إلى سكة باب خراسان؛ واجتمعت الحربية وأهل الأرباض مما يلي باب الشأم، وباب الأنبار وشط الصراة مما يلي باب الكوفة.

وتسرعت خيول من خيول محمد من الأعراب وغيرهم إلى الحسين بن علي؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا مليًا من النهار، وأمر الحسين من كان معه من قواده وخاصة أصحابه بالنزول فنزلوا إليهم بالسيوف والرماح، وصدقوهم القتال، وكشفوهم حتى تفرقوا عن باب الخلد.

قال: فخلع الحسين بن علي محمدًا يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الثلاثاء، فوثب بعد الوقعة التي كانت بين الحسين وبين أصحاب محمد العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي على محمد، ودخل عليه فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر، فحبسه هناك إلى صلاة الظهر، ثم وثب العباس بن موسى بن عيسى على أم جعفر فأمرها بالخروج من قصرها إلى مدينة أبي جعفر، فأبت، فدعا لها بكرسي، وأمرها بالجلوس فيه، فقنعها بالسوط وساءها، وأغلظ لها القول، فجلست فيه، ثم أمر بها فأدخلت المدينة مع ابنها وولدها. فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد بباب الشأم، فقال: أيها الناس؛ والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا! ما هو بأكبرنا سنًا، ولا أكرمنا حسبًا، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنية، ولا يقاد بالمخادعة؛ وإني أولكم نقض عهده، وأظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله؛ فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي.

وقام أسد الحربي، فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه.

فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس، فصاح بالناس: اسكتوا، فسكتوا، فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد بقطعٍ منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قال: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قال: فهل عزل أحدًا من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك! قال:

فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف؛ انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.

ونهضت الحربية، ونهض معهم عامة أهل الأرباض في المشهرات والعدة الحسنة. فقاتلوا الحسين بن علي وأصحابه قتالًا شديدًا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسر الحسين بن علي، ودخل أسد الحربي على محمد، فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة؛ فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الحرب والجند، ولا عليهم سلاح؛ فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم ووعدهم ومناهم، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحًا كثيرًا ومتاعًا من خز وغير ذلك؛ وأتي بالحسين بن علي، فلامه محمد على خلافه وقال له: ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل وأملأ يده من الأموال؛ وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد! قال: بلى، قال: فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس علي، وتندبهم إلى قتالي! قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله. قال: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك. ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب، وأمره بالمسير إلى حلوان، وولاه ما وراء بابه.

وذكر عن عثمان بن سعيد الطائي، قال: كانت لي من الحسين بن علي ناحية خاصة، فلما رضي عنه محمد، ورد إليه قيادته ومنزلته، عبرت إليه مع المهنئين، فوجدته واقفًا بباب الجسر، فهنأته ودعوت له، ثم قلت له: إنك قد أصبحت سيد العسكرين، وثقة أمير المؤمنين، فاشكر العفو والإقالة، ثم داعبته ومازحته، ثم أنشأت أقول:

هم قتلوه حين تم تمامه ** وصار معزًا بالندى والتمجد

أغر كأن البدر سنة وجهه ** إذا جاء يمشي في الحديد المسرد

إذا جشأت نفس الجبان وهللت ** مضى قدمًا بالمشرفي المهند

حليم لدى النادي جهول لدى الوغى ** عكور على الأعداء قليل التزيد

فثأرك أدركه من القوم إنهم ** رموك على عمدٍ بشنعا مزند

فضحك، ثم قال: ما أحرصني على ذاك إن ساعدني عمر، وأيدت بفتح ونصر. ثم وقف على باب الجسر، وهرب في نفر من خدمه ومواليه، فنادى محمد في الناس، فركبوا في طلبه، فأدركوه بمسجد كوثر، فلما بصر بالخيل نزل وقيد فرسه، وصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في محلها يهزمهم ويقتل فيهم. ثم إن فرسه عثر به وسقط، وابتدره الناس طعنًا وضربًا وأخذوا رأسه، وفي ذلك يقول علي بن جبلة - وقيل الخريمي:

ألا قاتل الله الألى كفروا به ** وفازوا برأس الهرثمي حسين

لقد أوردوا منه قناةً صليبةً ** بشطب يماني ورمح رديني

رجا في خلاف الحق عزًا وإمرةً ** فألبسه التأميل خف حنين

وقيل: إن محمدًا لما صفح عن الحسين استوزره ودفع إليه خاتمه.

وقتل الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان للنصف من رجب من هذه السنة في مسجد كوثر، وهو على فرسخ من بغداد في طريق النهرين.

وجدد البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة خلت من رجب من هذه السنة، وكان حبس الحسين محمدًا في قصر أبي جعفر يومين.

وفي الليلة التي قتل فيها حسين بن علي هرب الفضل بن الربيع.

وفي هذه السنة توجه طاهر بن الحسين حين قدم عليه هرثمة من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله عليها محمد بن يزيد المهلبي بعد تقديم طاهر جيوشًا أمامه إليها قبل انفصاله إليه لحربه.

ذكر الخبر عن مقتل محمد بن يزيد المهلبي ودخول طاهر إلى الأهواز

ذكر عن يزيد بن الحارث، قال:

لما نزل طاهر شلاشان، وجه الحسين بن عمر الرستمي إلى الأهواز، وأمره أن يسير سيرًا مقتصدًا، ولا يسير إلا بطلائع، ولا ينزل إلا في موضع حصين يأمن فيه على أصحابه. فلما توجه أتت طاهرًا عيونه، فأخبروه أن محمد بن يزيد المهلبي - وكان عاملًا لمحمد على الأهواز - قد توجه في جمع عظيم يريد نزول جندي سابور - وهو حد ما بين الأهواز والجبل - ليحمي الأهواز، ويمنع من أراد دخولها من أصحاب طاهر؛ وإنه في عدة وقوة، فدعا طاهر عدة من أصحابه؛ منهم محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخاراخذاه والحارث بن هشام وداود بن موسى وهادي بن حفص، وأمرهم أن يكمشوا السير حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الحسين بن عمر الرستمي، فإن احتاج إلى إمداد أمدوه، أو لقيه جيش كانوا ظهرًا له. فوجه تلك الجيوش، فلم يلقهم أحد حتى شارفوا الأهواز.

وبلغ محمد بن يزيد خبرهم، فعرض أصحابه، وقوى ضعفاءهم، وحمل الرجالة على البغال، وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم، وصير العمران والماء وراء ظهره، وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه، فأمدهم بقريش بن شبل، وتوجه هو بنفسه حتى كان قريبًا منهم، ووجه الحسن بن علي المأموني، وأمره بمضامة قريش بن شبل والحسين بن عمر الرستمي، وسارت تلك العساكر حتى قاربوا محمد بن يزيد بعسكر مكرم؛ فجمع أصحابه فقال: ما ترون؟ أطال القوم القتال وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم علي؟ فوالله ما أرى أن أرجع إلى أمير المؤمنين أبدًا، ولا انصرف عن الأهواز، فقالوا له: الرأي أن ترجع إلى الأهواز؛ فتتحصن بها وتغادي طاهرًا القتال وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفروض، وتستجيش من قدرت عليه وتابعك من قومك. فقبل ما أشاروا عليه، وتابعه قومه، فرجع حتى صار بسوق الأهواز. وأمر طاهر قريش بن شبل أن يتبعه، وأن يعاجله قبل أن يتحصن بسوق الأهواز، وأمر الحسن بن علي المأموني والحسين بن عمر الرستمي أن يسيرا بعقبه؛ فإن احتاج إلى معونتهما أعاناه. ومضى قريش بن شبل يقفو محمد بن يزيد، كلما ارتحل محمد بن يزيد من قرية نزلها قريش؛ حتى صاروا إلى سوق الأهواز.

وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها، واستند إلى العمران، فصيره وراء ظهره، وعبى أصحابه، وعزم على مواقعتهم؛ ودعا بالأموال فصبت بين يديه، وقال لأصحابه: من أحب منكم الجائزة والمنزلة فليعرفني أثره. وأقبل قريش بن شبل حتى صار قريبًا منه، وقال لأصحابه: الزموا مواضعكم ومصافكم، وليكن أكثر ما قاتلتموهم وأنتم مريحون، فقاتلوهم بنشاط وقوة؛ فلم يبق أحد من أصحابه إلا جمع بين يديه ما قدر من الحجارة، فلم يعبر إليهم محمد بن يزيد، حتى أوهنوهم بالحجارة، وجرحوهم جراحاتٍ كثيرة بالنشاب، وعبرت طائفة من أصحاب محمد بن يزيد، فأمر قريش أصحابه أن ينزلوا إليهم فنزلوا إليهم، فقاتلوهم قتالًا شديدًا حتى رجعوا، وتراد الناس بعضهم إلى بعض. والتفت محمد بن يزيد إلى نفر كانوا معه من مواليه؛ فقال: ما رأيكم؟ قالوا: في ماذا؟ قال: إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن من خذلانهم، ولا آمل رجعته، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله ما أحب، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف؛ فوالله لأن تبقوا أحب إلي من أن تعطبوا وتهلكوا. فقالوا: والله ما أنصفناك، إذًا تكون أعتقتنا من الرق ورفعتنا من الضعة، ثم أغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال؛ بل نتقدم أمامك ونموت تحت ركابك؛ فلعن الله الدنيا والعيش بعدك. ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فأكثروا فيهم القتل، وشدخوهم بالحجارة وغير ذلك؛ وانتهى بعض أصحاب طاهر إلى محمد بن يزيد، فطعنه بالرمح فصرعه؛ وتبادروا إليه بالضرب والطعن حتى قتلوه؛ فقال بعض أهل البصرة يرثيه، ويذكر مقتله:

من ذاق طعم الرقاد من فرحٍ ** فإنني قد أضر بي سهري

ولي فتى الرشد فافتقدت به ** قلبي وسمعي وغرني بصري

كان غياثًا لدى المحول فقد ** ولى غمام الربيع والمطر

وفي العييني للإمام ولم ** يرهبه وقع المشطب الذكر

ساور ريب المنون داهيةً ** لولا خضوع العباد للقدر

فامض حميدًا فكل ذي أجلٍ ** يسعى إلى ما سعيت بالأثر

وقال بعض المهالبة؛ وجرح في تلك الوقعة جراحات كثيرة وقطعت يده:

فما لمت نفسي غير أني لم أطق ** حراكًا وأني كنت بالضرب مثخنا

ولو سلمت كفاي قاتلت دونه ** وضاربت عنه الطاهري الملعنا

فتىً لا يرى أن يخذل السيف في الوغى ** إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتنى

وذكر عن الهيثم بن عدي، قال: لما دخل ابن أبي عيينة على طاهر فأنشده قوله:

من آنسته البلاد لم يرم ** منها ومن أوحشته لم يقم

حتى انتهى إلى قوله:

ما ساء ظني إلا لواحدةٍ ** في الصدر محصورةٍ عن الكلم

فتبسم طاهر، ثم قال: أما والله لقد ساءني ما ساءك، وآلمني ما آلمك؛ ولقد كنت كارهًا لما كان، غير أن الحتف واقع، والمنايا نازلة، ولا بد من قطع الأواصر والتنكر للأقارب في تأكيد الخلافة، والقيام بحق الطاعة؛ فظننا أنه يريد محمد بن يزيد بن حاتم.

وذكر عمر بن أسد، قال: أقام طاهر بالأهواز بعد قتله محمد بن يزيد بن حاتم، وأنفذ عماله في كورها، وولى على اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز، ومما يلي عمل البصرة، ثم أخذ على طريق البر متوجهًا إلى واسط، وبها يومئذ السندي بن يحيى بن الحرشي والهيثم خليفة خزيمة بن خازم؛ فجعلت المسالح والعمال تتقوض، مسلحة مسلحة، وعاملًا عاملًا، كلما قرب طاهر منهم تركوا أعمالهم وهربوا منها؛ حتى قرب من واسط، فنادى السندي بن يحيى والهيثم بن شعبة في أصحابهما، فجمعاهم إليهما؛ وهما بالقتال، وأمر الهيثم بن شعبة صاحب مراكبه أن يسرج له دوابه، فقرب إليه فرسًا، فأقبل يقسم طرفه بينها، واستقبلته عدة، فرأى المراكبي التغير والفزع في وجهه فقال: إن أردت الهرب فعليك بها؛ فإنها أبسط في الركض، وأقوى على السفر. فضحك ثم قال: قرب فرس الهرب؛ فإنه طاهر، ولا عار علينا في الهرب منه، فتركا واسطًا، وهربا عنها. ودخل طاهر واسطًا، وتخوف إن سبق الهيثم والسندي إلى فم الصلح فيتحصنا بها. فوجه محمد بن طالوت، وأمره أن يبادرهما إلى فم الصلح، ويمنعهما من دخولها إن أرادا ذلك، ووجه قائدًا من قواده يقال له أحمد بن المهلب نحو الكوفة. وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي؛ فلما بلغ العباس خبر أحمد بن المهلب خلع محمدًا، وكتب بطاعته إلى طاهر وببيعته للمأمون؛ ونزلت خيل طاهر فم النيل، وغلب على ما بين واسط والكوفة؛ وكتب المنصور بن المهدي - وكان عاملًا لمحمد على البصرة - إلى طاهر بطاعته، ورحل طاهر حتى نزل طرنايا؛ فأقام بها يومين فلم يرها موضعًا للعسكر، فأمر بجسر فعقد وخندق له، وأنفذ كتبه بالتولية إلى العمال.

وكانت بيعة المنصور بن المهدي بالبصرة وبيعة العباس بن موسى الهادي بالكوفة، وبيعة المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل للمأمون، وخلعهم محمدًا في رجب من سنة ست وتسعين ومائة.

وقيل: إن الذي كان على الكوفة حين نزل طاهر من قبل محمد الفضل بن العباس بن موسى بن عيسى.

ولما كتب من ذكرت إلى طاهر ببيعتهم للمأمون وخلعه محمدًا، أقرهم طاهر على أعمالهم، وولى داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي الهاشمي مكة والمدينة، ويزيد بن جرير البجلي اليمن، ووجه الحارث بن هشام وداود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة.

ذكر خبر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر

وفي هذه السنة أخذ طاهر بن الحسين من أصحاب محمد المدائن؛ ثم صار منها إلى صرصر، فعقد جسرًا، ومضى إلى صرصر.

ذكر الخبر عن سبب دخوله المدائن ومصيره إلى صرصر

ذكر أن طاهرًا لما وجه إلى قصر ابن هبيرة الحارث بن هشام وداود بن موسى، وبلغ محمدًا خبر عامله بالكوفة وخلعه إياه وبيعته للمأمون، وجه محمد بن سليمان القائد ومحمد بن حماد البربري وأمرهما أن يبيتا الحارث وداود بالقصر، فقيل لهما: إن سلكتما الطريق الأعظم لم يخف ذلك عليهما؛ ولكن اختصر الطريق إلى فم الجامع، فإنه موضع سوق ومعسكر، فأنزلاه وبيتاهما إن أردتما ذلك وقد قربتما منهما، فوجه الرجال من الياسرية إلى فم الجامع. وبلغ الحارث وداود الخبر، فكبا في خيل مجرد، وتهيأ للرجالة، فعبرا من مخاضة في سوراء إليهم؛ وقد نزلوا إلى جنبها، فأوقعا بهم وقعة شديدة. ووجه الطاهر محمد بن زياد ونصير بن الخطاب مددًا للحارث وداود، فاجتمعت العساكر بالجامع، وساروا حتى لقوا محمد بن سليمان ومحمد بن حماد فيما بين نهر درقيط والجامع، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وانهزم أهل بغداد، وهرب محمد بن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي، وعبر الفرات. وأخذ على طريق البرية إلى الأنبار، ورجع محمد بن حماد إلى بغداد، وقال أبو يعقوب الخريمي في ذلك:

هما عدوا بالنكث كي يصدعا به ** صفا الحق فانفضا بجمع مبدد

وأفلتنا ابن البربري مضمر ** من الخيل يسمو للجياد ويهتدي

وذكر يزيد بن الحارث، أن محمد بن حماد البربري لما دخل بغداد، وجه محمد المخلوع الفضل بن موسى بن عيسى الهاشمي إلى الكوفة، وولاه عليها، وضم إليه أبا السلاسل وإياس الحرابي وجمهورًا النجاري؛ وأمره بسرعة السير؛ فتوجه الفضل؛ فلما عبر نهر عيسى عثر به فرسه، فتحول منه إلى غيره وتطير، وقال: اللهم إني أسألك بركة هذا الوجه. وبلغ طاهر الخبر، فوجه محمد بن العلاء، وكتب إلى الحارث بن هشام وداود بن موسى بالطاعة له، فلقي محمد بن العلاء الفضل بقرية الأعراب، فبعث إليه الفضل: إني سامع مطيع لطاهر؛ وإنما كان مخرجي بالكيد مني لمحمد؛ فخل لي الطريق حتى أصير إليه، فقال له محمد: لست أعرف ما تقول ولا أقبله ولا أنكره؛ فإن أردت الأمير طاهرًا فارجع وراءك؛ فخذ أسهل الطريق وأقصدها، فرجع وقال محمد لأصحابه: كونوا على حذر؛ فإني لست آمن مكر هذا؛ فلم يلبث أن كبر وهو يرى أن محمد بن العلاء قد أمنه، فوجده على عدة وأهبة؛ واقتتلوا كأشد ما يكون من القتال، وكبا بالفضل فرسه؛ فقاتل عنه أبو السلاسل حتى ركب وقال: أذكر هذا الموقف لأمير المؤمنين. وحمل أصحاب محمد بن العلاء على أصحاب الفضل فهزموه، ولم يزالوا يقتلونهم إلى كوثي، وأسر في تلك الوقعة إسماعيل بن محمد القرشي وجمهور النجاري، وتوجه طاهر إلى المدائن، وفيها جند كثير من خيول محمد؛ عليهم البرمكي قد تحصن بها، والمدد يأتيه في كل يوم. والصلات والخلع من قبل محمد. فلما قرب طاهر من المدائن - وكان منها على رأس فرسخين - نزل فصلى ركعتين، وسبح فأكثر التسبيح، فقال: اللهم إنا نسألك نصرًا كنصرك المسلمين يوم المدائن. ووجه الحسن بن علي المأموني وقريش بن شبل، ووجه الهادي بن حفص على مقدمته وسار. فلما سمع أصحاب البرمكي صوت طبوله أسرجوا الدواب، وأخذوا في تعبيتهم، وجعل من في أوائل الناس ينضم إلى أواخرهم، وأخذ البرمكي في تسوية الصفوف؛ فكلما سوى صفًا انتقض واضطرب عليه أمرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان؛ ثم التفت إلى صاحب ساقته، فقال: خل سبيل الناس؛ فإني أرى جندًا لا خير عندهم؛ فركب بعضهم بعضًا نحو بغداد، فنزل طاهر المدائن، وقدم منها قريش بن شبل والعباس بن بخاراخذاه إلى الدرزيجان، وأحمد بن سعيد الحرشي ونصر بن منصور بن نصر بن مالك معسكران بنهر ديائي، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداد، وتقدم طاهر حتى صار إلى الدرزيجان حيال أحمد ونصر بن المنصور، فسير إليهما الرجال، فلم يجر بينهما كثير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر ذات اليسار إلى نهر صرصر، فعقد بها جسرًا ونزلها.

ذكر خبر خلع داود بن عيسى الأمين

وفي هذه السنة خلع داود بن عيسى عامل مكة والمدينة محمدًا - وهو عامله يومئذ عليها - وبايع المأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس له؛ وكتب بذلك إلى طاهر والمأمون؛ ثم خرج بنفسه إلى المأمون.

ذكر الخبر عن ذلك وكيف جرى الأمر فيه

ذكر أن الأمين لما أفضت الخلافة إليه بعث إلى مكة والمدينة داود بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وعزل عامل الرشيد على مكة؛ وكان عامله عليها محمد بن عبد الرحمن بن محمد المخزومي، وكان إليه الصلاة بها وأحداثها القضاء بين أهلها؛ فعزل محمد عن ذلك كله بداود بن عيسى؛ سوى القضاء فإنه أقره على القضاء. فأقام داود واليًا على مكة والمدينة لمحمد، وأقام للناس أيضًا الحج سنة ثلاث وأربع وخمس وتسعين ومائة، فلما دخلت سنة ست وتسعين ومائة بلغه خلع عبد الله المأمون أخاه، وما كان فعل طاهر بقواد محمد، وقد كان محمد كتب إلى داود بن عيسى يأمره بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث محمد إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود - وكان داود أحدهم - فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام حين بايعنا لابنيه؛ ولنكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغي عليه على الباغي، ومع المغدور به على الغادر؛ فقد رأينا ورأيتم أن محمدا قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن، وخلعهما وبايع لابنه الطفل؛ رضيع صغير لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيًا ظالمًا، فحرقهما بالنار. وقد رأيت خلعه، وأن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة؛ إذ كان مظلومًا مبغيًا عليه. فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك؛ فوعدهم صلاة الظهيرة؛ وأرسل في فجاج مكة صائح يصيح: الصلاة جامعة! فلما جاء وقت صلاة الظهر - وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة - خرج داود بن عيسى، فصلى بالناس صلاة الظهر، وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعد فجلس عليه، وأمر بوجوه الناس وأشرافهم فقربوا من المنبر؛ وكان داود خطيبًا فصيحًا جهير الصوت؛ فلما اجتمع الناس قام خطيبًا، فقال: الحمد لله مالك الملك؛ يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين. أما بعد يا أهل مكة؛ فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم نفذ وفد الله، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون رحمة الله عليه وصلاته حين بايع لابنيه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق لتنصرن المظلوم منهما على الظالم، والمبغي عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر؛ ألا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام؛ وقد حل لنا ولكم خلعه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه المغدور به. ألا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي - وخلع قلنسوته عن رأسه فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برود حبرة مسلسلة حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها - ثم قال: قد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، ألا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم.

فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر، رجل فرجل، فبايعه لعبد الله المأمون بالخلافة، وخلع محمدًا، ثم نزل عن المنبر، وحانت صلاة العصر، فصلى بالناس، ثم جلس في ناحية المسجد، وجعل الناس يبايعونه جماعة بعد جماعة؛ يقرأ عليهم كتاب البيعة، ويصافحونه على كفه، ففعل ذلك أيامًا.

وكتب إلى ابنه سليمان بن داود بن عيسى وهو خليفته على المدينة؛ يأمره أن يفعل بأهل المدينة مثل ما فعل هو بأهل مكة؛ من خلع محمد والبيعة لعبد الله المأمون. فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود وهو بمكة، رحل من فوره بنفسه وجماعة من ولده يريد المأمون بمرو على طريق البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان؛ حتى صار إلى المأمون بمرو، فأعلمه ببيعته وخلعه محمدًا ومسارعة أهل مكة وأهل المدينة إلى ذلك؛ فسر بذلك المأمون، وتيمن ببركة مكة والمدينة؛ إذ كانوا أول من بايعه، وكتب إليهم كتابًا لينًا لطيفًا يعدهم فيه الخير، ويبسط أملهم، وأمر أن يكتب لداود عهد على مكة والمدينة وأعمالها من الصلاة والمعاون والجباية، وزيد له ولاية عك، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم، وخرج داود بن عيسى مسرعًا مغذًا مبادرًا لإدراك الحج، ومعه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وقد عقد المأمون للعباس بن موسى بن عيسى على ولاية الموسم، فسار هو وعمه داود حتى نزلا بغداد على طاهر بن الحسين، فأكرمهما وقربهما، وأحسن معونتهما، ووجه معهما يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وقد عقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلًا كثيفة، وضمن لهم يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك أهل اليمن وأشرافهم؛ ليخلعوا محمدًا ويبايعوا عبد الله المأمون.

فساروا جميعًا حتى دخلوا مكة. وحضر الحج، فحج بأهل الموسم العباس بن موسى بن عيسى؛ فلما صدروا عن الحج انصرف العباس حتى أتى طاهر بن الحسين - وهو على حصار محمد - وأقام داود بن عيسى على عمله بمكة والمدينة؛ ومضى يزيد بن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى خلع محمد وبيعة عبد الله المأمون، وقرأ عليهم كتابًا من طاهر بن الحسين يعدهم العدل والإنصاف، ويرغبهم في طاعة المأمون، ويعلمهم ما بسط المأمون من العدل في رعيته؛ فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون، واستبشروا بذلك، وبايعوا للمأمون، وخلعوا محمدًا، فسار فيهم يزيد بن جرير بن يزيد بأحسن سيرة، وأظهر عدلًا وإنصافًا، وكتب بإجابتهم وبيعتهم إلى المأمون وإلى طاهر بن الحسين.

وفي هذه السنة عقد محمد في رجب وشعبان منها نحوًا من أربعمائة لواء لقواد شتى، وأمر على جميعهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين، فساروا فالتقوا بجللتا في رمضان على أميال من النهروان، فهزمهم هرثمة، وأسر علي بن محمد ين عيسى بن نهيك، وبعث به هرثمة إلى المأمون، وزحف هرثمة فنزل النهروان.

ذكر خبر شغب الجند على طاهر بن الحسين

وفي هذه السنة استأمن إلى محمد من طاهر جماعة كثيرة، وشغب الجند على طاهر، ففرق محمد فيمن صاروا إليه من أصحاب طاهر مالًا عظيمًا وقود رجالًا وغلف لحاهم بالغالية، فسموا بذلك قواد الغالية

ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل إليه الآمر فيه

ذكر عن يزيد بن الحارث، قال: أقام طاهر على نهر صرصر لما صار إليها، وشمر في محاربة محمد وأهل بغداد، فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، فاشتد على أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال والكسا، فخرج من عسكره نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان ومن التف إليهم، فسر بهم محمد، ووعدهم ومناهم، وأثبت أسماءهم في الثمانين. قال: فمكثوا بذلك أشهرًا، وقود جماعة من الحربية وغيرهم ممن تعرض لذلك وطلبه، وعقد لهم، ووجههم إلى دسكرة الملك والنهروان، ووجه إليهم حبيب بن جهم النمري الأعرابي في أصحابه؛ فلم يكن بينهم كثير قتال، وندب محمد قوادًا من قواد بغداد، فوجههم إلى الياسرية والكوثرية والسفينتين، وحمل إليهم الأطعمة، وقواهم بالأرزاق، وصيرهم ردءًا لمن خلفهم، وفرق الجواسيس في أصحاب طاهر، ودس إلى رؤساء الجند الكتب بالإطماع والترغيب، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى محمد، ومع كل عشرة أنفس منهم طبل، فأرعدوا وأبرقوا وأجلبوا، ودنوا حتى أشرفوا على نهر صرصر، فعبى طاهر أصحابه كراديس، ثم جعل يمر على كل كردوس منهم، فيقول: لا يغرنكم كثرة ما ترون، ولا يمنعكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع الصبر، ورب فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. ثم أمرهم بالتقدم، فتقدموا واضطربوا بالسيوف مليًا. ثم إن الله ضرب أكتاف أهل بغداد فولوا منهزمين، وأخلوا موضع عسكرهم، فانتهب أصحاب طاهر كل ما كان فيه من سلاح ومال. وبلغ الخبر محمدًا، فأمر بالعطاء فوضع، وأخرج خزائنه وذخائره، وفرق الصلات وجمع أهل الأرباض، واعترض الناس على عينه، فكان لا يرى أحدًا وسيمًا حسن الرواء إلا خلع عليه وقوده؛ وكان لا يقود أحدًا إلا غلفت لحيته بالغالية؛ وهم الذين يسمون قواد الغالية. قال: وفرق في قواده المحدثين لكل رجل منهم خمسمائة رجل وقارورة غالية، ولم يعط جند القواد وأصحابه شيئًا. وأتت عيون طاهر وجواسيسه طاهرًا بذلك؛ فراسلهم وكاتبهم، ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائة، فقال رجل من أبناء أهل بغداد في ذلك:

قل للأمين الله في نفسه ** ما شتت الجند سوى الغالية

وطاهر نفسي تقي طاهرًا ** برسله والعدة الكافية

أضحى زمام الملك في كفه ** مقاتلًا للفئة الباغية

يا ناكثًا أسلمه نكثه ** عيوبه من خبثه فاشيه

قد جاءك الليث بشداته ** مستكلبًا في أسد ضاريه

فاهرب ولا مهرب من مثله ** إلا إلى النار أو الهاويه

قال: فلما شغب الجند، وصعب الأمر على محمد شاور قواده، فقيل له: تدارك القوم، فتلاف أمرك؛ فإن بهم قوام ملكك؛ وهم بعد الله أزالوه عنك أيام الحسين، وهم ردوه عليك، وهم من قد عرفت نجدتهم وبأسهم. فلج في أمرهم وأمر قتالهم، فوجه إليهم التنوخي وغيره من المستأمنة والأجناد الذين كانوا معه، فعاجل القوم القتال وراسلهم طاهر وراسلوه؛ فأخذ رهائنهم على بذل الطاعة له، وكتب إليهم، فأعطاهم الأمان، وبذل لهم الأموال، ثم قدم فصار إلى البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فنزل البستان بقواده وأجناده وأصحابه، ونزل من لحق بطاهر من المستأمنة من قواد محمد وجنده في البستان وفي الأرباض، وألحقهم جميعًا بالثمانين في الأرزاق، وأضعف للقواد وأبناء القواد الخواص، وأجرى عليهم وعلى كثير من رجالهم الأموال، ونقب أهل السجون السجون وخرجوا منها؛ وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعار والشطار، فعز الفاجر، وذل المؤمن، واختل الصالح، وساءت حال الناس إلا من كان في عسكر طاهر لتفقده أمرهم، وأخذه على أيدي سفهائهم وفساقهم؛ واشتد في ذلك عليهم، وغادي القتال ورواحه، حتى تواكل الفريقان، وخربت الدار.

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي من قبل طاهر، ودعا للمأمون بالخلافة، وهو أول موسم دعي له فيه بالخلافة بمكة والمدينة.

ثم دخلت سنة يبع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ففي هذه السنة لحق القاسم بن هارون الرشيد ومنصور بن المهدي بالمأمون من العراق، فوجه المأمون القاسم إلى جرجان.

ذكر خبر حصار الأمين ببغداد

وفيها حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيب محمد بن هارون ببغداد.

ذكر الخبر عما آل إليه أمر حصارهم في هذه السنة وكيف كان الحصار فيها

ذكر محمد بن يزيد التميمي وغيره أن زهير بن المسيب الضبي نزل قصر رقة كلواذي، ونصب المجانيق والعرادات واحتفر الخنادق، وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالعرادات من أقبل وأدبر، ويعشر أموال التجار ويجبى السفن، وبلغ من الناس كل مبلغ؛ وبلغ أمره طاهرًا وأتاه الناس فشكوا إليه ما نزل بهم من زهير بن المسيب، وبلغ ذلك هرثمة، فأمده بالجند، وقد كان يؤخذ، فأمسك عنه الناس، فقال الشاعر من أهل الجانب الشرقي - لم يعرف اسمه - في زهير وقتله الناس بالمجانيق:

لا تقرب المنجنيق والحجرا ** فقد رأيت القتيل إذ قبرا

باكر كي لا يفوته خبر ** راح قتيلًا وخلف الخبرا

ماذا به كان من نشاط ومن ** صحة جسم به إذا ابتكرا

أراد ألا يقال كان له ** أمر فلم يدر من به أمرا

يا صاحب المنجنيق ما فعلت ** كفاك، لم تبقيا ولم تذرا

كان هواه سوى الذي قدرا ** هيهات لن يغلب الهوى القدرا

ونزل هرثمة نهر بين، وجعل عليه حائطًا وخندقًا، وأعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية، ونزل طاهر البستان بباب الأنبار، فذكر عن الحسين الخليع أنه قال: لما تولى طاهر البستان بباب الأنبار، دخل محمدًا أمر عظيم من دخوله بغداد، وتفرق من كان في يده من الأموال، وضاق ذرعًا، وتحرق صبرًا فأمر ببيع كل ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم، وحملها إليه لأصحابه وفي نفقاته، وأمر حينئذ برمي الحربية بالنفط والنيران والمجانيق والعرادات، يقتل بها المقبل والمدبر، ففي ذلك يقول عمرو بن عبد الملك العتري الوراق:

يا رماة المنجنيق ** كلكم غير شفيق

ما تبالون صديقًا ** كان أو غير صديق

ويلكم تدرون ما تر ** مون مرار الطريق

رب خودٍ ذات دلٍ ** وهي كالغصن الوريق

أخرجت من جوف دنيا ** ها ومن عيشٍ أنيق

لم تجد من ذاك بدًا ** أبرزت يوم الحريق

وذكر عن محمد بن منصور الباوردي، قال: لما اشتدت شوكة طاهر على محمد، وهزمت عساكره، وتفرق قواده كان فيمن استأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم، فلحق به، فولاه ناحية البغيين والأسواق هنالك وشاطئ دجلة؛ وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمده بالنفقات والفعلة والسلاح، وأمر الحربية بلزومه على النوائب، ووكل بطريق دار الرقيق وباب الشأم واحدًا بعد واحد؛ وأمر بمثل الذي أمر به سعيد بن مالك؛ وكثر الحراب والهدم حتى درست محاسن بغداد؛ ففي ذلك يقول العتري:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين ** ألم تكوني زمانًا قرة العين!

ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ** وكان قربهم زينًا من الزين!

صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا ** ماذا لقيت بهم من لوعة البين!

أستودع الله قومًا ما ذكرتهم ** إلا تحدر ماء العين من عيني

كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ** والدهر يصدع ما بين الفريقين

قال: ووكل محمد عليًا فراهمود؛ فيمن ضم إليه من المقاتة، بقصر صالح وقصر سليمان بن أبي جعفر إلى قصور دجلة وما والاها، فألح في إحراق الدور والدروب وهدمها بالمجانيق والعرادات على يدي رجل كان يعرف بالسمرقندي؛ فكان يرمي بالمنجنيق، وفعل طاهر مثل ذلك؛ وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها؛ وكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم، ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبى إجابته والدخول في طاعته ناصبه وقاتله، وأحرق منزله؛ فكان كذلك يغدو ويروح بقواده وفرسانه ورجالته؛ حتى أوحشت بغداد، وخاف الناس أن تبقى خرابًا؛ وفي ذلك يقول الحسين الخليع:

أتسرع الرجلة إغذاذا ** عن جانبي بغداذ أم ماذا!

ألم تر الفتنة قد ألفت ** إلى أولى الفتنة شذاذا

وانتقضت بغداذ عمرانها ** عن رأي لا ذاك ولا هذا

هدمًا وحرقًا قد أبيد أهلها ** عقوبة لاذت بمن لاذا

ما أحسن الحالات إن لم تعد ** بغداذ في القلة بغداذا

قال: وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلها ومدينة أبي جعفر الشرقية، وأسواق الكرخ والخلد وما والاها دار النكث، وقبض ضياع من لم ينحز إليه من بني هاشم والقواد والموالي وغلاتهم، حيث كانت من عمله، فذلوا وانكسروا وانقادوا، وذلت الأجناد وتواكلت عن القتال؛ إلا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين وأهل السوق. وكان حاتم بن صقر قد أباحهم النهب، وخرج الهرش والأفارقة، فكان طاهر يقاتلهم لا يفتر عن ذلك ولا يمله، ولا يني فيه فقال الخريمي يذكر بغداد، ويصف ما كان فيها:

قالوا: ولم يلعب الزمان ببغ ** داد وتعثر بها عواثرها

إذ هي مثل العروس باطنها ** مشوق للفتى وظاهرها

جنة خلدٍ ودار مغبطةٍ ** قل من النائبات واترها

درت خلوف الدنيا لساكنها ** وقل معسورها وعاسرها

وانفرجت بالنعيم وانتجعت ** فيها بلذاتها حواضرها

فالقوم منها في روضة أنفٍ ** أشرق غب القطار زائرها

من غرة العيش في بلهنيةٍ ** لو أن دنيا يدوم عامرها

دار ملوكٍ رست قواعدها ** فيها وقرت بها منابرها

أهل العلا والندى وأندية ال ** فخر إذا عددت مفاخرها

أفراخ نعمى في إرث مملكةٍ ** شد عراها لها أكابرها

فلم يزل والزمان ذو غيرٍ ** يقدح في ملكها أصاغرها

حتى تساقت كأسًا مثملةً ** من فتنةٍ لا يقال عاثرها

وافترقت بعد ألفةٍ شيعًا ** مقطوعةً بينها أواصرها

يا هل رأيت الأملاك ما صنعت ** إذ لم يرعها بالنصح زاجرها

أورد أملاكنا نفوسهم ** هوة غي أعيت مصادرها

ما ضرها لو وفت بموثقها ** واستحكمت في التقى بصائرها

ولم تسافك دماء شيعتها ** وتبتعث فتيةً تكابرها

وأقنعتها الدنيا التي جمعت ** لها ورعب النفوس ضائرها

ما زال حوض الأملاك يحفره ** مسجورها بالهوى وساجرها

تبغي فضول الدنيا مكاثرةً ** حتى أبيحت كرهًا ذخائرها

تبيع ما جمع الأبوة لل ** أبناء لا أربحت متاجرها

يا هل رأيت الجنان زاهرةً ** يروق عين البصير زائرها!

وهل رأيت القصور شارعةً ** تكن مثل الدمى مقاصرها

وهل رأيت القرى التي غرس ال ** أملاك مخضرة دساكرها

محفوفةً بالكروم والنخل والر ** يحان ما يستغل طائرها

فإنها أصبحت خلايا من ال ** إنسان قد أميت محاجرها

قفرًا خلاءً تعوي الكلاب بها ** ينكر منها الرسوم زائرها

وأصبح البؤس ما يفارقها ** إلفًا لها والسرور هاجرها

بزند ورد والياسرية والشط ** ين حيث انتهت معابرها

ويا ترحلي والخيزرانية ال ** عليا التي أشرفت قناطرها

وقصر عبدويه عبرة وهدىً ** لكل نفس زكت سرائرها

فأين حراسها وحارسها ** وأين مجبورها وجابرها!

وأين خصيانها وحشواتها ** وأين سكانها وعامرها

أين الجرادية الصقالب وال ** أحبش تعدو هدلًا مشافرها

ينصدع الجند عن مواكبها ** تعدو بها سربًا ضوامرها

بالسند والهند والصقالب وال ** نوبة شيبت بها برابرها

طيرًا أبابيل أرسلت عبثًا ** يقدم سودانها أحامرها

أين الظباء الأبكار في روضه ال ** ملك تهادي بها غرائرها!

أين غضاراتها ولذتها ** وأين محبورها وحابرها!

بالمسك والعنبر اليمان وال ** يلنوج مشبوبة مجامرها

يرفلن في الخز والمجاسد وال ** موشي محطومه مزامرها

فأين رقاصها وزامرها ** يجبن حيث انتهت حناجرها

تكاد أسماعهم تسك إذا ** عارض عيدانها مزاهرها

أمست كجوف الحمار خاليةً ** يسعرها بالجحيم ساعرها

كأنما أصبحت بساحتهم ** عاد ومستهم صراصرها

لا تعلم النفس ما يبايتها ** من حادث الدهر أو يباكرها

تضحي وتمسي درية غرضًا ** حيث استقرت بها شراشرها

لأسهم الدهر وهو يرشقها ** محنطًا مرةً وباقرها

يا بوس بغداد دار مملكة ** دارت على أهلها دوائرها

أمهلها الله ثم عاقبها ** لما أحاطت بها كبائرها

بالخسف والقذف والحريق وبال ** حرب التي أصبحت تساورها

كم قد رأينا من المعاصي ببغدا ** د فهل ذو الجلال غافرها!

حلت ببغداد وهي آمنة ** داهية لم تكن تحاذرها

طالعها السوء من مطالعه وأدركت أهلها جرائرها

رق بها الدين واستخف بذي ال ** فضل وعز النساك فاجرها

وخطم العبد أنف سيده بالرغم ** واستعبدت حرائرها

وصار رب الجيران فاسقهم ** وابتز أمر الدروب ذاعرها

من ير بغداد والجنود بها ** قد ربقت حولها عساكرها

كل طحون شهباء باسلة ** تسقط أحبالها زماجرها

تلقى بغي الردى أوانسها ** يرهقها للقاء طاهرها

والشيخ يعدو حزمًا كتائبه ** يقدم أعجازها يعاورها

ولزهير بالفرك مأسدة ** مرموقة صلبة مكاسرها

كتائب الموت تحت ألوية ** أبرح منصورها وناصرها

يعلم أن الأقدار واقعة ** وقعًا على ما أحب قادرها

فتلك بغداد ما يبني من الذ ** لة في دورها عصافرها

محفوفة بالردى منطقة ** بالصغر محصورة جبابرها

ما بين شط الفرات منه إلى ** دجلة حيث انتهت معابرها

بارك هادي الشقراء نافرة ** تركض من حولها أشاقرها

يحرقها ذا وذاك يهدمها ** ويشتفي بالنهاب شاطرها

والكرخ أسواقها معطلة ** يستن عيارها وعائرها

أخرجت الحرب من سواقطها ** آساد غيل غلبًا تساورها

من البواري تراسها ومن ال ** خوص إذا استلأمت مغافرها

تغدو إلى الحرب في جواشنها ال ** صوف إذا ما عدت أساورها

كتائب الهرش تحت رايته ** ساعد طرارها مقامرها

لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا ** يحشرها للقاء حاشرها

في كل درب وكل ناحية ** خطارة يستهل خاطرها

بمثل هام الرجال من فلق الص ** خر يزود المقلاع بائرها

كأنما فوق هامها فرق ** من القطا الكدر هاج نافرها

والقوم من تحتها لهم زجل ** وهي ترامى بها خواطرها

بل هل رأيت السيوف مصلتةً ** أشهرها في الأسواق شاهرها

والخيل تستن في أزقتها ** بالترك مسنونة خناجرها

والنفط والنار في طرائقها ** وهابيا للدخان عامرها

والنهب تعدو به الرجال وقد ** أبدت خلاخيلها حرائرها

معصوصبات وسط الأزقة قد ** أبرزها للعيون ساترها

كل رقود الضحى مخبأة ** لم تبد في أهلها محاجرها

بيضة خدر مكنونة برزت ** للناس منشورة غدائرها

تعثر في ثوبها وتعجلها ** كبة خيل ريعت حوافرها

تسأل أين الطريق والهة ** والنار من خلفها تبادرها

لم تجتل الشمس حسن بهجتها ** حتى اجتلتها حرب تباشرها

يا هل رأيت الثكلى مولولة ** في الطرق تسعى والجهد باهرها!

في إثر نعش عيه واحدها ** في صدره طعنة يساورها

فرغاء ينقى الشنار مربدها ** يهزها بالسنان شاجرها

تنظر في وجهه وتهتف بالث ** كل وجارى الدموع حادرها

غرغر بالنفس ثم أسلمها ** مطلوبة لا يخاف ثائرها

وقد رأيت الفتيان في عرصة ال ** معرك مغفورة مناخرها

كل فتى مانع حقيقته ** تشقى به في الوغى مساعرها

باتت عليه الكلاب تنهشه ** مخضوبة من دم أظافرها

أما رأيت الخيول جائلة ** بالقوم منكوبة دوائرها

تعث بالأوجه الحسان من ال ** قتلى وغلت دمًا أشاعرها

يطأن أكباد فتية نجد ** يفلق هاماتهم حوافرها

أما رأيت النساء تحت المجا ** نيق تعادي شعثًا ضفائرها

عقائل القوم والعجائز وال ** عنس لم تحتبر معاصرها

يحملن قوتًا من الطحين على ال ** أكتاف معصوبة مهاجرها

وذات عيش ضنك ومقعسة ** تشدخها صخرة تعاورها

تسأل عن أهلها وقد سلبت ** وابتز عن رأسها غفائرها

يا ليت شعري والدهر ذو دول ** يرجى وأخرى تخشى بوادرها

هل ترجعن أرضنا كما غنيت ** وقد تناهت بنا مصايرها

من مبلغ ذا الرياستين رسا ** لات تأتي للنصح شاعرها

بأن خير الولاة قد علم الن ** اس إذا عددت مآثرها

خليفة الله في بريته ال ** مأمون منتاشها وجابرها

سمت إليه آمال أمته ** منقادةً برها وفاجرها

شاموا حيا العدل من مخايله ** وأصحرت بالتقى بصائرها

وأحمدوا منك سيرة جلت ال ** شك وأخرى صحت معاذرها

واستجمعت طاعة برفقك للمأ ** مون نجديها وغائرها

وأنت سمع في العالمين له ** ومقلة ما يكل ناظرها

فاشكر لذي العرش نعمته ** وأوجب فضل المزيد شاكرها

واحذر فداءً لك الرعية وال ** أجناد مأمورها وآمرها

لا تردن غمرةً بنفسك لا ** يصدر عنها بالرأي صادرها

عليك ضحضاحها فلا تلج الغم ** رة ملتجةً زواخرها

والقصد إن الطريق ذو شعبٍ ** أشماخها وعثها وجائرها

أصبحت في أمةٍ أوائلها ** قد فارقت هديها أواخرها

وأنت سرسورها وسائسها ** فهل على الحق أنت قاسرها!

أدب رجالًا رأيت سيرتهم ** خالف حكم الكتاب سائرها

وامدد إلى الناس كف مرحمة ** تسد منهم بها مفاقرها

أمكنك العدل إذ هممت به ** ووافقت مده مقادرها

وأبصر الناس قصد وجههم ** وملكت أمةً أخايرها

تشرع أعناقها إليك إذ الس ** ادات يومًا جمت عشائرها

كم عندنا من نصيحة لك في الل ** ه وقربى عزت زوافرها

وحرمةٍ قربت أواصرها ** منك، وأخرى هل أنت ذاكرها!

سعى رجال في العلم مطلبهم ** رائحها باكر وباكرها

دونك غراء كالوذيلة لا ** تفقد في بلدةٍ سوائرها

لا طمعًا قلتها ولا بطرًا ** لكل نفسٍ هوىً يؤامرها

سيرها الله بالنصيحة وال ** خشية فاستدنجت مرائرها

جاءتك تحكي لك الأمور كما ** ينشر بز التجار ناشرها

حملتها صاحبًا أخا ثقةٍ ** يظل عجبًا بها يحاضرها

وفي هذه السنة استأمن الموكلون بقصر صالح من قبل محمد.

ذكر خبر وقعة قصر صالح

وفيها كانت الوقعة التي كانت على أصحاب طاهر قصر صالح.

ذكر الخبر عن هذه الوقعة

ذكر عن محمد بن الحسين بن مصعب، أن طاهرًا لم يزل مصابرًا محمدًا وجنده على ما وصفت من أمره؛ حتى مل أهل بغداد من قتاله، وأن علي فراهمرد الموكل بقصر صالح وسليمان بن أبي جعفر من قبل محمد، كتب إلى طاهر يسأله الأمان، ويضمن له أن يدفع ما في يده من تلك الأموال ومن الناحية إلى الجسور وما فيها من المجانيق والعرادات إليه؛ وأنه قبل ذلك منه، وأجابه إلى ما سأل، ووجه إليه أبا العباس يوسف بن يعقوب الباذغيسي فيمن ضم إليه من قواده وذوي البأس من فرسانه ليلًا، فسلم إليه كل ما كان محمد وكله به من ذلك ليلة السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائة. واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب شرطة محمد؛ وكان يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش؛ وكان محمد بن عيسى غير مداهن في أمر محمد؛ وكان مهيبًا في الحرب، فلما استأمن هذان إلى طاهر، أشفى محمد على الهلاك، ودخله من ذلك ما أقامه وأقعده حتى استسلم؛ وصار على باب أم جعفر يتوقع ما يكون؛ وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق والأجناد فاقتتلوا داخل قصر صالح وخارجه إلى ارتفاع النهار.

قال: فقتل في داخل القصر أبو العباس يوسف بن يعقوب الباذغيسي ومن كان معه من القواد والرؤساء المعدودين، وقاتل فراهمرد وأصحابه خارجًا من القصر حتى فل وانحاز إلى طاهر؛ ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر وأصحابه منها، ولا أكثر قتيلًا وجريحًا معقورًا من أصحاب طاهر من تلك الوقعة؛ فأكثرت الشعراء فيها القول من الشعر، وذكر ما كان فيها من شدة الحرب. وقال فيها الغوغاء والرعاع، وكان مما قيل في ذلك قول الخليع:

أمين الله ثق بالل ** ه تعط الصبر والنصره

كل الأمر إلى الله ** كلاك الله ذو القدره

لنا النصر بعون الل ** ه والكرة لا الفره

وللمراق أعدائ ** ك يوم السوء والدبره

وكأس تلفظ الموت ** كريه طعمها مره

سقينا وسقيناهم ** ولكن بهم الحره

كذاك الحرب أحيانًا ** علينا ولنا مره

فذكر عن بعض الأبناء أن طاهرًا بث رسله، وكتب إلى القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن حاز ضياعهم وغلاتهم يدعوهم إلى الأمان والدخول في خلع محمد والبيعة للمأمون؛ فلحق به جماعة، منهم عبد الله بن حميد بن قحطبة الطائي وإخوته، وولد الحسن بن قحطبة ويحيى بن علي بن ماهان ومحمد بن أبي العاص، وكاتبه قوم من القواد والهاشميين في السر، وصارت قلوبهم وأهواؤهم معه.

قال: ولما كانت وقعة قصر صالح أقبل محمد على اللهو والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش؛ فوضعا مما يليهما من الدروب والأبواب وكلاءهما بأبواب المدينة والأرباض وسوق الكرخ. وفرض دجلة وباب المحول والكناسة؛ فكان لصوصها وفساقها يسلبون من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الملة والذمة؛ فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أن مثله كان في شيء من سائر بلاد الحروب.

قال: ولما طال ذلك بالناس، وضاقت بغداد بأهلها، خرج عنها من كانت به قوة بعد الغرم الفادح والمضايقة الموجعة والخطر العظيم؛ فأخذ طاهر أصحابه بخلاف ذلك، واشتد فيه، وغلظ على أهل الريب. وأمر محمد بن أبي خالد بحفظ الضعفاء والنساء وتجويزهم وتسهيل أمرهم؛ فكان الرجل إذا تخلص من أيدي أصحاب الهرش، وصار إلى أصحاب طاهر ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من ذهب وفضة أو متاع أو بز؛ حتى قيل: إن مثل أصحاب طاهر ومثل أصحاب الهرش وذويه ومثل الناس إذا تخلصوا، مثل السور الذي قال الله تعالى ذكره: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ". فلما طال على الناس ما بلوا به ساءت حالهم، وضاقوا به ذرعًا؛ وفي ذلك يقول بعض فتيان بغداد:

بكيت دمًا على بغداد لما ** فقدت غضارة العيش الأنيق

تبدلنا همومًا من سرورٍ ** ومن سعةٍ تبدلنا بضيق

أصابتها من الحساد عين ** فأفنت أهلها بالمنجنيق

فقوم أحرقوا بالنار قسرًا ** ونائحة تنوح على غريق

وصائحة تنادي واصباحًا ** وباكية لفقدان الشفيق

وحوراء المدامع ذات دل ** مضمخة المجاسد بالخلوق

تفر من الحريق إلى انتهابٍ ** ووالدها يفر إلى الحريق

وسالبة الغزالة مقلتيها ** مضاحكها كلألأة البروق

حيارى كالهدايا مفكرات ** عليهن القلائد في الحلوق

ينادين الشفيق ولا شفيق ** وقد فقد الشقيق من الشقيق

وقوم أخرجوا من ظل دنيا ** متاعهم يباع بكل سوق

ومغترب قريب الدار ملقىً ** بلا رأسٍ بقارعة الطريق

توسط من قتالهم جميعًا ** فما يدرون من أي الفريق

فلا ولد يقيم على أبيه ** وقد هرب الصديق بلا صديق

ومهما أنس من شيء تولى ** فإني ذاكر دار الرقيق

وذكر أن قائدًا من قواد أهل خراسان ممن كان مع طاهر من أهل النجدة والبأس، خرج يومًا إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة، لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من أرى؛ استهانة بأمرهم واحتقارًا لهم؛ فقيل له: نعم هؤلاء الذين ترى هم الآفة؛ فقال: أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء وتخيمون عنهم، وأنتم في السلاح الظاهر، والعدة والقوة؛ ولكم ما لكم من الشجاعة والنجدة! وما عسى أن يبلغ كيد من أرى من هؤلاء ولا سلاح معهم ولا عدة لهم ولا جنة تقيهم! فأوتر قوسه وتقدم، وأبصره بعضهم فقصد نحوه وفي يده بارية مقيرة، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار، فوقع في باريته أو قريبًا منه؛ فيأخذه فيجعله في موضع من باريته، قد هيأه لذلك، وجعله شبيهًا بالجعبة. وجعل كلما وقع سهم أخذه وصاح: دانق، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه؛ ولم يزل تلك حالة الخراساني وحال العيار حتى أنفذ الخراساني سهامه، ثم حمل على العيار ليضربه بسيفه؛ فأخرج من مخلاته حجرًا؛ فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه، ثم ثناه بآخر؛ فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحاميه؛ وكر راجعًا وهو يقول: ليس هؤلاء بإنس؛ قال: فحدثت أن طاهرًا حدث بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إلى الحرب؛ فقال بعض شعراء بغداد في ذلك:

خرجت هذه الحروب رجالًا ** لا لقحطانها ولا لنزار

معشرًا في جواشن الصوف يغدو ** ن إلى الحرب كالأسود الضواري

وعليهم مغافر الخوص تجزي ** هم عن البيض. والتراس البواري

ليس يدرون ما الفرار إذا الأب ** طال عاذوا من القنا بالفرار

واحد منهم يشد على أل ** فين عريان ما له من إزار

ويقول الفتى إذا طعن الطع ** نة: خذها من الفتى العيار

كم شريف قد أخملته وكم قد ** رفعت من مقامر طرار

ذكر خبر منع طاهر الملاحين من إدخال شيء إلى بغداد

قال محمد بن جرير: وفي هذه السنة منع طاهر الملاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد إلا من كان من عسكره منهم، ووضع الرصيد عليهم بسبب ذلك.

ذكر الخبر عما كان منه ومن أصحاب محمد المخلوع في ذلك وعن السبب الذي من أجله فعل ذلك طاهر

أما السبب في ذلك فإنه - فيما ذكر - كان أن طاهرًا لما قتل من قتل في قصر صالح من أصحابه، ونالهم فيه من الجراح ما نالهم، مضه ذلك وشق عليه؛ لأنه لم يكن له وقعة إلا كانت له لا عليه؛ فلما شق عليه أمر بالهدم والإحراق عند ذلك، فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشأم وباب الكوفة، إلى الصراة وأرجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة؛ وجعل يبايت أصحاب محمد ويدالجهم، ويحوي في كل يوم ناحية، ويخندق عليها المراصد من المقاتلة؛ وجعل أصحاب محمد ينقصون، ويزيدون؛ حتى لقد كان أصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون؛ فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد، ويكونون أضر على أصحابهم من أصحاب طاهر تعديًا؛ فقال شاعر منهم - وذكر أنه عمرو بن عبد الملك الوراق العتري - في ذلك:

لنا كل يوم ثلمة لا نسدها ** يزيدون فيما يطلبون وننقص

إذا هدموا دارًا أخذنا سقوفها ** ونحن لأخرى غيرها نتربص

وإن حرصوا يومًا على الشر جهدهم ** فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص

فقد ضيقوا من أرضنا كل واسعٍ ** وصار لهم أهل بها، وتعرصوا

يثيرون بالطبل القنيص فإن بدا ** لهم وجه صيدٍ من قريب تقنصوا

لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها ** علينا فما ندري إلى أين نشخص!

إذا حضروا قالوا بما يعرفونه ** وإن يروا شيئًا قبيحًا تخرصوا

وما قتل الأبطال مثل مجربٍ ** رسول المنايا ليله يتلصص

ترى البطل المشهور في كل بلدة ** إذا ما رأى العريان يومًا يبصبص

إذا ما رآه الشمري مقزلًا ** على عقبيه للمخافة ينكص

يبيعك رأسًا للصبي بدرهمٍ ** فإن قال إني مرخص فهو مرخص

فكم قاتلٍ منا لآخر منهم ** بمقتله عنه الذنوب تمحص

تراه إذا نادى الأمان مبارزًا ** ويغمرنا طورًا وطورًا يخصص

وقد رخصت قراؤنا في قتالهم ** وما قتل المقتول إلا المرخص

وقال أيضًا في ذلك:

الناس في الهدم وفي الانتقال ** قد عرض الناس بقيلٍ وقال

يأيها السائل عن شأنهم ** عينك تكفيك مكان السؤال

قد كان للرحمن تكبيرهم ** فاليوم تكبيرهم للقتال

اطرح بعينيك إلى جمعهم ** وانتظر الروح وعد الليال

لم يبق في بغداد إلا امرؤ ** حالفه الفقر كثير العيال

لا أم تحمي عن حماها ولا ** خال له يحمي ولا غير خال

ليس له مال سوى مطردٍ ** مطرده في كفه رأس مال

هان على الله فأجرى على ** كفيه للشقوة قتل الرجال

إن صار ذا الأمر إلى واحدٍ ** صار إلى القتل على كل حال

ما بالنا نقتل من أجلهم ** سبحانك اللهم يا ذا الحلال!

وقال أيضًا:

ولست بتاركٍ بغداد يومًا ** ترحل من ترحل أو أقاما

إذا ما العيش ساعدنا فلسنا ** نبالي بعد من كان الإماما

قال عمرو بن عبد الملك العتري: لما رأى طاهر أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق أمر عند ذلك بمنع التجار أن يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من المنافع من ناحيته إلى مدينة أبي جعفر والشرقية والكرخ، وأمر بصرف سفن البصرة وواسط بطرنايا إلى الفرات؛ ومنه إلى المحول الكبير وإلى الصراة، ومنها إلى خندق باب الأنبار؛ بما كان زهير بن المسيب يبذرقه إلى بغداد، وأخذ من كل سفينة فيها حمولة ما بين الألف درهم إلى الألفين والثلاثة، وأكثر وأقل، وفعل عمال طاهر وأصحابه ببغداد في جميع طرقها مثل ذلك وأشد، فغلت الأسعار، وصار الناس في أشد الحصار، فيئسوا أو كثير منهم من الفرج والروح، واغتبط من كان خرج منها، وأسف على مقامه من أقام.

وفي هذه السنة استأمن ابن عائشة إلى طاهر، وكان قد قاتل مع محمد حينًا بالياسرية.

ذكر خبر وقعة الكناسة

وفيها جعل طاهر قوادًا من قواده بنواحي بغداد، فجعل العلاء بن الوضاح الأزدي في أصحابه ومن ضم إليه بالوضاحية على المحول الكبير، وجعل نعيم بن الوضاح أخاه فيمن كان معه من الأتراك وغيرهم مما يلي ربض أبي أيوب على شاطئ الصراة، ثم غادى القتال وراوح أشهرًا، ثم صبر الفريقان جميعًا؛ فكانت لهم فيها وقعة بالكناسة؛ باشرها طاهر بنفسه، قتل فيها بشر كثير من أصحاب محمد، فقال عمرو بن عبد الملك:

وقعة يوم الأحد ** صارت حديث الأبد

كم جسد أبصرته ** ملقىً وكم من جسد

وناظر كانت له ** منية بالرصد

أتاه سهم عاثر ** فشك جوف الكبد

وصائحٍ يا والدي ** وصائحٍ يا ولدي

وكم غريقٍ سابحٍ ** كان متين الجلد!

لم يفتقده أحد ** غير بنات البلد

وكم فقيدٍ بئس ** عز على المفتقد

كان من النظارة ال ** أولى شديد الحرد

لم يبق من كهل لهم ** فات ولا من أمرد

وطاهر ملتهم ** مثل التهام الأسد

خيم لا يبرح في ال ** عرصة مثل اللبد

تقذف عيناه لدى ال ** حرب بنار الوقد

فقائل قد قتلوا ** ألفًا ولما يزد

وقائل أكثر بل ** ما لهم من عدد

وهارب نحوهم ** يرهب من خوف غد

هيهات لا تبصر مم ** ن قد مضى من أحد

لا يرجع الماضي إلى ال ** باقي طوال الأبد

قلت لمطعون وفي ** ه روحه لم تبد

من أنت يا ويلك يا ** مسكين من محمد

فقال لا من نسبٍ ** دانٍ ولا من بلد

لم أره قط ولم ** أجد له من صفد

قلت لا للغي قا ** تلت ولا للرشد

إلا لشيء عاجلٍ ** يصير منه في يدي

وذكر عن عمرو بن عبد الملك أن محمدًا أمر زريحًا غلامه بتتبع الأموال وطلبها عند أهل الودائع وغيرهم، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم، ويبيتهم ليلًا، ويأخذ بالظنة، فجبى بذلك السبب أموالًا كثيرة، وأهلك خلقًا، فهرب الناس بعلة الحج، وفر الأغنياء، فقال القراطيسي في ذلك:

أظهروا الحج وما ينوونه ** بل من الهرش يريدون الهرب

كم أناس أصبحوا في غبطة ** وكل الهرش عليهم بالعطب

كل من راد زريح بيته ** لقي الذل ووافاه الحرب

ذكر خبر وقعة درب الحجارة

وفيها كانت وقعة درب الحجارة.

ذكر الخبر عنها

ذكر أن هذه الوقعة كانت بحضرة درب الحجارة؛ وكانت لأصحاب محمد على أصحاب طاهر، قتل فيها خلق كثير، فقال في ذلك عمرو بن عبد الملك العتري:

وقعة السبت يوم درب الحجاره ** قطعت قطعة من النظاره

ذاك من بعد ما تفانوا ولكن ** أهلكتهم غوغاؤنا بالحجاره

قدم الشورجين للقتل عمدًا ** قال إني لكم أريد الإماره

فتلقاه كل لص مريبٍ ** عمر السجن دهره بالشطاره

ما عليه شيء يواريه منه ** أيره قائم كمثل المناره

فتولوا عنهم وكانوا قديمًا ** يحسنون الضراب في كل غاره

هؤلاء مثل هولاك لدينا ** ليس يرعون حق جار وجاره

كل من كان خاملًا صار رأسًا ** من نعيمٍ في عيشه وغضاره

حامل في يمينه كل يومٍ ** مطردًا فوق رأسه طياره

أخرجته من بيتها أم سوءٍ ** طلب النهب أمه العياره

يشتم الناس ما يبالي بإفصا ** حٍ لذي الشتم لا يشير إشاره

ليس هذا زمان حر كريم ** ذا زمان الأنذال أهل الزعاره

كان فيما مضى القتال قتالًا ** فهو اليوم يا علي تجاره

وقال أيضًا:

بارية قيرت ظاهرها ** محمد فيها ومنصور

العز والأمن أحاديثهم ** وقولهم قد أخذ السور

وأي نفع لك في سورهم ** وأنت مقتول ومأسور؟

قد قتلت فرسانكم عنوةً ** وهدمت من دوركم دور

هاتوا لكم من قائد واحد ** مهذب في وجهه نور

يأيها السائل عن شأننا ** محمد في القصر محصور

ذكر خبر وقعة باب الشماسية

وفيها أيضًا كانت وقعة بباب الشماسية، أسر فيها هرثمة.

ذكر عن علي بن يزيد أنه قال: كان ينزل هرثمة نهر بين، وعليه حائط وخندق، وقد أعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية، وكان يخرج أحيانًا، فيقف بباب خراسان مشفقا من أهل العسكر، كارهًا للحرب، فيدعو الناس إلى ما هو عليه فيشتمه، ويستخف به؛ فيقف ساعة ثم ينصرف. وكان حاتم بن الصقر من قواد محمد؛ وكان قد واعد أصحابه الغزاة والعيارين أن يوافوا عبيد الله بن الوضاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم؛ فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولى منهزمًان فأصابوا له خيلًا وسلاحًا ومتاعًا كثيرًا، وغلب على الشماسية حاتم ابن صقر. وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته، وليرد العسكر إلى موضعه؛ فوافاه أصحاب محمد، ونشب الحرب بينهم، وأسر رجل من الغزاة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على الرجل، فقطع يده وخلصه، فمر منهزمًا، وبلغ خبره أهل عسكره، فتقوض بما فيه، وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز أصحاب محمد الليل عن الطلب؛ وما كانوا من النهب والأسر. فحدثت أن عسكر هرثمة لم يتراجع أهله يومين، وقويت الغزاة بما سار في أيديهم.

وقيل في تلك الوقعة أشعار كثيرة، فمن ذلك قول عمرو الوراق:

عريان ليس بذي قميص ** يغدو على طلب القميص

يعدو على ذي جوشنٍ ** يعمي العيون من البصيص

في كفه طرادة ** حمراء تلمع كالفصوص

حرصًا على طلب القتا ** ل أشد من حرص الحريص

سلس القياد كأنما ** يغدو على أكل الخبيص

ليثًا مغيرًا لم يزل ** رأسًا يعد من اللصوص

أجرى وأثبت مقدمًا ** في الحرب من أسدٍ رهيص

يدنو على سنن الهوا ** ن وعيصه من شر عيص

ينجو إذا كان النجا ** ء على أخف من القلوص

ما للكمي إذا لمق ** تله تعرض من محيص

كم من شجاعٍ فارسٍ ** قد باع بالثمن الرخيص

يدعو: ألا من يشتري ** رأس الكمي بكف شيص!

وقال بعض أصحاب هرثمة:

يفنى الزمان وما يفنى قتالهم ** والدور تهدم والأموال تنتقص

والناس لا يستطيعون الذي طلبوا ** لا يدفعون الردى عنهم وإن حرصوا

يأتوننا بحديثٍ لا ضياء له ** في كل يوم لأولاد الزنا قصص

قال: ولما بلغ طاهرًا ما صنع الغزاة وحاتم بن الصقر بعبيد الله بن الوضاح وهرثمة اشتد ذلك عليه، وبلغ منه؛ وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، ووجه أصحابه وعبأهم، وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا إليهم وقاتلوهم أشد القتال، وأمدهم بأصحابه ساعة بعد ساعة حتى ردوا أصحاب محمد، وأزالوهم عن الشماسية، ورد المهاجر عبيد الله بن الوضاح وهرثمة.

قال: وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه الخيزرانية بعد ظفر الغزاة ألفي ألف درهم، فحرقها أصحاب طاهر كلها، وكانت السقوف مذهبة، وقتلوا من الغزاة والمنتهبين بشرًا كثيرًا، وفي ذلك يقول عمرو الوراق:

ثقلان وطاهر بن الحسين ** صبحونا صبيحة الإثنين

جمعوا جمعهم بليل ونادوا ** اطلبوا اليوم ثأركم بالحسين

ضربوا طلبهم فثار إليهم ** كل صلب القناة والساعدين

يا قتيلا بالقاع ملقىً على الشط ** هواه بطيء الجبلين

ما الذي في يديك أنت إذا ما اص ** طلح الناس أنت بالخلتين

أوزير أم قائد، بل بعيد ** أنت من ذين موضع الفرقدين

كم بصير غدا بعينين كي يب ** صر ما حالهم فعاد بعين

ليس يخطون ما يريدون ما يع ** مد راميهم سوى الناظرين

سائلي عنهم هم شر من أب ** صرت في الناس ليس غير كذين

شر باقٍ وشر ماضٍ من النا ** س مضى أو رأيت في الثقلين

قال: وبلغ ذلك من فعل طاهر محمدًا، فاشتد عليه وغمه وأحزنه؛ فذكر كاتب لكوثر أن محمدًا قال - أو قيل على لسانه هذه الأبيات:

منيت بأشجع الثقلين قلبًا ** إذا ما طال ليس كما يطول

له مع كل ذي بدنٍ رقيب ** يشاهده ويعلم ما يقول

فليس بمغفلٍ أمرًا عنادًا ** إذا ما الأمر ضيعه الغفول

وفي هذه السنة ضعف أمر محمد، وأيقن بالهلاك، وهرب عبد الله بن خازم بن خزيمة من بغداد إلى المدائن؛ فذكر عن الحسين بن الضحاك أن عبد الله بن خازم بن خزيمة ظهرت له التهمة من محمد والتحامل عليه من السفلة والغوغاء، فهم على نفسه وماله، فلحق بالمدائن ليلًا في السفن بعياله وولده، فأقام بها ولم يحضر شيئًا من القتال.

وذكر غيره أن طاهرًا كاتبه وحذره قبض ضياعه واستئصاله، فحذره ونجا من تلك الفتنة وسلم؛ فقال بعض قرائبه في ذلك:

وما جبن ابن خازم من رعاعٍ ** وأوباش الطغام من الأنام

ولكن خاف صولة ضيغمي ** هصور الشد مشهور العرام

فذاع أمره في الناس، ومشى تجار الكرخ بعضهم إلى بعض، فقالوا: ينبغي لنا أن نكشف أمرنا لطاهر ونظهر له براءتنا من المعونة عليه، فاجتمعوا وكتبوا كتابًا أعلموه فيه أنهم أهل السمع والطاعة والحب له؛ لما يبلغهم من إيثاره طاعة الله والعمل بالحق، والأخذ على يد المريب، وأنهم غير مستحلي النظر إلى الحرب؛ فضلًا عن القتال، وأن الذي يكون حزبه من جانبهم ليس منهم، قد ضاقت بهم طرق المسلمين؛ حتى إن الرجال الذين بلوا من حربه من جانبهم، ولا لهم بالكرخ دور ولا عقار؛ وإنما هم بين طرار وسواط ونطاف، وأهل السجون. وإنما مأواهم الحمامات والمساجد، والتجار منهم إنما هم باعة الطريق يتجرون في محقرات البيوع، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى أن الرجل ليستقبل المرأة في زحمة الناس فيلتثان قبل التخلص؛ وحتى إن الشيخ ليسقط لوجهه ضعفًا وحتى إن الحامل الكيس في حنجرته وكفه ليطر منه، وما لنا بهم يدان ولا طاقة؛ ولا نملك لأنفسنا معهم شيئًا؛ وإن بعضنا يرفع الحجر عن الطريق لما جاء فيه من الحديث عن النبي ؛ فكيف لو اقتدرنا على من في إقامته عن الطريق، وتخليده السجن، وتنفيته عن البلاد وحسم الشر والشغب ونفي الزعارة والطر والسرق، وصلاح الدين والدنيا، وحاش لله أن يحاربك منا أحد! فذكر أنهم كتبوا بهذا قصة، واتعد قوم على الانسلال إليه بها، فقال لهم أهل الرأي منهم والحزم: لاتظنوا أن طاهرًا غبي عن هذا أو قصر عن إذكاء العيون فيكم وعليكم؛ حتى كأنه شاهدكم؛ والرأي ألا تشهروا أنفسكم بهذا؛ فإنا لا نأمن إن رآكم أحد من السفلة أن يكون به هلاككم وذهاب أموالكم؛ والخوف من تعرضكم لهؤلاء السفلة أعظم من طلبكم براءة الساحة عند طاهر خوفًا، بل لو كنتم من أهل الأثام والذنوب لكنتم إلى صفحه وتغمده وعفوه أقرب، فتوكلوا على الله تبارك وتعالى وأمسكوا. فأجابوهم وأمسكوا. وقال ابن أبي طالب المكفوف:

دعوا أهل الطريق فعن قليل ** تنالهم مخاليب الهصور

فتهتك حجب أفئدة شداد ** وشيكًا ما تصير إلى القبور

فإن الله مهلكهم جميعًا ** بأسباب التمني والفجور

وذكر أن الهرش خرج ومعه الغوغاء والغزاة ولفيفهم حتى صار إلى جزيرة العباس، وخرجت عصابة من أصحاب طاهر، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت ناحية لم يقاتل فيها، فصار ذلك على الوجه بعد ذلك اليوم موضعًا للقتال؛ حتى كان الفتح منه؛ وكان أول يوم قاتلوا فيه استعلى أصحاب محمد على أصحاب طاهر حتى بلغوا بهم دار أبي يزيد الشروي. وخلف أهل الأرباض في تلك النواحي مما يلي طريق باب الأنبار؛ فذكر أن طاهرًا لما رأى ذلك وجه إليهم قائدًا من أصحابه، وكان مشتغلًا بوجوه كثيرة يقاتل منها أصحاب محمد، فأوقع بهم فيها وقعة صعبة، وغرق في الصراة بشر كثير، وقتل آخرون، فقال في هزيمة طاهر في أول يوم عمرو الوراق:

نادى منادي طاهرٍ عندنا ** يا قوم كفوا واجلسوا في البيوت

فسوف يأتيكم غد فاحذروا ** ليثًا هريت الشدق فيه عيوت

فثارت الغوغاء في وجهه ** بعد انتصاف الليل قبل القنوت

في يوم سبتٍ تركوا جمعه ** في ظلمة الليل سمودًا خفوت

وقال في الوقعة التي كانت على أصحاب محمد:

كم قتيل قد رأينا ** ما سألناه لأيش

دارعًا يلقاه عريا ** ن بجهلٍ وبطيش

إن تلقاه برمحٍ ** يتلقاه بفيش

حبشيًا يقتل النا ** س على قطعة خيش

مرتدٍ بالشمس راض ** بالمنى من كل عيش

يحمل الحملة لا يق ** تل إلا رأس جيش

كعلي أفراهمردٍ ** أو علاءٍ أو قريش

أحذر الرمية يا طا ** هر من كف الحبيشي

وقال أيضًا عمرو الوراق في ذلك:

ذهبت بهجة بغدا ** د وكانت ذات بهجه

فلها في كل يومٍ ** رجة من بعد رجه

ضجت الأرض إلى الل ** ه من المنكر ضجه

أيها المقتول ما أن ** ت على دين المحجه

ليت شعري ما الذي نل ** ت ووقد أدلجت دلجه

أإلى الفردوس وجه ** ت أم النار توجه

حجر أرداك أم أر ** ديت قسرًا بالأزجه

إن تكن قاتلت برًا ** فعلينا ألف حجه

وذكر عن علي بن يزيد أن بعض الخدم حدثه أن محمدًا أمر ببيع ما بقي في الخزائن التي كانت أنهبت، فكتم ولاتها ما فيها لتسرق، فتضايق على محمد أمره، وفقد ما كان عنده، وطلب الناس الأرزاق، فقال يومًا وقد ضجر مما يرد عليه: وددت أن الله عز وجل قتل الفريقين جميعًا، وأراح الناس منهم؛ فما منهم إلا عدو ممن معنا وممن علينا؛ أما هؤلاء فيريدون مالي؛ وأما أولئك فيريدون نفسي. وذكرت أبياتًا قيل أنه قالها:

تفرقوا ودعوني ** يامعشر الأعوان

فكلكم ذو وجوهٍ ** كخلقة الإنسان

وما أرى غير إفكٍ ** وترهات الأماني

ولست أملك شيئًا ** فسائلوا خزاني

فالويل لي ما دهاني ** من ساكن البستان

قال: وضعف أمر محمد، وانتشر جنده وارتاع في عسكره، وأحس من طاهر بالعلو عليه وبالظفر به.

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك. وكان على مكة في هذه السنة داود بن عيسى.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خبر استيلاء طاهر على بغداد

فمن ذلك ما كان من خلاف خزيمة بن خازم محمد بن هارون ومفارقته إياه واستئمانه إلى طاهر بن الحسين ودخول هرثمة الجانب الشرقي.

ذكر الخبر عن سبب فراقه إياه وكيف كان الأمر في مصيره والدخول في طاعة طاهر

ذكر السبب في ذلك

كان طاهرًا كتب إلى خزيمة يذكر له أن الأمر يقطع بينه وبين محمد ولم يكن له أثر في نصرته، لم يقصر في أمره. فلما وصل كتابه إليه شاور الرجل أخذ بقفا صاحبنا، فاحتل لنفسك ولنا؛ فكتب إلى طاهر بطاعته، وأخبره أنه لو كان هو النازل في الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه له على كل هول، وأعلمه قلة ثقته بهرثمة، ويناشده ألا يحمله على مكروه من أمره إلا أن يضمن له القيام دونه، وإدخال هرثمة إليه ليقطع الجسور، ويتبع هو أمرًا يؤثر رأيه ورضاه؛ وانه إن لم يضمن له ذلك؛ فليس يسعه تعريضه للسفلة والغوغاء والرعاع والتلف. فكتب طاهر إلى هرثمة يلومه ويعجزه، ويقول: جمعت الأجناد، وأتلفت الأموال، وأقطعها دون أمير المؤمنين ودوني، وفي مثل حاجتي إلى الكلف والنفقات؛ وقد وقفت على قوم هينة شوكتهم، يسير أمرهم، وقوف المحجم الهائب؛ إن في ذلك جرمًا؛ فاستعد للدخول؛ فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور؛ وأرجو ألا يختلف عليك في ذلك اثنان إن شاء الله.

قال: وكتب إليه هرثمة: أنا عارف ببركة رأيك، ويمن مشورتك، فمر بما أحببت؛ فلن أخالفك؛ قال: فكتب طاهر بذلك إلى خزيمة.

وقد ذكر أن طاهرًا لما كتب أيضًا إلى محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك. قيل:

فلما كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن علي بن عيسى على جسر دجلة فقطعاه، وركزا أعلامهما عليه، وخلعا محمدًا، ودعوا لعبد الله المأمون؛ وسكن أهل عسكر المهدي ولزموا منازلهم وأسواقهم في يومهم ذلك؛ ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر يسير غيرهما من القواد، فحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروهًا، فقبل ذلك منهم، فقال حسين الخليع في قطع خزيمة الجسر:

علينا جميعًا من خزيمة منة ** بها أخمد الرحمن ثائرة الحرب

تولى أمور المسلمين بنفسه ** فذب وحامى عنهم أشرف الذب

ولولا أبو العباس ما انفك دهرنا ** يبيت على عتب ويغدو على عتب

خزيمة لم ينكر له مثل هذه ** إذا اضطربت شرق البلاد مع الغرب

أناخ بجسري دجلة القطع والقنا ** شوارع والأرواح في راحة العضب

وأم المنايا بالمنايا مخيلة ** تفجع عن خطب وتضحك عن خطب

فكانت كنار ما كرتها سحابة ** فأطفأت اللهب الملفف باللهب

وما قتل نفس في نفوس كثيرة ** إذا صارت الدنيا إلى الأمن والخصب

بلاء أبي العباس غير مكفر ** إذا فزع الكرب المقيم إلى الكرب

فذكر عن يحيى بن سلمة الكاتب أن طاهرًا غدًا يوم الخميس على المدينة الشرقية وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتي الصراة العتيقة والحديثة واشتد عندهما القتال، واشتد طاهر على أصحابه، وباشر القتال بنفسه، وقاتل من كان معه بدار الرقيق فهزمهم حتى ألحقهم بالكرخ، وقاتل طاهر بباب الكرخ وقصر الوضاح، فهزمهم أصحاب محمد وردوا على وجوههم، ومر طاهر لا يلوي على أحد حتى دخل قسرًا بالسيف. وأمر مناديه فنادى بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الكرخ والأطراف قوادًا وجندًا في كل موضع على قدر حاجته منهم؛ وقصد إلى مدينة أبي جعفر، فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن باب الجسر إلى باب خراسان وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة بالخيول والعدة والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش والأفارقة، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورمى، وخرج محمد وبأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق، لا يلوي منهم أحد على أحد، وتفرق الغوغاء والسفلة، وفي ذلك يقول عمرو الوراق:

يا طاهر الظهر الذي ** مثاله لم يوجد

يا سيد بن السيد ب ** ن السيد بن السيد

رجعت إلى أعمالها الأ ** ولى غزاة محمد

من بين نطافٍ وسو ** اطٍ وبين مقرد

ومجردٍ يأوي إلى ** عيارةٍ ومجرد

ومقيدٍ نقب السجو ** ن فعاد غير مقيد

ومقيدٍ بالنهب سا ** د وكان غير مسود

ذلوا لعزك واستكا ** نوا بعد طول تمرد

وذكر عن علي بن يزيد، أنه قال: كنت يومًا عند عمرو الوراق أنا وجماعة، فجاء رجل، فحدثنا بوقعة طاهر بباب الكرخ وانهزام الناس عنه، فقال عمرو: ناولني قدحًا، وقال في ذلك:

خذها فللخمرة أسماء ** لهل دواء ولها داء

يصلحها الماء إذا صفقت ** يومًا وقد يفسدها الماء

وقائلٍ كانت لهم وقعة ** في يومنا هذا وأشياء

قلت له: أنت امرؤ جاهل ** فيك عن الخيرات إبطاء

اشرب ودعنا من أحاديثهم ** يصطلح الناس إذا شاءوا

قال: ودخل علينا آخر، فقال: قاتل فلان الغزاة، وأقدم فلان، وانتهب فلان. قال: فقال أيضًا:

أي دهر نحن فيه ** مات فيه الكبراء

هذه السفلة والغو ** غاء فينا أمناء

ما لنا شيء من الأش ** ياء إلا ما يشاء

ضجت الأرض وقد ضج ** ت إلى الله السماء

ورفع الدين وقد ها ** نت على الله الدماء

يا أبا موسى لك الخي ** رات قد حان اللقاء

هاكها صرفًا عقارًا ** قد أتاك الندماء

وقال أيضًا عمرو الوراق في ذلك:

إذا ما شئت أن تغض ** ب جنديًا وتستامر

فقل: يا معشر الأجنا ** د قد جاءكم طاهر

قال وتحصن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب، ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما.

فذكر عن الحسين بن أبي سعيد أن طارقًا الخادم - وكان من خاصة محمد، وكان المأمون بعد مقدمه أخبره أن محمد سأله يومًا من الأيام وهو محصور، أو قال في آخر يوم من أيامه، أن يطعمه شيئًا - قال: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئًا، فجئت إلى جمرة العطارة - وكانت جارية الجوهر - فقلت لها: إن أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء، فإني لم أجد في المطبخ شيئًا؟ فقالت لجارية لها يقال لها بنان: أي شيء عندك؟ فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل، وطلب ماء يشربه فلم يوج في خزانة الشراب، فأمسى وقد كان عزم على لقاء هرثمة؛ فما شرب ماء حتى أتى عليه.

وذكر عن محمد بن راشد أن إبراهيم بن المهدي أخبره أنه كان نازلًا مع محمد المخلوع في مدينة المنصور في قصره بباب الذهب، لما حصره طاهر. قال: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار - في قرن الصراة - أسفل من قصر الخلد - في جوف الليل، ثم أرسل إلي فصرت إليه، فقال: يا إبراهيم، أما ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء! ونحن حينئذٍ في شاطئ دجلة، فهل لك في الشرب! فقلت: شأنك، جعلني الله فداك! فدعا برطل نبيذ فشربه، ثم أمر فسقيت مثله. قال: فابتدأت أغنيه من غير أن يسألني؛ لعلمي بسوء خلقه، فغنيت ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك؛ فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها؛ ونحن في تلك الحال التي هو عليها، فلما صارت بين يديه، قال: تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدي:

كليب لعمري كان أكثر ناصرًا ** وأيسر ذنبًا منك ضرج بالدم

قال: فاشتد ما غنت به عليه وتطير منه، وقال لها: عن غير هذا فتغنت:

أبكي فراقهم عيني وأرقها ** إن التفرق للأحباب بكاء

ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ** حتى تفانوا وريب الدهر عداء

فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء شيئًا غير هذا! قالت: يا سيدي، ما تغنيت إلا بما ظننت أنك تحبه؛ وما أردت ما تكرهه؛ وما هو إلا شيء جاءني. ثم أخت في غناء آخر:

أما ورب السكون والحرك ** إن المنايا كثيرة الشرك

ما اختلف الليل والنهار ولا ** دارت نجوم السماء في الفلك

إلا لنقل النعيم من ملك ** عان بحب الدنيا بلا ملك

وملك ذي العرش دائم أبدًا ** ليس بفانٍ ولا مشترك

فقال لها: قومي غضب الله عليك! قال: فقامت. وكان له قدح بلور حسن الصنعة، وكان محمد يسميه زبرباح، وكان موضوعًا بين يديه، فقامت الجارية منصرفة فتعثرت بالقدح فكسرته - قال إبراهيم: والعجب أنا لم نجلس مع هذه الجارية قط إلا رأينا ما نكره في مجلسنا هذا - فقال لي: ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية؛ ثم ماكان من أمر القدح! والله ما أظن أمري إلا وقد قرب، فقلت: يطيل الله عمرك، ويعز ملكك، ويديم لك، ويكبت عدوك. فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتًا من دجلة " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "، فقال: يا إبراهيم ما سمعت ما سمعت! قلت: لا والله، ما سمعت شيئًا - وقد كنت سمعت - قال: تسمع حسًا! قال: فدنوت من الشط فلم أر شيئًا، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت: " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "، فوثب من مجلسه ذلك مغتمًا، ثم ركب فرجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلا ليلة أو ليلتان حتى حدث ما حدث من قتله، وذلك ليوم الأحد لست - أو لأربع - خلون من صفر، سنة ثمان وتسعين ومائة.

وذكر عن أبي الحسن المدائني؛ قال:

لما كان ليلة الجمعة لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، دخل محمد بن هارون مدينة السلام هاربًا من القصر الذي كان يقال له الخلد مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق، وأمر بمجالسه وبسطه أن تحرق فأحرقت، ثم صار إلى المدينة؛ وذلك لأربع عشرة شهرًا منذ ثارت الحرب مع طاهر إلا اثنا عشر يوما.

ذكر الخبر عن قتل الأمين

وفي هذه السنة قتل محمد بن هارون.

ذكر الخبر عن مقتله

ذكر عن محمد بن عيسى الجلودي أنه قال: لما صار محمد إلى المدينة، وقر فيها، وعلم قواده أنه ليس لهم ولا له فيها عدة للحصار، وخافوا أن يظفر بهم؛ دخل على محمد حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي وقواده، فقالوا: قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى؛ وقد رأينا رأيًا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه؛ فإنا نرجو أن يكون صوابًا ويجعل الله فيه الخيرة إن شاء الله. قال: ما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك من كل جانب، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس من خيارها وجيادها؛ فنرى أن نختار من قد عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعمائة رجل، فنحملهم على هذه الخيل ونخرج ليلًا على باب من هذه الأبواب فإن الليل لأهله؛ ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله؛ فنخرج حتى نلحق بالجزيرة والشأم فتفرض الفروض، وتجبى الخراج، وتصير في مملكة واسعة، وملك جديد، فيسارع إليك الناس، وينقطع عن طلبك الجنود، وإلى ذلك ما قد أحدث الله عز وجل في مكر الليل والنهار. فقال لهم: نعم ما رأيتم؛ واعتزم على ذلك. وخرج الخبر إلى طاهر؛ فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى السندي بن شاهك: والله لإن لم تقروه وتردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا تكون لي همة إلا أنفسكم. فدخلوا على محمد، فقالوا: قد بلغنا الذي عزمت عليه؛ فنحن نذكرك الله في نفسك! إن هؤلاء صعاليك، وقد بلغ الأمر إلى ما ترى من الحصار، وضاق عليهم المذهب، وهم يرون ألا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر وهرثمة لما قد انتشر عنهم من مباشرة الحرب والجد فيها؛ ولسنا نأمن إذا برزوا بك، وحصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرًا، ويأخذوا رأسك فيتقربوا بك، ويجعلوك سبب أمانهم؛ وضربوا له فيه الأمثال.

قال محمد بن عيسى الجلودي: وكان أبي وأصحابه قعودًا في رواق البيت الذي محمد وسليمان وأصحابه فيه. قال: فلما سمعوا كلامه، ورأوا أنه قد قبله مخافة أن يكون الأمر على ما قالوا له؛ هموا أن يدخلوا عليهم فيقتلوا سليمان وأصحابه؛ ثم بدا لهم وقالوا: حرب من داخل، وحرب من خارج. فكفوا وأمسكوا.

قال محمد بن عيسى: فلما نكت ذلك في قلب محمد، ووقع في نفسه ما وقع منه، أضرم عما كان عزم عليه، ورجع إلى قبول ما كانوا بذلوا له من الأمان والخروج؛ فأجاب سليمان والسندي ومحمد بن عيسى إلى ما سألوه من ذلك، فقالوا: إنما غايتك اليوم السلام واللهو، وأخوك يتركك حيث أحببت، ويفردك في موضع، ويجعل لك كل ما يصلحك وكل ما تحب وتهوى؛ وليس عليك منه بأس ولا مكروه. فركن إلى ذلك، وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة. فقال محمد بن عيسى: وكان أبي وأصحابه يكرهون الخروج إلى هرثمة؛ لأنهم كانوا من أصحابه، وقد عرفوا مذاهبه، وخافوا أن يجفوهم ولا يخصهم، ولا يجعل لهم مراتب، فدخلوا على محمد فقالوا له: إذا أبيت أن تقبل منا ما أشرنا عليك - وهو الصواب - وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة. قال محمد بن عيسى: فقال لهم: ويحكم! أنا أكره طاهرًا وذلك أني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء، عريض الأساس وثيق لم أر حائطًا شبهه في الطول والعرض والوثاقة، وعلى سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفتي؛ وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، فما زال يضرب أصله حتى سقط الحائط وسقطت، وندرت قلنسوتي من رأسي، وأنا أتطير من طاهر، وأستوحش منه، وأكره الخروج إليه لذلك؛ وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد، وأنا به أشد أنسًا وأشد ثقة.

وذكر عن محمد بن إسماعيل، عن حفص بن أرميائيل، أن محمدًا لما أراد أن يعبر من الدار بالقرار إلى منزل كان في بستان موسى - وكان له جسر في ذلك الموضع - أمر أن يفرش في ذلك المجلس ويطيب. قال: فمكثت ليلتي أنا وأعواني نتخذ الروائح والطيب ونكثب التفاح والرمان والأترج، ونضعه في البيوت؛ فسهرت ليلتي أنا وأعواني؛ ولما صليت الصبح دفعت إلى عجوز قطعة بخور من عنبر، فيها مائة مثقال كالبطيخة، وقلت لها: إني سهرت ونعست نعاسًا شديدًا؛ ولا بد لي من نومة، فإذا نظرت إلى أمير المؤمنين قد أقبل على الجسر، فضعي هذا العنبر على الكانون. وأعطيتها كانونًا من فضة عليه جمر، وأمرتها أن تنفخ حتى تحرقها كلها، ودخلت حراقة فنمت، فما شعرت إلا بالعجوز قد جاءت فزعة حتى أيقظتني، فقالت لي: قم يا حفص؛ فقد وقعت في بلاء، قلت: ما هو؟ قالت: نظرت إلى رجل مقبل على الجسر منفرد، شبيه الجسم بجسم أمير المؤمنين، وبين يديه جماعة وخلفه جماعة؛ فلم أشك أنه هو؛ فأحرقت العنبرة، فلما جاء، فإذا هو عبد الله بن موسى، وهذا أمير المؤمنين قد أقبل. قال: فشتمتها وعنفتها. قال: وأعطيتها أخرى مثل تلك لتحرقها بين يديه، ففعلت؛ وكان هذا من أوائل الإدبار.

وذكر علي بن يزيد، قال: لما طال الحصار على محمد، فارقه سليمان بن أبي جعفر وإبراهيم بن المهدي ومحمد بن عيسى بن نهيك، ولحقوا جميعًا بعسكر المهدي، ومكث محمد محصورًا في المدينة يوم الخميس ويوم الجمعة والسبت. وناظر محمد أصحابه ومن بقي معه في طلب الأمان؛ وسألهم عن الجهة في النجاة من طاهر، فقال له السندي: والله يا سيدي؛ لئن ظفر بنا المأمون لعلى رغم منا وتعس جدودنا؛ وما أرى فرجًا إلا هرثمة. قال له: وكيف بهرثمة؛ وقد أحاط الموت بي من كل جانب! وأشار عليه آخرون بالخروج إلى طاهر وقالوا: لو حلفت له بما يتوثق به منك أنك مفوض إليه ملكك؛ فلعله كان سيركن إليك. فقال لهم: أخطأتم وجه الرأي، وأخطأت في مشاورتكم؛ هل كان عبد الله أخي لو جهد نفسه وولي الأمور برأيه بالغًا عشر ما بلغه له طاهر! وقد محصته وبحثت عن رأيه، فما رأيته يميل إلى غدر به؛ ولا طمع فيما سواه؛ ولو أجاب إلى طاعتي، وانصرف إلي ثم ناصبني أهل الأرض ما اهتممت بأمر؛ ولوددت أنه أجاب إلى ذلك، فمنحته خزائني وفوضت إليه أمري، ورضيت أن أعيش في كنفه؛ ولكني لا أطمع في ذلك منه. فقال له السندي: صدقت يا أمير المؤمنين؛ فبادر بنا إلى هرثمة؛ فإنه يرى ألا سبيل عليك إذا خرجت إليه من الملك؛ وقد ضمن إلي أنه مقاتل دونك إن هم عبد الله بقتلك؛ فاخرج ليلًا في ساعة قد نوم الناس فيها؛ فإني أرجو أن يغبى على الناس أمرنا.

وقال أبو الحسن المدائني: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة، وأجابه إلى ما أراد، اشتد ذلك على طاهر، وأبى أن يرفه عنه ويدعه يخرج، وقال: هو في حيزي والجانب الذي أنا فيه، وأنا أخرجته بالحصار والحرب؛ حتى صار إلى طلب الأمان؛ ولا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني؛ فيكون الفتح له.

ولما رأى هرثمة والقواد ذلك، اجتمعوا في منزل خزيمة بن خازم؛ فصار إليهم طاهر وخاصته وقواده، وحضرهم سليمان بن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك، وأداروا الرأي بينهم، وأداروا الرأي بينهم، ودبروا الأمر، وأخبروا طاهرًا أنه لا يخرج إليه أبدًا، وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يكون الأمر في أمره مثله في أيام الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، فقالوا له: يخرج ببدنه إلى هرثمة - إذ كان يأمن به ويثق بناحيته، وكان مستوحشًا منك، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة - وذلك الخلافة - ولا تفسد هذا الأمر واغتنمه إذ يسره الله. فأجاب إلى ذلك ورضي به. ثم قيل: إن الهرش لما علم بالخبر، أراد التقرب إلى طاهر، فخبره أن الذي جرى بينهم وبينه مكر، وأن الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع محمد إلى هرثمة. فقبل طاهر ذلك منه، وظن أنه كما كتب به إليه، فاغتاظ وكمن حول قصر أم جعفر وقصور الخلد كمناء بالسلاح ومعهم العتل والفؤوس، وذلك ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وفي الشهر السرياني خمسة وعشرون من أيلول.

فذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: أخبرني طارق الخادم، قال: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة عطش قبل خروجه، فطلبت له في خزانة شرابه ماء فلم أجده. قال: وأمسى فبادر يريد هرثمة للوعد الذي كان بينه وبينه؛ ولبس ثياب الخلافة؛ دراعة وطيلسانًا والقلنسوة الطويلة، وبين يديه شمعة. فلما انتهينا إلى دار الحرس من باب البصرة، قال: اسقني من جباب الحرس، فناولته كوزًا من ماء، فعافه لزهوكته فلم يشرب منه؛ وصار إلى هرثمة. فوثب به طاهر، وأكمن له نفسه في الخلد؛ فلما صار إلى الحراقة؛ خرج طاهر وأصحابه فرموا الحراقة بالسهام والحجارة، فمالوا ناحية الماء، وانكفأت الحراقة؛ فغرق محمد وهرثمة ومن كان فيها، فسبح محمد حتى عبر وصار إلى بستان موسى، وظن أن غرقه إنما كان حيلة من هرثمة، فعبر دجلة حتى صار إلى قرب الصراة، وكان على المسلحة إبراهيم بن جعفر البلخي ومحمد بن حميد هو ابن أخي شكلة أم إبراهيم بن المهدي - وكان طاهر ولاه وكان إذا ولى رجلًا من أصحابه خراسانيًا ضم إليه قومًا - فعرفه محمد بن حميد - وهو المعروف بالطاهري؛ وكان طاهر يقدمه في الولايات، فصاح بأصحابه فنزلوا، فأخذوه، فبادر محمدًا لمًا، فأخذ بساقيه فجذبه، وحمل على برذون، وألقي عليه إزار من أزر الجند غير مفتول، وصار به إلى منزل إبراهيم بن جعفر البلخي، وكان ينزل باب الكوفة، وأردف رجلًا خلفه يمسكه لئلا يسقط، كما يفعل بالأسير.

فذكر عن الحسن بن أبي سعيد، أن خطاب بن زياد حدثه أن محمدًا وهرثمة لما غرقا، بادر طاهر إلى بستان مؤنسة، بإزاء باب الأنبار، موضع معسكره لئلا يتهم بغرق هرثمة. قال: فلما انتهى طاهر ونحن معه في الموكب والحسن بن علي المأموني والحسن الكبير خادم الرشيد - إلى باب الشأم، لحقنا محمد بن حميد، فترجل ودنا من طاهر، فأخبره أنه أسر محمدًا، ووجه به إلى باب الكوفة إلى منزل إبراهيم البلخي. قال: فالتفت إلينا طاهر، فأخبرنا الخبر، وقال: ما تقولون؟ فقال له المأموني: مكن، أي لا تفعل فعل حسين بن علي. قال: فدعا طاهر بمولى له يقال له قريش الدنداني، فأمره بقتل محمد. قال: واتبعه طاهر يريد باب الكوفة إلى الموضع.

وأما المدائني فإنه ذكر عن محمد بن عيسى الجلودي؛ قال: لما تهيأ للخروج - وكان بعد عشاء الآخرة من ليلة الأحد - خرج إلى صحن القصر، فقعد على كرسي، وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود؛ فدخلنا عليه، فقمنا بين يديه بالأعمدة. قال: فجاء كتلة الخادم، فقال: يا سيدي، أبو حاتم يقرئك السلام، ويقول: يا سيدي وافيت للميعاد لحملك، ولكني أرى ألا تخرج الليلة؛ فإني رأيت في دجلة على الشط أمرًا قد رابني، وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك؛ ولكن أقم بمكانك حتى أرجع ثم استعد ثم آتيك القابلة فأخرجك؛ فإن حوربت حاربت دونك ومعي عدني. قال: فقال محمد: ارجع إليه، فقل له لا تبرح؛ فإني خارج إليك الساعة لا محالة؛ ولست أقيم إلى غد. قال: وقلق وقال: قد تفرق عني الناس ومن على بابي من الموالي والحرس، ولا آمن إن أصبحت وانتهى الخبر بتفريقهم إلى طاهر أن يدخل علي فيأخذني. ودعا بفرس له أدهم محذوف أغر محجل كان يسميه الزهري، ثم دعا بابنيه فضمهما إليه، وشمهما وقبلهما، وقال: أستودعكما الله؛ ودمعت عيناه، وجعل يمسح دموعه بكمه، ثم قام فوثب على الفرس، وخرجنا بين يديه إلى باب القصر؛ حتى ركبنا دوابنا وبين يديه شمعة واحدة. فلما صرنا إلى الطاقات مما يلي باب خراسان، قال لي أبي: يا محمد ابسط يدك عليه؛ فإني أخاف أن يضربه إنسان بالسيف؛ فإن ضرب كان الضرب بك دونه. قال: فألقيت عنان فرسي بين معرفته، وبسطت يدي عليه حتى انتهينا إلى باب خراسان فأمرنا به ففتح، ثم خرجنا إلى المشرعة، فإذا حراقة هرثمة، فرقي إليها، فجعل الفرس يتلكأ وينفر وضربه بالسوط وحمله عليها، حتى ركبها في دجلة فنزل في الحراقة، وأخذنا الفرس، ورجعنا إلى المدينة، فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق؛ وسمعنا الواعية، فصعدنا على القبة التي على الباب، فوقفنا فيها نسمع الصوت.

فذكر عن أحمد بن سلام صاحب المظالم أنه قال: كنت فيمن ركب مع هرثمة من القواد في الحراقة فلما نزلها محمد قمنا على أرجلنا إعظامًا، وجثى هرثمة على ركبتيه، وقال له: يا سيدي، ما أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بي، ثم احتضنه وصيره في حجره، ثم جعل يقبل يديه ورجليه وعينيه، ويقول: يا سيدي ومولاي وابن سيدي ومولاي. قال: وجعل يتصفح وجوهنا، قال: ونظر إلى عبيد الله بن الوضاح، فقال له: أيهم أنت؟ قال: أنا عبيد الله بن الوضاح، قال: نعم، فجزاك الله خيرًا، فما أشكرني لما كان منك من أمر الثلج! ولو قد لقيت أخي أبقاه الله لم أدع أن أشكرك عنده، وسألته مكافأتك عني. قال: فبينا نحن كذلك - وقد أمر هرثمة بالحراقة أن تدفع - إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق والشذوات وعطعطوا وتعلقوا بالسكان، فبعض يقطع السكان، وبعض ينقب الحراقة، وبعض يرمي بالآجر والنشاب. قال: فنقبت الحراقة، فدخلها الماء فغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء، فأخرجه ملاح؛ وخرج كل واحد منا على حيله؛ ورأيت محمدًا حين صار إلى تلك الحال قد شق عليه ثيابه، ورمى بنفسه إلى الماء. قال: فخرجت إلى الشط، فعلقني رجل من أصحاب طاهر؛ فمضى بي إلى رجل قاعد على كرسي من حديد على شط دجلة في ظهر قصر أم جعفر، بين يديه نار توقد، فقال بالفارسية: هذا رجل خرج من الماء ممن غرق من أهل الحراقة، فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب هرثمة؛ أنا أحمد بن سلام صاحب شرطة مولى أمير المؤمنين، قال: كذبت فاصدقني، قال: قلت. قد صدقتك، قال: فما فعل المخلوع؟ قلت: قد رأيته حين شق ثيابه، وقذف بنفسه في الماء قال: قدموا دابتي؛ فقدموا دابته، فركب وأمر بي أن أجنب. قال: فجعل في عنقي حبل وجنبت؛ وأخذ في درب الرشدية، فلما انتهى إلى مسجد أسد بن المرزبان، انبهرت من العدو فلم أقدر أن أعدو، فقال الذي يجنبني: قد قام هذا الرجل؛ وليس يعدو، قال: انزل فحز رأسه، فقلت له: جعلت فداك! لم تقتلني وأنا رجل علي من الله نعمة، ولم أقدر على العدو، وأنا أفدي نفسي بعشرة آلاف درهم. قال: فلما سمع ذكر العشرة آلاف درهم، قلت: تحبسني عندك حتى تصبح وتدفع إلي رسولًا حتى أرسله إلى وكيلي في منزلي في عسكر المهدي، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي. قال: قد أنصفت، فأمر بحملي، فحملت ردفًا لبعض أصحابه، فمضى بي إلى دار صاحبه، دار أبي صالح الكاتب؛ فأدخلني الدار، وأمر غلمانه أن يحتفظوا بي، وتقدم إليهم، وأوعز وتفهم مني خبر محمد ووقوعه في الماء، ومضى إلى طاهر ليخبره خبره؛ فإذا هو إبراهيم البلخي. قال: فصيرني غلمانه في بيت من بيوت الدار فيه بوار ووسادتان أو ثلاث - وفي رواية حصر مدرجة - قال: فقعدت في البيت، وصيروا فيه سراجًا، وتوثقوا من باب الدار، وقعدوا يتحدثون. قال: فلما ذهب من الليل ساعة؛ إذا نحن بحركة الخيل فدقوا الباب، ففتح لهم، فدخلوا وهم يقولون: يسر زبيدة. قال: فأدخل علي رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثم بها، وعلى كتفيه خرقة خلقة، فصيروه معي، وتقدموا إلى من في الدار في حفظه، وخلفوا معهم قومًا آخرين أيضًا منهم.

قال: فلما استقر في البيت حسر العمامة عن وجهه فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي. قال: وجعل ينظر إلي، ثم قال: أيهم أنت؟ قال: قلت: أنا مولاك يا سيدي، قال: وأي الموالي؟ قلت: أحمد بن سلام صاحب المظالم، فقال: وأعرفك بغير هذا، كنت تأتيني بالرقة؟ قال: قلت نعم، قال: كنت تأتيني وتلطفني كثيرًا، لست مولاي بل أنت أخي ومني. ثم قال: يا أحمد، قلت: لبيك يا سيدي؛ قال: ادن مني وضمني إليك، فإني أجد وحشة شديدة. قال: فضممته إلي فإذا قلبه يخفق خفقًا شديدًا كاد أن يفرج عن صدره فيخرج. قال: فلم أزل أضمه إلي وأسكنه. قال: ثم قال: يا أحمد، ما فعل أخي؟ قال: قلت: هو حي، قال: قبح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته؛ قال: قلت: بل قبح الله وزراءك! قال: لا تقل لوزرائي إلا خيرًا، فما لهم ذنب؛ ولست بأول من طلب أمرًا فلم يقدر عليه. ثم قال: يا أحمد، ما تراهم يصنعون بي؟ أتراهم يقتلوني أو يفون لي بأيمانهم؟ قال: قلت: بل يفون لك يا سيدي. قال: وجعل يضم على نفسه الخرقة التي على كتفيه، ويضمها ويمسكها بعضده يمنة ويسرة. قال: فنزعت مبطنة كانت علي ثم قلت: يا سيدي، ألق هذه عليك. قال: ويحك! دعني، هذا من الله عز وجل، لي في هذا الموضع خير.

قال: فبينا نحن كذلك، إذ دق باب الدار، ففتح، فدخل علينا رجل عليه سلاحه، فتطلع في وجهه مستثبتًا له، فلما أثبته معرفة، انصرف وغلق الباب؛ وإذا هو محمد بن حميد الطاهري، قال: فعلمت أن الرجل مقتول. قال: وكان بقي علي من صلاتي الوتر، فخفت أن أقتل معه ولم أوتر، قال: فقمت أوتر، فقال لي: يا أحمد، لا تتباعد مني، وصل إلى جانبي، أجد وحشة شديدة. قال: فاقتربت منه؛ فلما انتصف الليل أو قارب، سمعت حركة الخيل، ودق الباب، ففتح، فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائمًا، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهبت والله نفسي في سبيل الله! أما من حيلة! أما من مغيث! أما من أحد من الأبناء! قال: وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضًا. قال: فقمت فصرت خلف الحصر المدرجة في زاوية البيت، وقام محمد، فأخذ بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! إني ابن عم رسول الله ، أنا ابن هارون؛ وأنا أخو المأمون، الله الله في دمي! قال: فدخل عليه رجل منهم يقال له خمارويه - غلام لقريش الدنداني مولى طاهر - فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه؛ وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده فصاح خمارويه: قتلني قتلني - بالفارسية قال: فدخل منهم جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحًا من قفاه، وأخذوا رأسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته. قال: ولما كان في وقت السحر جاءوا إلى جثته فأدرجوها في جل، وحملوها. قال: فأصبحت فقيل لي: هات العشرة آلاف درهم وإلا ضربنا عنقك. قال: فبعثت إلى وكيلي فأتاني، بها، فدفعتها إليه. قال: وكان دخول محمد المدينة يوم الخميس، وخرج إلى دجلة يوم الأحد.

وذكر عن أحمد بن سلام في هذه القصة أنه قال: قلت لمحمد لما دخل على البيت وسكن: لاجزى الله وزراءك خيرًا، فإنهم أوردوك هذا المورد! فقال لي: يا أخي؛ ليس بموضع عتاب. ثم قال: أخبرني عن المأمون أخي، أحي هو؟ قلت: نعم؛ هذا القتال عمن إذًا! هو إلا عنه! قال: فقال لي: أخبرني يحيى أخو عامر بن إسماعيل بن عامر - وكان يلي الخبر في عسكر هرثمة - أن المأمون مات، فقلت له: كذب. قال: ثم قلت له: هذا الإزار الذي عليك إزار غليظ فالبس إزاري وقميصي هذا فإنه لين، فقال لي: من كانت حاله مثل حالي فهذا له كثير. قال: فلقنته ذكر الله والاستغفار، فجعل يستغفر. قال: وبينا نحن كذلك، إذ هدة تكاد الأرض ترجف منها؛ وإذا أصحاب طاهر قد دخلوا الدار وأرادوا البيت، وكان في الباب ضيق، فدافعهم محمد بمجنة كانت معه في البيت؛ فما وصلوا إليه حتى عرقبوه، ثم هجموا عليه فحزوا رأسه. واستقبلوا به طاهرًا، وحملوا جثته إلى بستان مؤنسة إلى معسكره؛ إذ أقبل عبد السلام بن العلاء صاحب حرس هرثمة فأذن له - وكان عبر إليه على الجسر الذي كان بالشماسية - فقال له: أخوك يقرئك السلام، فما خبرك؟ قال: يا غلام، هات الطس، فجاءوا به وفيه رأس محمد، فقال: هذا خبري فأعلمه. فلما أصبح نصب رأس محمد على باب الأنبار، وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم، وأقبل طاهر يقول: رأس المخلوع محمد.

وذكر محمد بن عيسى أنه رأى المخلوع على ثوبه قملة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: شيء يكون في ثياب الناس، فقال: أعوذ بالله من زوال النعمة! فقتل من يومه.

وذكر عن الحسن بن أبي سعيد أن الجندين: جند طاهر وجند أهل بغداد، ندموا على قتل محمد، لما كانوا يأخذون من الأموال.

وذكر عنه أنه ذكر أن الخزانة التي كان فيها رأس محمد ورأس عيسى بن ماهان ورأس أبي السرايا كانت إليه. قال: فنظرت في رأس محمد، فإذا فيه ضربة في وجهه، وشعر رأسه ولحيته صحيح لم يتحات منه شيء، ولونه على حاله. قال: وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع البردة والقضيب والمصلى - وهو من سعف مبطن - مع محمد بن الحسن بن مصعب ابن عمه، فأمر له بألف ألف درهم، فرأيت ذا الرياستين، وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون، فلما رآه سجد.

قال الحسن: فأخبرني ابن أبي حمزة، قال: حدثني علي بن حمزة العلوي، قال: قدم جماعة من آل أبي طالب على طاهر وهو بالبستان حين قتل محمد بن زبيدة ونحن بالحضرة، فوصلهم ووصلنا، وكتب إلى المأمون بالإذن لنا أو لبعضنا، فخرجنا إلى مرو، وانصرفنا إلى المدينة، فهنئونا بالنعمة، ولقينا من بها من أهلها وسائر أهل المدينة، فوصفنا لهم قتل محمد، وأن طاهر بن الحسين دعا مولى يقال له قريش الدنداني، وأمره بقتله. قال: فقال لنا شيخ منهم: كيف قلت! فأخبرته، فقال الشيخ: سبحان الله! كنا نروي هذا أن قريشًا يقتله؛ فذهبنا إلى القبيلة، فوافق الاسم الاسم! وذكر عن محمد بن أبي الوزير أن علي بن محمد بن خالد بن برمك أخبره أن إبراهيم بن المهدي لما بلغه قتل محمد، استرجع وبكى طويلًا، ثم قال:

عوجا بمغنى طلل دائر ** بالخلد ذات الصخر والآجر

والمرمر المسنون يطلى به ** والباب باب الذهب الناضر

عوجا بها فاستيقنا عندها ** على يقين قدرة القادر

وأبلغا عني مقالًا إلى ال ** مولى على المأمور والآمر

قولا له: يابن ولي الهدى ** طهر بلاد الله من طاهر

لم يكفه أن حز أوداجه ** ذبح الهدايا بمدى الجازر

حتى أتى يسحب أوصاله ** في شطن يفني مدى السائر

قد برد الموت على جنبه ** وطرفه منكسر الناظر

قال: وبلغ ذلك المأمون فاشتد عليه.

وذكر المدائني أن طاهرًا كتب إلى المأمون بالفتح: أما بعد، فالحمد لله المتعالي ذي العزة والجلال، والملك والسلطان، الذي إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. كان فيما قدر الله فأحكم، ودبر فأبرم، انتكاث المخلوع ببيعته، وانتقاضه بعهده، وارتكاسه في فتنته، وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه وما الله بظلام للعبيد. وقد كتبت إلى أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - في إحاطة جند الله بالمدينة والخلد، وأخذهم بأفواهها وطرقها ومسالكها في دجلة نواحي أزقة مدينة السلام وانتظام المسالح حواليها وحد ري السفن والزواريق بالعرادات والمقاتلة، إلى ما واجه الخلد وباب خراسان، تحفظًا بالمخلوع، وتخوفًا من أن يروغ مراغًا، ويسلك مسلكًا يجد به السبيل إلى إثارة فتنة وإحياء ثائرة، أو يهيج قتالًا بعد أن حصره الله عز وجل وخذله، ومتابعة الرسل بما يعرض عليه هرثمة بن أعين مولى أمير المؤمنين، ويسألني من تخلية الطريق له في الخروج واجتماعي وهرثمة بن أعين؛ لنتناظر في ذلك، وكراهتي ما أحدث وراءه من أمره بعد إرهاق الله إياه، وقطعه رجاءه من كل حيلة ومتعلق، وانقطاع المنافع عنه؛ وحيل بينه وبين الماء؛ فضلًا عن غيره؛ حتى هم به خدمه وأشياعه من أهل المدينة ومن نجا معه إليها، وتحزبوا على الوثوب به للدفع عن أنفسهم والنجاة بها، وغير ذلك مما فسرت لأمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - مما أرجو أن يكون قد أتاه.

وإني أخبر أمير المؤمنين أني رويت فيما دبر هرثمة بن أعين مولى أمير المؤمنين في المخلوع، وما عرض عليه وأجابه إليه، فوجدت الفتنة في تخلصه من موضعه الذي قد أنزله الله فيه بالذلة والصغار وصيره فيه إلى الضيق والحصار تزداد، ولا يزيد أهل التربص في الأطراف إلا طمعًا وانتشارًا، وأعلمت ذلك هرثمة بن أعين، وكراهتي ما أطمعه فيه وأجابه إليه؛ فذكر أنه لا يرى الرجوع عما أعطاه، فصادرته - بعد يأس من انصرافه - عن رأيه، على أن يقدم المخلوع رداء رسول الله وسيفه وقضيبه قبل خروجه؛ ثم أخلي له طريق الخروج إليه؛ كراهة أن يكون بيني وبينه اختلاف نصير منه إلى أمرٍ يطمع الأعداء فينا، أو فراق القلوب بخلاف ما نحن عليه من الائتلاف والاتفاق على ذلك، وعلى أن نجتمع لميعادنا عشية السبت.

فتوجهت في خاصة ثقاتي الذين اعتمدت عليهم، وأثق بهم، بربط الجأش، وصدق البأس، وصحة المناصحة؛ حتى طالعت جميع أمر كل من كنت وكلت بالمدينة والخلد برًا وبحرًا، والتقدمة إليهم في التحفظ والتيقظ والحراسة والحذر، ثم انكفأت إلى باب خراسان، وكنت أعددت حراقات وسفنًا؛ سوى العدة التي كنت لأركبها بنفسي لوقت ميعادي بيني وبين هرثمة، فنزلتها في عدة ممن كان ركب معي من خاصة ثقاتي وشاكريتي، وصيرت عدة منهم فرسانًا ورجالة بين باب خراسان والمشرعة وعلى الشط.

وأقبل هرثمة بن أعين حتى صار بقرب خراسان معدًا مستعدًا؛ وقد خاتلني بالرسالة إلى المخلوع إلى أن يخرج إليه إذا وافى المشرعة، ليحمله فبل أن أعلم، أو يبعث إلي بالرداء والسيف والقضيب؛ على ما كان فارقني عليه من ذلك. فلما وافى خروج المخلوع على من وكلت بباب خراسان، نهضوا عند طلوعه عليهم ليعرفوا الطابع لأمري كان أتاهم، وتقدمي إليهم ألا يدعوا أحدًا يجوزهم إلا بأمري. فبادرهم نحو المشرعة، وقرب هرثمة إليه الحراقة، فسبق الناكث أصحابي إليها، وتأخر كوثر، فظفر به قريش مولاي، ومعه الرداء والقضيب والسيف، فأخذه وما معه، فنفر أصحاب المخلوع عند ما رأوا من إرادة أصحابي منع مخلوعهم من الخروج، فبادر بعضهم حراقة هرثمة، فتكفأت بهم حتى أغرقت بالماء ورسبت، فانصرف بعضهم إلى المدينة، ورمى المخلوع عند ذلك بنفسه من الحراقة في دجلة متخلصًا إلى الشط، نادمًا على ما كان من خروجه، ناقضًا للعهد، داعيًا بشعاره، فابتدره عدة من أوليائي الذين كنت وكلتهم بما بين مشرعة باب خراسان وركن الصراة، فأخذوه عنوة قهرًا بلا ولا عقد؛ فدعا بشعاره وعاد في نكثه، فعرض عليهم مائة حبة، ذكر أن قيمة كل حبة مائة ألف درهم، فأبوا إلا الوفاء لخليفتهم أبقاه الله، وصيانة لدينهم وإيثارًا للحق الواجب عليهم، فتعلقوا به، قد أسلمه الله وأفرده؛ كل يرغبه، ويريد أن يفوز بالحظوة عندي دون صاحبه؛ حتى اضطربوا فيما بينهم، وتناولوه بأسيافهم منازعة فيه، وتشاحًا عليه، إلى أن أتيح له مغيظ لله ودينه ورسوله وخليفته، فأتى عليه وأتاني الخبر بذلك، فأمرت بحمل رأسه إلي، فلما أتيت به تقدمت إلى من كنت وكلت بالمدينة والخلد وما حواليها وسائر من في المسالح، في لزوم مواضعهم، والاحتفاظ بما يليهم، إلى أن يأتيهم أمري. ثم انصرفت. فأعظم الله لأمير المؤمنين الصنع والفتح عليه وعلى الإسلام به وفيه.

فلما أصبحت هاج الناس واختلفوا في المخلوع، فمصدق بقتله، ومكذب وشاك وموقن، فرأيت أن أطرح عنهم الشبهة في أمره، فمضيتبرأسه لينظروا إليه فيصح بعينهم، وينقطع بذلك بعل قلوبهم، ودخل التياث المستشرفين للفساد والمستوفزين للفتنة، وغدوت نحو المدينة فاستسلم من فيها وأعطى أهلها الطاعة، واستقام لأمير المؤمنين شرقي ما يلي مدينة السلام وغربيه وأرباعه وأرباضه ونواحيه؛ وقد وضعت الحرب أوزارها وتلافى بالسلام والإسلام أهله؛ وبعد الله الدغل عنهم، وأصارهم ببركة أمير المؤمنين إلى الأمن والسكون والدعة والاستقامة والاغتباط؛ والصنع من الله جل وعز والخيرة، والحمد لله على ذلك.

فكتبت إلى أمير المؤمنين حفظه الله، وليس قبلي داعٍ إلى فتنة، ولا متحرك ولا ساعٍ في فساد، ولا أحد إلا سامع مطيع باخع حاضر؛ قد أذاقه الله حلاوة أمير المؤمنين ودعة ولايته؛ فهو يتقلب في ظلها، يغدو في متجره ويروح في معايشه؛ والله ولي ما صنع من ذلك، والمتمم له، والمان بالزيادة فيه برحمته.

وأنا أسأل الله أن تهنئ أمير المؤمنين نعمته، ويتابع له فيها مزيده ويوزعه عليها شكره؛ وأن يجعل منته لديه متوالية دائمًا متواصلة؛ حتى يجمع الله له خير الدنيا والآخرة، ولأوليائه وأنصار حقه ولجماعة المسلمين ببركته وبركة ولايته ويمن خلافته، إنه ولي ذلك منهم وفيه، إنه سميع لطيف لما يشاء.

وكتب يوم الأحد لأربع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة.

وذكر عن محمد المخلوع أنه قبل مقتله، وبعد ما صار في المدينة، ورأى الأمر قد تولى عنه، وأنصاره يتسللون فيخرجون إلى طاهر، قعد في الجناح الذي كان عمله على باب الذهب - وكان تقدم في بنائه قبل ذلك - وأمر بإحضار كل من كان معه في المدينة من القواد والجند، فجمعوا في الرحبة، فأشرف عليهم، وقال: الحمد لله الذي يرفع ويضع. ويعطي ويمنع، ويقبض ويبسط؛ وإليه المصير. أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الرجال، وذهاب الأموال، وحلول النوائب، وتوفد المصائب؛ حمدًا يدخر لي به أجزل الجزاء، ويرفدني أحسن العزاء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وأن محمدًا عبده الأمين، ورسوله إلى المسلمين، ، آمين رب العالمين.

أما بعد يا معشر الأبناء، وأهل السبق إلى الهدى، فقد علمتم غفلتي كانت أيام الفضل بن الربيع وزير علي ومشير، فمادت به الأيام بما لزمني به من الندامة في الخاصة والعامة، إلى أن نبهتموني فانتبهت، واسعنتموني في جميع ما كرهتم من نفسي وفيكم، فبذلت لكم ما حواه ملكي، وناولته مقدرتي، مما جمعته وورثته عن آبائي، فقودت من لم يجز، واستكفيت من لم يكف، واجتهدت - علم الله - في طلب رضاكم بكل ما قدرت عليه؛ من ذلك توجيهي إليكم علي بن عيسى شيخكم وكبيركم وأهل الرأفة بكم والتحنن عليكم؛ فكان منكم ما يطول ذكره؛ فغفرت الذنب، وأحسنت واحتملت واحتملت، وعزيت نفسي عند معرفتي بشرود الظفر، وحرصي على مقامكم مسلحة بحلوان مع ابن كبير صاحب دعوتكم، ومن على يدي أبيه كان فخركم، وبه تمت طاعتكم: عبد الله بن حميد بن قحطبة، فصرتم من التألب عليه إلى ما لا طاقة له به، ولا صبر عليه. يقودكم رجل منكم وأنتم عشرون ألفًا؛ إلى عامدين، وعلى سيدكم متوثبين مع سعيد الفرد، سامعين له مطيعين. ثم وثبتم مع الحسين علي، فخلعتموني وشتمتموني، وانتهبتموني وحبستموني، وقيدتموني؛ وأشياء منعتموني من ذكرها؛ حقد قلوبكم وتلكؤ طاعتكم أكبر وأكثر. فالحمد لله حمد من أسلم لأمره، ورضي بقدره؛ والسلام.

وقيل: لما قتل محمد، وارتفعت الثائرة، وأعطي الأمان الأبيض والأسود، وهدأ الناس، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس، وخطبهم خطبة بليغة، نزع فيها من قوارع القرآن؛ فكان مما حفظ من ذلك أن قال: الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

في آي من القرآن أتبع بعضها بعضًا، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة، ورغبتهم في التمسك بحبل الطاعة. وانصرف إلى معسكره.

وذكر أنه لما صعد المنبر يوم الجمعة، وحضره من بني هاشم والقواد وغيرهم جماعة كثيرة، قال: الحمد لله مالك الملك، يؤتيه من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين؛ إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا، بل اختار الله الخلافة إذ جعلها عمادًا لدينه، وقوامًا لعباده، وضبط الأطراف وسد الثغور، وإعداد العدة، وجمع الفيء، وإنفاذ الحكم، ونشر العدل، وإحياء السنة؛ بعد إذبال البطالات، والتلذذ بموبق الشهوات. والمخلد إلى الدنيا مستحسن لداعي غرورها، محتلب درة نعمتها، ألف لزهرة روضتها، كلف برونق بهجتها. وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز وجل لمن بغى عليه، وما أحل به من بأسه ونقمته، لما نكب عن عهده، وارتكب معصيته، وخالف أمره، وغير ناهيه، وعظته مردية؛ واحذروا مصارع أهل الخلاف والمعصية، الذين قدحوا زناد الفتنة، وصدعوا شعب الألفة، فأعقبهم الله خسار الدنيا والآخرة.

ولما فتح طاهر بغداد كتب إلى أي إسحاق المعتصم - وقد ذكر بعضهم أنه إنما كتب بذلك إلى إبراهيم بن المهدي، وقال الناس: كتبه إلى أبي إسحاق المعتصم: أما بعد، فإنه عزيز علي أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير؛ ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي، وتصغي بالهوى، إلى الناكث المخلوع؛ وإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. وكتب في أسفل الكتاب هده الأبيات:

ركوبك الأمر ما لم تبل فرصته ** وجل ورأيك بالتغرير تغرير

أقبح بدنيا ينال المخطئون بها ** حظ المصيبين والمغرور مغرور

وثوب الجند بطاهر بن الحسين بعد مقتل الأمين

وفي هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيب أيامًا حتى أصلح أمرهم.

ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به وإلى ما آل به أمره وأمرهم

ذكر عن سعيد بن حميد؛ أنه ذكر أباه حدثه؛ أن أصحاب طاهر بعد مقتل محمد بخمسة أيام، وثبوا به؛ ولم يكن في يديه مال، فضاق به أمره، وظن أن ذلك عن مواطأةٍ من أهل الأرباض إياهم، وأنهم معهم عليه، ولم يكن تحرك في ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدت شوكة أصحابه، وخشي على نفسه، فهرب من البستان، وانتهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عقرقوف. وكان قد أحر بحفظ أبواب المدينة وباب القصر على أم جعفر، وموسى وعبد الله ابني محمد، ثم أمر بتحميل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد معها من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد، فحولوا ليلة الجمعة لاثني عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم مضى بهم من ليلتهم في حراقة إلى همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثم أبر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس.

قال: ولما وثب الجند بطاهر، وطلبوا الأرزاق، وأحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح، وكانوا كذلك يومهم ومن الغد، ونادوا موسى: يا منصور. وصوب الناس إخراج طاهر وموسى وعبد الله؛ وقد كان طاهر انحاز ومن معه من القواد، وتعبأ لقتالهم ومحاربتهم، فلما بلغ ذلك القواد والوجوه صاروا إليه واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضا عنهم، وضمنوا له ألا يعودوا لمكروه له ما أقام معهم. فقال لهم طاهر: والله ما خرجت عنكم إلا لوضع سيفي فيكم، وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم، ولأخرجن إلى مكروهكم؛ فكسرهم بذلك، وأمر لهم برزق أربعة أشهر؛ فقال في ذلك بعض الأبناء:

آلى الأمير وقوله وفعالهحق بجمع معاشر الزعار

إن هاج هائجهم وشغب شاغب ** منكل ناحيةٍ من الأقطار

ألا يناظر معشرًا من جمعهم ** إمهال ذي عدلٍ وذي إنظار

حتى ينيخ عليهم بعظيمةٍ ** تدع الديار بلاقع الآثار

فذكر عن المدائني أن الجند لما شغبوا، وانحاز طاهر، ركب إليه سعيد بن مالك بن قادم ومحمد بن أبي خالد وهبيرة بن خازم؛ في مشيخةٍ من أهل الأرباض، فحلفوا بالمغلظة من الأيمان، أنه لم يتحرك في هذه الأيام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم، ولا أرادوه، وضمنوا له صلاح نواحيهم من الأرباض، وقيام كل إنسان منهم في ناحيته بكل ما يجب عليه، حتى لا يأتيه من ناحية أمر يكرهه. وأتاه عميرة - أبو شيخ بن عميرة الأسدي - وعلى ابن يزيد؛ في مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ما لقيه به ابن أبي خالد وسعيد بن مالك وهبيرة، وأعلموه حسن رأي من خلفهم من الأبناء ولين طاعتهم له، وأنهم لم يدخلوا في شيء مما صنع أصحابه في البستان. فطابت نفسه إلا أنه قال لهم: إن القوم يطلبون أرزاقهم، وليس عندي مال. فضمن لهم سعيد بن مالك عشرين ألف دينار، وحملها إليه، فطابت بها نفسه، وانصرف إلى معسكره بالبستان. وقال طاهر لسعيد: إني أقبلها منك على أن تكون علي دينًا، فقال له: بل هي إنما صلة وقليل لغلامك وفيما أوجب الله من حقك. فقبلها منه، وأمر للجند برزق أربعة أشهر، فرضوا وسكنوا.

قال المدائني: وكان مع محمد رجل يقال له السمرقندي، وكان يرمي عن مجانيق كانت في سفن من باطن دجلة؛ وربما كان يشتد أمر أهل الأرباض على من بإزائهم من أصحاب محمد في الخنادق، فكان يبعث إليه، فيجيء به فيرميهم - وكان راميًا لم يكن حجره يخطئ - ولم يقتل الناس يومئذ بالحجارة كما قيل، فلما قتل محمد قطع الجسر، واحترقت المجانيق التي كانت في دجلة يرمي عنها، فأشفق على نفسه، وتخوف من بعض من وتره أن يطلبه، فاستخفى، وطلبه الناس، فتكارى بغلًا، وخرج إلى ناحية خراسان هاربًا، فمضى حتى إذا كان في بعض الطريق استقبله رجل فعرفه؛ فلما جازه قال الرجل للمكاري: ويحك! أين تذهب مع هذا الرجل! والله لئن ظفر بك معه لتقتلن، وأهون ما هو مصيبك أن تحبس، قال:

إنا لله وإنا إليه راجعون! قد والله عرفت اسمه، وسمعت به قتله الله! فانطلق المكاري إلى أصحابه - أو مسلحة انتهى إليها - فأخبرهم خبره، وكانوا من أصحاب كندغوش من أصحاب هرثمة، فأخذوه وبعثوا به إلى هرثمة، وبعث به هرثمة إلى خزيمة بن خازم بمدينة السلام، فدفعه خزيمة إلى بعض من وتره فأخرجه إلى شاطئ دجلة من الجانب الشرقي فصلب حيًا، فذكروا أنه لما أرادوا شده على خشبته، اجتمع خلق كثير، فجعل يقول قبل أن يشدوه: أنتم بالأمس تقولون: لا قطع الله يا سمرقندي يدك، واليوم قد هيأتم حجارتكم ونشابكم لترموني! فلما رفعت الخشبة أقبل الناس عليه رميًا بالحجارة والنشاب وطعنًا بالرماح حتى قتلوه، وجعلوا يرمونه بعد موته، ثم أحرقوه من غد، وجاءوا بنار ليحرقوه بها، وأشعلوها فلم تشتعل، وألقوا عليه قصبًا وحطبًا، فأشعلوها فيه، فاحترق بعضه، وتمزقت الكلاب بعضه؛ وذلك يوم السبت لليلتين خلتا من صفر.

ذكر الخبر عن صفة محمد بن هارون وكنيته وقدر ما ولي ومبلغ عمره

قال هشام بن محمد وغيره: ولي محمد بن هارون وهو أبو موسى يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقتل ليلة الأحد لست بقين من صفر سنة سبع وتسعين ومائة. وأمه زبيدة بنة جعفر الأكبر بن أبي جعفر؛ فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وقد قيل: كانت كنيته أبا عبد الله.

وأما محمد بن موسى الخوارزمي فإنه ذكر عنه أنه قال: أتت الخلافة محمد بن هارون للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وحج بالناس في هذه السنة التي ولي فيها داود بن عيسى بن موسى، وهو على مكة وأبو البختري على ولايته، وبعد ولايته، بعشرة أشهر وخمسة أيام وجه عصمة بن أبي عصمة إلى ساوة، وعقد ولايته لابنه موسى بولاية العهد لثلاثون خلون من شهر ربيع الأول؛ وكان على شرطه علي بن عيسى بن ماهان.

وحج بالناس سنة أربع وتسعين ومائة علي بن الرشيد، وعلى المدينة إسماعيل بن العباس بن محمد، وعلى مكة داود بن عيسى، وكان بين أن عقد لابنه إلى التقاء علي بن عيسى بن ماهان وطاهر بن الحسين وقتل علي بن عيسى بن ماهان سنة خمس وتسعين ومائة، سنة وثلاثة أشهر وتسعة وعشرون يومًا. قال: وقتل المخلوع ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم، قال: فكانت ولايته مع الفتنة أربع سنين وسبعة أشهر وثلاثة أيام.

ولما قتل محمد ووصل خبره إلى المأمون في خريطة من طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة أظهر المأمون الخبر، وأذن للقواد فدخلوا عليه. وقام الفضل بن سهل فقرأ الكتاب بالخبر، فهنئ بالظفر، ودعوا الله له. وورد الكتاب من المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بن هارون، فأظهر ذلك ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائة، وكان عمر بن محمد كله - فيما بلغني - ثمانيًا وعشرين سنة.

وكان سبطًا أنزع أبيض صغير العينين أقنى، جميلًا، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين. وكان مولده بالرصافة.

وذكر أن طاهرًا قال حين قتله:

قتلت الخليفة في داره ** وأنهبت بالسيف أمواله

وقال أيضًا:

ملكت الناس قسرًا واقتدارا ** وقتلت الجبابرة الكبارا

ووجهت الخلافة نحو مروٍ ** إلى المأمون تبتدر ابتدارا

ذكر ما قيل في محمد بن هارون ومرثيته

فما قيل في هجائه:

لم نبكيك لماذا؟ للطرب! ** يا أبا موسى وترويج اللعب

ولترك الخمس في أوقاتها ** حرصًا منك على ماء العني

وشنيف أنا لا أبكي له ** وعلى كوثر لا أخشى العطب

لم تكن تعرف ما حد الرضا ** لا ولا تعرف ما حد الغضب

لم تكن تصلح للملك ولم ** تعطلك الطاعة بالملك العرب

أيها الباكي عليه لا بكت ** عين من أبكاك إلا للعجب

لم نبكيك لما عرضتنا ** للمجانيق وطورًا للسلب

ولقومٍ صيرونا أعبدًا ** لهم ينزو على الرأس الذنب

في عذاب وحصار مجهدٍ ** سدد الطرق ولا وجه طلب

زعموا أنك حي حاشر ** كل من قال بهذا قد كذب

ليت من قد قاله في وحدة ** من جميع ذاب حيث ذهب

أوجب الله علينا قتله ** فإذا ما أوجب الأمر وجب

كان والله علينا فتنةً ** غضب الله عليه وكتب

وقال عمرو بن عبد الملك الوراق يبكي، بغداد، ويهجو طاهرًا ويعرض به:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين ** ألم تكوني زمانًا قرة العين!

ألم يكن فيك أقوام لهم شرف ** بالصالحات والمعروف يلقوني

ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ** وكان قربهم زينًا من الزين

صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا ** ماذا الذي فجعتني لوعة البين!

أستودع الله قومًا ما ذكرتهم ** إلا تحدر ماء العين من عيني

كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ** والدهر يصدع ما بين الفريقين

كم كان لي مسعد منهم على زمني ** كم كان منهم على المعروف من عون

لله در زمان كان يجمعنا ** أين الزمان الذي ولى ومن أين!

يا من يخرب بغدادًا ليعمرها ** أهلكت نفسك مل بين الفريقين

كانت قلوب جميع الناس واحدةً ** عينًا، وليس لكون العين كالدين

لما أشتهم فرقتهم فرقًا ** والناس طرًا جميعًا بين قلبين

وذكر عمرو بن شبة أن محمد بن أحمد الهاشمي حدثه، أن لبانة ابنة علي بن المهدي قالت:

أبكيك لا للنعيم والأنس ** بل للمعالي والرمح والترس

أبكي على هالكٍ فجعت به ** أرملني قبل ليلة العرس

وقد قيل إن هذا الشعر لابنة عيسى بن جعفر، وكانت مملكة بمحمد.

وقال الحسين بن الضحاك الأشقر، مولى باهلة، يرثي محمدًا، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه:

يا خير أسرته وإن زعموا ** إني عليك لمثبت أسف

الله يعلم أن لي كبدًا ** حرى عليك ومقلةً تكف

لئن شجيت بما رزئت به ** إني لأضمر فوق ما أصف

هلا بقيت لسد فاقتنا ** أبدًا، وكان لغيرك التلف!

فلقد خلفت خلائفًا سلفوا ** ولسوف يعوز بعدك الخلف

لا بات رهطك بعد هفوتهم ** إني لرهطك بعدها شنف

هتكوا بحرمتك التي هتكت ** حرم الرسول ودونها السجف

وثبت أقاربك التي خذلت ** وجميعها بالذل معترف

لم يفعلوا بالشط إذ حضروا ** ما تفعل الغيرانة الأنف

تركوا حريم أبيهم نفلًا ** والمحصنات صوارخ هتف

أبدت مخلخلها على دهش ** أبكارهن ورنت النصف

سلبت معاجرهن واجتليت ** ذات النقاب ونوزع الشنف

فكأنهن خلال منتهب ** در تكشف دونه الصدف

ملك تخون ملكه قدر ** فوهى وصرف الدهر مختلف

هيهات بعدك أن يدوم لنا ** عز وأن يبقى لنا شرف

لا هيبوا صحفًا مشرفةً ** للغادلين وتحتها الجدف

أفبعد عهد الله تقتله ** والقتل بعد أمانه سرف

فستعرفون غدًا بعاقبة ** عز الإله فأوردوا وقفوا

يا من يخون نومه أرق ** هدت الشجون وقلبه لهف

قد كنت لي أملًا غنيت به ** فمضى وحل محله الأسف

مرج النظام وعاد منكرنا ** عرفًا وأنكر بعدك العرف

فالشمل منتشر لفقدك والد ** نيا سدىً والبال منكسف

وقال أيضًا يرثيه:

إذا ذكر الأمين نعى الأمينا ** وإن رقد الخلي حمى الجفونا

وما برحت منازل بين بصرى ** وكلواذى تهيج لي شجونا

عراص الملك خاوية تهادى ** بها الأرواح تنسجها فنونا

تخون عز ساكنها زمان ** تلعب بالقرون الأولينا

فشتت شملهم بعد اجتماعٍ ** وكنت بحسن ألفتهم ضنينا

فلم أر بعدهم حسنًا سواهم ** ولم ترهم عيون الناظرينا

فوا أسفًا وإن شمت الأعادي ** وآه على أمير المؤمنينا

أضل العرف بعدك متبعوه ** ورفه عن مطايا الراغبينا

وكن إلى جنابك كل يومٍ ** يرحن على السعود ويغتدينا

هو الجبل الذي هوت المعالي ** لهدته وريع الصالحونا

ستندب بعدك الدنيا جوارًا ** وتندب بعدك الدين المصونا

فقد ذهبت بشاشة كل شيءٍ ** وعاد الدين مطروحًا مهينا

تعقد عز متصل بكسرى ** وملته وذل المسلمونا

وقال أيضًا يرثيه:

أسفًا عليك سلاك أقرب قربةً ** مني وأحزاني عليك تزيد

وقال عبد الحمن بن أبي الهداهد يرثي محمدًا:

يا غرب جودي قد بت من وذمه ** فقد فقدنا العزيز من ديمه

ألوت بدنياك كف نائبةٍ ** وصرت مغضىً لنا على نقمه

أصبح للموت عندنا علم ** يضحك سن المنون من علوه

ما استنزلت درة المنون على ** أكرم من حل في ثرى رحمه

خليفة الله في بريته ** تقصر أيدي الملوك عن شيمه

يفتر عن وجهه سنا قمرٍ ** ينشق عن نوره دجى ظلمه

زلزلت الأرض من جوانبها ** إذ أولغ السيف من نجيع دمه

من سكت نفسه لمصرعه ** من عمم الناس أو ذوي رحمه

رأيته مثل ما رآه به ** حتى تذوق الأمر من سقمه

كم قد رأينا عزيز مملكةٍ ** ينقل عن أهله وعن خدمه

يا ملكًا ليس بعده ملك ** لخاتم الأنبياء في أممه

جاد وحيا الذي أقمت به ** سح غزير الوكيف عن ديمه

لو أحجم الموت عن أخي ثقة ** أسوي في العز مستوى قدمه

أو ملكٍ لا ترام سطوته ** إلا مرام الشتيم في أجمه

خلدك العز ما سرى سدف ** أو قام طفل العشي في قدمه

أصبح ملك إذا اتزرت به ** يقرع سن الشقاة من ندمه

أثر ذو العرش في عداك كما ** أثر في عاده وفي إرمه

لا يبعد الله سورة تليت ** لخير داعٍ دعاه في حرمه

ما كنت إلا كحلم ذي حلمٍ ** أولج باب السرور في حلمه

حتى إذا أطلقته رقدته ** عاد إلى ما اعتراه من عدمه

وقال أيضًا يرثيه:

أقول وقد دنوت من الفرار ** سقيت الغيث يا قصر القرار

رمتك يد الزمان بسهم عينٍ ** فصرت ملوحًا بدخان نار

أبن لي عن جميعك أين حلوا ** وأين مزارهم بعد المزار

وأين محمد وابناه ما لي ** أرى أطلالهم سود الديار!

كأن لم يؤنسوا بأنيس ملكٍ ** يصون على الملوك بخير جار

إمام كان في الحدثان عونًا ** لنا والغيث يمنح بالقطار

لقد ترك الزمان بني أبيه ** وقد غمرتهم سود البحار

أضاعوا شمسهم فجرت بنحسٍ ** فصاروا في الظلام بلا نهار

وأجلوا عنهم قمرًا منيرًا ** وداستهم خيول بني الشرار

ولو كانوا لهم كفوًا مثلًا ** إذا ما توجوا تيجان عار

ألا بان الإمام ووارثاه ** لقد ضرما الحشا منا بنار

وقالوا الخلد بيع فقلت ذلًا ** يصير ببائعيه إلى صغار

كذاك الملك يتبع أوليه ** إذا قطع القرار من القرار

وقال مقدس بن صيفي يرثيه:

خليلي ما أتتك به الخطوب ** فقد أعطتك طاعته النحيب

تدلت من شماريخ المنايا ** منايا ما تقوم لها القلوب

خلال مقابر البستان قبر ** يجاور قبره أسد غريب

لقد عظمت مصيبته على من ** له في كل مكرمةٍ نصيب

على أمثاله العبرات تذرى ** وتهتك في مآتمه الجيوب

وما اذخرت زبيدة عنه دمعًا ** تخص به النسيبة والنسيب

دعوا موسى ابنه لبكاء دهرٍ ** على موسى ابنه دخل الحزيب

رأيت مشاهد الخلفاء منه ** خلاء ما بساحتها مجيب

ليهنك أنني كهل عليه ** أذوب، وفي الحشا كبد تذوب

أصيب به البعيد فخر حزنًا ** وعاين يومه فيه المريب

أنادي من بطون الأرض شخصًا ** يحركه النداء فما يجيب

لئن نعت الحروب إليه نفسًا ** لقد فجعت بمصرعه الحروب

وقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أم جعفر:

لخير إمام قام من خير عنصر ** وأفضل سام فوق أعواد منبر

لوارث علم الأولين وفهمهم ** وللملك المأمون من أم جعفر

كتبت وعيني مستهل دموعها ** إليك ابن عمي من جفوني ومحجري

وقد مسني ضر وذل كآبةٍ ** وأرق عيني يابن عمي تفكري

وهمت لما لاقيت بعد مصابه ** فأمري عظيم منكر جد منكر

سأشكو الذي لاقيته بعد فقده ** إليك شكاة المستهام المقهر

وأرجو لما قد مر بي مذ فقدته ** فأنت لبثي خير رب مغير

أتى طاهر لا طهر الله طاهرًا ** فما طاهر فيما أتى بمطهر

فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرًا ** وأنهب أموالي وأحرق آدري

يعز على هارون ما قد لقيته ** وما مر بي من ناقص الخلق أعور

فإن كان ما أسدى بأمرٍ أمرته ** صبرت لأمرٍ من قدير مقدر

تذكر أمير المؤمنين قرابتي ** فديتك من ذي حرمةٍ متذكر

وقال أيضًا يرثيه:

سبحان ربك رب العزة الصمد ** ماذا أصبنا به في صبحة الأحد

وما أصيب به الإسلام قاطبةً ** من التضعضع في ركنيه والأود

من لم يصب بأمير المؤمنين ولم ** يصبح بمهلكةٍ والهم في صعد

فقد أصبت به حتى تبين في ** عقلي وديني وفي دنياي والجسد

يا ليلةً يشتكي الإسلام مدتها ** والعالمون جميعًا آخر الأبد

غدرت بالملك الميمون طائره ** وبالإمام وبالضرغامة الأسد

سارت إليه المنايا وهي ترهبه ** فواجهته بأوغادٍ ذوي عدد

بشورجين وأغتامٍ يقودهم ** قريش بالبيض في قمصٍ من الزرد

فصادفوه وحيدًا لا معين له ** عليهم غائب الأنصار بالمدد

فجرعوه المنايا غير ممتنعٍ ** فردًا فيا لك من مستسلم فرد

يلقى الوجوه بوجهٍ غير مبتذلٍ ** أبهى وأنقى من القوهية الجدد

وا حسرتا وقريش قد أحاط به ** والسيف مرتعد في كف مرتعد

فما تحرك بل ما زال منتصبًا ** منكس الرأس لم يبدئ ولم يعد

حتى إذا السيف وافى وسط مفرقة ** أذرته عنه يداه فعل متئد

وقام فاعتقلت كفاه لبته ** كضيغمٍ شرس مستبسل لبد

فاحتزه ثم أهوى فاستقل به ** للأرض من كف ليثٍ محرجٍ حرد

فكاد يقتله لو لم يكاثره ** وقام منفلتًا منه ولم يكد

هذا حديث أمير المؤمنين وما ** نقصت من أمره حرفًا ولم أزد

لا زلت أندبه حتى الممات وإن ** أخنى عليه الذي أخنى على لبد

وذكر عن الموصلي أنه قال: لما بعث طاهر برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرياستين، وقال: سل علينا سيوف الناس وألسنتهم؛ أمرناه أن يبعث به أسيرًا فبعث به عقيرًا! وقال المأمون: قد مضى ما مضى فاحتل في الاعتذار منه؛ فكتب الناس فأطالوا، وجاء أحمد بن يوسف بشبرٍ من قرطاس فيه: أما بعد؛ فإن المخلوع كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، وقد فرق الله بينه وبينه في الولاية والحرمة، لمفارقته عصم الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين؛ يقول الله عز وجل حين اقتص علينا نبأ ابن نوح:

" إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح "، فلا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة إذا كانت القطيعة في جنب الله. وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، ورداه رداء نكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، وما ينتظر من صادق وعده حين رد به الألفة بعد فرقتها، وجمع الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الإسلام بعد دروسها.

ذكر الخبر عن بعض سير المخلوع محمد بن هارون

ذكر عن حميد بن سعيد، قال: لما ملك محمد، وكاتبه المأمون وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم. وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه؛ وفرض لهم فرضًا سماه الجرادية، وفرضًا من الحبشلن سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن، ففي ذلك يقول بعضهم:

ألا يا مزمن المثوى بطوس ** عزيبًا ما يفادى بنفوس

لقد أبقيت للخصيان بعلًا ** تحمل منهم شؤم البسوس

فأما نوفل فالشأن فيه ** وفي بدرٍ، فيا لك من جليس!

وما العصمى بشار لديه ** إذا ذكروا بذي سهم خسيس

لهم من عمره شطر وشطر ** يعاقر فيه شرب الخندريس

وما للغانيات لديه حظ ** سوى التقطيب بالوجه العبوس

إذا كان الرئيس كذا سقيمًا ** فكيف صلاحنا بعد الرئيس!

فلو علم المقيم بدار طوسٍ ** لعز على المقيم بدار طوس

قال حميد: ولما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك؛ واحتجب عن أخوته وأهل بيته، وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمنتزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلا ورقة كلواذى وباب الأنبار وبناوري والهوب؛ وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالًا عظيمًا، فقال أبو النواس يمدحه:

سخر الله للأمين مطايا ** لم تسخر لصاحب المحراب

فإذا ما ركابه سن برًا ** سار في الماء راكبًا ليث غاب

أسدًا باسطًا ذراعيه يهوى ** أهرت الشدق كالح الأنياب

لا يعانيه باللجام ولا السو ** ط ولا غمز رجليه في الركاب

عجب الناس إذ رأوك على صو ** رة ليثٍ تمر مر السحاب

سبحوا إذ رأوك صرت عليه ** كيف لو أبصروك فوق العقاب

ذات زور ومنسر وجناح ** ين تشق العباب بعد العباب

تسبق الطير في السماء إذا ما اس ** تعجلوها بجيئة وذهاب

بارك الله للأمير وأبقا ** ه وأبقى له رداء الشباب

ملك تقصر المدائح عنه ** هاشمي موفق للصواب

وذكر عن الحسين بن الضحاك، قال: ابتنى الأمير سفينة عظيمة، أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدلفين، فقال في ذلك أبو نواس الحسن بن هانئ:

قد ركب الدلفين بدر الدجى ** مقتحمًا في الماء قد لحجا

فأشرقت دجلة في حسنه ** وأشرق الشطان واستبهجا

لم ترى عيني مثله مركبًا ** أحسن إن سار وإن أحنجا

إذا استحثثته مجاديفه ** أعتق فوق الماء أو هملجا

خص به الله الأمين الذي ** أضحى بتاج الملك قد توجا

وذكر عن احمد بن إسحاق بن برصومة المغني الكوفي أنه قال: كان العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر من رجالات بني هاشم جلدًا وعقلأ وصنيعًا؛ وكان يتخذ الخدم، وكان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له المنصور، فوجد الخادم عليه، فهرب إلى محمد، وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوةً عجيبة. قال: فركب الخادم يومًا في جماعة خدم كانو لمجمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس هيئته وحاله التي هو عليها. وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج محضرا في قميص حاسرأ، في يده عمود عليه كيمخت، فلحقه في سويقة أبي الورد، فعلق بلجامه، ونازعه أولئك الخدم، فجعل لا يضرب أحدًا منهم إلا أوهنه، حتى تفرقوا عنه، وجاء به يقوده حتى أدخله داره. وبلغ الخبر محمدًا، فبعث إلى داره جماعة، فوقفوا حيالها، وصف العباس غلمانه ومواليه على سور داره، ومعهم الترسة والسهام، فقام أحمد بن إسحاق: فخفنا والله النار أن تحرق منازلنا؛ وذلك أنهم أرادوا أن يحرقوا دار العباس. قال: وجاء رشيد الهاروني، فاستأذن عليه فدخل غليه، فقال: ماتصنع! أتدري ما أنت فيه وما قد جاءك! لو أذن لهم لاقتلعوا دارك بالأسنه، ألست في الطاعة! قال: بلى، قال: فقم فاركب. قال: فخرج في سواده، فلما صار على باب داره، قال: يا غلام، هلم دابتي فقال رشيد: لا ولا كرامة! ولكن تمضي راجلًا. قال: فمضى، فلما صار إلى الشارع نظر؛ فإذا العالمون قد جاءوا، وجاءه الجلودي والإفريقي وأبو البط وأصحاب الهرش. قال: فجعل ينظر إليهم، وأنا أراه راجلًا ورشيد راكب. قال: وبلغ أم جعفر الخبر، فدخلت على محمد، وجعل تطلب إلى محمد، فقال لها: نفيت من قرابتي من رسول الله إن لم أقتله! وجعلت تلح عليه، فقال لها: والله إني لأظنني سأسطو بك. قال: فكشفت شعرها، وقالت: ومن يدخل علي وأنا حاسر! قال: فبينما محمد كذلك - ولم يأت العباس بعد - إذ قدم صاعد الخادم عليه بقتل علي بن عيسى بن ماهان، فاشتغل بذلك، وأقام العباس في الدهليز عشرة أيام، ونسيه ثم ذكره، فقال: يحبس في حجرة من حجر داره، ويدخل عليه ثلاثة رجال من مواليه من مشايخهم يخدمونه، ويجعل له وظيفة في كل يوم ثلاثة ألوان. قال: فلم يزل على هذه الحال حتى خرج حسين بن علي بن عيسى بن ماهان، ودعا إلى المأمون وحبس محمد. قال: فمر إسحاق بن عيسى بن علي ومحمد بن محمد المعبدى بالعباس بن عبد الله وهو في منظره، فقالا له: ما قعودك؟ اخرج إلى هذا الرجل - يعنيان حسين بن علي - قال: فخرج فأتى حسينًا، ثم وقف عند باب الجسر؛ فما ترك لأم جعفر شيئًا من الشتم إلا قاله، وإسحاق بن موسى يأخذ البيعة للمأمون. قال: ثم لم يكن إلا يسيرًا حتى قتل الحسين، وهرب العباس إلى نهر بين إلى هرثمة، ومضى ابنه العباس إلى محمد، فسعى إليه بما كان لأبيه، ووجه محمد إلى منزله، فأخذ منه أربعة ألف درهم وثلثمائة أف دينار، وكانت في قماقم في بئر، وأنسوا قمقمين من تلك القماقم، فقال: ما بقي من ميراث أبي سوى هذين القمقمين، وفيهما سبعون ألف دينار. فلما انقضت الفتنة وقتل محمد رجع إلى منزله فأخذ القمقمين وجعلهما.. وحج في تلك السنة، وهي سنة ثمان وتسعين ومائة.

قال أحمد بن إسحاق: وكان العباس بن عيد الله يحدث بعد ذلك؛ فيقول: قال لي سليمان بن جعفر ونحن في دار المأمون: أما قتلت ابنك بعد؟ فقالت: يل عم، جعلت فداك! ومن يقتل ابنه! فقال لي: اقتله؛ فهو الذي سعى بك وبمالك فأفقرك.

وذكر عن أحمد بن إسحاق بن برصوما، قال: لما حصر محمد وضغطه الأمر، قال: ويحكم! ما أحد يستراح إليه! فقيل له: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة، يقال له وضاح بن حبيب بن بديل التميمي؛ وهو بقية من بقايا العرب، وذو رأي أصيل، قال: فأرسلوا إليه، قال: فقدم علينا، فلما صار إليه قال له: إني قد خيرت بمذهبك ورأيك، فأشر علينا في أمرنا، قال له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب؛ ولكن استعمل الأراجيف؛ فإنها من آلة الحرب؛ فنصب رجلًا كان ينزل دجيلًا يقال له بكير بن المعتمر؛ فكان إذا نزل بمحمد نازلة وحادثة هزيمة قال له: هات؛ فقد جاءنا نازلة، فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها. قال أحد بن إسحاق: كأني أنظر إلى بكير بن المعتمر شيخ عظيم الخلق.

وذكر عن العباس بن أحمد بن أبان الكاتب، قال: حدثنا إبراهيم بن الجراح، قال: حدثني كوثر، قال: أمر محمد بن زبيدة يومًا أن يفرش له على دكان الخلد، فبسط له عليه بساط زرعي، وطرحت عليه نمارق وفرش مثله، وهيئ له من آنية الفضة والذهب والجوهر أمر عظيم، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشرًا عشرًا، بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد؛ فأصعدت إليه عشرًا فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:

هم قتلوه كي يكونوا مكانه ** كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه

قال: فتأفف من هذا، ولعنها ولعن الجواري، فأمر بهن فأنزلن، ثم لبث هنيهة وأمرها أن تصعد عشرًا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:

من كان مسرورًا بمقتل مالكٍ ** فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسرًا يندبنه ** يلطمن قبل تبلج الأسحار

قال: فضجر وفعل مثل فعلته الأولى، وأطرق طويلًا، ثم قال: أصعدي عشرًا فأصعدتهن، فلما وقفن على الدكان، اندفعن يغنين بصوت واحد:

كليب لعمري كان أكثر ناصرًا ** وأيسر ذنبًا منك ضرج بالدم

قال: فقام من مجلسه، وأمر بهدم ذلك المكان تطيرًا مما كان.

وذكر عن محمد بن عبد الرحمن الكندي، قال: حدثني محمد بن دينار، قال: كان محمد المخلوع قاعدًا يومًا، وقد اشتد عليه الحصار، فاشتد اغتمامه، وضاق صدره؛ فدعا بندمائه والشراب ليتسلى به، فأتي به، وكانت له جارية يتحظاها من جواريه، فأمرها أن تغني، وتناول كأسًا ليشربه؛ فحبس الله لسانها عن كل شيء، فغنت:

كليب لعمري كان أكثر ناصرًا ** وأيسر ذنبًا منك ضرج بالدم

فرماها بالكأس الذي في يده، وأمر بها فطرحت للأسد، ثم تناول كأسًا أخرى، ودعا أخرى فغنت:

هم قتلوه كي يكونوا مكانه ** كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه

فرمى وجهها بالكأس، ثم تناول كأسًا أخرى ليشربها، وقال لأخرى: غني، فغنت: قومي هم قتلوا أميم أخي فرمى وجهها بالكأس، ورمى الصينية برجله، وعاد إلى ما كان فيه من همه، وقتل بعد ذلك بأيام يسيرة.

وذكر عن أبي سعيد أنه قال: ماتت فطيم - وهي أم موسى بن محمد بن هارون المخلوع - فجزع عليها جزعًا شديدًا، وبلغ أم جعفر، فقالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، قال: فحملت إليه، فاستقبلها، فقال: يا سيدتي، ماتت فطيم، فقالت

نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف ** ففي بقائك ممن قد مضى خلف

عوضت موسى فهانت كل مرزئةٍ ** ما بعد موسى على مفقوده أسف

وقالت: أعظم الله أجرك، ووفر صبرك، وجعل العزاء عنها ذخرك! وذكر عن إبراهيم بن إسماعيل بن هانئ، ابن أخي أبي نواس، قال: حدثني أبي قال: هجا عمك أبو نواس مضر في قصيدته التي يقول فيها:

أما قريش فلا افتخار لها ** إلا التجارات من مكاسبها

وإنها إن ذكرت مكرمةً ** جاءت قريش تسعى بغالبها

إن قريشًا إذا هي انتسبت ** كان لها الشطر من مناسبها

قال: يريد أن أكرمها يغالب. قال: فبلغ ذلك الرشيد في حياته، فأمر بحبسه؛ فلم يزل محبوسًا حتى ولي محمد، فقال يمدحه، وكان انقطاعه إليه أيام إمارته، فقال:

تذكر أمين الله والعهد يذكر ** مقامي وإنشاديك والناس حضر

ونثري عليك الدر يا در هاشمٍ ** فيا من رأى درًا على الدر ينثر!

أبوك الذي لم يملك الأرض مثله ** وعمك موسى عدله المتخير

وجدك مهدي الهدى وشقيقه ** أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر

وما مثل منصوريك: منصور هاشمٍ ** ومنصور قحطانٍ إذا عد مفخر

فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا ** وعبد منافٍ والداك وحمير

قال: فتغنت بهذه الأبيات جارية بين يدي محمد، فقال لها: لمن الأبيات؟ فقيل له: لأبي نواس، فقال: وما فعل؟ فقيل له: محبوس، فقال: ليس عليه بأس. قال: فبعث إليه إسحاق بن فراشة وسعيد بن جابر أخا محمد من الرضاعة، فقالا: إن أمير المؤمنين ذكرك البارحة فقال: ليس عليه بأس، فقال أبياتًا وبعث بها إليه، وهي هذه الأبيات:

أرقت وطار من عيني النعاس ** ونام السامرون ولم يواسوا

أمين الله قد ملكت ملكًا ** عليك من التقى فيه لباس

ووجهك يستهل ندى فيحيا ** به في كل ناحيةٍ أناس

كأن الخلق في تمثال روحٍ ** له جسد وأنت عليه راس

أمين الله إن السجن باس ** وقد أرسلت: ليس عليك باس

فلما أنشده قال: صدق، علي به، فجيء به في الليل، فكسرت قيوده؛ وأخرج حتى دخل عليه، فأنشأ يقول:

مرحبًا مرحبًا بخير إمامٍ ** صيغ من جوهر الخرفة نحتا

يا أمين الإله يكلؤك الل ** ه مقيمًا وظاعنًا حيث سرتا

إنما الأرض كلها لك دار ** فلك الله صاحب حيث كنتا

قال: فخلع عليه، وخلي سبيله، وجعله في ندمائه.

وذكر عن عبد الله بن عمرو التميمي، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الفارسي، قال: شرب أبو نواس الخمر، فرفع ذلك إلى محمد في أيامه، فأمر بحبسه، فحبسه أبو الفضل بن الربيع ثلاثة أشهر، ثم ذكره محمد، فدعا به وعنده بنو هاشم وغيرهم، ودعا له بالسيف والنطع يهدده بالقتل، فأنشده أبو نواس هذه الأبيات:

تذكر أمين الله والعهد يذكر

الشعر الذي ذكرناه قبل، وزاد فيه:

تحسنت الدنيا بحسن خليفةٍ ** هو البدر إلا أنه الدهر مقمر

إمام يسوس الناس سبعين حجة ** عليه له منها لباس ومئزر

يشير إليه الجود من وجناته ** وينظر من أعطافه حين ينظر

أيا خير مأمولٍ يرجى، أنا امرؤ ** رهين أسير في سجونك مقفر

مضى أشهر لي مذ حبست ثلاثة ** كأني قد أذنبت ما ليس يغفر

فإن كنت لم أذنب ففيم تعقبي! ** وإن كنت ذا ذنبٍ فعفوك أكثر

قال: فقال له محمد: فإن شربتها؟ قال: دمي لك حلال يا أمير المؤمنين، فأطلقه. قال: فكان أبو نواس يشمها ولا يشربها وهو قوله: لا أذوق المدام إلا شميما وذكر عن مسعود بن عيسى العبدي، قال: أخبرني يحيى بن المسافر القرقسائي، قال: أخبرني دحيم غلام أبي نواس؛ أن أبا نواس عتب عليه محمد في شرب الخمر، فطبق به - وكان للفضل بن الربيع خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم - ودخل في حبس الزنادقة، فرأى فيه أبا نواس - ولم يكن يعرفه - فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة! قال: معاذ الله، قال: فلعلك ممن يعبد الكبش! قال: أنا آكل الكبش بصوفه، قال: فلعلك ممن بعبد الشمس؟ قال: إني لأتجنب القعود فيها بغضًا لها، قال: فبأي جرم حبست؟ قال: حبست بتهمة أنا منها بريء، قال: ليس إلا هذا؟ قال: والله لقد صدقتك. قال: فجاء إلى الفضل، فقال له: يا هذا، لا تحسنون جوار نعم الله عز وجل! أيحبس الناس بالتهمة! قال: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى من جرمه، فتبسم الفضل، ودخل على محمد، فأخبره بذلك، فدعا به، وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر، قال: نعم، قيل له: فبعهد الله! قال: نعم، قال: فاخرج، فبعث إليه فتيان من قريش فقال لهم: إني لا أشرب، قالوا: وإن لم تشرب فآنسنا بحديثك، فأجاب، فلما دارت الكأس بينهم، قالوا: ألم ترتح لها؟ قال: لا سبيل والله إلى شربها، وأنشأ يقول:

أيها الرائحان باللوم لوما ** لا أذوق المدام إلا شمما

نالني بالملام فيها إمام ** لا أرى في خلافه مستقيما

فاصرفاها إلى سواي فإني ** لست إلا على الحديث نديما

إن حظي منها إذا هي دارت ** أن أراها وأن أشم النسيما

فكأني وما أحسن منها ** قعدي يزين التحكيما

كل عن حملة السلاح إلى الحر ** ب فأوصى المطبق ألا يقيما

وذكر عن أبي الورد السبعي أنه قال: كنت عند الفضل بن سهل بخراسان، فذكر الأمين، فقال: كيف لا يستحل قتال محمد وشاعره يقول في مجلسه:

ألا سقني خمرًا وقل لي هي الخمر ** ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر

قال: فبلغت القصة محمدًا، فأمر الفضل بن الربيع فأخذ أبا نواس فحبسه.

وذكر كامل بن جامع عن بعض أصحاب أبي نواس ورواته، قال: كان أبو نواس قال أبياتًا بلغت الأمين في آخرها:

وقد زادني تيهًا على الناس أنني ** أراني أغناهم إذا كنت ذا عسر

ولو لم أنل فخرًا لكانت صيانتي ** فمي عن جميع الناس حسبي من الفخر

ولا يطمعن في ذاك مني طامع ** ولا صاحب التاج المحجب في القصر

قال: فبعث إليه الأمين - وعنده سليمان بن أبي جعفر - فلما دخل عليه، قال: يا عاض بظر أمه العاهرة! يابن اللخناء - وشتمه أقبح الشتم - أنت تكسب بشعرك أوساخ أيدي اللئام، ثم تقول: ولا صاحب التاج المحجب في القصر أما والله لا نلت مني شيئًا أبدًا. فقال له سليمان بن أبي جعفر: والله يا أمير المؤمنين، وهو من كبار الثنوية، فقال محمد: هل يشهد عليه بذلك شاهد؟ فاستشهد سليمان جماعة، فشهد بعضهم أنه شرب في يوم مطير، ووضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه القطر، وقال: يزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم ترى أني أشرب الساعة من الملائكة! ثم شرب ما في القدح، فأمر محمد بحبسه، فقال أبو نواس في ذلك:

يا رب إن القوم قد ظلموني ** وبلا اقتراف تعطل حبسوني

وإلى الجحود بما عرفت خلافه ** مني إليه بكيدهم نسبوني

ما كان إلا الجري في ميدانهم ** في كل جري والمخافة ديني

لا العذر يقبل لي فيفرق شاهدي ** منهم ولا يرضون حلف يميني

ولكان كوثر كان أولى محبسًا ** في دار منقصة ومنزل هون

أما الأمين فلست أرجو دفعه ** عني، فمن لي اليوم بالمأمون!

قال: وبلغت المأمون أبياته فقال: والله لئن لحقته لأغنيه غنى لا يؤمله، قال: فمات قبل دخول المأمون مدينة السلام.

قال: ولما طال حبس أبي نواس، قال في حبسه - فيما ذكر - عن دعامة:

احمدوا الله جميعًا ** يا جميع المسلمينا

ثم قولوا لا تملوا ** ربنا أبق الأمينا

صير الخصيان حتى ** صير التعنين دينا

فاقتدى الناس جميعًا ** بأمير المؤمنينا

قال: وبلغت هذه الأبيات أيضًا المأمون وهو بخراسان، فقال: إني لأتوكفه أن يهرب إلي.

وذكر يعقوب بن إسحاق، عمن حدثه، عن كوثر خادم المخلوع، أن محمدًا أرق ذات ليلة، وهو في حربه مع طاهر، فطلب من يسامره فلم يقرب إليه أحد من حاشيته، فدعى حاجبه، فقال: ويلك! قد خطرت بقلبي خطرات فأحضرني شاعرًا ظريفًا أقطع به بقية ليلتي، فخرج الحاجب، فاعتمد أقرب من بحضرته، فوجد أبا نواس، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له: لعلك أردت غيري! قال: لم أرد أحدًا سواك. فأتاه به، فقال: من أنت؟ قال: خادمك الحسن بن هانئ، وطليقك بالأمس، قال: لا ترع؛ إنه عرضت بقلبي أمثال أحببت أن تجعلها في شعر، فإن فعلت ذلك أجزت حكمك فيما تطلب، فقال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: قولهم: عفا الله عما سلف، وبئس والله ما جرى فرسي، واكسري عودًا على أنفك، وتمنعي أشهى لك. قال: فقال أبو نواس. حكمي أربع وصائف مقدودات، فأمر بإحضارهن، فقال:

فقدت طول اعتلالك ** وما أرى في مطالك

لقد أردت جفائي ** وقد أردت وصالك

ما ذا أردت بهذا! ** تمنعي أشهى لك

وأخذ بيد وصيفته فعزلها، ثم قال:

قد صحت الأيمان من حلفك ** وصحت حتى مت من خلفك

بالله يا سني احنثي مرة ** ثم اكسري عودًا على أنفك

ثم عزل الثانية، ثم قال:

فديتك ماذا الصلف ** وشتمك أهل الشرف!

صلي عاشقًا مدنفًا ** قد أعتب مما اقترف

ولا تذكري ما مضى ** عفا الله عما سلف

ثم عزل الثالثة، وقال:

وباعثاتٍ إلى من في الغلس ** أن ائتنا واحترس من العسس

حتى إذا نوم العداة ولم ** أخش رقيبًا ولا سنا قبس

ركبت مهري وقد طربت إلى ** حورٍ حسان نواعم لعس

فجئت والصبح قد نهضت له ** فبئس والله ما جرى فرسي

فقال: خذهن لا بارك الله لك فيهن! وذكر عن الموصلي، عن حسين خادم الرشيد، قال: لما صارت الخلافة إلى محمد هيئ له منزل على الشط، بفرش أجود مما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي؛ لم يكن لأبيك فرش يباهي بك الملوك والوفود الذين يردون عليه أحسن من هذا؛ فأحببت أن أفرشه لك، قال: فأحببت أن يفرش لي في أول خلافتي المرداج، وقال: مزقوه، قال: فرأيت والله الخدم والفراشين قد صيروه ممزقًا وفرقوه.

وذكر عن محمد بن الحسن. قال: حدثني أحمد بن محمد البرمكي أن إبراهيم بن المهدي غنى محمد بن زبيدة:

هجرتك حتى قيل لا يعرف القلى ** وزرتك حتى قيل ليس له صبر

فطرب محمد، وقال: أوقروا زورقه ذهبًا.

وذكر عن علي بن محمد بن إسماعيل، عن مخارق، قال: إني لعند محمد بن زبيدة يومًا ماطرًا، وهو مصطبح، وأنا جالس بالقرب منه، وأنا أغني وليس معه أحد، وعليه جبة وشي؛ لا والله ما رأيت أحسن منها. فأقبلت أنظر إليها، فقال: كأنك استحسنتها يا مخارق! قلت: نعم يا سيدي؛ عليك لأن وجهك حسن فيها، فأنا أنظر إليه وأعوذك. قال: يا غلام، فأجابه الخادم، قال: فدعا بجبة غير تلك، فلبسها وخلع التي عليه علي، ومكثت هنيهة ثم نظرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الكلام، وعاودته، فدعا بأخرى حتى فعل ذلك بثلاث جباب ظاهرت بينها. قال: فلما رآها علي ندم وتغير وجهه، وقال: يا غلام، اذهب إلى الطباخين فقل لهم: يطبخون لن مصلية، ويجيدوا صنعتها، وأتني بها الساعة، فما هو إلا أن ذهب الغلام حتى جاء الخوان، وهو لطيف صغير، وفي وسطه غضارة ضخمة ورغيفان، فوضعت بين يديه، فكسر لقمة فأهوى بها إلى الصحيفة، ثم قال: كل يا مخارق، قلت: يا سيدي، اعفني من الأكل، قال: لست أعفيك فكل، فكسرت لقمة، ثم تناولت شيئًا، فلما وضعتها في فمي قال: لعنك الله! ما أشرهك! نغصتها علي وأفسدتها، وأدخلت يدك فيها؛ ثم رفع الغضارة بيده، فإذا هي في حجري، وقال: قم لعنك الله! فقمت وذاك الودك والمرق يسيل من الجباب، فخلعتها وأرسلت بها إلى منزلي، ودعوت القصارين والوشائين، وجهدت جهدي أن تكون كما كانت فما عادت.

وذكر عن البحتري أبي عبادة عن عبيد الله بن أبي غسان، قال: كنت عند محمد في يوم شات شديد البرد؛ وهو في مجلس له مفرد مفروش بفرش؛ قلما رأيت أرفع قيمة مثله ولا أحسن، وأنا في ذلك اليوم طاو ثلاثة أيام ولياليهن إلا من النبيذ؛ والله لا أستطيع أن أتكلم ولا أعقل، فنهض نهضة البول، فقلت لخادم من خدمي الخاصة: ويلك! قد والله مت فهل من حيلة إلى شيء تلقيه في جوفي يبرد عني ما أنا فيه! فقال: دعني حتى أحتال لك وأنظر ما أقول، وصدق مقالتي، فلما رجع محمد وجلس نظر الخادم إلي نظرة، فتبسم، فرآه محمد، فقال: مم تبسمت؟ قال: لا شيء يا سيدي، فغضب. قال البحتري: فقال: شيء في عبيد الله بن أبي غسان؛ لا يستطيع أن يشم رائحة البطيخ ولا يأكله، ويجزع منه جزعًا شديدأً. فقال: يا عبيد الله هذا فيك؟ قال: قلت: إي والله يا سيدي ابتليت به، قال: ويحك! مع طيب البطيخ وطيب ريحه! قال: فقلت: أنا كذا. قال: فتعجب ثم قال: علي ببطيخ؛ فأتى منه بعدة، فلما رأيته أظهرت القشعريرة منه، وتنحيت. قال: خذوه وضعوا البطيخ بين يديه، قال: فأقبلت أريه الجزع والاضطراب من ذلك، وهو يضحك، ثم قال: كل واحدة، قال: فقلت: يا سيدي، تقتلني وترمي بكل شيء في جوفي وتهيج علي العلل، الله الله في! قال: كل بطيخة ولك فرش هذا البيت؛ علي عهد الله بذلك وميثاقه، قلت: ما أصنع بفرش بيت وأنا أموت إن أكلت! قال: فتأبيت، وألح علي، وجاء الخادم بالسكاكين فقطعوا بطيخة، فجعلوا يحشونها في فمي وأنا أصرخ وأضطرب؛ وأنا مع ذلك أبلع، وأنا أريه أني بكره أفعل ذلك وألطم رأسي، وأصبح وهو يضحك، فلما فرغت تحول إلى بيت آخر، ودعا الفراشين، فحملوا فرش ذلك البيت إلى منزلي ثم عاودني في فرش ذلك البيت في بطيخة أخرى، ثم فعل كفعله الأول، وأعطاني فرش البيت؛ حتى أعطاني فرش ثلاثة أبيات؛ وأطعمني ثلاث بطيخات، قال: وحسنت والله حالي واشتد ظهري.

قال: وكان منصور بن المهدي يريه أنه ينصح له، فجاء وقد قام محمد يتوضأ، وعلمت أن محمدًا سيعقبني بشر ندامة على ما خرج من يديه؛ فأقبل علي منصور ومحمد غائب عن المجلس، وقد بلغه الخبر، فقال: يابن الفاعلة، تخدع أمير المؤمنين، فتأخذ متاعه! والله لقد هممت أفعل وأفعل، فقلت: يا سيدي، قد كان ذاك؛ وكان السبب فيه كذا وكذا، فإن أحببت أن تقتلني فتأثم فشأنك، وإن تفضلت فأهل لذلك أنت، ولست أعود. قال: فإني أتفضل عليك. قال: وجاء محمد، فقال: افرشوا لنا على تلك البركة، ففرشوا له عليها، فجلس وجلسنا وهي مملوءة ماء، فقال: يا عم، اشتهيت أن أصنع شيئًا؛ أرمي عبيد الله إلى البركة وتضحك منه. قال: يا سيدي إن فعلت هذا قتلته لشدة برد الماء وبرد يومنا هذا؛ ولكني أدلك على شيء خيرت به، طيب، قال: ما هو؟ قال: تأمر به يشد في تخت، ويطرح على باب المتوضأ، ولا يأتي باب المتوضأ أحد إلا بال على رأسه. فقال: طيب والله؛ ثم أتى بتخت فأمر فشددت فيه، ثم أمر فحملت فألقيت على باب المتوضأ، وجاء الخدم فأرخوا الرباط عني، وأقبلوا يرونه أنهم يبولون علي وأنا أصرخ، فمكث بذلك ما شاء الله وهو يضحك. ثم أمر بي فحللت وأريته أني تنظفت وأبدلت ثيابي وجاوزت عليه.

وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع عن أبيه - وكان حاجب المخلوع - قال: كنت قائمًا على رأسه، فأتى بغداء فتغدى وحده، وأكل أكلًا عجيبًا، وكان يومًا يعد للخلفاء قبله على هيئة ما كان يهيأ لكل واحد منهم يأكل من كل طعام، ثم يؤتى بطعامه. قال: فأكل حتى فرغ ثم رفع رأسه إلى أبي العنبر - خادم كان لأمه - فقال: اذهب إلى المطبخ، فقل لهم يهيئون لي بزماورد، ويتركونه طوالًا لا يقطعونه، ويكون حشوه شحوم الدجاج والسمن والبقل والبيض والجبن والزيتون والجوز، ويكثرون منه ويعجلونه؛ فما مكث إلا يسيرًا حتى جاءوا به في خوان مربع، وقد جعل البزماورد الطوال، على هيئة القبة العبد صمدية، حتى صير أعلاها بزماوردة واحدة، فوضع بين يديه، فتناول واحدة فأكلها، ثم لم يزل كذلك حتى لم يبق على الخوان شيئًا.

وذكر عن علي بن محمد أن جابر بن مصعب حدثه، قال: حدثني مخارق، قال: مرت بي ليلة ما مرت بي مثلها قط، إني لفي منزلي بعد ليلٍ إذ أتاني رسول محمد - وهو خليفة - فركض بي ركضًا، فانتهى بي إلى داره، فأدخلت فإذا إبراهيم بن المهدي قد أرسل إليه كما أرسل إلي، فوافينا جميعًا، فانتهى إلى باب مفض إلى صحن، فإذا الصحن مملوء شمعًا من شمع محمد العظام، وكأن ذلك الصحن في نهار، وإذا محمد في كرج، وإذا الدار مملوءة وصائف وخدمًا، وإذا اللعابون يلعبون، ومحمد وسطهم في الكرج يرقص فيه، فجاءنا رسول يقول: قال لكما: قوما في هذا الموضع على هذا الباب مما يلي الصحن، ثم ارفعا أصواتكما معبرًا ومقصرًا عن السورناي، واتبعاه في لحنه قال: وإذا السورناي والجواري واللعابون في شيء واحد: هذي دنانير تنساني وأذكرها تتبع الزمار. قال: فوالله ما زلت وإبراهيم قائمين نقولها، نشق بها حلوقنا حتى انفلق الصبح، ومحمد في الكرج ما يسأمه ولا يمله حتى أصبح يدنو منا، أحيانًا نراه، وأحيانًا يحول بيننا وبينه الجواري والخدم.

وذكر الحسين بن فراس مولى بني هاشم، قال: غزا الناس في زمان محمد على أن يرد عليهم الخمس، فرد عليهم، فأصاب الرجل ستة دنانير، وكان ذلك مالًا عظيمًا.

وذكر عن ابن الأعرابي، قال: كنت حاضر الفضل بن الربيع، وأتي بالحسن بن هانئ، فقال: رفع إلى أمير المؤمنين أنك زنديق، فجعل يبرأ من ذلك ويحلف، وجعل الفضل يكرر عليه، وسأله أن يكلم الخليفة فيه، ففعل وأطلقه، فخرج وهو يقول:

أهلي أتيتكم من القبر ** والناس محتبسون للحشر

لولا أبو العباس ما نظرت ** عيني إلى ولدٍ ولا وفر

فالله ألبسني به نعمًا ** شغلت حسابتها يدي شكري

لقيتها من مفهمٍ فهمٍ ** فمددتها بأناملٍ عشر

وذكر عن الرياشي أن أبا حبيب الموشى حدثه، قال: كنت مع مؤنس بن عمران، ونحن نريد الفضل بن الربيع ببغداد، فقال لي مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس! فدخلنا عليه السجن، فقال لمؤنس: يا أبا عمران، أين تريد؟ قال: أردت أبا العباس الفضل بن الربيع، قال: فتبلغه رقعة أعطيكها؟ قال: نعم، قال: فأعطاه رقعة فيها:

ما من يدٍ في الناس واحدةٍ ** إلا أبو العباس مولاها

نام الثقات على مضاجعهم ** وسرى إلى نفسي فأحياها

قد كنت خفتك ثم أمنني ** من أن أخافك خوفك الله

فعفوت عني عفو مقتدرٍ ** وجبت له نقم فألغاها

قال: فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من الحبس.

وذكر عن محمد بن خلاد الشروي، قال: حدثني أبي قال: سمع محمد شعر أبي نواس وقوله: ألا سقني خمرًا وقل لي هي الخمر وقوله:

اسقنيها يا ذفافه ** مزة الطعم سلافه

ذل عندي من قلاها ** لرجاء أو مخافه

مثل ما ذلت وضاعت ** بعد هارون الخلافه

ثم أنشد له:

فجاء بها زيتيةً ذهبيةً ** فلم نستطع دون السجود لها صبرا

قال: فحبسه محمد على هذا، وقال: إيه! أنت كافر، وأنت زنديق. فكتب في ذلك إلى الفضل بن الربيع:

أنت يا بن الربيع علمتني الخي ** ر وعودتنيه والخير عاده

فارعوى باطلي وأقصر جه ** لي وأظهرت رهبةً وزهاده

لو تراني شبهت بي الحسن البص ** ري في حال نسكه وقتاده

بركوعٍ أزينه بسجودٍ واصفرارٍ مثل اصفرار الجراده

فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ** فتأمل بعينك السجاده

لو رآها بعض المرائين يومًا ** لاشتراها يعدها للشهاده

خلافة المأمون عبد الله بن هارون

وفي هذه السنة وضعت الحرب - بين محمد وعبد الله بني هارون الرشيد - أوزارها، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبد الله المأمون بالطاعة.

وفيها خرج الحسن الهرش في ذي الحجة منها يدعو إلى الرضى من آل محمد - بزعمه - في سفلة الناس، وجماعة كثيرة من الأعراب؛ حتى أتى النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، واستاق المواشي.

وفيها ولى المأمون كل ما كان طاهر بن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل؛ وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون.

وفيها كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين، وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما بيده من الأموال في البلدان كلها إلى خلفاء الحسن بن سهل، وأن يشخص عن ذلك كله إلى الرقة، وجعل إليه حرب نصر بن شبت، وولاه الموصل والجزيرة والشأم والمغرب.

وفيها قدم علي بن أبي سعيد العراق خليفةً للحسن بن سهل على خراجها، فدافع طاهر عليًا بتسليم الخراج إليه؛ حتى وفى الجند أرزاقهم، فلما وفاهم سلم إليه العمل.

وفيها كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث المشهورة

فمن ذلك قدوم الحسن بن سهل فيها بغداد من عند المأمون، وإليه الحرب والخراج، فلما قدمها فرق عماله في الكور والبلدان.

وفيها شخص طاهر إلى الرقة في جمادى الأولى، ومعه عيسى بن محمد بن أبي خالد. وفيها شخص أيضًا هرثمة إلى خراسان.

وفيها خرج أزهر بن زهير بن المسيب إلى الهرش، فقتله في المحرم.

وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له ابن طباطبا، وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه أبو السرايا، واسمه السري بن منصور، وكان يذكر أنه ولد هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان.

ذكر الخبر عن سبب خروج محمد بن إبراهيم بن طباطبا

اختلف في ذلك، فقال بعضهم كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي فتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بن سهل؛ فلما فعل ذلك تحدث الناس بالعراق بينهم أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنه قد أنزله قصرًا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده من الخاصة والعامة، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي دونه. فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم ووجوه الناس، وأنفوا من غلبة الفضل بن سهل على المأمون، واجترءوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار؛ فكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت.

وقيل كان سبب خروجه أن أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخره بها فغضب أبو السرايا من ذلك، ومضى إلى الكوفة، واستوسق له أهلها بالطاعة، وأقام محمد بن إبراهيم بالكوفة، وأتاه الناس من نواحي الكوفة والأعراب وغيرهم.

ذكر الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بن المسيب

وفيها وجه الحسن بن سهل زهير بن المسيب في أصحابه إلى الكوفة - وكان عامل الكوفة يومئذ حين دخلها ابن طباطبا سليمان بن أبي جعفر المنصور من قبل الحسن بن سهل، وكان خليفة سليمان بن أبي جعفر بها خالد بن محجل الضبي - فلما بلغ الخبر الحسن بن سهل عنف سليمان وضعفه، ووجه زهير بن المسيب في عشرة آلاف فارس وراجل؛ فلما توجه إليهم وبلغهم خبر شخوصه إليهم تهيئوا للخروج إليه؛ فلم تكن لهم قوة على الخروج، فأقاموا حتى إذا بلغ زهير قرية شاهي خرجوا فأقاموا حتى إذا بلغوا القنطرة أتاهم زهير، فنزل عشية الثلاثاء صعنبا، ثم واقعهم من الغد فهزموه واستباحوا عسكره، وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودواب وغير ذلك يوم الأربعاء.

فلما كان من غد اليوم الذي كانت فيه الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بن المسيب - وذلك يوم الخميس لليلة خلت من رجب سنة تسع وتسعين ومائة - مات محمد بن إبراهيم بن طباطبا فجأةً؛ فذكر أن أبا السرايا سمه، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير من المال والسلاح والدواب وغير ذلك منعه أبا السرايا، وحظره عليه؛ وكان الناس له مطيعين، فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه؛ فلما مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا مكانه غلامًا أمرد حدثًا يقال له محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب؛ فكان أبو السرايا هو الذي ينفذ الأمور، ويولي من رأى، ويعزل من أحب؛ وإليه الأمور كلها، ورجع زهير من يومه الذي هزم فيه إلى قصر ابن هبيرة، فأقام به. وكان الحسن بن سهل قد وجه عبدوس بن محمد بن أبي خالد المروروذي إلى النيل حين وجه زهير إلى الكوفة فخرج بعد ما هزم زهير عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بن سهل؛ حتى بلغ الجامع هو وأصحابه، وزهير مقيم بالقصر، فتوجه أبو السرايا إلى عبدوس، فواقعه بالجامع، يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من رجب فقتله، وأسر هارون بن محمد بن أبي خالد، واستباح عسكره. وكان عبدوس - فيما ذكر - في أربعة آلاف فارس، فلم يفلت منهم أحد، كانوا بين قتيل وأسير، وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، ونقش عليها: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص "، ولما بلغ زهيرًا قتل أبي السرايا عبدوسًا وهو بالقصر، انحاز بمن كان معه إلى نهر الملك.

ثم إن أبا السرايا أقبل حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه، وكانت طلائعه تأتي كوثى ونهر الملك، فوجه أبو السرايا جيوشًا إلى البصرة وواسط فدخلوهما، وكان بواسط ونواحيها عبد الله بن سعيد الحرشي واليًا عليها من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريبًا من واسط فهزموه، فانصرف راجعًا إلى بغداد، وقد قتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة. فلما رأى الحسن بن سهل أن أبا السرايا ومن معه لا يلقون له عسكرًا إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها؛ ولم يجد معه من القواد من يكفيه حربه، اضطر إلى هرثمة - وكان هرثمة حين قدم عليه الحسن بن سهل العراق واليًا عليها من قبل المأمون. سلم ما كان بيده من الأعمال، وتوجه نحو خراسان مغاضبًا للحسن، فسار حتى بلغ حلوان - فبعث إليه السندي وصالحًا صاحب المصلى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا، فامتنع وأبى. وانصرف الرسول إلى الحسن بإبائه؛ فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة، فأجاب، وانصرف إلى بغداد، فقدمها في شعبان؛ فتهيأ للخروج إلى الكوفة. وأمر الحسن بن سهل علي بن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة، فتهيئوا لذلك، وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجه إلى المدائن، فدخلها أصحابه في رمضان، وتقدم هو بنفسه وبمن معه حتى نزل نهر صرصر مما يلي طريق الكوفة في شهر رمضان. وكان هرثمة لما احتبس قدومه على الحسن ببغداد أمر المنصور بن المهدي أن يخرج فيعسكر بالياسرية إلى قدوم هرثمة، فخرج فعسكر، فلما قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور، ثم مضى حتى عسكر بنهر صرصر بإزاء أبي السرايا، والنهر بينهما؛ وكان علي بن أبي سعيد معسكرًا بكلواذى، فشخص يوم الثلاثاء بعد الفطر بيوم، ووجه مقدمته إلى المدائن، فقاتل بها أصحاب أبي السرايا غداة الخميس إلى الليل قتالًا شديدًا. فلما كان الغد غدا أصحابه على القتال فانكشف أصحاب أبي السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن. وبلغ الخبر أبا السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن؛ فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوال رجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة؛ فنزل به، وأصبح هرثمة فجد في طلبه، فوجد جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل، ثم صار هرثمة إلى قصر ابن هبيرة؛ فكانت بينه وبين أبي السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير، فانحاز أبو السرايا إلى الكوفة، فوثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا في ذلك عملًا قبيحًا، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها. وكان هرثمة - فيما ذكر - يخبر الناس أنه يريد الحج، فكان قد حبس من يريد الحج من خراسان والجبال والجزيرة وحاج بغداد وغيرهم؛ فلم يدع أحدًا يخرج، رجاء أن يأخذ الكوفة، ووجه أبو السرايا إلى مكة والمدينة من يأخذهما، ويقيم الحج للناس.

وكان الوالي على مكة والمدينة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس، وكان الذي وجهه أبو السرايا إلى مكة حسين بن حسن الأفطس بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والذي وجه إلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فدخلها ولم يقاتله بها أحد، ومضى حسين بن حسن يريد مكة فلما قرب منها وقف هنيهة لمن فيها. وكان داود بن عيسى لما بلغه توجيه أبي السرايا حسين بن حسن إلى مكة لإقامة الحج للناس جمع موالي بني العباس وعبيد حوائطهم، وكان مسرور الكبير الخادم قد حج في تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، فتعبأ لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، فقال لداود بن عيسى: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك، وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحل القتال في الحرم؛ والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من هذا الفج الآخر، فقال له مسرور: تسلم مكانك وسلطانك إلى عدوك ومن لا يأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حرمك ولا مالك! قال له داود: أي ملك لي! والله أقمت معهم حتى شيخت فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت؛ إنما هذا الملك لك وأشباهك؛ فقاتل إن شئت أو دع. فانحاز داود من مكة إلى ناحية المشاش، وقد شد أثقاله على الإبل، فوجه بها في طريق العراق، وافتعل كتابًا من المأمون بتولية ابنه محمد بن داود على صلاة الموسم، فقال له: اخرج فصل بالناس الظهر والعصر بمنى، والمغرب والعشاء، وبت بمنى، وصل بالناس الصبح، ثم اركب دوابك فانزل طريق عرفة، وخذ على يسارك في شعب عمرو؛ حتى تأخذ طريق المشاش، حتى تلحقني ببستان ابن عامر. ففعل ذلك، وافترق الجمع الذي كان داود بن عيسى معهم بمكة من موالي بني العباس وعبيد الحوائط، وفت ذلك في عضد مسرور الخادم، وخشي إن قاتلهم أن يميل أكثر الناس معهم؛ فخرج في إثر داود راجعًا إلى العراق، وبقي الناس بعرفة؛ فلما زالت الشمس وحضرت الصلاة، تدافعها قوم من أهل مكة، فقال أحمد بن محمد بن الوليد الردمي - وهو المؤذن وقاضي الجماعة والإمام بأهل المسجد الحرام إذ لم تحضر الولاة - لقاضي مكة محمد بن عبد الرحمن المخزومي: تقدم فاخطب بالناس، وصل بهم الصلاتين؛ فإنك قاضي البلد. قال: فلمن أخطب وقد هرب الإمام؛ وأطل هؤلاء القوم على الدخول! قال: لا تدع لأحد، قال له محمد: بل أنت تقدم واخطب، وصل بالناس، فأبى؛ حتى قدموا رجلًا من عرض أهل مكة، فصلى بالناس الظهر والعصر بلا خطبة، ثم مضوا فوقفوا جميعًا بالموقف من عرفة حتى غربت الشمس، فدفع الناس لأنفسهم من عرفة بغير إمام، حتى أتوا مزدلفة، فصلى بهم المغرب والعشاء رجل أيضًا من عرض الناس وحسين بن حسن يتوقف بسرف يرهب أن يدخل مكة، فيدفع عنها ويقاتل دونها، حتى خرج إليه قوم من أهل مكة ممن يميل إلى الطالبيين، ويتخوف من العباسيين، فأخبروه أن مكة ومنى وعرفة قد خلت ممن فيها من السلطان، وأنهم قد خرجوا متوجهين إلى العراق. فدخل حسين بن حسن مكة قبل المغرب من يوم عرفة، وجميع من معه لا يبلغون عشرة، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة في الليل، فوقفوا بها ساعة من الليل، ثم رجع إلى مزدلفة فصلى بالناس الفجر، ووقف على قزح، ودفع بالناس منه.

وأقام بمنى أيام الحج، فلم يزل مقيمًا حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة، وأقام محمد بن سليمان بن داود الطالبي بالمدينة السنة أيضًا، فانصرف الحاج ومن كان شهد مكة والموسم، على أن أهل الموسم قد أفاضوا من عرفة بغير إمام.

وقد كان هرثمة لما تخوف أن يفوته الحج - وقد نزل قرية شاهي - واقع أبا السرايا وأصحابه في المكان الذي واقعه فيه زهير، فكانت الهزيمة على هرثمة في أول النهار، فلما كان آخر النهار كانت الهزيمة على أصحاب أبي السرايا، فلما رأى هرثمة أنه لم يصر إلى ما أراد، أقام بقرية شاهي، ورد الحاج وغيرهم، وبعث إلى المنصور بن المهدي فأتاه بقرية شاهي، وصار يكاتب رؤساء الكوفة، وقد كان علي بن أبي سعيد لما أخذ المدائن توجه إلى واسط فأخذها، ثم إنه توجه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة.

ثم دخلت سنة مائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر الخبر عن هرب أبي السرايا وما آل إليه أمره

فمما كان فيها من ذلك هرب أبي السرايا من الكوفة ودخول هرثمة إليها.

ذكر أن أبا السرايا هرب هو ومن معه من الطالبيين من الكوفة ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم من سنة مائتين، حتى أتى القادسية، ودخل منصور بن المهدي وهرثمة الكوفي صبيحة تلك الليلة، وآمنوا أهلها، ولم يعرضوا لأحد منهم، فأقاموا بها يومهم إلى العصر، ثم رجعوا إلى معسكرهم، وخلفوا بها رجلًا منهم يقال له غسان بن أبي الفرج أبو إبراهيم بن غسان صاحب حرس صاحب خراسان، فنزل في الدار التي كان فيها محمد بن محمد وأبو السرايا.

ثم إن أبا السرايا خرج من القادسية هو ومن معه حتى أتوا ناحية واسط، وكان بواسط علي بن أبي سعيد، وكانت البصرة بيد العلويين بعد، فجاء أبو السرايا حتى عبر دجلة أسفل من واسط، فأتى عبدسي؛ فوجد بها مالًا كان حمل من الأهواز، فأخذه ثم مضى حتى أتى السوس، فنزلها ومن معه، وأقام بها أربعة أيام، وجعل يعطي الفارس ألفًا والراجل خمسمائة، فلما كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني. فأرسل إليهم: اذهبوا حيث شئتم، فإنه لا حاجة لي في قتالكم، وإذا خرجتم من عملي فلست أتبعكم. فأبى أبو السرايا إلا القتال، فقاتلهم، فهزمهم الحسن، واستباح عسكرهم، وجرح أبو السرايا جراحة شديدة، فهرب واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، وقد تفرق أصحابهم، فأخذوا ناحية طريق الجزيرة يريدون منزل أبي السرايا برأس العين؛ فلما انتهوا إلى جلولاء عثر بهم، فأتاهم حماد الكندغوش فأخذهم، فجاء بهم الحسن بن سهل، وكان مقيمًا بالنهروان حين طردته الحربية، فقدم بأبي السرايا، فضرب عنقه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول. وذكروا أن الذي تولى ضرب عنقه هارون بن محمد بن أبي خالد، وكان أسيرًا في أيدي أبي السرايا. وذكروا أنه لم يروا أحدًا عند القتل أشد جزعًا من أبي السرايا، كان يضطرب بيديه ورجليه، ويصيح أشد ما يكون من الصياح؛ حتى جعل في رأسه حبل، وهو في ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح؛ حتى ضربت عنقه. ثم بعث برأسه فطيف به في عسكر الحسن بن سهل، وبعث بجسده إلى بغداد، فصلب نصفين على الجسر، في كل جانب نصف، وكان بين خروجه بالكوفة وقتله عشرة أشهر.

وكان علي بن أبي سعيد حين عبر أبو السرايا توجه إليه، فلما فاته توجه إلى البصرة فافتتحها. والذي كان بالبصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بنعلي بن حسين بن علي بن أبي طالب ومعه جماعة من أهل بيته، وهو الذي يقال له زيد نار - وإنما سمي زيد النار لكثرة ما حرق من الدور بالبصرة من دور بني العباس وأتباعهم؛ وكان إذا أتي برجل من المسودة كانت عقوبته عنده أن يحرقه بالنار - وانتهبوا بالبصرة أموالًا، فأخذه علي بن أبي سعيد أسيرًا. وقيل إنه طلب الأمان فآمنه. وبعث علي بن أبي سعيد ممن كان معه من القواد عيسى بن يزيد الجلودي وورقاء بن جميل وحمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان وهارون بن المسيب إلى مكة والمدينة واليمن، وأمرهم بمحاربة من بها من الطالبيين. وقال التيمي في قتل الحسن بن سهل أبا السرايا:

ألم تر ضربة الحسن بن سهلٍ ** بسيفك يا أمير المؤمنينا

أدارت مرو رأس أبي السرايا ** وأبقت عبرةً للعابرينا

وبعث الحسن بن سهل محمد بن محمد حين قتل أبو السرايا إلى المأمون بخراسان.

ذكر الخبر عن خروج إبراهيم بن موسى باليمن

وفي هذه السنة خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب باليمن.

ذكر الخبر عنه وعن أمره

وكان إبراهيم بن موسى - فيما ذكر - وجماعة من أهل بيته بمكة حين خرج أبو السرايا وأمره وأمر الطالبيين بالعراق ما ذكر. وبلغ إبراهيم بن موسى خبرهم، فخرج من مكة مع من كان معه من أهل بيته يريد اليمن، ووالي اليمن يومئذ المقيم بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. فلما سمع بإقبال إبراهيم بن موسى العلوي وقربه من صنعاء، خرج منصرفًا عن اليمن، في الطريق النجدية بجميع من في عسكره من الخيل والرجل، وخلى لإبراهيم بن موسى بن جعفر اليمن وكره قتاله، وبلغه ما كان من فعل عمه داود بن عيسى بمكة والمدينة، ففعل مثل فعله، وأقبل يريد مكة؛ حتى نزل المشاش، فعسكر هناك، وأراد دخول مكة، فمنعه من كان بها من العلويين، وكانت أم إسحاق بن موسى بن عيسى متوارية بمكة من العلويين، وكانوا يطلبونها فتوارت منهم، ولم يزل إسحاق بن موسى معسكرًا بالمشاش، وجعل من كان بمكة مستخفيًا يتسللون من رءوس الجبال، فأتوا بها ابنها في عسكره. وكان يقال إبراهيم بن موسى: الجزار؛ لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى وأخذ من الأموال.

ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة

وفي هذه السنة في أول يوم من المحرم منها بعد ما تفرق الحاج من مكة جلس الحسين بن حسن الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية، فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجردت منها حتى لم يبق عليها من كسوته شيئًا، وبقيت حجارة مجردة، ثم كساها ثوبين من قز رقيق، كان أبو السرايا وجه بهما معه مكتوب عليهما: أمر به الأصفر بن الأصفر أبو السرايا داعية آل محمد، لكسوة بيت الله الحرام، وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس، لتطهر من كسوتهم. وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة.

ثم أمر حسين بن حسن بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسمت بين أصحابه من العلويين وأتباعهم على قدر منازلهم عنده، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه، ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم عليه في داره؛ فإن وجد من ذلك شيئًا أخذه وعاقب الرجل؛ وإن لم يجد عنده شيئًا حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه بقدر طوله، ويقر عند الشهود أن ذلك للمسودة من بني العباس وأتباعهم، حتى عم هذا خلقًا كثيرًا.

وكان الذي يتولى العذاب لهم رجلًا من أهل الكوفة يقال له محمد بن مسلمة، كان ينزل في دار خالصة عند الحناطين؛ فكان يقال لها دار العذاب، وأخافوا الناس؛ حتى هرب منهم خلق كثير من أهل النعم، فتعقبوهم بهدم دورهم حتى صاروا من أمر الحرم، وأخذ أبناء الناس في أمر عظيم، وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الذي في رءوس أساطين المساجد، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهب أو نحوه، حتى عم ذلك أكثر أساطين المسجد الحرام، وقلعوا الحديد الذي على شبابيك زمزم، ومن خشب الساج، فبيع بالثمن الخسيس. فلما رأى حسين بن حسن ومن معه من أهل بيته تغير الناس لهم بسيرتهم، وبلغهم أن أبا السرايا قد قتل، وأنه قد طرد من الكوفة والبصرة وكور العراق من كان بها من الطالبيين، ورجعت الولاية بها لولد العباس، واجتمعوا إلى محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب - وكان شيخًا وداعًا محببًا في الناس، مفارقًا لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة، وكان يروي العلم عن أبيه جعفر بن محمد، وكان الناس يكتبون عنه، وكان يظهر سمتًا وزهدًا - فقالوا له: قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة؛ فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك رجلان؛ فأبى ذلك عليهم، فلم يزل به ابنه علي بن محمد بن جعفر وحسين بن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه؛ فأجابهم. فأقاموه يوم صلاة الجمعة بعد الصلاة لست خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعًا وكرهًا، وسموه بإمرة المؤمنين، فأقام بذلك أشهرًا، وليس له من الأمر إلا اسمه، وابنه علي وحسين بن حسن وجماعة منهم أسوأ ما كانوا سيرة، وأقبح ما كانوا فعلًا، فوثب حسين بن حسن على امرأة من قريش من بني فهر - وزوجها رجل من بني مخزوم، وكان لها جمال بارع - فأرسل إليها لتأتيه، فامتنعت عليه، فأخاف زوجها وأمر بطلبها فتوارت منه، فأرسل ليلًا جماعة من أصحابه فكسروا باب الدار، واغتصبوها نفسها، وذهبوا بها إلى حسين، فلبثت عنده إلى قرب خروجه من مكة، ورجعت إلى أهلها وهم يقاتلون بمكة. ووثب علي بن محمد بن جعفر على غلام من قريش، ابن قاضٍ بمكة يقال له إسحاق بن محمد، وكان جميلًا بارعًا في الجمال - فاقتحم عليه بنفسه نهارًا جهارًا في داره على الصفا مشرفًا على المسعى؛ حتى حمله على فرسه في السرج. وركب علي بن محمد على عجز الفرس، وخرج به يشق السوق حتى أتى بئر ميمون - وكان ينزل في دار داود بن عيسى في طريق منى - فلما رأى ذلك أهل مكة ومن بها من المجاورين، خرجوا فاجتمعوا في المسجد الحرام، وغلقت الدكاكين، ومال معهم أهل الطواف بالكعبة؛ حتى أتوا محمد بن جعفر بن محمد، وهو نازل دار داود، فقالوا: والله لنخلعنك ولنقتلنك، أو تردن إلينا هذا الغلام الذي ابنك أخذه جهرة. فأغلق باب الدار، وكلمهم من الشباك الشارع في المسجد، فقال: والله ما علمت، وأرسل إلى حسين بن حسن يسأله أن يركب إلى ابنه علي فيستنقذ الغلام منه. فأبى ذلك حسين، وقال: والله إنك لتعلم إني لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلني وحاربني في أصحابه. فلما رأى ذلك محمد قال لأهل مكة: آمنوني حتى أركب إليه وآخذ الغلام منه. فآمنوه وأذنوا له في الركوب، فركب بنفسه حتى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلمه إلى أهله. قال: فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى أقبل إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي مقبلًا من اليمن حتى نزل المشاش، فاجتمع العلويون إلى محمد بن جعفر بن محمد، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هذا إسحاق بن موسى مقبلًا إلينا في الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقًا بأعلى مكة، وتبرز شخصك ليراك الناس ويحاربوا معك. وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب، ففرضوا لهم، وخندقوا على مكة ليقاتلوا إسحاق بن موسى من ورائه، فقاتلهم إسحاق أيامًا. ثم إن إسحاق كره القتال والحرب، وخرج يريد العراق، فلقيه ورقاء بن جميل في أصحابه ومن كان معه من أصحاب الجلودي، فقالوا: ارجع معنا إلى مكة ونحن نكفيك القتال. فرجع معهم حتى أتوا مكة فنزلوا المشاش. واجتمع إلى محمد بن جعفر من كان معه من غوغائها، ومن سودان أهل المياه، ومن فرض له من الأعراب، فعبأهم ببئر ميمون، وأقبل إليهم إسحاق بن موسى وورقاء بن جميل بمن معه من القواد والجند، فقاتلهم ببئر ميمون، فوقعت بينهم قتلى وجراحات. ثم رجع إسحاق وورقاء إلى معسكرهم، ثم عاودهم، بعد ذلك بيوم فقاتلهم، فكانت الهزيمة على محمد بن جعفر وأصحابه؛ فلما رأى ذلك محمد، بعث رجالًا من قريش فيهم قاضي مكة يسألون لهم الأمان؛ حتى يخرجوا من مكة، ويذهبوا حيث شاءوا، فأجابهم إسحاق وورقاء بن جميل إلى ذلك، وأجلوهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث، دخل إسحاق وورقاء إلى مكة في جمادى الآخرة وورقاء الوالي على مكة للجلودي، وتفرق الطالبيون من مكة، فذهب كل قوم ناحية؛ فأما محمد بن جعفر فأخذ ناحية جدة، ثم خرج يريد الجحفة، فعرض له رجل من موالي بني العباس يقال له محمد بن حكيم بن مروان، قد كان الطالبيون انتهبوا داره بمكة، وعذبوه عذابًا شديدًا؛ وكان يتوكل لبعض العباسيين بمكة لآل جعفر بن سليمان، فجمع عبيد الحوائط من عبيد العباسيين حتى لحق محمد بن جعفر بين جدة وعسفان، فانتهب جميع ما معه مما خرج به من مكة، وجرده حتى تركه في سراويل، وهم بقتله، ثم طرح عليه بعه ذلك قميصًا وعمامة ورداء ودريهمات يتسبب بها، فخرج محمد بن جعفر حتى أتى بلاد جهينة على الساحل، فلم يزل مقيمًا هناك حتى انقضى الموسم، وهو في ذلك بجمع الجموع. وقد وقع بينه وبين هارون بن المسيب والي المدينة وقعات عند الشجرة وغيرها، وذلك أن هارون بعث ليأخذه، فلما رأى ذلك أتاه بمن اجتمع حتى بلغ الشجرة، فخرج إليه هارون فقاتله، فهزم محمد بن جعفر، وفقئت عينه بنشابه، وقتل من أصحابه بشر كثير، فرجع حتى أقام بموضعه الذي كان فيه ينتظر ما يكون من أمر الموسم، فلم يأته من كان وعده. فلما رأى ذلك وانقضى الموسم، طلب الأمان من الجلودي ومن رجاء ابن عم الفضل بن سهل، وضمن له رجاء على المأمون وعلى الفضل بن سهل ألا يهاج، وأن يوفى له بالأمان، فقبل ذلك ورضيه، ودخل به إلى مكة، يوم الأحد بعد النفر الأخير بثمانية أيام لعشر بقين من ذي الحجة، فأمر عيسى بن يزيد الجلودي ورجاء بن أبي الضحاك ابن عم الفضل بن سهل بالمنبر؛ فوضع بين الركن والمقام حيث كان محمد بن جعفر بويع له فيه، وقد جمع الناس من القريشيين وغيرهم، فصعد الجلودي رأس المنبر، وقام محمد بن جعفر تحته بدرجة، وعليه قباء أسود وقلنسوة سوداء؛ وليس عليه سيف ليخلع نفسه. ثم قام محمد فقال:

أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علب بن أبي طالب؛ فإنه كان لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين في رقبتي بيعة بالسمع والطاعة، طائعًا غير مكره، وكنت أحد الشهود الذين شهدوا في الكعبة في الشرطين لهارون الرشيد على ابنيه: محمد المخلوع وعبد الله المأمون أمير المؤمنين. ألا وقد كانت فتنة غشيت عامة الأرض منا ومن غيرنا. وكان نمي إلي خبر؛ أن وعبد الله المأمون أمير المؤمنين قد توفي؛ فدعاني ذلك إلى أن بايعوا لي بإمرة المؤمنين، واستحللت قبول ذلك لما كان علي من العهود والمواثيق في بيعتي لعبد الله عبد الله الإمام المأمون، فبايعتموني - أو من فعل منكم - ألا وقد بلغني وصح عندي أنه حي سوي. ألا وإني أستغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة، وقد خلعت نفسي من بيعتي التي بايعتموني عليها؛ كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي، وقد صرت كرجل من المسلمين فلا بيعة لي في رقابكم، وقد أخرجت نفسي من ذلك، وقد رد الله الحق إلى الخليفة المأمون وعبد الله المأمون أمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين؛ والصلاة على محمد خاتم النبيين والسلام عليكم أيها المسلمون.

ثم نزل. فخرج به عيسى بن يزيد الجلودي إلى العراق، واستخلف على مكة ابنه محمد بن عيسى في سنة إحدى ومائتين، وخرج عيسى ومحمد بن جعفر حتى سلمه إلى الحسن بن سهل، فبعث به الحسن بن سهل إلى المأمون بمرو مع رجاء بن أبي الضحاك.

وفي هذه السنة وجه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد الطالبي بعض ولد عقيل بن أبي طالب من اليمن في جند كثيف إلى مكة ليحج بالناس، فحورب العقيلي فهزم، ولم يقدر على دخول مكة.

ذكر الخبر عن أمر إبراهيم والعقيلي الذي ذكرنا أمره

ذكر أن أبا إسحاق بن هارون الرشيد حج بالناس في سنة مائتين، فسار حتى دخل مكة، ومعه قواد كثير، فيهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان، وقد استعمله الحسن بن سهل على اليمن، ودخلوا مكة، وبها الجلودي في جنده وقواده، ووجه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي من اليمن راجلًا من ولد عقيل بن أبي طالب، وأمره أن يحج بالناس، فلما صار العقيلي إلى بستان ابن عامر، بلغه أن أبا إسحاق بن هارون الرشيد قد ولي الموسم، وأن معه من القواد والجنود ما لا قبل لأحد به، فأقام ببستان ابن عامر، فمرت به قافلة من الحاج والتجار، فيها كسوة الكعبة وطيبها، فأخذ أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها، وقدم الحاج والتجار مكة عراة مسلبين، فبلغ ذلك أبا إسحاق بن الرشيد وهو نازل بمكة في دار القوارير، فجمع إليه القواد فشاورهم، فقال له الجلودي - وذلك قبل التروية بيومين أو ثلاثة: أصلح الله الأمير! أنا أكفيكهم، وأخرج إليهم في خمسين من نخبة أصحابي، وخمسين أنتخبهم من سائر القواد. فأجابوه إلى ذلك، فخرج الجلودي في مائة حتى أصبح العقيلي وأصحابه ببستان ابن عامر، فأحدق بهم، فأسر أكثرهم وهرب من هرب منهم يسعى على قدميه، فأخذ كسوة الكعبة إلا شيئًا كان هرب به من هرب قبل ذلك بيوم واحد، وأخذ الطيب وأموال التجار والحاج، فوجه به إلى مكة، ودعا بمن أسر من أصحاب العقيلي، فأمر بهم فقنع كل رجل منهم عشرة أسواط، ثم قال: اعزبوا يا كلاب النار؛ فوالله ما قتلكم وعر، ولا في أسركم جمال. وخلى سبيلهم، فرجعوا إلى اليمن يستطعمون في الطريق حتى هلك أكثرهم جوعًا وعريًا.

وخالف ابن أبي سعيد على الحسن بن سهل، فبعث المأمون بسراج الخادم، وقال له: إن وضع علي يده في يد الحسن أو شخص إلي بمرو وإلا فاضرب عنقه. فشخص إلى المأمون مع هرثمة بن أعين. وفي هذه السنة شخص هرثمة في شهر ربيع الأول منها من معسكره إلى المأمون بمرو.

ذكر الخبر عن شخوص هرثمة إلى المأمون وما آل إليه أمره في مسيره

ذلك ذكر أن هرثمة لما فرغ من أمر أبي السرايا ومحمد بن محمد العلوي، ودخل الكوفة، أقام في معسكره إلى شهر ربيع الأول؛ فلما أهل الشهر خرج حتى أتى نهر صرصر، والناس يرون أنه يأتي الحسن بن سهل بالمدائن؛ فلما بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف، ثم خرج حتى أتى البردان، ثم أتى النهروان، ثم خرج حتى أتى إلى خراسان؛ وقد أتته كتب المأمون في غير منزل، أن يرجع فيلي الشأم والحجاز، فأبى وقال: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين،؛ إدلالًا منه عليه؛ لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وألا يدعه حتى يرده إلى بغداد، دار خلافة آبائه وملكهم ليتوسط سلطانه، ويشرف على أطرافه. فعلم الفضل بما يريد، فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد، وظاهر عليك عدوك، وعادى وليك، ودس أبا السرايا، وهو جندي من جنده حتى عمل ما عمل، ولو شاء هرثمة ألا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله. وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب؛ أن يرجع فيلي الشأم والحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصيًا مشاقًا، يظهر القول الغليظ، ويتواعد بالأمر الجليل، وإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره. فأشرب قلب أمير المؤمنين عليه.

وأبطأ هرثمة في المسير فلم يصل إلى خراسان حتى كان ذو القعدة؛ فلما بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول لكي يسمعها المأمون، فسمعها فقال: ما هذا؟ قالوا: هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق، وظن هرثمة أن قوله المقبول. فأمر بإدخاله، فلما أدخل - وقد أشرب قلبه ما أشرب - قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل؛ وكان رجلًا من أصحابك؛ ولو أردت أن تأخذهم جميعًا لفعلت، ولكنك أرخيت خناقهم، وأجررت لهم رسنهم. فذهب هرثمة ليتكلم ويعتذر، ويدفع عن نفسه ما قرف به فلم يقبل ذلك منه، وأمر به فوجئ على أنفه، وديس بطنه، وسحب من بين يديه. وقد تقدم الفضل بن سهل إلى الأعوان بالغلظ عليه والتشديد حتى حبس، فمكث في الحبس أيامًا ثم دسوا إليه فقتلوه وقالوا له: إنه مات.

ذكر الخبر عن وثوب الحربية ببغداد

وفي هذه السنة هاج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل.

ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان

ذكر أن الحسن بن سهل كان بالمدائن حين شخص هرثمة إلى خراسان، فلم يزل مقيمًا بها إلى أن اتصل بأهل بغداد والحربية ما صنع به، فبعث الحسن بن سهل إلى علي بن هشام - وهو والي بغداد، من قبله: أن أمطل الجند من الحربية والبغداديين أرزاقهم، ومنهم ولا تعطهم. وقد كان الحسن قبل ذلك اتعدهم أن يعطيهم أرزاقهم، وكانت الحربية حين خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا: لا برضى حتى نطرد الحسن بن سهل عن بغداد؛ وكان من عماله بها محمد بن أبي خالد وأسد بن أبي الأسد، فوثبت الحربية عليهم فطردوهم، وصيروا إسحاق بن موسى بن المهدي خليفة للمأمون ببغداد؛ فاجتمع أهل الجانبين على ذلك، ورضوا به، فدس الحسن إليهم، وكاتب قوادهم حتى وثبوا من جانب عسكر المهدي، وجعل يعطي الجند أرزاقهم لستة أشهر عطاء نزرًا؛ فحول الحربية إسحاق إليهم، وأنزلوه على دجيل.

وجاء زهير بن المسيب فنزل في عسكر المهدي، وبعث الحسن بن سهل بن علي بن هشام، فجاء من الجانب الآخر؛ حتى نزل نهر صرصر، ثم جاء هو ومحمد بن أبي خالد وقوادهم ليلًا؛ حتى دخلوا بغداد، فنزل علي بن هشام دار العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي على باب المحول لثمانٍ خلون من شعبان؛ وقبل ذلك ما كان الحربية حين بلغهم أن أهل الكرخ يريدون أن يدخلوا زهيرًا وعلي بن هشام، شدوا على باب الكرخ فأحرقوه، وأنهبوا من حد قصر الوضاح إلى داخل باب الكرخ إلى أصحاب القراطيس ليلة الثلاثاء، ودخل علي بن هشام صبيحة تلك الليلة، فقاتل الحربية ثلاثة أيام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرحاء.

ثم إنه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، فسألوه أن يعجل لهم خمسين درهمًا لكل رجل لينفقوها في شهر رمضان، فأجابهم إلى ذلك، وجعل يعطي، فلم يتم لهم إعطاءهم؛ حتى خرج زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، الخارج بالبصرة المعروف بزيد النار؛ كان أفلت من الحبس عند علي بن أبي سعيد، فخرج في ناحية الأنبار ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إليه، فأخذ، فأتى به علي بن هشام، فلم يلبث إلا جمعة حتى هرب من الحربية، فنزل نهر صرصر، وذلك أنه كان يكذبهم، ولو يف لهم بإعطاء الخمسين؛ إلى أن جاء الأضحى؛ وبلغهم خبر هرثمة وما صنع به، فشدوا على علي فطردوه.

وكان المتولي ذلك والقائم بأمر الحرب محمد بن أبي خالد؛ وذلك أن علي بن هشام لما دخل بغداد كان يستخف به، فوقع بين محمد بن أبي خالد وبين زهير بن المسيب إلى أن قنعه زهير بالسوط. فغضب محمد من ذلك، وتحول إلى الحربية في ذي القعدة، ونصب لهم الحرب، واجتمع إليه الناس فلم يقو بهم علي بن هشام حتى أخرجوه من بغداد؛ ثم اتبعهم حتى هزمهم من نهر صرصر.

وفي هذه السنة وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك وفرناس الخادم لإشخاص علي بن موسى بن جعفر بن محمد ومحمد بن جعفر.

وأحصي في هذه السنة ولد العباس؛ فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفًا ما بين ذكرٍ وأنثى.

وفي هذه السنة قتلت الروم ملكها ليون، فكان قد ملك عليهم سبع سنين وستة أشهر، وملكوا عليهم ميخائيل بن جورجس ثانية.

وفيها قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل؛ وذلك أن يحيى أغلظ له، فقال له: يا أمير الكافرين؛ فقتل بين يديه.

وأقام للناس الحج في هذه السنة أبو إسحاق بن الرشيد.

ثم دخلت سنة إحدى ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ولاية منصور بن المهدي ببغداد

فمما كان فيها من ذلك مراودة أهل بغداد المنصور بن المهدي على الخلافة وامتناعه عليهم؛ فلما امتنع من ذلك راودوه على الإمرة عليهم، على أن يدعو للمأمون بالخلافة؛ فأجابهم إلى ذلك.

ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه

قد ذكرنا قبل ذلك سبب إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد. ويذكر عن الحسن بن سهل أن الخبر عن إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد لما اتصل به وهو بالمدائن، انهزم حتى صار إلى واسط؛ وذلك في أول السنة إحدى ومائتين.

وقد قيل إن سبب إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد، كان أن الحسن بن سهل وجه محمد بن خالد المروروذي بعد ما قتل أبو السرايا، أفسده وولى علي بن هشام الجانب الغربي من بغداد وزهير بن المسيب يلي الجانب الشرقي، وأقام هو بالخيزرانية، وضرب الحسن عبد الله بن علي بن عيسى بن ماهان حدًا بالسياط، فغضب الأبناء، فشغب الناس، فهرب إلى بربخا ثم إلى باسلاما، وأمر بالأرزاق لأهل عسكر المهدي، ومنع أهل الغربي، واقتتل أهل الجانبين، ففرق محمد بن خالد على الحربية مالًا، فهزم علي بن هشام، فانهزم الحسن بن سهل بانهزام علي بن هشام، فلحق بواسط، فتبعه محمد بن أبي خالد بن الهندوان مخالفًا له؛ وقد تولى القيام بأمر الناس، وولى سعيد بن الحسن بن قحطبة الجانب الغربي ونصر بن حمزة بن مالك الشرقي، وكنفه ببغداد منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع.

وقد قيل أن عيسى بن محمد بن أبي خالد قدم في هذه السنة من الرقة، وكان عند طاهر بن الحسين، فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن، فمضيا حتى انتهيا ومن معهما من الحربية وأهل بغداد إلى قرية أبي قريش قرب واسط، وكان كلما أتيا موضعًا فيه عسكر من عساكر الحسن فيكون بينهما فيه وقعة، تكون الهزيمة فيه على أصحاب الحسن.

ولما انتهى محمد بن خالد إلى دير العاقول، أقام به ثلاثًا، وزهير بن المسيب حينئذ مقيم بإسكاف بني الجنيد، وهو عامل الحسن على جوخي مقيم في عمله؛ فكان يكاتب قواد أهل بغداد. فبعث ابنه الأزهر، مضى حتى انتهى إلى نهر النهروان، فلقي محمد بن أبي خالد، فركب إليه، فأتاه بإسكاف، فأحاط به فأعطاه الأمان، وأخذه أسيرًا، فجاء به إلى عسكره بدير العاقول، وأخذ أمواله ومتاعه وكل قليل وكثير وجد له. ثم تقدم محمد بن أبي خالد، فلما صار إلى واسط بعث به إلى بغداد، فحبسه عند ابن له مكفوف، يقال له جعفر؛ فكان الحسن مقيمًا بجرجرايا، فلما بلغه خبر زهير، وأنه قد صار في يد محمد بن أبي خالد ارتحل حتى دخل واسط، فنزل بفم الصلح، ووجه محمد من دير العاقول ابنه هارون إلى النيل وبها سعيد بن الساجور الكوفي، فهزمه هارون، ثم تبعه حتى دخل الكوفة، فأخذها هارون، وولي عليها. وقدم عيسى بن يزيد الجلودي من مكة؛ ومعه محمد بن جعفر، فخرجوا جميعًا حتى أتوا واسط في طريق البر، ثم رجع هارون إلى أبيه، فاجتمعوا جميعًا في قرية أبي قريش ليدخلوا واسط، وبها الحسن بن سهل، فتقدم الحسن بن سهل، فنزل خلف واسط وفي أطرافها.

وكان الفضل بن الربيع مختفيًا من حين قتل المخلوع، فلما رأى أن محمد بن أبي خالد قد بلغ واسط بعث إليه يطلب الأمان منه، فأعطاه إياه وظهر. ثم تعبأ محمد بن أبي خالد للقتال، فتقدم هو وابنه عيسى وأصحابهما، حتى صاروا على ميلين من واسط، فوجه إليهم الحسن أصحابه وقواده، فاقتتلوا قتالًا شديدًا عند أبيات واسط. فلما كان بعد العصر هبت ريح شديدة وغبرة حتى اختلط القوم بعضهم ببعض؛ وكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن أبي خالد، فثبت للقوم فأصابته جراح شديدة في جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فهزم أصحابه الحسن؛ وذلك يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى ومائتين.

فلما بلغ محمد فم الصلح خرج عليهم أصحاب الحسن فصافهم للقتال، فلما جنهم الليل، ارتحل هو وأصحابه حتى نزلوا المبارك؛ فأقاموا به؛ فلما أصبحوا غدا عليهم أصحاب الحسن فصافوهم، واقتتلوا.

فلما جنهم الليل ارتحلوا حتى أتوا جبل، فأقاموا بها، ووجه ابنه هارون إلى النيل، فأقام بها، وأقام محمد بجرجايا، فلما اشتدت به الجراحات خلف قواده في عسكره، وحمله ابنه أبو زنبيل حتى أدخله بغداد ليلة الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، فدخل أبو زنبيل ليلة الاثنين، ومات محمد بن أبي خالد من ليلته من تلك الجراحات، ودفن من ليلته في داره سرًا.

وكان زهير بن المسيب محبوسًا عند جعفر بن محمد بن أبي خالد، فلما قدم أبو زنبيل أتى خزيمة بن خازم يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر، فأعلمه أمر أبيه، فبعث خزيمة إلى بني هاشم والقواد وأعلمهم ذلك، وقرأ عليهم كتاب عيسى بن محمد بن أبي خالد، وأنه يكفيهم الحرب. وفرضوا بذلك، فصار عيسى مكان أبيه على الحرب، وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بن المسيب، فأخرجه من حبسه، فضرب عنقه. ويقال إنه ذبحه ذبحًا وأخذ رأسه، فبعث به إلى عيسى في عسكره فنصبه على رمح وأخذوا جسده، فشدوا في رجليه حبلًا، ثم طافوا به في بغداد، ومروا به على دوره ودور أهل بيته عند باب الكوفة، ثم طافوا به في الكرخ، ثم ردوه إلى باب الشأم بالعشي؛ فلما جنهم الليل طرحوه في دجلة، وذلك يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر.

ثم رجع أبو زنبيل حتى انتهى إلى عيسى فوجهه عيسى إلى فم الصراة.

وبلغ الحسن بن سهل موت محمد بن خالد، فخرج من واسط حتى انتهى إلى المبارك، فأقام بها. فلما كان جمادى الآخرة وجه حميد بن عبد الحميد الطوسي ومعه عركو الأعرابي وسعيد بن الساجور وأبو البط ومحمد بن إبراهيم الإفريقي، وعدة سواهم من القواد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه، وانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، فالتقوا عند بيوت النيل، فاقتتلوا ساعة، فوقعت الهزيمة على أصحاب هارون، وأبي زنبيل، فخرجوا هاربين حتى أتوا المدائن؛ وذلك يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة.

ودخل حميد وأصحابه النيل فانتهبوها ثلاثة أيام، فانتهبوا أموالهم وأمتعتهم، وانتهبوا ما كان حولهم من القرى؛ وقد كان بنو هاشم والقواد حين مات محمد بن أبي خالد تكلموا في ذلك؛ وقالوا: نصير بعضنا خليفة ونخلع المأمون، فكانوا يتراضون في ذلك؛ إذا بلغهم خبر هارون وأبي زنبيل وهزيمتهم، فجدوا فيما كانوا فيه، وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة؛ فأبى ذلك عليهم، فلم يزالوا به حتى صيروه أميرًا خليفةً للمأمون ببغداد والعراق، وقالوا: لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بن سهل، ونطرده حتى يرجع إلى خراسان.

وقد قيل: إن عيسى بن محمد بن أبي خالد لما اجتمع إليه أهل بغداد، وساعدوه على حرب الحسن بن سهل، رأى الحسن أنه لا طاقة له بعيسى، فبعث إليه وهب بن سعيد الكاتب، وبذل له المصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته بغداد وولاية أي النواحي أحب، فطلب كتاب المأمون بذلك بخطة، فرد الحسن بن سهل وهبًا بإجابته، فغرق وهب بين المبارك وجبل؛ فكتب عيسى إلى أهل بغداد: إني مشغول بالحرب عن جباية الخراج، فولوا رجلًا من بني هاشم، فولوا منصور بن المهدي، وعسكر منصور بن المهدي بكلواذى، وأرادوه على الخلافة فأبى، وقال: أنا خليفة أمير المؤمنين حتى يقدم أو يتولى من أحب، فرضى بذلك بنو هاشم والقواد الجند؛ وكان القيم بهذا الأمر خزيمة بن خازم، فوجه القواد في كل ناحية، وجاء حميد الطوسي من فوره في طلب بني محمد حتى انتهى إلى المدائن، فأقام بها يومه، ثم انصرف إلى النيل.

فلما بلغ منصورًا خبره خرج حتى عسكر بكلواذي، وتقدم يحيى بن علي بن عيسى بن ماهان إلى المدائن.

ثم إن منصورًا وجه إسحاق بن العباس بن محمد الهاشمي من الجانب الآخر، فعسكر بنهر صرصر، ووجه غسان بن عباد بن أبي الفرج أبا إبراهيم بن غسان صاحب حرس صاحب خراسان ناحية الكوفة، فتقدم حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به. فلما بلغ حميدًا الخبر لم يعلم إلا وحميد قد أحاط بالقصر، فأخذ غسان أسيرًا، وسلب أصحابه، وقتل منهم؛ وذلك يوم الاثنين لأربع خلون من رجب.

ثم لم يزل كل قوم مقيمين في عساكرهم؛ إلا أن محمد بن يقطين بن موسى كان مع الحسن بن سهل، فهرب منه إلى عيسى، فوجهه عيسى إلى منصور، فوجهه منصور إلى ناحية حميد؛ وكان حميدًا مقيمًا بالنيل إلا أن له خيلًا بالقصر.

وخرج ابن يقطين من بغداد يوم السبت لليلتين خلتا من شعبان حتى أتى كوثي. وبلغ حميدًا الخبر، فلم يعلم ابن اليقطين حتى أتاه حميد وأصحابه إلى كوثي، فقاتلوه فهزموه، وقتلوا من أصحابه، وأسروا، وغرق منهم بشر كثير، وانتهب حميد وأصحابه وما كان حول كوثي من القرى وأخذوا البقر والغنم والحمير وما قدورا عليه من حلي ومتاع وغير ذلك؛ ثم انصرف حتى النيل، وراجع ابن يقطين، فأقام بنهر صرصر.

وفي محمد بن أبي خالد قال أبو الشداخ:

هوى خيل الأبناء بعد محمد ** وأصبح منها كاهل العز أخضعا

فلا تشتموا يا آل سهل موته ** فإن لكم يومًا من الدهر مصرعًا

وأحصى عيسى بن محمد بن أبي خالد ما كان في عسكره، فكانوا مائة ألف وخمس وعشرين ألفا بين فارس وراجل؛ فأعطى الفارس أربعين درهمًا.

ذكر خبر خروج المطوعة للنكير على الفساق

وفي هذه السنة تجردت المطوعة للنكير على الفساق ببغداد، رئيسهم خالد الدريوش وسهل بن سلامة الأنصاري أبو حاتم من أهل خراسان.

ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله فعلت المطوعة ما ذكرت

كان السبب في ذلك أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذىً شديدًا، وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق؛ فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه، فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع؛ وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم؛ وكانوا يجتمعون فيأتون القرى، فيكاثرون أهلها، ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك؛ لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم؛ لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يحبسون المارة في الطريق وفي السفن وعلى الظهر ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يعدو عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم؛ ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطربل، فانتهبوها علانيةً، وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، وأدخلوها بغداد، وجعلوا يبيعونها علانية، وجاء أهلها فاستعدوا السلطان عليهم، فلم يمكنه أعداؤهم عليهم، ولم يرد عليهم شيئًا مما كان أخذ منهم، وذلك آخر شعبان.

فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم؛ وما بيع من متاع الناس في أسواقهم، وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم، قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم؛ فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدًا، لقمعتم هؤلاء الفساق، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم.

فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار، فمنعهم مما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه، وأرادوا قتاله، فقاتلهم فهزمهم وأخذ بعضهم، فضربهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان؛ إلا أنه كان يرى أن يغير السلطان شيئًا، ثم قام من بعده رجل من أهل الحربية، يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان؛ يكنى أبا حاتم؛ فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله جل وعز وسنة نبيه ، وعلق مصحفًا في عنقه، ثم بدأ بجيرانه وأهل محلته، فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس جميعًا إلى ذلك؛ الشريف منهم والوضيع؛ بني هاشم ومن دونهم، وجعل له ديوانًا يثبت فيه اسم من أتاه منهم، فبايعه على ذلك، وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائنًا من كان؛ فأتاه خلق كثير، فبايعوا.

ثم إنه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها، ومنع كل من يخفر ويجبي المارة والمختلفة، وقال: لا خفارة في الإسلام - والخفارة أنه كان يأتي الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول: بستانك في خفري، أدفع عنه من أراده بسوء، ولي في عنقك كل شهر كذا وكذا درهمًا، فيعطيه ذلك شائيًا وآبيا، فقوي على ذلك إلا أن الدريوش خالفه، وقال: أنا لا أعيب على السلطان شيئًا ولا أغيره، ولا أقاتله، ولا آمره بشيء ولا أنهاه. وقال سهل بن سلامة: لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائنًا من كان؛ سلطانًا أو غيره؛ والحق قائم في الناس أجمعين، فمن بايعني على هذا قبلته، ومن خالفني قاتلته. فقام في ذلك سهل يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين في مسجد طاهر بن الحسين؛ الذي كان بناه في الحربية. وكان خالد الدريوش قام قبله بيومين أو ثلاثة، وكان المنصور بن المهدي مقيمًا بعسكره بجبل، فلما كان من ظهور سهل بن سلامة وأصحابه ما كان، وبلغ ذلك منصورًا وعيسى - وإنما كان عظم أصحابهما الشطار، ومن لا خير فيه - كسرهما ذلك، ودخل منصور بغداد.

وقد كان عيسى يكاتب الحسن بن سهل، فلما بلغه خبر بغداد، سأل الحسن بن سهل أن يعطيه الأمان له ولأهل بيته ولأصحابه، على أن يعطى الحسن أصحابه وجنده وسائر أهل بغداد رزق ستة أشهر إذا أدركت له الغلة، فأجابه الحسن، وارتحل عيسى من معسكره، فدخل بغداد يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من شوال، وتقوضت جميع عساكرهم، فدخلوا بغداد، فأعلمهم عيسى ما دخل لهم فيه من الصلح، فرضوا بذلك.

ثم رجع عيسى إلى المدائن، وجاء يحيى بن عبد الله، ابن عم الحسن بن سهل، حتى نزل دير العاقول، فولوه السواد، وأشركوا بينه وبين عيسى في الولاية، وجعلوا لكل عدة من الطساسيج وأعمال بغداد. فلما دخل عيسى فيما دخل فيه - وكان أهل عسكر المهدي مخالفين له - وثب المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل؛ فامتنع عليه سهل بن سلامة، وقال: ليس على هذا بايعتني.

وتحول منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع - وكانوا يوم تحولوا بايعوا سهل بن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسنة - فنزلوا بالحربية فرارًا من الطلب، وجاء سهل بن سلامة إلى الحسن، وبعث إلى المطلب أن يأتيه، وقال: ليس على هذا بايعتني، فأبى المطلب أن يجيشه، فقاتله سهل يومين أو ثلاثة قتالًا شديدًا؛ حتى اصطلح عيسى والمطلب، فدس عيسى إلى سهلٍ من اغتاله فضربه ضربة بالسيف؛ إلا أنها لم تعمل فيه؛ فلما اغتيل سهل رجع إلى منزله، وقام عيسى بأمر الناس، فكفوا عن القتال.

وقد كان حميد بن عبد الحميد مقيمًا بالنيل، فلما بلغه هذا الخبر دخل الكوفة، فأقام بها أيامًا. ثم إنه خرج منها حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به، واتخذ منزلًا وعمل عليه سورًا وخندقًا؛ وذلك آخر ذي القعدة، وأقام عيسى ببغداد يعرض الجند ويصححهم، إلى أن تدرك الغلة، وبعث إلى سهل بن سلامة فاعتذر إليه مما كان صنع به، وبايعه وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأنه عونه على ذلك، فقام سهل بما قام به أولًا من الدعاء إلى العمل بالكتاب والسنة.

ذكر خبر البيعة لعلي بن موسى بولاية العهد

وفي هذه السنة جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسماه الرضي من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق.

ذكر الخبر عن ذلك وعما كان سبب ذلك وما آل الأمر فيه إليه

ذكر أن عيسى بن محمد بن أبي خالد، بينما هو فيما هو فيه من عرض أصحابه بعد منصرفه من عسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بن سهل يعلمه أن أمير المؤمنين المأمون قد جعل علي بن موسى بن جعفر بن محمد ولي عهده من بعده؛ وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد أحدًا هو أفضل ولا أروع ولا أعلم منه؛ وأنه سماه الرضي من آل محمد، وأمره بطرح لبس الثياب السود ولبس ثياب الخضرة؛ وذلك يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم، ويأخذ جميعًا بذلك.

فلما أتى عيسى الخبر دعا أهل بغداد إلى ذلك على أن يعجل لهم رزق شهر، والباقي إذا أدركت الغلة، فقال بعضهم: نبايع ونلبس الخضرة، وقال بعضهم: لا نبايع ولا نلبس الخضرة، ولا نخرج هذا الأمر من ولد العباس؛ وإنما هذا دسيس من الفضل بن سهل، فمكثوا بذلك أيامًا. وغضب ولد العباس من ذلك، واجتمع بعضهم إلى بعض، وتكلموا فيه، وقالوا: نولي بعضنا ونخلع المأمون؛ وكان المتكلم في هذا والمختلف والمتقلد له إبراهيم ومنصور ابنا المهدي.

ذكر الدعوة لمبايعة إبراهيم بن المهدي وخلع المأمون

وفي هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلعوا المأمون.

ذكر السبب في ذلك

قد ذكرنا سبب إنكار العباسيين ببغداد على المأمون ما أنكروا عليه، واجتماع من اجتمع على محاربة الحسن بن سهل منهم؛ حتى خرج عن بغداد. ولما كان من بيعة المأمون لعلى بن موسى بن جعفر - وأمره الناس بلبس الخضرة ما كان، وورود كتاب الحسن على عيسى بن محمد بن أبي خالد يأمره بذلك، وأخذ الناس به ببغداد، وذلك يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة - أظهر العباسيون ببغداد أنهم قد بايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة، ومن بعده ابن أخيه إسحاق بن موسى بن المهدي؛ وأنهم قد خلعوا المأمون، وأنهم يعطون عشرة دنانير كل إنسان، أول يوم من المحرم أول يوم من السنة المستقبلة. فقبل بعض ولم يقبل بعض حتى يعطى؛ فلما كان يوم الجمعة وأرادوا الصلاة أرادوا أن يجعلوا إبراهيم خليفة للمأمون مكان منصور، فأمروا رجلًا يقول حين أذن المؤذن: إنا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده لإبراهيم يكون خليفة؛ وكانوا قد دسوا قومًا، فقالوا لهم: إذا قام يقول ندعو للمأمون، فقوموا أنتم فقولوا: لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم ومن بعده لإسحاق، وتخلعوا المأمون أصلًا، ليس نريد أن تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثم تجلسوا في بيوتكم. فلما قام من يتكلم أجابه هؤلاء، فلم يصل بهم تلك الجمعة صلاة الجمعة، ولا خطب أحد، إنما صلى الناس أربع ركعات ثم انصرفوا؛ وذلك يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة إحدى ومائتين.

وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن خرداذبه وهو والي طبرستان اللارز والشيرز؛ من بلاد الديلم، وزادهما في بلاد الإسلام، وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شروين عنها، فقال سلام الخاسر:

إنا لنأمل فتح الروم والصين ** بمن أدال لنا من ملك شروين

فاشدد يديك بعبد الله إن له ** مع الأمانة رأي غير موهون

وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليلى ملك الديلم بغير عهد في هذه السنة.

وفيها مات محمد بن محمد صاحب أبي السرايا.

وفيها تحرك بابك الخرمي في الجاويذانية أصحاب جاويذان بن سهل، صاحب البذ، وادعى أن روح جاويذان دخلت فيه، وأخذ في العبث والفساد.

وفيها أصاب أهل خراسان والري وإصبهان مجاعة، وعز الطعام، ووقع الموت.

وحج بالناس فيها إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.

ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خبر بيعة إبراهيم بن المهدي

فمما كان فيها من ذلك بيعة أهل بغداد لإبراهيم بن المهدي بالخلافة، وتسميتهم إياه المبارك. وقبل إنهم بايعوه في أول يوم من المحرم بالخلافة، وخلعوا المأمون؛ فلما كان يوم الجمعة صعد إبراهيم المنبر؛ فكان أول من بايعه عبيد الله بن العباس بن محمد الهاشمي، ثم منصور بن المهدي، ثم سائر بني هاشم، ثم القواد. وكان المتولي لأخذ البيعة المطلب بن عبد الله بن مالك؛ وكان الذي سعى في ذلك وقام به السندي وصالح صاحب المصلى ومنجاب ونصير الوصيف وسائر الموالي؛ إلا أن هؤلاء كانوا الرؤساء والقادة غضبًا منهم على المأمون حين أراد إخراج الخلافة من ولد العباس إلى ولد علي، ولتركه لباس آبائه السواد ولبسه الخضرة.

ولما فرغ من البيعة وعد الجند أن يعطيهم أرزاق ستة الأشهر، فدافعهم بها، فلما رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطاهم مائتي درهم لكل رجل، وكتب لبعضهم إلى السواد بقيمة مالهم حنطة وشعيرًا. فخرجوا في قبضها فلم يمروا بشيء إلا انتهبوه، فأخذوا النصيبين جميعًا؛ نصيب أهل البلاد ونصيب السلطان. وغلب إبراهيم مع أهل بغداد على أهل الكوفة والسواد كله، وعسكر بالمدائن. وولي الجانب الشرقي من بغداد العباس بن موسى الهادي والجانب الغربي إسحاق ابن موسى الهادي. وقال إبراهيم بن المهدي:

ألم تعلموا يا آل فهر بأنني ** شريت بنفسي دونكم في المهالك

خبر تحكيم مهدي بن علوان الحروري

وفي هذه السنة حكم مهدي بن علوان الحروري، وكان خروجه ببزرجسابور، وغلب على طساسيج هنالك. وعلى نهر بوق والراذانين. وقد قيل: إن خروج مهدي كان في سنة ثلاث ومائتين في شوال منها، فوجه إليه إبراهيم بن المهدي أبا إسحاق بن الرشيد في جماعة من القواد، منهم أبو البط وسعيد بن الساجور، ومع أبي إسحاق غلمان له أتراك؛ فذكر عن شبيل صاحب السلبة، أنه كان معه وهو غلام، فلقوا الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق، فحامى عنه غلام له تركي، وقال له: أشناس مرا، أي أعرفني، فسماه يومئذ أشناس؛ وهو أبو جعفر أشناس، وهزم مهدي إلى حولايا.

وقال بعضهم: إنما وجه إبراهيم إلى مهدي بن علوان الدهقاني الحروري المطلب، فسار إليه، فلما قرب منه أخذ رجلًا من قعد الحرورية يقال له أقذى، فقتله، واجتمعت الأعراب فقاتلوه فهزموه حتى أدخلوا بغداد.

وفي هذه السنة وثب أخو أبي السرايا بالكوفة، فبيض، واجتمعت إليه جماعة، فلقيه غسان بن أبي الفرج في رجب فقتله، وبعث برأسه إلى إبراهيم بن المهدي.

ذكر الخبر عن تبييض أخي أبي السرايا وظهوره بالكوفة

ذكر أن الحسن بن سهل أتاه وهو مقيم بالمبارك في معسكره كتاب المأمون يأمره بلبس الخضرة، وأن يبايع لعلي بن موسى بن جعفر بن محمد بولاية العهد من بعده، ويأمره أن يتقدم إلى بغداد حتى يحاصر أهلها، فارتحل حتى نزل سمر، وكتب إلى حبيب بن عبد الحميد أن يتقدم إلى بغداد ويحاصر أهلها من ناحية أخرى، ويأمره بلباس الخضرة، ففعل ذلك حميد. وكان سعيد بن الساجور وأبو البط وغسان بن أبي الفرج ومحمد بن إبراهيم الإفريقي وعدة من قواد حميد كاتبوا إبراهيم بن المهدي، على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة. وكان قد تباعد ما بينه وبين حميد، فكانوا يكتبون إلى الحسن بن سهل يخبرونه أن حميدًا يكاتب إبراهيم، وكان يكتب فيهم بمثل ذلك، وكان الحسن يكتب إلى حميد يسأله أن يأتيه فلم يفعل، وخاف إن هو خرج إلى الحسن أن يثب الآخرون بعسكره؛ فكانوا يكتبون إلى الحسن أنه ليس يمنعه من إتيانك إلا أنه مخالف لك، وأنه قد اشترى الضياع بين الصراة وسورا والسواد. فلما ألح عليه الحسن بالكتب، خرج إليه يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر، فكتب سعيد وأصحابه إلى إبراهيم يعلمونه، ويسألون أن يبعث إليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، حتى يدفعوا إليه القصر وعسكر حميد؛ وكان إبراهيم قد خرج من بغداد يوم الثلاثاء حتى عسكر بكلواذى يريد المدائن، فلما أتاه الكتاب وجه عيسى إليهم.

فلما بلغ أهل عسكر حميد خروج عيسى ونزوله قرية الأعراب على فرسخ من القصر تهيئوا للهرب؛ وذلك ليلة الثلاثاء، وشد أصحاب سعيد وأبي البط والفضل بن محمد بن الصباح الكندي الكوفي على عسكر حميد؛ فانتهبوا ما فيه، وأخذوا الحميد - فيما ذكر - مائة بدرة أموالًا ومتاعًا، وهرب بن لحميد ومعاذ بن عبد الله، فأخذ بعضهم نحو الكوفة وبعض نحو النيل؛ فأما ابن حميد، فإنه انحدر بجواري أبيه إلى الكوفة، فلما أتى الكوفة اكترى بغالًا ثم أخذ الطريق، ثم لحق بأبيه بعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر وسلمه له سعيد وأصحابه، وصار عيسى وأخذه منهم، وذلك يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الآخر. وبلغ الحسن بن سهل وحميد عنده، فقال له حميد: ألم أعلمك بذلك! ولكن خدعت، وخرج من عنده حتى أتى الكوفة، فأخذ أموالًا له كانت هنالك ومتاعًا. وولى على الكوفة العباس بن موسى بن جعفر العلوي، وأمره بلباس الخضرة، وأن يدعو للمأمون ومن بعده لأخيه علي بن موسى؛ وأعانه بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك، فإن أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك، وأنا معك. فلما كان الليل خرج حميد من الكوفة وتركه، وقد كان الحسن وجه حكيمًا الحارثي حين بلغه الخبر إلى النيل، فلما بلغ ذلك عيسى وهو بالقصر تهيأ هو وأصحابه، حتى خرجوا إلى النيل؛ فلما كان ليلة السبت لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر طلعت حمرة في السماء، ثم ذهبت الحمرة، وبقي عمودان أحمران في السماء إلى آخر الليل؛ وخرج غداة السبت عيسى وأصحابه من القصر إلى النيل، فواقعهم حكيم، وأتاهم عيسى وسعيد وهم في الوقعة، فانهزم حكيم، ودخلوا النيل.

فلما صاروا بالنيل، بلغهم خبر العباس بن موسى بن جعفر العلوي، وما يدعو إليه أهل الكوفة، وأنه قد أجابه قوم كثير منهم، وقال له قوم آخرون: إن كنت تدعو للمأمون ثم من بعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك. فقال: أنا أدعو إلى المأمون ثم من بعده لأخي؛ فقعد عنه الغالية من الرافضة وأكثر الشيعة. وكان يظهر أن حميدًا يأتيه فيعينه ويقويه، وأن الحسن يوجه إليه قومًا من قبله مددًا، فلم يأته منهم أحد، وتوجه إليه سعيد وأبو البط من النيل إلى الكوفة؛ فلما صاروا بدير الأعور، أخذوا طريقًا يخرج بهم إلى عسكر هرثمة عند قرية شاهي.

فلما التأم إليه أصحابه، خرجوا يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى. فلما صاروا قرب القنطرة خرج عليهم علي بن محمد بن جعفر العلوي، ابن المبايع له بمكة، وأبو عبد الله أخو أبي السرايا ومعهم جماعة كثيرة، وجههم مع علي بن محمد، فقاتلوهم ساعة، فانهزم علي وأصحابه حتى دخلوا الكوفة، وجاء سعيد وأصحابه حتى نزلوا الحيرة؛ فلما كان يوم الثلاثاء غدوا فقاتلوهم مما يلي دار عيسى بن موسى، وأجابهم العباسيون ومواليهم، فخرجوا إليهم من الكوفة، فاقتتلوا يومهم إلى الليل، وشعارهم: " يا إبراهيم يا منصور، لا طاعة للمأمون "، وعليهم السواد، وعلى العباس وأصحابه من أهل الكوفة الخضرة.

فلما كان يوم الأربعاء اقتتلوا في ذلك الموضع، فكان كل فريق منهم إذا ظهروا على شيء أحرقوه. فلما رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة، أتوا سعيدًا وأصحابه، فسألوه الأمان للعباس بن موسى بن جعفر وأصحابه؛ على أن يخرج من الكوفة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم أتوا العباس فأعلموه، وقالوا: إن عامة من معك غوغاء، وقد ترى ما يلقى الناس من الحرق والنهب والقتل؛ فأخرج من بين أظهرنا، فلا حاجة لنا فيك. فقبل منهم، وخاف أن يسلموه، وتحول من منزله الذي كان فيه بالكناسة، ولم يعلم أصحابه بذلك، وانصرف سعيد وأصحابه إلى الحيرة، وشد أصحاب العباس بن موسى على من بقي من أصحاب سعيد وموالي عيسى بن موسى العباسي، فهزموهم حتى بلغوا بهم الخندق، ونهبوا ربض عيسى بن موسى، فأحرقوا الدور، وقتلوا من ظهروا به. فبعث العباسيون ومواليهم إلى سعيد يعلمونه بذلك، وأن العباس قد رجع عما كان طلب من الأمان. فركب سعيد وأبو البط وأصحابهما حتى أتوا الكوفة عتمةً، فلم يظفروا بأحد منهم ينتهب إلا قتلوه، ولم يظهروا على شيء مما كان في أيدي أصحاب العباس إلا أحرقوه؛ حتى بلغوا الكناسة، فمكثوا بذلك عامة الليل حتى خرج إليهم رؤساء أهل الكوفة، فأعلموهم أن هذا من عمل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن شيء. فانصرفوا عنهم.

فلما كان غداة الخميس لخمس خلون من جمادى الأولى، جاء سعيد وأبو البط حتى دخلوا الكوفة، ونادى مناديهم: أمن الأبيض والأسود؛ ولم يعرضوا لأحد من الخلق إلا بسبيل خير، وولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي، من أهلها. فكتب إليهم إبراهيم بن المهدي يأمرهم بالخروج إلى ناحية واسط، وكتب إلى سعيد أن يستعمل على الكوفة غير الكندي، لميله إلى أهل بلده؛ فولاها غسان بن الفرج، ثم عزله بعد ما قتل أبا عبد الله أخا أبي السرايا، فولاها سعيد ابن أخيه الهول؛ فلم يزل واليًا عليها حتى قدمها حميد بن عبد الحميد، وهرب الهول منها، وأمر إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر ابن عائشة الهاشمي ونعيم بن خازم أن يسيرا جميعًا، فخرجا مما يلي جوخى، وبذلك أمرهما، وذلك في جمادى الأولى. ولحق بهما سعيد وأبو البط والإفريقي حتى عسكروا بالصيادة قرب واسط؛ فاجتمعوا جميعًا في مكان واحد، وعليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، فكانوا يركبون حتى يأتوا عسكر الحسن وأصحابه بواسط في كل يوم، فلا يخرج إليهم من أصحاب الحسن أحد، وهم متحصنون بمدينة واسط.

ثم إن الحسن أمر أصحابه بالتهيؤ للخروج للقتال، فخرجوا إليهم يوم السبت لأربع بقين من رجب، فاقتتلوا قتالًا شديدًا إلى قريب الظهر. ثم وقعت الهزيمة على عيسى وأصحابه، فانهزموا حتى بلغوا طرنايا والنيل، وأخذ أصحاب الحسن جميع ما كان في عسكرهم من سلاح ودواب وغير ذلك.

ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوعي

وفي هذه السنة ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوعي فحبسه وعاقبه.

ذكر الخبر عن سبب ظفره به وحبسه إياه

ذكر أن سهل بن سلامة كان مقيمًا ببغداد، يدعو إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه ؛ فلم يزل كذلك حتى اجتمع إليه عامة أهل بغداد ونزلوا عنده؛ سوى من هو مقيم في منزله، وهواه ورأيه معه؛ وكان إبراهيم قد هم بقتاله قبل الوقعة، ثم أمسك عن ذلك، فلما كانت هذه الوقعة، وصارت الهزيمة على أصحاب عيسى ومن معه أقبل على سهل بن سلامة، فدس إليه وإلى أصحابه الذين بايعوه على العمل بالكتاب والسنة، وألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فكان كل من أجابه إلى ذلك قد عمل على باب داره برجًا بجص وآجر، ونصب عليه السلاح والمصاحف؛ حتى بلغوا قرب باب الشأم؛ سوى من أجابه من أهل الكرخ وسائر الناس؛ فلما رجع عيسى من الهزيمة إلى بغداد، أقبل هو وإخوته وجماعة أصحابه نحو سهل ابن سلامة؛ لأنه كان يذكرهم بأسواء أعمالهم وفعالهم، ويقول: الفساق؛ لم يكن لهم عنده اسم غيره، فقاتلوه أيامًا؛ وكان الذي تولى قتاله عيسى بن محمد بن أبي خالد؛ فلما صار إلى الدروب التي قرب سهل أعطى أهل الدروب الألف الدرهم والألفين درهمًا؛ على أن يتنحوا له عن الدروب، فأجابوه إلى ذلك؛ فكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمين ونحو ذلك؛ فلما كان يوم السبت لخمس بقين من شعبان تهيئوا له من كل وجه، وخذله أهل الدروب حتى وصلوا إلى مسجد طاهر بن الحسين وإلى منزله؛ وهو بالقرب من المسجد؛ فلما وصلوا إليه اختفى منهم، وألقى سلاحه، واختلط بالنظارة، ودخل بين النساء فدخلوا منزله.

فلما لم يظفروا به جعلوا عليه العيون؛ فلما كان الليل أخذوه في بعض الدروب التي قرب منزله، فأتوا به إسحاق بن موسى الهادي - وهو ولي العهد بعد عمه إبراهيم بن المهدي وهو بمدينة السلام - فكلمه وحاجه، وجمع بينه وبين أصحابه، وقال له: حرضت علينا الناس، وعبت أمرنا! فقال له: إنما كانت دعوتي عباسية؛ وإنما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنة؛ وأنا على ما كنت عليه أدعوكم إليه الساعة. فلم يقبلوا ذلك منه. ثم قالوا له: اخرج إلى الناس، فقل لهم: إن ما كنت أدعوكم إليه باطل. فأخرج إلى الناس وقال: قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنة، وأنا أدعوكم إليه الساعة. فلما قال لهم هذا وجئوا عنقه، وضربوا وجهه؛ فلما صنعوا ذلك به قال: المغرور من غررتموه يا أصحاب الحربية؛ فأخذ فأدخل إلى إسحاق، فقيده، وذلك يوم الأحد. فلما كان ليلة الاثنين خرجوا به إلى إبراهيم بالمدائن؛ فلما دخل عليه كلمه بما كلم به إسحاق، فرد عليه مثل ما رد على إسحاق. وقد كانوا أخذوا رجلًا من أصحابه يقال له محمد الرواعي، فضربه إبراهيم، ونتف لحيته، وقيده وحبسه؛ فلما أخذ سهل بن سلامه حبسوه أيضًا، وادعوا أنه كان دفع إلى عيسى، وأن عيسى قتله؛ وإنما أشاعوا ذلك تخوفًا من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه؛ فكان بين خروجه وبين أخذه وحبسه اثنا عشر شهرًا.

ذكر خبر شخوص المأمون إلى العراق

وفي هذه السنة شخص المأمون من مرو يريد العراق.

ذكر الخبر عن شخوصه منها

ذكر أن علي بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء؛ وأنهم يقولون إنه مسحور مجنون، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي بالخلافة. فقال المأمون: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة؛ وإنما صيروه أميرًا يقوم بأمرهم، على ما أخبره به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك، فقال: ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟ فقال له: يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر، فقال له: أدخلهم علي حتى أسألهم عما ذكرت، فأدخلهم عليه؛ وهم يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وموسى وعلي بن أبي سعيد - وهو ابن أخت الفضل - وخلف المصري، فسألهم عما أخبره، فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل؛ ألا يعرض لهم، فضمن ذلك لهم، وكتب لكل رجل منهم كتابًا بخطه، ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن، وبينوا ذلك له، وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاء لينصحه وليبين له ما يعمل عليه، وأنه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته، وأن الفضل دس إلى هرثمة من قتله، وأنه أراد نصحه؛ وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتى إذا وطئ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة، قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده، وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك، ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ به على الحسن بن سهل، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها، وأن طاهر بن الحسين قد تنوسي في هذه السنين منذ قتل محمد في الرقة، لا يستعان به في شيء من هذه الحروب؛ استعين بمن هو دونه أضعافًا، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد في بني هاشم والموالي والقواد، والجند لو رأوا عزتك سكنوا إلى ذلك، وبخعوا بالطاعة.

فلما تحقق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد؛ فلما أمر بذلك علم الفضل بن سهل ببعض ذلك من أمرهم، فتعنتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضًا، ونتف لحى بعض؛ فعاوده علي بن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم؛ فأعلمه أنه يداري ما هو فيه. ثم ارتحل من مرو فلما أتى سرخس شد قوم على الفضل بن سهل وهو في الحمام، فضربوه بالسيوف حتى مات؛ وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة اثنتين ومائتين. فأخذوا. وكان الذين قتلوا الفضل من حشم المأمون وهم أربعة نفر: أحدهم غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي، وقتلوه وله ستون سنة؛ وهربوا. فبعث المأمون في طلبهم، وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم بن بزرجمهر الدينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم. وقد قيل: إن الذين قتلوا الفضل لما أخذوا ساءلهم المأمون؛ فمنهم من قال: إن علي بن أبي سعيد، ابن أخت الفضل دسهم، ومنهم من أنكر ذلك، وأمر بهم فقتلوا. ثم بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعلي بن موسى وخلف فساءلهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك؛ فلم يقبل ذلك منهم وأمر بهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل إلى واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه. ووصل الكتاب بذلك إلى الحسن في شهر رمضان، فلم يزل الحسن وأصحابه حتى أدركت الغلة وجبي بعض الخراج، ورحل المأمون من سرخس نحو العراق يوم الفطر، وكان إبراهيم بن المهدي بالمدائن وعيسى وأبو البط وسعيد بالنيل وطرنايا يراوحون القتال ويغادونه؛ وقد كان المطلب بن عبد الله بن مالك بن عبد الله قدم من المدائن، فاعتل بأنه مريض، وجعل يدعو في السر إلى المأمون؛ على أن المنصور بن المهدي خليفة المأمون، ويخلعون إبراهيم، فأجابه إلى ذلك منصور وخزيمة بن خازم وقواد كثير من أهل الجانب الشرقي، وكتب المطلب إلى حميد وعلي بن هشام أن يتقدما فينزل حميد نهر صرصر وعلى النهروان؛ فلما تحقق عند إبراهيم الخبر خرج من المدائن إلى بغداد، فنزل زند ورد يوم السبت لأربع عشرة خلت من صفر، وبعث إلى المطلب ومنصور وخزيمة، فلما أتاهم رسوله اعتدوا عليه؛ فلما رأى ذلك بعث إليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد وأخوته؛ فأما منصور وخزيمة فأعطوا بأيديهما وأما المطلب فإن مواليه وأصحابه قاتلوا عن منزله حتى كثر الناس عليهم، وأمر إبراهيم مناديًا فنادى: من أراد النهب فليأت دار المطلب، فلما كان وقت الظهر وصلوا إلى داره، فانتهبوا ما وجدوا فيها، وانتهبوا دور أهل بيته، وطلبوه فلم يظفروا به، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من صفر.

فلما بلغ حميدًا بن هشام الخبر بعث حميد قائدًا فأخذ المدائن، وقطع الجسر، ونزل بها، وبعث علي بن هشام قائدًا فنزل المدائن، وأتى نهر ديالى فقطعه، وأقاموا بالمدائن، وندم إبراهيم حيث صنع بالمطلب ما صنع، ثم لم يظفر به.

وفي هذه السنة تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل.

وفيها زوج المأمون علي بن موسى الرضي ابنته أم حبيب، وزوج محمد بن علي بن موسى ابنته أم الفضل.

وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد، فدعا لأخيه بعد المأمون بولاية العهد.

وكان الحسن بن سهل كتب إلى عيسى بن يزيد الجلودي، وكان بالبصرة فوافى مكة في أصحابه، فشهد الموسم، ثم انصرف، ومضى إبراهيم بن موسى إلى اليمن؛ وكان قد غلب عليها حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان.

ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

موت علي بن موسى الرضي

ذكر أن مما كان فيها موت علي بن موسى بن جعفر.

ذكر الخبر عن سبب وفاته

ذكر أن المأمون شخص من سرخس حتى صار إلى طوس، فلما صار بها أقام بها عند قبر أبيه أيامًا. ثم إن علي بن موسى أكل عنبًا فأكثر منه، فمات فجأة؛ وذلك في آخر صفر؛ فأمر به المأمون فدفن عند قبر الرشيد، وكتب في شهر ربيع الأول إلى الحسن بن سهل يعلمه أن علي بن موسى بن جعفر مات، ويعلمه ما دخل عليه من الغم والمصيبة بموته؛ وكتب إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم موت علي بن موسى، وأنهم إنما نقموا بيعته له من بعده؛ ويسألهم الدخول في طاعته. فكتبوا إليه وإلى الحسن جواب الكتاب بأغلظ ما يكتب به إلى أحد. وكان الذي صلى على علي بن موسى المأمون. ورحل المأمون في هذه السنة من طوس يريد بغداد، فلما صار إلى الري أسقط من وظيفتها ألفي ألف درهم.

وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل، فذكر سبب ذلك أنه كان مرض مرضًا شديدًا، فهاج به من مرضه تغير عقله، حتى شد في الحديد وحبس في بيت. وكتب بذلك قواد الحسن إلى المأمون، فأتاهم الكتاب أن يكون على عسكره دينار بن عبد الله، ويعلمهم أنه قادم على أثر كتابه.

خبر حبس إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد

وفي هذه السنة ضرب إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد وحبسه.

ذكر الخبر عن سبب ذلك

ذكر أن عيسى بن محمد بن أبي خالد كان يكاتب حميدًا والحسن؛ وكان الرسول بينهم محمد بن محمد المعبدي الهاشمي، وكان يظهر لإبراهيم الطاعة والنصيحة، ولم يكن يقاتل حميدًا ولا يعرض له في شيء من عمله؛ وكان كلما قال إبراهيم: تهيأ للخروج لقتال حميد، يعتل عليه بأن الجند يريدون أرزاقهم، ومرة يقول: حتى تدرك الغلة؛ فما زال بذلك حتى إذا توثق مما يريد مما بينه وبين الحسن وحميد فارقهم، على أن يدفع إليهم إبراهيم بن المهدي يوم الجمعة لانسلاخ شوال. وبلغ الخبر إبراهيم؛ فلما كان يوم الخميس، جاء عيسى إلى باب الجسر، فقال للناس: إني قد سالمت حميدًا، وضمنت له ألا أدخل عمله، وضمن لي ألا يدخل عملي. ثم أمر أن يحفر خندق بباب الجسر وباب الشأم، وبلغ إبراهيم ما قال وما صنع، وقد كان عيسى سأل إبراهيم أن يصلي الجمعة بالمدينة، فأجابه إلى ذلك، فلما تكلم عيسى بما تكلم به، وبلغ إبراهيم الخبر وأنه يريد أخذه حذر.

وذكر أن هارون أخا عيسى أخبر إبراهيم بما يريد أن يصنع به عيسى؛ فلما أخبره، بعث إليه أن يأتيه حتى يناظره في بعض ما يريد، فاعتل عليه عيسى، فلم يزل إبراهيم يعيد إليه الرسل حتى أتاه إلى قصره بالرصافة، فلما دخل عليه حجب الناس، وخلا إبراهيم وعيسى، وجعل يعاتبه، وأخذ عيسى يعتذر إليه مما يعتبه به، وينكر بعض ما يقول؛ فلما قرره بأشياء أمر به فضرب. ثم إنه حبسه وأخذ عدة من قواده فحبسهم، وبعث إلى منزله، فأخذ أم ولده وصبيانًا له صغارًا؛ فحبسهم؛ وذلك ليلة الخميس لليلة بقيت من شوال. وطلب خليفة له يقال له العباس فاختفى. فلما بلغ حبس عيسى أهل بيته وأصحابه، مشى بعضهم إلى بعض، وحرض أهل بيته وإخوته الناس على إبراهيم واجتمعوا؛ وكان رأسهم عباس خليفة عيسى، فشدوا على عامل إبراهيم على الجسر فطردوه، وعبر إلى إبراهيم فأخبره الخبر، وأمر بقطع الجسر فطردوا كل عامل كان لإبراهيم في الكوخ وغيره، ظهر الفساق والشطار، فقعدوا في المسالح. وكتب إلى حميد يسأله أن يقدم إليهم حتى يسلموا إليه بغداد؛ فلما كان يوم الجمعة صلوا في مسجد المدينة أربع ركعات، صلى بهم المؤذن بغير خطبة.

ذكر خبر خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي

وفي هذه السنة خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي، ودعوا للمأمون بالخلافة.

ذكر الخبر عن سبب ذلك

قد ذكرنا قبل ما كان من إبراهيم وعيسى بن محمد بن أبي خالد وحبس إبراهيم إياه، واجتماع عباس خليفة عيسى وإخوة عيسى على إبراهيم، وكتابهم إلى حميد يسألونه المصير إليهم ليسلموا بغداد إليه؛ فذكر أن حميدًا لما أتاه كتابهم، وفيه شرط منهم عليه أن يعطي جند أهل بغداد؛ كل رجل منهم خمسين درهمًا، فأجابهم إلى ذلك، وجاء حتى نزل صرصر بطريق الكوفة يوم الأحد، وخرج إليه عباس وقواد أهل بغداد، فلقوه غداة الاثنين، فوعدهم ومناهم وقبلوا ذلك منه، فوعدهم أن يضع لهم العطاء يوم السبت في الياسرية، على أن يصلوا الجمعة فيدعوا للمأمون، ويخلعوا إبراهيم؛ فأجابوه إلى ذلك. فلما بلغ إبراهيم الخبر أخرج عيسى وإخوته من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله، ويكفيه أمر هذا الجانب، فأبى ذلك عليه.

فلما كان يوم الجمعة بعث عباس إلى محمد بن أبي رجاء الفقيه، فصلى بالناس الجمعة، ودعا للمأمون، فلما كان يوم السبت جاء حميد إلى الياسرية فعرض حميد جند أهل بغداد، وأعطاهم الخمسين التي وعدهم، فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة، فيعطيهم أربعين درهمًا لكل رجل منهم؛ لما كانوا تشاءموا به من علي بن هشام حين أعطاهم الخمسين. فغدر بهم، وقطع العطاء عنهم، فقال لهم حميد: لا بل أزيدكم وأعطيكم ستين درهمًا لكل رجل، فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى فسأله أن يقاتل حميدًا، فأجابه إلى ذلك، فخلى سبيله، وأخذ منه كفلاء، فكلم عيسى الجند أن يعطيهم مثل ما أعطى حميد؛ فأبوا ذلك عليه؛ فلما كان يوم الاثنين عبر إليهم عيسى وإخوته وقواد أهل الجانب الشرقي، فعرضوا على أهل الجانب الغربي أن يزيدوهم على ما أعطى حميد، فشتموا عيسى وأصحابه، وقالوا: لا نريد إبراهيم. فخرج عيسى وأصحابه حتى دخلوا المدينة، وأغلقوا الأبواب، وصعدوا السور، وقاتلوا الناس ساعة. فلما كثر عليهم الناس انصرفوا راجعين؛ حتى أتوا باب خراسان، فركبوا في السفن، ورجع عيسى كأنه يريد أن يقاتلهم، ثم احتال حتى صار في أيديهم شبه الأسير، فأخذه بعض قواده فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه الخبر، فاغتم لذلك غمًا شديدًا؛ وقد كان المطلب بن عبد الله بن مالك اختفى من إبراهيم، فلما قدم حميد أراد العبور إليه فأخذه المعبر، فذهب إلى إبراهيم فحبسه عنده ثلاثة أيام أو أربعة، ثم إنه خلى عنه ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجة.

ذكر خبر اختفاء إبراهيم بن المهدي

وفي هذه السنة اختفى إبراهيم بن المهدي، وتغيب بعد حرب بينه وبين حميد بن عبد الحميد، وبعد أن أطلق سعد بن سلامة من حبسه.

ذكر الخبر عن اختفائه والسبب في ذلك

ذكر أن سهل بن سلامة كان الناس يذكرون أنه مقتول، وهو عند إبراهيم محبوس؛ فلما صار حميد إلى بغداد ودخلها أخرجه إبراهيم. وكان يدعو في مسجد الرصافة كما كان يدعو، فإذا كان الليل رده إلى حبسه؛ فمكث بذلك أيامًا، فأتاه أصحابه ليكونوا معه، فقال لهم: الزموا بيوتكم، فإني أرزأ هذا - يعني إبراهيم - فلما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجة خلى سبيله، فذهب فاختفى، فلما رأى أصحاب إبراهيم وقواده أن حميدًا قد نزل في أرحاء عبد الله بن مالك، تحول عامتهم إليه، وأخذوا له المدائن؛ فلما رأى ذلك إبراهيم، أخرج جميع من عنده حتى يقاتلوا، فالتقوا على جسر نهر ديالى، فاقتتلوا، فهزمهم حميد، فقطعوا الجسر فتبعهم أصحابه حتى أدخلوهم بيوت بغداد، وذلك يوم الخميس لانسلاخ ذي القعدة.

فلما كان يوم الأضحى أمر إبراهيم القاضي أن يصلي بالناس في عيساباذ، فصلى بهم فانصرف الناس، واختفى الفضل بن الربيع، ثم تحول إلى حميد، ثم تحول علي بن ريطة إلى معسكر حميد، وجعل الهاشميون والقواد يلحقون بحميد واحدًا بعد واحد؛ فلما رأى إبراهيم أسقط في يده، فشق عليه. وكان المطلب يكاتب حميدًا على أن يأخذ له الجانب الشرقي، وكان سعيد بن الساجور وأبو البط وعبدويه وعدة معهم من القواد يكاتبون علي بن هشام، على أن يأخذوا له إبراهيم؛ فلما علم إبراهيم بأمرهم وما اجتمع عليه كل قوم من أصحابه، وأنهم قد أحدقوا به، جعل يداريهم؛ فلما جنه الليل اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، وبعث المطلب إلى حميد يعلمه أنه قد أحدق بدار إبراهيم هو وأصحابه؛ فإن كان يريده فليأته.

وكتب ابن الساجور وأصحابه إلى علي بن هشام، فركب حميد من ساعته؛ وكان نازلًا في أرحاء عبد الله، فأتى باب الجسر، وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بين، وتقدم إلى مسجد كوثر، وخرج إليه ابن الساجور وأصحابه، وجاء المطلب إلى حميد، فلقوه بباب الجسر، فقربهم ووعدهم ونبأهم أن يعلم المأمون ما صنعوا، فأقبلوا إلى دار إبراهيم، وطلبوه فلم يجدوه، فلم يزل إبراهيم متواريًا حتى قدم المأمون وبعد ما قدم؛ حتى كان من أمره ما كان.

وقد كان سهل بن سلامة حيث اختفى وتحول إلى منزله وظهر، وبعث إليه حميد، فقربه وأدناه، وحمله على بغل، ورده إلى أهله، فلم يزل مقيمًا حتى قدم المأمون، فأتاه فأجازه ووصله، وأمره أن يجلس في منزله.

وفي هذه السنة انكسفت الشمس يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي الحجة حتى ذهب ضوءها، وكان غاب أكثر من ثلثيها، وكان انكسافها ارتفاع النهار، فلم يزل كذلك حتى قرب الظهر ثم انجلت.

فكانت أيام إبراهيم بن المهدي كلها سنة وأحد عشر شهرًا واثني عشر يومًا.

وغلب علي بن هشام على شرقي بغداد وحميد بن عبد الحميد على غربيها، وصار المأمون إلى همذان في آخر ذي الحجة وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.

ثم دخلت سنة أربع ومائتين

ذكر الأحداث التي كانت فيها

خبر قدوم المأمون إلى بغداد

فمما كان في ذلك قدوم المأمون العراق، وانقطاع مادة الفتن ببغداد.

ذكر الخبر عن مقدمه العراق وما كان فيه بها عند مقدمه

ذكر عن المأمون أنه لما قدم جرجان أقام بها شهرًا، ثم خرج منها، فصار إلى الري في ذي الحجة، فأقام بها أيامًا، ثم خرج منها، فجعل يسير المنازل، ويقيم اليوم واليومين حتى صار إلى النهروان؛ وذلك يوم السبت، فأقام فيه ثمانية أيام، وخرج إليه أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فسلموا عليه؛ وقد كان كتب إلى طاهر بن الحسين من الطريق وهو بالرقة، أن يوافيه إلى النهروان، فوافاه بها، فلما كان السبت الآخر دخل بغداد ارتفاع النهار، لأربع عشرة ليلة بقيت من صفر سنة أربع ومائتين، ولباسه ولباس أصحابه؛ أقبيتهم وقلانسهم وطراداتهم وأعلامهم كلها الخضرة. فلما قدم نزل الرصافة، وقدم معه طاهر، فأمره بنزول الخيزرانية مع أصحابه، ثم تحول فنزل قصره على شط دجلة، وأمر حميد بن عبد الحميد وعلي بن هشام وكل قائد كان في عسكره أن يقيم في عسكره؛ فكانوا يختلفون إلى دار المأمون في كل يوم؛ ولم يكن يدخل عليه أحد إلا في الثياب الخضر، ولبس ذلك أهل بغداد وبنو هاشم أجمعون، فكانوا يخرقون كل شيء يرونه من السواد على إنسان إلا القلنسوة؛ فإنه كان يلبسها الواحد بعد الواحد على خوف ووجل؛ فأما قباء أو علم فلم يكن أحد يجترئ أن يلبس شيئًا من ذلك ولا يحمله. فمكثوا بذلك ثمانية أيام؛ فتكلم في ذلك بنو هاشم وولد العباس خاصةً، وقالوا له: يا أمير المؤمنين، تركت لباس آبائك وأهل بيتك ودولتهم، ولبست الخضرة. وكتب إليه في ذلك قواد أهل خراسان.

وقيل إنه أمر طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه، فكان أول حاجة سأله أن يطرح لباس الخضرة، ويرجع إلى لبس السواد زي دولة الآباء؛ فلما رأى طاعة الناس له في لبس الخضرة وكراهتهم لها، وجاء السبت قعد لهم وعليه ثياب خضر، فلما اجتمعوا عنده دعا بسواد فلبسه، ودعا بخلعة سواد فألبسها طاهرًا، ثم دعا بعدة من قواده، فألبسهم أقبية وقلانس سودًا؛ فلما خرجوا من عنده وعليهم السواد، طرح سائر القواد والجند لبس الخضرة، ولبسوا السواد، وذلك يوم السبت لسبع بقين من صفر.

وقد قيل: إن المأمون لبس الثياب الخضر بعد دخوله بغداد سبعة وعشرين، ثم مزقت.

وقيل إنه لم يزل مقيمًا ببغداد في الرصافة حتى بنى منازل على شط دجلة عند قصره الأول؛ وفي بستان موسى.

وذكر عن إبراهيم بن العباس الكاتب، عن عمرو بن مسعدة، أن أحمد بن أبي خالد الأحول قال: لما قدمنا من خراسان مع المأمون وصرنا في عقبة حلوان - وكنت زميله - قال لي: يا أحمد، إني أجد رائحة العراق، فأجبت بغير جوابه، وقلت: ما أخلقه! قال: ليس هذا جوابي، ولكني أحسبك سهوت أو كنت مفكرًا، قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فيم فكرت؟ قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فكرت في هجومنا على أهل بغداد وليس معنا إلا خمسون ألف درهم، مع فتنة غلبت على قلوب الناس، فاستعذبوها، فكيف يكون حالنا إن هاج هائج، أو تحرك متحرك! قال: فأطرق مليًا، ثم قال: صدقت يا أحمد، ما أحسن ما فكرت؛ ولكني أخبرك؛ الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم؛ فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإمساكنا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينتصف إلا بنا، ومن كان لا ظالمًا ولا مظلومًا فبيته يسعه. فوالله ما كان إلا كما قال.

وأمر المأمون في هذه السنة بمقاسمة أهل السواد على الخمسين؛ وكانوا يقاسمون على النصف، واتخذ القفيز الملجم - وهو عشرة مكاكيك بالمكوك الهاروني - كيلا مرسلا.

وفي هذه السنة واقع يحيى بن معاذ بابك، فلم يظفر واحد منهما بصاحبه. وولى المأمون صالح بن الرشيد البصرة، وولى عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب الحرمين.

وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن.

ثم دخلت سنة خمس ومائتين

ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث

ولاية طاهر بن الحسين خراسان

فمن ذلك تولية المأمون فيها طاهر بن الحسين من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وقد كان قبل ذلك ولاه الجزيرة والشرط وجانبي بغداد ومعاون السواد، وقعد للناس.

ذكر الخبر عن سبب توليته

وكان سبب توليته إياه خراسان، والمشرق، ما ذكر عن حماد بن الحسن، عن بشر بن غياث المريسي، قال:

حضرت عبد الله المأمون أنا وثمامة ومحمد بن أبي العباس وعلي بن الهيثم، فتناظروا في التشيع، فنصر محمد بن أبي العباس الإمامة، ونصر علي بن الهيثم الزيدية، وجرى الكلام بينهما؛ إلى أن قال محمد لعلي: يا نبطي، ما أنت والكلام! قال: فقال المأمون - وكان متكئًا فجلس: الشتم عي، والبذاء لؤم؛ إنا قد أبحنا الكلام، وأظهرنا المقالات، فمن قال بالحق حمدناه، ومن جهل ذلك وقفناه، ومن جهل الأمرين حكمنا فيه بما يجب؛ فاجعلا بينكما أصلًا، فإن الكلام فروع؛ فإذا افترعتم شيئًا رجعتم إلى الأصول. قال: فإنا نقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وذكرا الفرائض والشرائع في الإسلام، وتناظرا بعد ذلك. فأعاد محمد لعلي بمثل المقالة الأولى، فقال له علي: والله لولا جلالة مجلسه وما وهب الله من رأفته، ولولا ما نهى عنه لأعرقت جبينك؛ وبحبسك من جهلك وغسلك المنبر بالمدينة.

قال: فجلس المأمون - وكان متكئًا - فقال: وما غسلك المنبر؟ ألتقصير مني في أمرك أو لتقصير المنصور كان في أمر أبيك؟ لولا أن الخليفة إذا وهب شيئًا استحيا أن يرجع فيه لكان أقرب شيء بيني وبينك إلى الأرض رأسك، قم وإياك ما عدت.

قال: فخرج محمد بن أبي العباس، ومضى إلى طاهر بن الحسين - وهو زوج أخته - فقال له: كان من قصتي كيت وكيت؛ وكان يحجب المأمون على النبيذ فتح الخادم، وياسر يتولى الخلع، وحسين يسقي، وأبو مريم غلام سعيد الجوهري يختلف في الحوائج. فركب طاهر إلى الدار؛ فدخل فتح، فقال: طاهر بالباب؛ فقال: إنه ليس من أوقاته، ائذن له: فدخل طاهر فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال: اسقوه رطلًا، فأخذه في يده اليمنى وقال له: اجلس، فخرج فشربه ثم عاد، وقد شرب المأمون رطلًا آخر، فقال: اسقوه ثانيًا، ففعل كفعله الأول، ثم دخل، فقال له المأمون: اجلس، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ليس لصاحب الشرطة أن يجلس بين يدي سيده، فقال له المأمون: ذلك في مجلس العامة، فأما مجلس الخاصة فطلق، قال: وبكى المأمون، وتغرغرت عيناه، فقال له طاهر: يا أمير المؤمنين؛ لم تبكي لا أبكى الله عينيك! فوالله دانت لك البلاد، وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمرك. فقال: أبكي لأمر ذكره ذل، وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن؛ فتكلم بحاجة إن كانت لك، قال: يا أمير المؤمنين، محمد بن أبي العباس أخطأ فأقله عثرته، وارض عنه. قال: قد رضيت عنه، وأمرت بصلته، ورددت عليه مرتبته؛ ولولا أنه ليس من أهل الأنس لأحضرته.

قال: وانصرف طاهر، فأعلم ابن أبي العباس ذلك، ودعا بهارون بن جبغويه؛ فقال له: إن للكتاب عشيرة، وإن أهل خراسان يتعصب بعضهم لبعض؛ فخذ معك ثلثمائة ألف درهم، فأعط الحسين الخادم مائتي ألف، وأعط كاتبه محمد بن هارون مائة ألف، وسله أن يسأل المأمون: لم بكى؟ قال: ففعل ذلك، قال: فلما تغدى قال: يا حسين اسقني، قال: لا والله لأسقينك أو تقول لي: لم بكيت حين دخل عليك طاهر؟ قال: يا حسين، وكيف عنيت بهذا فسألتني عنه! قال: لغمي بذاك، قال: يا حسين هو أمر إن خرج من رأسك قتلتك، قال: يا سيدي، ومتى أخرجت لك سرًا! قال: إني ذكرت محمدًا أخي، وما ناله من الذلة، فخنقتني العبرة فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرًا مني ما يكره. قال: فأخبر حسين طاهرًا بذلك؛ فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد، فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه، فقال له: سأفعل، فبكر إلي غدًا. قال: فركب ابن أبي خالد إلى المأمون، فلما دخل عليه قال: ما نمت البارحة، فقال: لم ويحك! قال: لأنك وليت غسان خراسان، وهو ومن معه أكلة رأس، فأخاف أن يخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه، فقال له: لقد فكرت فيما فكرت فيه، قال: فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين، قال: ويلك يا أحمد! هو والله خالع، قال: أنا الضامن له، قال: فأنفذه، قال: فدعا بطاهر من ساعته، فعقد له؛ فشخص من ساعته، فنزل في بستان خليل بن هاشم، فحمل إليه في كل يوم ما أقام فيه مائة ألف. فأقام شهرًا، فحمل إليه عشرة آلاف ألف، التي تحمل إلى صاحب خراسان.

قال أبو حسان الزيادي: وكان قد عقد له على خراسان والجبال من حلوان إلى خراسان، وكان شخوصه من بغداد يوم الجمعة لليلة بقيت من ذي القعدة سنة خمس ومائتين، وقد كان عسكر قبل ذلك بشهرين، فلم يزل مقيمًا في عسكره. قال أبو حسان: وكان سبب ولايته - فيما اجتمع الناس عليه - أن عبد الرحمن المطوعي جمع جموعًا بنيسابور ليقاتل بهم الحرورية بغير أمر والي خراسان، فتخوفوا أن يكون ذلك لأصل عمله عليه. وكان غسان بن عباد يتولى خراسان من قبل الحسن بن سهل، وهو ابن عم الفضل بن سهل.

وذكر عن علي بن هارون أن طاهر بن الحسين قبل خروجه إلى خراسان وولايته لها، ندبه الحسن بن سهل للخروج إلى محاربة نصر بن شبث، فقال: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأومر بمثل هذا! وإنما كان ينبغي أن توجه لهذا قائدًا من قوادي؛ فكان سبب المصارمة بين الحسن وطاهر.

قال: وخرج طاهر إلى خراسان لما تولاها، وهو لا يكلم الحسن بن سهل، فقيل له في ذلك، فقال: ما كنت لأحل عقدة عقدها لي في مصارمته.

وفي هذه السنة ورد عبد الله بن طاهر بغداد منصرفًا من الرقة، وكان أبوه طاهرًا استخلفه عليها، وأمره بقتال نصر بن شبث، وقدم يحيى بن معاذ فولاه المأمون الجزيرة.

وفيها ولى المأمون عيسى بن محمد بن أبي خالد أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.

وفيها مات السري بن الحكم بمصر وكان واليها.

وفيها مات داود بن يزيد عامل السند، فولاها المأمون بشر بن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم.

وفيها ولى المأمون عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزط.

وفيها شخص طاهر بن الحسين إلى خراسان في ذي القعدة، وأقام شهرين حتى بلغه خروج عبد الرحمن النيسابوري المطوعي بنيسابور، فشخص ووافى التغرغزية أشروسنة.

وفيها أخذ فرج الرخجي عبد الرحمن بن عمار النيسابوري.

وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن، وهو والي الحرمين.

ثم دخلت سنة ست ومائتين

ذكر ما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك من تولية المأمون داود بن ماسجور محاربة الزط وأعمال بصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين.

وفيها كان المد الذي غرق منه السواد وكسكر وقطيعة أم جعفر وقطيعة العباس وذهب بأكثرها.

وفيها نكب بابك بعيسى بن محمد بن أبي خالد.

ولاية عبد الله بن طاهر على الرقة

وفيها ولى المأمون عبد الله بن طاهر الرقة لحرب نصر بن شبث ومضر.

ذكر الخبر عن سبب توليته إياه

وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن يحيى بن معاذ كان المأمون ولاه الجزيرة، فمات في هذه السنة، واستخلف ابنه أحمد على عمله، فذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، أن المأمون دعا عبد الله بن طاهر في شهر رمضان، فقال بعض: كان ذلك في سنة خمس ومائتين، وقال بعض: سنة ست. وقال بعض: سنة سبع. فلما دخل عليه، قال: يا عبد الله أستخير الله منذ شهر، وأرجو أن يخير الله لي، ورأيت الرجل يصف ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك، وقد مات يحيى بن معاذ، واستخلف ابنه أحمد بن يحيى، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مضر ومحاربة نصر بن شبث، فقال: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله الخيرة لأمير المؤمنين وللمسلمين.

فال: فعقد له، ثم أمر أن تقطع حبال القصارين عن طريقه، وتنحى عن الطرقات المظال، كيلا يكون في طريقه ما يرد لواءه، ثم عقد له لواء مكتوبًا عليه بصفرة ما يكتب على الألوية؛ وزاد فيه المأمون: " يا منصور "، وخرج معه الناس فصار إلى منزله؛ ولما كان من غد ركب إليه الناس وركب إليه الفضل بن الربيع؛ فأقام عنده إلى الليل؛ فقام الفضل، فقال عبد الله: يا أبا العباس، قد تفضلت وأحسنت، وقد تقدم أبي وأخوك إلي ألا أقطع أمرًا دونك، وأحتاج أن أستطلع رأيك، وأستضيء بمشورتك؛ فإن رأيت أن تقيم عندي إلى أن نفطر فافعل.

فقال له: إن لي حالات ليس يمكنني معها الإفطار ها هنا. قال: إن كنت تكره طعام أهل خراسان فابعث إلى مطبخك يأتون بطعامك، فقال له: إن لي ركعات بين العشاء والعتمة، قال: ففي حفظ الله؛ وخرج معه إلى صحن داره يشاوره في خاص أموره.

وقيل: كان خروج عبد الله الصحيح إلى مضر؛ لقتال نصر بن شبث بعد خروج أبيه إلى خراسان، بستة أشهر.

وصية طاهر إلى ابنه عبد الله

وكان طاهر حين ولى ابنه ديار ربيعة، كتب إليه كتابًا نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم " عليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك، والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه؛ وموقوف عليه، ومسئول عنه؛ والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه؛ فإن الله قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخذك بما فرض عليك من ذلك، وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك، ولا يذهلنك عنه ذاهل، ولا يشغلنك عنه شاغل؛ فإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوقفك الله به لرشدك.

وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه فعالك؛ المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سننها؛ في إسباغ وضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها. وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك ونيتك. واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، وادأب عليها فإنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده؛ وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه ولزوم ما أنزل في كتابه؛ من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار على النبي ؛ ثم قم فيه بما يحق لله عليك، ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد. وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به؛ فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب فيه منه إلى الله؛ فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها. وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز وجل، وإجلالًا له، ودركًا للدرجات العلا في المعاد؛ مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك والثقة بعدلك.

وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها؛ فليس شيء أبين نفعًا، ولا أحضر أمنًا، ولا أجمع فضلًا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق منقاد إلى السعادة. وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة، ومعالم الرشد فلا غاية للاستكثار من البر والسعي له؛ إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته، ومرافقة أوليائه في دار كرامته.

واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وإنك لن تحوط نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به، تتم أمورك، وتزدد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك.

وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك، ولا تنهض أحدًا من الناس فيما توليه من عملك قبل تكسف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثم. واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنهم سوء الظن بهم، وارفضه عنهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم. ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزًا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك. ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها؛ بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم آثر عندك مما سوى ذلك؛ فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة.

وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزي بما أحسن. ومأخوذ بما أساء؛ فإن الله جعل الدين حرزًا وعزًا، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى. وأقم حدود الله في أصحاب الحرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه. ولا تعطل ذلك ولا تهاون به. ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة؛ فإن في تفريطك في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك.

واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشبه والبدعات، يسلم لك دينك، وتقم لك مروءتك. وإذا عاهدت عهدًا ففي به، وإذا وعدت بالخير فأنجزه؛ واقبل الحسنة، وادفع بها، واغمض عن عيب كلذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وابغض أهله، وأقص أهل النميمة؛ فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر.

وأحب أهل الصدق والفلاح، وأعن الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة. واجتنب سوء الأهوار والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك؛ وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله. وإياك أن تقول إني مسلط أفعل ما أشاء؛ فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له. وأخلص لله النية فيه واليقين به؛ واعلم أن الملك لله يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله. ودع عنك شره نفسك. ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح العية، وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدهمائهم، ولإغاثة لملهوفهم.

واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر؛ وإذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المؤنة عنهم نمت وربت، وصلحت به العامة، وتزينت الولاة، وطاب به الزمان، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم؛ فإنك إذا فعلت ذلك قررت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب نفسًا لكل ما أردت.

فأجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسبتك فيه؛ فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه. وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك؛ فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى، وارج الثواب؛ فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله؛ فاعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد يزدك الله خيرًا وإحسانًا، فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين؛ وقض الحق فيما حمل من النعم، والبس من العافية والكرامة. ولا تحقرن ذنبًا، ولا تمايلن حاسدًا، ولا ترحمن فاجرًا، ولا تصلن كفورًا، ولا تداهنن عدوًا، ولا تصدقن نمامًا، ولا تأمنن غدارًا؛ ولا توالين فاسقًا، ولا تتبعن غاويًا، ولا تحمدن مرائيًا، ولا تحقرن إنسانًا، ولا تردن سائلًا فقيرًا، ولا تجيبن باطلًا، ولا تلاحظن مضحكًا، ولا تخلفن وعدًا، ولا ترهبن فجرًا، ولا تعملن غضبًا، ولا تأتين بذخًا، ولا تمشين مرحًا، ولا تركبن سفهًا، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عيانًا، ولا تغمضن عن الظالم رهبةً أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ من أهل التجارب وذوي العقول والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الدقة والبخل، ولا تسمعن لهم قولًا؛ فإن ضررهم أكثر من منفعتهم. وليس شيء أسرع فسادًا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح. واعلم أنك إذا كنت حريصًا كنت كثير الأخذ، قليل العطية؛ وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلًا؛ فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم، فاجتنب الشح، واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي؛ وهو قول الله عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون "؛ فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظًا ونصيبًا، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خلقًا، وارض به عملًا ومذهبًا.

وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم؛ ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصًا وانشراحًا، وحسب ذي سلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمةً في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته؛ فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار تكملة الباب الآخر، ولزوم العمل به تلق إن شاء الله نجاحًا وصلاحًا وفلاحًا.

واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور، لأنه ميزان الله الذي تعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل، تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة، ويؤدي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها ينتجز الحق والعدل في القضاء.

واشتد في أمر الله، وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وأبعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقتك، وأنصف الخصم، وقف عند الشبهة، وابلغ في الحاجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة، ولا لوم لائم، وتثبت وتأن، وراقب وانظر، وتدبر وتفكر، واعتبر، وتواضع لربك، وارأف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم - فإن الدماء من الله بمكان عظيم - انتهاكًا لها بغير حقها.

وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزًا ورفعةً، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتًا وغيظًا، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلًا وصغارًا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل، والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئًا عن شريف لشرفه، وعن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد لخاصتك. ولا تأخذن منه فوق منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمرًا فيه شطط. واحمل الناس كلهم على مر الحق؛ فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضا العامة. واعلم أنك جعلت بولايتك خازنًا وحافظًا وراعيًا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيمهم؛ تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم؛ فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي التدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق؛ فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف؛ فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في أعمالك، واحترزت النصيحة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإقامة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل القوة، وآلة وعدة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئًا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله.

واجعل في كل كورة من عملك أمينًا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم؛ حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله. وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك؛ فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه؛ وإلا فتوقف عنه. وراجع أهل البصر والعلم، ثم خذ فيه عدته؛ فإنه ربما نظر الرجل في أمره قد واتاه على ما يهوى، فقواه ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره.

فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك؛ وأكثر مباشرته بنفسك؛ فإن لغد أمورًا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تعرض عنه؛ فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك.

وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طويتهم وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك؛ فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤنتهم، وأصلح حالهم؛ حتى لا يجدوا لخلتهم مسًا. وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك. والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه؛ فاسأل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله أمرهم. وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقًا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله، في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. واجر للأضراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورًا تؤويهم، وقوامًا يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعًا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة؛ وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل؛ كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله، ويلتمس رحمته به. وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك؛ وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدر ولا منان؛ فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله.

واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة؛ ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه؛ واجتنب ما فارق ذلك وخالفه، ودعا إلى سخط الله. واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وينفقون منها. ولا تجمع حرامًا، ولا تنفق إسرافًا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم. وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها؛ وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبًا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص؛ فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.

وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك؛ فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتًا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامراته، وما عنده من حوائج عمالك، وأمر كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر إليه والتدبير له؛ فما كان موافقًا للحزم والحق فأمضه واستخر الله فيه، وما كان مخالفًا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه، والمسألة عنه.

ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا في ذلك.

وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله مع الصلاح وأهله؛ وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله رضًا ولدينه نظامًا، ولأهله عزًا وتمكينًا؛ وللذمة والملة عدلًا وصلاحًا.

وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك؛ حتى يجعلك أفضل مثالك نصيبًا، وأسناهم ذكرًا، وأمرًا، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك، ويرزقك من رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك وساوسه، حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب.

وذكر أن طاهرًا لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه، وتدارسوه وشاع أمره؛ حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه، فقال: ما بقى أبو الطيب شيئًا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه، وأوصى به وتقدم؛ وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.

وتوجه عبد الله إلى عمله فسار بسيرته، واتبع أمره وعمل بما عهد إليه.

وفي هذه السنة ولى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم الجسرين، وجعله خليفته على ما كان طاهر أبوه استخلفه من الشرط وأعمال بغداد؛ وذلك حين شخص إلى الرقة لحرب نصر بن شبث.

وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن؛ وهو والي الحرمين.

ثم دخلت سنة سبع ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خروج عبد الرحمن بن أحمد العلوي باليمن

فمن ذلك خروج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من اليمن يدعو إلى الرضي من آل محمد .

ذكر الخبر عن سبب خروجه

وكان السبب في خروجه أن العمال أساءوا السيرة، فبايعوا عبد الرحمن هذا، فلما بلغ ذلك المأمون وجه إليه دينار بن عبد الله في عسكر كثيفٍ، وكتب معه بأمانه، فحضر دينار بن عبد الله الموسم وحج، فلما فرغ من حجه سار إلى اليمن حتى أتى عبد الرحمن، فبعث إليه بأمانه من المأمون؛ فقبل ذلك، ودخل ووضع يده في يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع المأمون عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه، وأمر بأخذه بلبس السواد؛ وذلك يوم الخميس لليلة بقيت من ذي القعدة.

ذكر الخبر عن وفاة طاهر بن الحسين

وفي هذه السنة كانت وفاة طاهر بن الحسين.

ذكر الخبر عن وفاته

ذكر عن مطهر بن طاهر، أن وفاة ذي اليمينين كانت من حمى وحرارة أصابته، وأنه وجد في فراشه ميتًا. وذكر أن عميه علي بن مصعب وأخاه أحمد بن مصعب، صارا إليه يعودانه، فسألا الخادم عن خبره - وكان يغلس بصلاة الصبح - فقال الخادم: هو نائم لم ينتبه، فانتظراه ساعة، فلما انبسط الفجر، وتأخر عن الحركة في الوقت الذي كان يقوم فيه للصلاة، أنكرا ذلك، وقالا للخادم: أيقظه، فقال الخادم: لست أجسر على ذلك، فقالا له: اطرق لنا لندخل إليه، فدخلا فوجداه ملتفًا في دواج، قد أدخله تحته، وشده عليه من عند رأسه ورجليه، فحركاه فلم يتحرك، فكشفا عن وجهه فوجداه قد مات. ولم يعلما الوقت الذي توفي فيه، ولا وقف أحد من خدمه على وقت وفاته؛ وسألا الخادم عن خبره وعن آخر ما وقف عليه منه؛ فذكر أنه صلى المغرب والعشاء الآخرة، ثم التف في دواجه. قال الخادم: فسمعته يقول بالفارسية كلامًا وهو " درمرك ينزمردي وبذ "؛ تفسيره أنه يحتاج في الموت أيضًا إلى الرجلة.

وذكر عن كلثوم بن ثابت بن أبي سعد - وكان يكنى أبا سعدة - قال: كنت على بريد خراسان، ومجلسي يوم الجمعة في أصل المنبر، فلما كان في سنة سبع ومائتين، بعد ولاية طاهر بن الحسين بسنتين، حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر، فخطب، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له، فقال: اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفها مؤنة من بغى فيها، وحشد عليها، بلم الشعث، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين. قال: فقلت في نفسي: أنا أول مقتول؛ لأني لا أكتم الخبر؛ فانصرفت واغتسلت بغسل الموتى، وائتزرت بإزار الموتى، ولبست قميصًا، وارتديت رداء، وطرحت السواد، وكتبت إلى المأمون. قال: فلما صلى العصر دعاني، وحدث به حادث في جفن عينه وفي مأقه، فخر ميتًا. قال: فخرج طلحة بن طاهر، فقال: ردوه ردوه - وقد خرجت فردوني، فقال: هل كتبت بما كان؟ قلت: نعم، قال: فاكتب بوفاته، وأعطاني خمسمائة ألف ومائتي ثوب، فكتبت بوفاته وبقيام طلحة بالجيش.

قال: فردت الخريطة على المأمون بخلعه غدوة، فدعا ابن أبي خالد فقال له: اشخص: فأت به - كما زعمت، وضمنت - قال: أبيت ليلتي، قال: لا لعمري لا تبيت إلا على ظهر. فلم يزل يناشده حتى أذن له في المبيت. قال: ووافت الخريطة بموته ليلًا، فدعاه فقال: قد مات، فمن ترى؟ قال: ابنه طلحة، قال: الصواب ما قلت، فاكتب بتوليته. فكتب بذلك، وأقام طلحة واليًا على خراسان في أيام المأمون سبع سنين بعد موت طاهر، ثم توفي، وولي عبد الله خراسان - وكان يتولى حرب بابك - فأقام بالدينور، ووجه الجيوش، ووردت وفاة طلحة على المأمون؛ فبعث إلى عبد الله يحيى بن أكتم يعزيه عن أخيه ويهنئه بولاية خراسان، وولي علي بن هشام حرب بابك.

وذكر عن العباس أنه قال: شهدت مجلسًا للمأمون، وقد أتاه نعي طاهر، فقال: لليدين وللفم! الحمد لله الذي قدمه وأخرنا.

وقد ذكر في أمر ولاية طلحة خراسان بعد أبيه طاهر غير هذا القول؛ والذي قيل من ذلك، أن طاهرًا لما مات - وكان موته في جمادى الأولى - فأعطوا رزق ستة أشهر. فصير المأمون عمله إلى طلحة خليفة لعبد الله بن طاهر؛ وذلك أن المأمون ولى عبد الله في قول هؤلاء بعد موت طاهر عمل طاهر كله - وكان مقيمًا بالرقة على حرب نصر بن شبث - وجمع له مع ذلك الشأم، وبعث إليه بعهده على خراسان وعمل أبيه؛ فوجه عبد الله أخاه طلحة بخراسان، واستخلف بمدينة السلام إسحاق بن إبراهيم، وكاتب المأمون طلحة باسمه، فوجه المأمون أحمد بن أبي خالد إلى خراسان للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمد إلى ما وراء النهر، فافتتح أشروسنة، وأسر كاوس بن خاراخره وابنه الفضل، وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لابن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضًا بألفي ألف، ووهب لإبراهيم بن العباس كاتب أحمد بن أبي خالد خمسمائة ألف درهم.

وفي هذه السنة غلا السعر ببغداد والبصرة والكوفة حتى بلغ سعر القفيز من الحنطة بالهاروني أربعين درهمًا إلى الخمسين بالقفيز الملجم.

وفي هذه السنة ولي موسى بن حفص طبرستان والرويان ودنباوند.

وحج بالناس في هذه السنة أبو عيسى بن الرشيد.

ثم دخلت سنة ثمان ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك مصير الحسن بن الحسين بن مصعب من خراسان إلى كرمان، ممتنعًا بها، ومصير أحمد بن خالد إليه حتى أخذه، فقدم به على المأمون، فعفا عنه.

وفيها ولي المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي قضاء عسكر المهدي في المحرم.

وفيها استعفى محمد بن سماعة القاضي من القضاء فأعفي، وولي مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. وفيها عزل محمد بن عبد الرحمن عن القضاء بعد أن وليه فها في شهر ربيع الأول، ووليه بشر بن الوليد الكندي، فقال بعضهم:

يأيها الملك الموحد ربه ** قاضيك بشر بن الوليد حمار

ينفي شهادة من يدين بما به ** نطق الكتاب وجاءت الأخبار

ويعد عدلًا من يقول بأنه ** شيخ يحيط بجسمه الأقطار

ومات موسى بن محمد المخلوع في شعبان، ومات الفضل بن الربيع في ذي القعدة.

وحج بالناس في هذه السنة صالح بن الرشيد.

ثم دخلت سنة تسع ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

خبر الظفر بنصر بن شبث

فمن ذلك ما كان من حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث وتضييقه عليه؛ حتى طلب الأمان، فذكر عن جعفر بن محمد العامري أنه قال: قال المأمون لثمامة: ألا تدلني على رجل من أهل الجزيرة له عقل وبيان ومعرفة، يؤدي عني ما أوجهه به إلى نصر بن شبث؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، رجل من بني عامر يقال له جعفر بن محمد، قال له: أحضرنيه، قال جعفر: فأحضرني ثمامة، فأدخلني عليه، فكلمني بكلام كثير، ثم أمرني أن أبلغه نصر بن شبث. قال: فأتيت نصرًا وهو بكفر عزرن بسروج، فأبلغته رسالته، فأذعن وشرط شروطًا، منها ألا يطأ له بساطًا. قال: فأتيت المأمون فأخبرته، فقال: لا أجيبه والله إلى هذا أبدًا، ولو أفضيت إلي بيع قميصي حتى يطأ بساطي؛ وما باله ينفر مني! قال: قلت: لجرمه وما تقدم منه، فقال: أتراه أعظم جرمًا عندي من الفضل بن الربيع ومن عيسى بن أبي خالد! أتدري ما صنع بي الفضل! أخذ قوادي وجنودي وسلاحي وجميع ما أوصى به لي أبي، فذهب به إلى محمد وتركني بمرو وحيدًا فريدًا وأسلمني، وأفسد علي أخي؛ حتى كان من أمره ما كان؛ وكان أشد علي من كل شيء. أتدري ما صنع بي عيسى بن أبي خالد! طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي، وذهب بخراجي وفيئي، وأخرب علي دياري، وأقعد إبراهيم خليفة دوني، ودعاه باسمي. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قال: تكلم، قلت: الفضل بن الربيع رضيعكم ومولاكم، وحال سلفه حالكم، وحال سلفكم حاله، ترجع عليه بضروب كلها تردك إليه، وأما عيسى بن أبي خالد فرجل من أهل دولتك، وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم ترجع عليه بذلك؛ وهذا رجل لم تكن له يد قط فيحمل عليها، ولا لمن مضى من سلفه؛ إنما من جند بني أمية. قال: إن كان كذلك كما تقول، فكيف بالحنق والغيظ؛ ولكني لست أقلع عنه حتى يطأ بساطي، قال: فأتيت نصرأ فأخبرته بذلك كله، قال: فصاح بالخيل صيحة فجالت، ثم قال: ويلي عليه؟ هو لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه - يعني الزط - يقوى على حلبة العرب! فذكر أن عبد الله بن طاهر لما جاده القتال وحصره وبلغ منه، طلب الأمان فأعطاه، وتحول من معسكره إلى الرقة سنة تسع ومائتين، وصار إلى عبد الله بن طاهر، وكان المأمون قد كتب إليه قبل ذلك أن هزم عبد الله بن طاهر جيوشه كتابًا يدعوه إلى طاعته ومفارقة معصيته، فلم يقبل، فكتب عبد الله إليه - وكان كتاب المأمون إليه من المأمون كتبه عمرو بن مسعدة: أما بعد؛ فإنك يا نصر بن شبث قد عرفت الطاعة وعزها وبرد ظلها وطيب مرتعها وما في خلافها من الندم والخسار، وإن طالت مدة الله بك، فإنه إنما يملي لمن يلتمس مظاهرة الحجة عليه لتقع عبره بأهلها على قدر إصرارهم واستحقاقهم. وقد رأيت إذكارك وتبصيرك لما رجوت أن يكون لما أكتب به إليك موقع منك؛ فإن الصدق صدق والباطل باطل؛ وإنما القول بمخارجه وبأهل الذين يعنون به، ولم يعاملك من عمال أمير المؤمنين أحد أنفع لك في مالك ودينك ونفسك، ولا أحرص على استنقاذك والانتياش لك من خطائك مني؛ فبأي أول أو آخر أو سطة أو إمرة إقدامك يا نصر على أمير المؤمنين! تؤخذ أمواله، وتتولى دونه ما ولاه الله، وتريد أن تبيت آمنًا أو مطمئنًا، أو وادعًا أو ساكنًا أو هادئًا! فوعالم السر والجهر، لأن لم تكن للطاعة مراجعًا وبها خانعًا، لتستوبلن وخم العاقبة؛ ثم لأبدأن بك قبل كل عمل، فإن قرون الشيطان إذا لم تقطع كانت في الأرض فتنة وفسادًا كبيرًا، ولأطأن بمن معي من أنصار الدولة كواهل رعاع أصحابك، ومن تأشب إليك من أداني البلدان وأقاصيها وطغامها وأوباشها، ومن انضوى إلى حوزتك من خراب الناس، ومن لفظه بلده، ونفته عشيرته؛ لسوء موضعه فيهم. وقد أعذر من أنذر. والسلام.

وكان مقام عبد الله بن طاهر على نصر بن شبث محاربًا له - فيما ذكر - خمس سنين حتى طلب الأمان؛ فكتب عبد الله إلى المأمون يعلمه أنه حصره وضيق عليه، وقتل رؤساء من معه، وأنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب إليه، أمانًا نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم " أما بعد؛ فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز؛ ولا يزال المعذر بالحق، المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين؛ حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكن وهو خير الممكنين؛ ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة: طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهورًا يطلب الغلبة ظلمًا؛ فإن كنت للدين تسعى بما تصنع، فأوضح ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقًا، فلعمري ما همته الكبر، ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحق حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال؛ وإن كنت للدنيا تقصد، فأعلم أمير المؤمنين غايتك فيها؛ والأمر الذي تستحقها به؛ فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك. فلعمري ما يستجيز منع خلق ما يستحقه وإن عظم، وإن كنت متهورًا فسيكفي الله أمير المؤمنين مؤنتك. ويعجل ذلك، كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يدًا، وأكثف جندًا. وأكثر جمعًا وعددًا ونصرًا منك فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم جوائح الظالمين. وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ؛ وضمانه لك في دينه وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أتيت وراجعت؛ إن شاء الله. والسلام.

ولما خرج بصر بن شبث إلى عبد الله بن طاهر بالأمان هدم كيسوم وخربها.

وفي هذه السنة ولى المأمون صدقة بن علي المعروف بزريق أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك، وانتدب للقيام بأمره أحمد بن الجنيد بن فرزندي الإسكافي، ثم رجع أحمد بن الجنيد بن فرزندي إلى بغداد، ثم رجع إلى الخرمية، فأسره بابك، فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل التجيبي أذربيجان.

وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد بن علي، وهو والي مكة.

وفيها مات ميخائيل بن جورجس صاحب الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملكت الروم عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل.

ثم دخلت سنة عشر ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك وصول نصر بن شبث فيها إلى بغداد، وجه به عبد الله بن طاهر إلى المأمون، فكان دخوله إليها يوم الاثنين لسبع خلون من صفر، فأنزله مدينة أبي جعفر ووكل به من يحفظه.

ذكر الخبر عن ظفر المأمون بابن عائشة ورفقائه

وفيها ظهر المأمون على إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، الذي يقال له ابن عائشة ومحمد بن إبراهيم الإفريقي ومالك بن شاهي وفرج البغواري ومن كان معهم ممن كان يسعى في البيعة إبراهيم بن المهدي، وكان الذي أطلعه عليهم وعلى ما كانوا يسعون فيه من ذلك عمران القطربلي؛ فأرسل إليهم المأمون يوم السبت - فيما ذكر - لخمس خلون من صفر سنة عشر ومائتين؛ فأمر المأمون بإبراهيم بن عائشة أن يقام ثلاثة أيام في الشمس على باب دار المأمون، ثم ضربه يوم الثلاثاء بالسياط، ثم حبسه في المطبق، ثم ضرب مالك بن شاهي وأصحابه، وكتبوا للمأمون أسماء من دخل معهم في هذا الأمر من القواد والجند وسائر الناس، فلم يعرض المأمون لأحد ممن كتبوا له؛ ولم يأمن أن يكونوا قد قذفوا أقوامًا برآء، وكانوا اتعدوا أن يقطعوا الجسر إذا خرج الجند يتلقون نصر بن شبث، فغمر بهم فأخذوا، ودخل نصر بن شبث بعد ذلك وحده؛ ولم يوجه إليه أحد من الجند، فأنزل إسحاق بن إبراهيم، ثم حول إلى مدينة أبي جعفر.

ذكر خبر الظفر بإبراهيم المهدي

وفيها أخذ إبراهيم بن المهدي ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر، وهو متنقب مع امرأتين في زي امرأة؛ أخذه حارس أسود ليلًا، فقال: من أنتن؟ وأين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم - فيما ذكر - خاتم ياقوت كان في يده، له قدر عظيم؛ ليخليهن، فلما نظر الحارس إلى الخاتم استراب بهن، وقال: هذا خاتم رجل له شأن، فرفعهن إلى صاحب المسلحة، فأمرهن أن يسفرن، فتمنع إبراهيم، فجبذه صاحب المسلحة، فبدت لحيته، فرفعه إلى صاحب الجسر فعرفه؛ فذهب به إلى باب المأمون، فأعلم به؛ فأمر بالاحتفاظ به في الدار؛ فلما كان غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقواد والجند، وصيروا المقنعة التي كان متنقبًا بها في عنقه، والملحفة التي كان ملتحفًا بها في صدره، ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ. فلما كان يوم الخميس حوله المأمون إلى منزل أحمد بن أبي خالد فحبسه عنده، ثم أخرجه المأمون معه حيث خرج إلى الحسن بن سهل بواسط، فقال الناس: إن الحسن كلمه فيه، فرضي عنه وخلى سبيله، وصيره عند أحمد بن أبي خالد، وصير معه أحمد بن يحيى بن معاذ وخالد بن يزيد بن مزيد يحفظانه؛ إلا أنه موسع عليه، عنده أمه وعياله، ويركب إلى دار المأمون، وهؤلاء معه يحفظونه.

ذكر خبر قتل ابن عائشة

وفي هذه السنة قتل المأمون إبراهيم بن عائشة وصلبه.

ذكر الخبر عن سبب قتله إياه

كان السبب في ذلك أن المأمون حبس ابن عائشة ومحمد بن إبراهيم الإفريقي ورجلين من الشطار، يقال لأحدهما أبو مسمار وللآخر عمار، وفرج البغواري ومالك بن شاهي وجماعة معهم ممن كان سعى في البيعة إبراهيم؛ بعد أن ضربوا بالسياط ما عدا عمارًا، فإنه أومن لما كان من إقراره على القوم في المطبق، فرفع بعض أهل المطبق أنهم يريدون أن يشغبوا وينقبوا السجن - وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدوا باب السجن من داخل فلم يدعوا أحدًا يدخل عليهم - فلما كان الليل وسمعوا شغبهم، بلغ المأمون خبرهم، فركب إليهم من ساعته بنفسه، فدعا بهؤلاء الأربعة فضرب أعناقهم صبرًا، وأسمعه ابن عائشة شتمًا قبيحًا؛ فلما كانت الغداة صلبوا على الجسر الأسفل؛ فلما كان من الغداة يوم الأربعاء أنزل إبراهيم بن عائشة، فكفن وصلي عليه، ودفن في مقابر قريش، وأنزل الإفريقي فدفن في مقابر الخيزران وترك الباقون.

العفو عن إبراهيم بن المهدي

وذكر أن إبراهيم بن المهدي لما أخذ صير به إلى دار أبي إسحاق بن الرشيد - وأبو إسحاق عند المأمون - فحمل رديفًا لفرج التركي؛ فلما أدخل على المأمون قال له: هيه يا إبراهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه؛ وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك، قال: بل أعفو يا إبراهيم، فكبر ثم خر ساجدًا.

وقيل إن إبراهيم كتب بهذا الكلام إلى المأمون وهو مختف؛ فوقع المأمون في حاشية رقعته: " القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله، وهو أكبر ما نسأله "، فقال إبراهيم بمدح المأمون:

يا خير من ذملت يمانية به ** بعد الرسول لآيس ولطامع

وأبر من عبد الإله على التقى ** عينًا وأقوله بحقٍ صادع

عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ** فالصاب يمزج بالسمام الناقع

متيقظًا حذرًا وما يخشى العدى ** نبهان من وسنات ليل الهاجع

ملئت قلوب الناس منك مخافةً ** وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع

بأبي وأمي فديةً وبنيهما ** من كل معضلة وريبٍ واقع

ما ألين الكنف الذي بوأتني ** وطنًا وأمرع رتعه للراتع

للصالحات أخًا جعلت وللتقى ** وأبًا رءوفًا للفقير القانع

نفسي فداؤك إذ تضل معاذري ** وألوذ منك بفضل حلمٍ واسع

أملًا لفضلك والفواضل شيمة ** رفعت بناءك بالمحل اليافع

فبذلت أفضل ما يضيق ببذله ** وسع النفوس من الفعال البارع

وعفوت عمن لم يكن عن مثله ** عفو، ولم يشفع إليك بشافع

إلا العلو عن العقوبة بعدما ** ظفرت يداك بمستكين خاضع

فرحمت أطفالًا كأفراخ القطا ** وعويل عانسةٍ كقوس النازع

وعطفت آصرةً علي كما وعى ** بعد انهياض الوشي عظم الظالع

الله يعلم ما أقول فإنها ** جهد الألية من حنيفٍ راكع

ما إن عصيتك والغواة تقودني ** أسبابها إلا بنية طالع

حتى إذا علقت حبائل شقوتي ** بردى إلى حفر المهالك هائع

لم أدر أن لمثل جرمي غافرًا ** فوقفت أنظر أي حتفٍ صارعي

رد الحياة علي بعد ذهابها ** ورع الإمام القادر المتواضع

أحياك من ولاك أطول مدة ** ورمى عدوك في الوتين بقاطع

كم من يد لك لم تحدثني بها ** نفسي إذا آلت إلي مطامعي

أسديتها عفوًا إلي هنيهةً ** فشكرت مصطنعًا لأكرم صانع

إلا يسيرًا عندما وليتني ** وهو الكثير لديغير الضائع

إن أنت جدت بها علي تكن لها ** أهلًا، وإن تمنع فأعدل مانع

إن الذي قسم الخلافة حازها ** في صلب آدم للإمام السابع

جمع القلوب عليك جامع أمرها ** وحوى رداؤك كل خير جامع

فذكر أن المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة، قال: أقول ما قال يوسف لأخوته: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ".

ذكر الخبر عن بناء المأمون ببوران

وفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في رمضان منها.

ذكر الخبر عن أمر المأمون في ذلك وما كان في أيام بنائه

ذكر أن المأمون لما مضى إلى فم الصلح إلى معسكر الحسن بن سهل، حمل معه إبراهيم بن المهدي، وشخص المأمون من بغداد حين شخص إلى ما هنالك للبناء ببوران، راكبًا زورقًا، حتى أرسى على باب الحسن؛ وكان العباس بن المأمون قد تقدم أباه على الظهر، فتلقاه الحسن خارجًا عسكره في موضع قد اتخذ له على شاطئ دجلة، بني له فيه جوسق؛ فلما عاينه العباس ثنى رجله لينزل، فحلف عليه الحسن ألا يفعل، فلما ساواه ثنى الحسن رجله لينزل، فقال له العباس: بحق أمير المؤمنين لا تنزل؛ فاعتنقه الحسن وهو راكب. ثم أمر أن يقدم إليه دابته، ودخلا جميعًا منزل الحسن، ووافى المأمون في وقت العشاء، وذلك في شهر رمضان من سنة عشر ومائتين، فأفطر هو والحسن والعباس - ودينار بن عبد الله قائم على رجله - حتى فرغوا من الإفطار، وغسلوا أيديهم، فدعا المأمون بشراب، فأتى بجام ذهب فصب فيه وشرب، ومد يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن؛ لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك؛ فغمز دينار بن عبد الله الحسن، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، أشربه بإذنك وأمرك؟ فقال له المأمون: لولا أمري لم أمدد يدي إليك، فأخذ الجام فشربه. فلما كان في الليلة الثانية، جمع بينمحمد بن الحسن بن سهل والعباسة بنت الفضل ذي الرئاستين، فلما كان في الليلة الثالثة دخل على بوران، وعندها حمدونة وأم جعفر وجدتها؛ فلما جلس المأمون معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد ذلك الدر كم هو؟ فقالت: ألف حبة، فأمر بعدها فنقصت عشرًا، فقال: من أخذها منكم فليردها، فقالوا: حسين زجلة، فأمره بردها، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنما نثر لنأخذه، قال: ردها فإني أخلفها عليك، فردها. وجمع المأمون ذلك الدر في الآنية كما كان، فوضع في حجرها، وقال: هذه نحلتك، وسلي حوائجك؛ فأمسكت. فقالت لها جدتها: كلمي سيدك، وسليه حوائجك فقد أمرك، فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلت، وسألته الإذن لأم جعفر في الحج، فأذن لها. وألبستها أم جعفر البدنة الأموية؛ وابتنى بها في ليلته، وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر؛ فيها أربعون منًا في تور ذهب. فأنكر المأمون ذلك عليهم، وقال: هذا سرف؛ فلما كان من الغد دعا بإبراهيم بن المهدي فجاء يمشي من شاطئ دجلة، عليه مبطنة ملحم، وهو معتم بعمامة، حتى دخل؛ فلما رفع الستر عن المأمون رمى بنفسه، فصاح المأمون: يا عم، لا بأس عليك، فدخل فسلم عليه تسليم الخلافة، وقبل يده، وأنشد شعره، ودعا بالخلع فخلع عليه خلعة ثانية، ودعا له بمركب وقلده سيفًا، وخرج فسلم الناس، ورد إلى موضعه.

وذكر أن المأمون أقام عند الحسن بن سهل سبعة عشر يومًا يعد له في كل يوم لجميع من معه جميع ما يحتاج إليه، وأن الحسن خلع على القواد على مراتبهم، وحملهم ووصلهم؛ وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم. قال: وأمر المأمون غسان بن عباد عند منصرفه أن يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف من مال فارس، وأقطعه الصلح فحملت إليه على المكان؛ وكانت معدة عند غسان بن عباد، فجلس الحسن ففرقها على قواده وأصحابه وحشمه وخدمه؛ فلما انصرف المأمون شيعه الحسن، ثم رجع إلى فم الصلح.

فذكر عن أحمد بن الحسن بن سهل، قال: كان أهلنا يتحدثون أن الحسن بن سهل كتب رقاعًا فيها أسماء ضياعه. ونثرها على القواد وعلى بني هاشم؛ فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها.

وذكر عن أبي الحسن علي بن الحسين بن عبد الأعلى الكاتب، قال: حدثني الحسن بن سهل يومًا بأشياء كانت في أم جعفر، ووصف رجاحة عقلها وفهمها، ثم قال: سألها يومًا المأمون بفم الصلح حيث خرج إلينا عن النفقة على بوران، وسأل حمدونة بنت غضيض عن مقدار ما أنفقت في ذلك الأمر. قال: فقالت حمدونة: أنفقت خمسة وعشرين ألف ألف، قال: فقالت أم جعفر: ما صنعت شيئًا، قد أنفقت ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم. قال: وأعددنا له شمعتين من عنبر، قال: فدخل بها ليلًا، فأوقدتا بين يديه، فكثر دخانهما. فقال: ارفعوهما قد أذانا الدخان، وهاتوا الشمع. قال: ونحلتها أم جعفر في ذلك اليوم الصلح قال: فكان سبب عود الصلح إلى ملكي، وكانت قبل ذلك لي، فدخل علي يومًا حميد الطوسي فأقرأني أربعة أبيات امتدح بها ذا الرياستين. فقلت له: ننفذها لك ذي الرياستين، وأقطعك الصلح في العاجل إلى أن تأتي مكافأتك من قبله، فأقطعه إياها، ثم ردها المأمون على أم جعفر فنحلتها بوران.

وروى علي بن الحسين أن الحسن بن سهل كان لا ترفع الستور عنه، ولايرفع الشمع بين يديه حتى تطلع الشمس ويتبينها إذا نظر إليها. وكان متطيرًا يحب أن يقال له إذا دخل عليه: انصرفنا من فرح وسرور، ويكره أن يذكر له جنازة أو موت أحد. قال: ودخلت عليه يومًا فقال لي قائل: إن علي بن الحسين أدخل ابنه الحسن اليوم الكتاب، قال: فدعا لي فانصرفت، فوجدت في منزلي عشرين ألف درهم هبة للحسن وكتابًا بعشرين ألف درهم. قال: وكان قد وهب لي من أرضه بالبصرة ما قوم بخمسين ألف دينار، فقبضه عني بغا الكبير، وأضافه إلى أرضه.

وذكر عن أبي حسان الزيادي أنه قال: لما صار المأمون إلى الحسن بن سهل، أقام عنده أيامًا بعد البناء ببوران، وكان مقامه في مسيره وذهابه ورجوعه أربعين يومًا. ودخل إلى بغداد يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال.

وذكر عن محمد بن موسى الخوارزمي أنه قال: خرج المأمون نحو الحسن بن سهل إلى فم الصلح لثمان خلون من شهر رمضان، ورحل من فم الصلح لتسع بقين من شوال سنة عشر ومائتين.

وهلك حميد بن عبد الحميد يوم الفطر من هذه السنة؛ وقالت جاريته عذل:

من كان أصبح يوم الفطر مغتبطًا ** فما غبطنا به والله محمود

أو كان منتظرًا في الفطر سيده ** فإن سيدنا في الترب ملحود

وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن طاهر مصر، واستأمن إليه عبيد الله بن السري بن الحكم.

ذكر الخبر عن سبب شخوص عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر وسبب خروج ابن السري إليه في الأمان

ذكر أن عبد الله بن طاهر لما فرغ من نصر بن شبث العقيلي، ووجهه إلى المأمون فوصل إليه ببغداد كتب المأمون يأمره بالمصير إلى مصر؛ فحدثني أحمد بن محمد بن مخلد، أنه كان يومئذ بمصر، وأن عبد الله بن طاهر لما قرب منها، وصار منها على مرحلة، قدم قائدًا من قواده إليها ليرتاد لمعسكره موضعًا يعسكرفيه، وقد خندق ابن السري عليها خندقًا، فاتصل الخبر بابن السري عن مصير القائد إلى ما قرب منها، فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان عبد الله بن طاهر وجهه لطلب موضع معسكره؛ فالتقى جيش ابن السري وقائد عبد الله وأصحابه وهم في قلة، فجال القائد وأصحابه جولةً، وأبرد القائد إلى عبد الله بريدًا يخبره بخبره وخبر ابن السري، فحمل رجاله على البغال؛ على كل بغل رجلين بآلتهما وأدواتهما، وجنبوا الخيل، وأسرعوا السير حتى لحقوا القائد وابن السري؛ فلم تكن من عبد الله وأصحابه إلا حملة واحدة حتى انهزم ابن السري وأصحابه، وتساقطت عامة أصحابه - يعني ابن السري - في الخندق، فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض في الخندق كان أكثر ممن قتله الجند بالسيف، وانهزم ابن السري، فدخل الفسطاط، وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب، وحاصره عبد الله بن طاهر؛ فلم يعاوده ابن السري الحرب بعد ذلك حتى خرج إليه في الأمان.

وذكر عن ابن ذي القلمين، قال: بعث ابن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ورد مصر ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة؛ مع كل وصيف ألف دينار في كيس حرير، وبعث بهم ليلًا. قال: فرد ذلك عليه عبد الله وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهارًا لقبلتها ليلًا " بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة صاغرين "، قال: فحينئذ طلب الأمان وخرج إليه.

وذكر أحمد بن حفص بن عمر، عن أبي السمراء، قال: خرجنا مع الأمير عبد الله بن طاهر إلى مصر؛ حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق؛ إذا نحن بأعرابي قد اعترض؛ فإذا شيخ فيه بقيه على بعير له أورق، فسلم علينا فرددنا عليه السلام. قال أبو السمراء: وأنا وإسحاق بن إبراهيم الرافقي وإسحاق بن أبي ربعي، ونحن نساير الأمير، وكنا يومئذ أفره من الأمير دواب، وأجود منه كسًا. قال: فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا، قال " فقال: يا شيخ؛ قد ألححت في النظر، أعرفت شيئًا أم أنكرته؟ قال: لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا، ولا أنكرتكم لسوء أراه فيكم؛ ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، جيد المعرفة بهم، قال: فأشرت له إلى إسحاق بن أبي ربيعة، فقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:

أرى كاتبًا داهي الكتابة بين ** عليه وتأديب العراق منير

له حركات قد يشاهدن أنه ** عليم بتقسيط الخراج بصير

ونظر إلى إسحاق بن إبراهيم الرافقي، فقال:

ومظهر نسك ما عليه ضميره ** يحب الهدايا، بالرجال مكور

أخال به جبنًا وبخلأ وشيمةً ** تخبر عنه أنه لوزير

ثم نظر إلي وأنشأ يقول:

وهذا نديم للأمير ومؤنس ** يكون له بالقرب منه سرور

إخاله للأشعار والعلم راويًا ** فبغض نديم مرةً وسمير

ثم نظر إلى الأمير وأنشأ يقول:

وهذا الأمير المرتجى سيب كفه ** فما إن له فيمن رأيت نظير

عليه رداء من جمال وهيبة ** ووجه بإدراك النجاح بشير

لقد عصم الإسلام منه بدابد ** به عاش معرف ومات نكير

ألا إنما عبد الإله بن طاهر ** لنا والد بر بنا، وأمير

قال: فوقع ذلك من عبد الله احسن موقع، وأعجبه ما قاله الشيخ، فأمر له بخمسمائة دينار، وأمره أن يصحبه.

وذكر عن الحسن بن يحيى الفهري، قال: لقينا البطين الشاعر الحمصي، ونحن مع عبد الله بن طاهر فيما بين سلمية وحمص، فوقف على الطريق، فقال لعبد الله بن طاهر:

مرحبًا وأهلًا وسهلًا ** بابن ذي الجود طاهر بن الحسين

مرحبًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا ** بابن ذي الغرتين في الدعوتين

مرحبًا مرحبًا بمن كفه البح ** ر إذا فاض مزبد الرجوين

ما يبالي المأمون أيده الل ** ه إذا كنتما له باقيين

أنت غرب وذاك شرق مقيمًا ** أي فتق أتى من الجانبين

وحقيق إذ كنتما في قديم ** لزيق ومصعب وحسين

أن تنالا ما نلتماه من المج ** د وأن تعلوا على الثقلين

قال: من أنت ثكلتك أمك! قال: أنا البطين الشاعر الحمصي، قال: اركب يا غلام وانظر كم بيتًا؟ قال: قال: سبعة، فأمر له بسبعة آلاف درهم أو بسبعمائة دينار، ثم لم يزل معه حتى دخلوا مصر والإسكندرية، حتى انخسف به وبدايته مخرج، فمات فيه بالإسكندرية.

ذكر الخبر عن فتح عبد الله بن طاهر الإسكندرية

وفي هذه السنة فتح عبد الله بن طاهر الإسكندرية - وقيل كان فتحه إياها في سنة إحدى عشرة ومائتين - وأجلى من كان تغلب عليها من أهل الأندلس عنها.

ذكر الخبر عن أمره وأمرهم

حدثني غير واحد من أهل مصر أن مراكب أقبلت من بحر الروم من قبيل الأندلس، فيها جماعة كبيرة أيام شغل الناس قبلهم بفتنة الحروي وابن السري، حتى أرسلوا مراكبهم بالإسكندرية؛ ورئيسهم يومئذ رجل يدعى أبا حفص؛ فلم يزالوا بها مقيمين حتى قدم عبد الله بن طاهر مصر، قال لي يونس بن الأعلى: قدم علينا من قبل المشرق فتى حدث - يعنى عبد الله بن طاهر - والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس منهم في البلاء؛ فأصلح الدنيا، وأمن البريء، وأخاف السقيم؛ واستوسقت له الرعية بالطاعة. ثم قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن لهيعة، قال: لا أدري رفعه إلى قبل أم لا! فلم يجد فيما قرأنا من الكتب أن لله بالمشرق جندًا لم يطغ عليه أحد من خلقه إلا بعثهم عليه، وانتقم بهم منه - أو كلامًا هذا معناه - فلما دخل عبد الله بن طاهر بن الحسين مصر، أرسل إلى من كان بها من الأندلسيين، وإلى من كان انضوى إليهم، يؤذنهم بالحرب إن هم لم يدخلوا في الطاعة، فأخبروني أنهم أجابوه إلى الطاعة، وسألوه الأمان، على أن يرتحلوا من الإسكندرية إلى بعض أطراف الروم التي ليست من بلاد الإسلام، فأعطاهم الأمان على ذلك، وأنهم رحلوا عنها، فنزلوا جزيرة من جزائر البحر؛ يقال لها إقريطش، فاستوطنوها وأقاموا بها، وفيها بقايا أولادهم إلى اليوم.

ذكر الخبر عن خروج أهل قم على السلطان

وفي هذه السنة خلع أهل قمّ السلطان ومنعوا الخراج.

ذكر الخبر عن سبب خلعهم السلطان ومآل أمرهم في ذلك

ذكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج، وكان خراجهم ألفي درهم، وكان المأمون قد حط عن أهل الري حين دخلها منصرفًا من خراسان إلى العراق، ما قد ذكرت قبل، فطمع أهل قم من المأمون في الفعل بهم في الحط عنهم والتخفيف مثل الذي فعل من ذلك بأهل الري، فرفعوا إليه يسألونه الحط، ويشكون إليه ثقله عليهم؛ فلم يجبهم؛ المأمون إلى ما سألوه، فامتنعوا من أدائه، فوجه المأمون إليهم علي بن هشام، ثم أمد بعجيف بن عنبسة، وقدم قائد حميد يقال له محمد بن يوسف الكح بعرض من خراسان، فكتب إليه بالمصير إلى قم لحرب أهلها مع علي بن هشام، فحاربهم علي فظفر بهم، وقتل يحيى بن عمران وهدم سور قم، وجباها سبعة آلاف ألف درهم بعد ما كانوا يتظلمون من ألفي ألف درهم.

ومات في هذه السنة شهريار، وهو ابن شروين، وصار في موضعه ابنه سابور، فنازعه مازيار بن قارن فأسره وقتله، وصارت الجبال في يد مازيار بن قارن.

وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد وهو يومئذ والي مكة

ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

أمر عبيد الله بن السري فمن ذلك خروج عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر بالأمان، ودخول عبد الله بن طاهر مصر - وقيل إن ذلك في سنة عشر ومائتين - وذكر بعضهم أن ابن السري خرج إلى عبد الله بن طاهر يوم السبت لخمس بقين من صفر سنة إحدى عشرة ومائتين، وأدخل بغداد لسبع بقين من رجب سنة إحدى عشرة ومائتين، وأنزل مدينة أبي جعفر، وأقام عبد الله بن طاهر بمصر واليًا عليها وعلى سائر الشأم والجزيرة؛ فذكر عن طاهر بن خالد بن نزار الغسائي، قال: كتب المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو بمصر حين فتحها في أسفل كتاب له:

أخي أنت ومولاي ** ومن أشكر نعماه

فما أحببت من أمرٍ ** فإني الدهر أهواه

وما تكره من شيء ** فإني لست أرضاه

لك الله على ذاك ** لك الله لك الله

وذكر عن عطاء صاحب مظالم عبد الله بن طاهر، قال: قال رجل من أخوة المأمون للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله. قال: فدفع ذلك المأمون وأنكره، ثم عاد بمثل هذا القول، فدس إليه رجلًا ثم قال له: امض في هيئة القراء والنساك إلى مصر، فادع جماعةً من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم ائته فادعه ورغبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيته بحثًا شافيًا، وائتني بما تسمع منه. قال: ففعل الرجل ما قال له، وأمره به؛ حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام، فقعد يوما بباب عبد الله بن طاهر، وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه، فلما انصرف إليه الرجل، فأخرج من كمه رقعة فدفعها إليه، فأخذها بيده؛ فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه، وخفاه فيهما، فقال له: قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك، قال: ولي أمانك وذمة الله معك؟ قال: لك ذلك، قال: فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده، فقال له عبد الله: أتنصفني؟ قال: نعم، قال: هل يجب شكر الله على العباد؟ قال: نعم، قال: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قال: نعم، قال: فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك؛ وفيما بينهما أمري مطاع، وقولي مقبول ثم ما ألتفت يميني ولا شمالي وورائي وقدامي إلا رأيت نعمة لرجلٍ أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويدًا لائحة بيضاء ابتداني بها تفضلًا وكرمًا، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرًا، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانًا من حيث أعلم؛ أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما إنه قد بلغني أمرك وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك؛ فارحل عن هذا البلد؛ فإن السلطان لأعظم إن بلغه أمرك - وما آمن ذلك عليك - كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك. فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون، فأخبره الخبر، فاستبشر وقال: ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر من ذلك لأحدٍ شيئًا، ولا علم به عبد الله إلابعد موت المأمون.

وذكر عن عبد الله بن طاهر أنه قال وهو محاصر بمصر عبيد الله بن السري:

بكرت تسبل دمعًا ** أن رأت وشك براحي

وتبدلت صقيلًا ** يمنيًا بوشاحي

وتماديت بسيرٍ ** لغدوٍ ورواح

زعمت جهلًا بأني ** تعب غير مراح

أقصري عني فإني ** سالك قصدي فلاحي

أنا للمأمون عبد ** منه في ظل جناحي

إن يعاف الله يومًا ** فقريب مستراحي

أو يكن هلك فقولي ** بعويل وصياح:

حل في مصر قتيل ** ودعي عنك التلاحي

وذكر عن عبد الله بن أحمد بن يوسف أن أباه كتب إلى عبد الله بن طاهر عند خروج عبيد الله بن السري إليه يهنئه بذلك الفتح:

بلغني أعز الله الأمير ما فتح الله عليك، وخروج ابن السري إليك؛ فالحمد لله الناصر لدينه المعز لدولة خليفته على عباده، المذل لمن عند عنه وعن حقه، ورغب عن طاعته، ونسأل الله أن يظاهر له النعم، ويفتح له بلدان الشرك، والحمد لله على ما وليك به مذ ظعنت لوجهك؛ فإنا ومن قبلنا نتذاكر سيرك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفقت له من الشدة والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائس جندٍ ورعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك؛ ولقل ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متكلًا على ما قدمت له أبوته، ومن أوتي حظًا وكفاية وسلطانًا وولاية لم يخلد إلى ما عفا حتى يخل بمساماة ما أمامه. ثم لا نعلم سائسًا استحق النجح لحسن السيرة وكف معرة الأتباع استحقاقك. وما يستجيز أحد ممن قبلنا أن يقدم عليك أحدًا يهوى عند الحاقة والنازلة والمعضلة فليهنك منة الله ومزيده، ويسوغك الله هذه النعمة التي حواها لك بالمحافظة على ما به تمت لك؛ من التمسك بحبل إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه.

وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرمًا مقدمًا معظمًا؛ وقد زادك الله في أعين الخاصة والعامة جلالة وبجالة؛ فأصبحوا يرجونك لأنفسهم، ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم؛ وأرجو أن يوفقك الله لمحابه كما وفق لك صنعه وتوفيقه؛ فقد أحسنت جوار النعمة فلم تطغك، ولم تزدد إلا تذللًا وتواضعًا؛ فالحمد لله على ما أنالك وأبلاك، وأودع فيك. والسلام.

وفي هذه السنة قدم عبد الله بن طاهر بن الحسين مدينة السلام من المغرب، فتلقاه العباس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر الناس، وقدم معه بالمتغلبين على الشأم كابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي الصفر.

ومات موسى بن حفص، فولى محمد بن موسى طبرستان مكان أبيه.

وولى حاجب بن صالح الهند فهزمه بشر بن داود، فانحاز إلى كرمان.

وفيها أمر المأمون مناديًا فنادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله .

وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس وهو والي مكة.

وفيها مات أبو العتاهية الشاعر.

ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من توجيه المأمون محمد بن حميد الطوسي إلى بابك لمحاربته على طريق الموصل وتقويته إياه، فأخذ محمد بن حميد يعلى بن مرة ونظراءه من المتغلبة بأذربيجان، فبعث بهم إلى المأمون.

وفيها خلع أحمد بن محمد العمري المعروف بالأحمر العين باليمن.

وفيها ولى المأمون محمد بن عبد الحميد المعروف بأبي الرازي اليمن.

وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله ، وذلك في شهر ربيع الأول منها.

وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من خلع عبد السلام وابن جليس بمصرفي القيسية واليمانية ووثوبهما بها.

وفيها مات طلحة بن طاهر بخراسان.

وفيها ولى المأمون أخاه أبا إسحاق الشأم ومصر، وولى ابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم، وأمر لكل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار.

وقيل: إنه لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك.

ذكر الخبر عن ولاية غسان بن عباد السند

وفيها ولى غسان بن عباد السند.

ذكر الخبر عن سبب توليته إياه السند

وكان السبب في ذلك - فيما بلغني - أن بشر بن داود بن يزيد خالف المأمون، وجبى الخراج فلم يحمل إلى المأمون شيئًا منه؛ فذكر أن المأمون قال يومًا لأصحابه: أخبروني عن غسان بن عباد؛ فإني أريده لأمر جسيم - وكان قد عزم على أن يوليه السند لما كان من أمر بشر بن داود - فتكلم من حضر، وأطنبوا في مدحه، فنظر المأمون إلى أحمد بن يوسف وهو ساكت، فقال له: ما تقول يا أحمد؟ قال:

يا أمير المؤمنين ذاك رجل محاسنه أكثر من مساويه؛ لا تصرف به إلى طبقة إلا انتصف منهم؛ فمهما تخوفت عليه، فإنه لن يأتي أمرًا يعتذر منه؛ لأنه قسم أيامه بين أيام الفضل، فجعل لكل خلق نوية، إذا نظرت في أمرهلم تدر أي حالاته أعجب! إما هداه إليه عقله؛ أم إما اكتسبه بالأدب، قال: لقد مدحته على سوء رأيك فيه! قال: لأنه فيما قلت كما قال الشاعر:

كفى شكرًا بما أسديت أني ** مدحتك في الصديق وفي عدائي

قال: فأعجب المأمون كلامه.، واسترجح أدبه.

وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد

ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمما كان فيها من ذلك مقتل محمد بن حميد الطوسي، قتله بابك بهشتادسر، يوم السبت لخمس ليالٍ بقين من شهر ربيع الأول، ورفض عسكره، وقتل جمعًا كثيرًا ممن كان معه.

وفيها قتل أبو الرازي باليمن.

وفيها قتل عمير بن الوليد الباذغيسي عامل أبي إسحاق بن الرشيد بمصر بالحوف في شهر ربيع الأول، فخرج أبو إسحاق إليها فافتتحها، وظفر بعبد السلام وابن جليس، فقتلهما فضرب المأمون بن الحروري ورده إلى مصر.

وفيها خرج بلال الضبابي الشاري، فشخص المأمون إلى العلث، ثم رجع إلى بغداد، فوجه عباسًا ابنه في جماعة من القواد، فيهم علي بن هشام وعجيف وهارون بن محمد بن أبي خالد، فقتل هارون بلالًا.

وفيها خرج عبد الله بن طاهر إلى الدينور، فبعث المأمون إليه إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم يخيرانه بين خراسان والجبال وأرمينية وأذربيجان، ومحاربة بابك، فاختار خراسان، وشخص إليها.

وفيها تحرك جعفر بن داود القمي، فظفر به عزيز مولى عبد الله بن طاهر، وكان هرب من مصر فرد إليها.

وفيها ولى علي بن هشام الجبل وقم وإصبهان وأذربيجان.

وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بن العباس بن محمد.

ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

ذكر خبر شخوص المأمون لحرب الروم

وفي هذه السنة شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم، وذلك يوم السبت - لثلاث بقين من المحرم - وقيل كان ارتحاله من الشماسية إلى البردان يوم الخميس بعد صلاة الظهر، لست بقين من المحرم سنة خمس عشرة ومائتين - واستخلف حين رحل عن مدينة السلام عليها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وولي مع ذلك السواد وحلوان وكور دجلة.

فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة، ولقيه بها فأجازه، وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل وكان زوجها منه؛ فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة، ثم أتى منزله بالمدينة؛ ثم سلك المأمون طريق الموصل؛ حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى المصيصة، ثم خرج منها إلى طرسوس إلى بلاد الروم للنصف من جمادى الأولى. ورحل العباس بن المأمون من ملطية؛ فأقام المأمون على حصن يقال له قرة؛ حتى فتحه عنوة؛ وأمر بهدمه؛ وذلك يوم الأحد لأربع بقين من جمادى الأولى؛ وكان قد افتتح قبل ذلك حصنًا يقال له ماجدة؛ فمن على أهلها.

وقيل إن المأمون لما أناخ على قرة، فحارب أهلها وطلبوا الأمان، فآمنهم المأمون، فوجه أشناس إلى حصن سندس، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفًا وجعفرًا الخياط إلى صاحب حصن سنان، فسمع وأطاع.

وفي هذه السنة انصرف أبو إسحاق بن الرشيد من مصر. فلقي المأمون قبل دخوله الموصل، ولقيه متويل وعباس ابنه برأس العين.

وفيها شخص المأمون بعد خروجه من أرض الروم إلى دمشق.

وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد

ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

عود إلى ذكر غزو المأمون أرض الروم

فمن ذلك كر المأمون إلى أرض الروم.

ذكر السبب في كره إليها

اختلف في ذلك، فقيل: كان السبب فيه ورود الخبر على المأمون بقتل ملك الروم قومًا من أهل طرسوس والمصيصة؛ وذلك - فيما ذكر - ألف وستمائة. فلما بلغه ذلك شخص حتى دخل أرض الروم يوم الاثنين لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فلم يزل مقيمًا فيها إلى النصف من شعبان.

وقيل: إن سبب ذلك أن توفيل بن ميخائيل كتب إليه، فبدأ بنفسه، فلما ورد الكتاب عليه لم يقرأه، وخرج إلى أرض الروم، فوافاه رسل توفيل بن ميخائيل لأذنة، ووجه بخمسمائة رجل من أسارى المسلمين إليه؛ فلما دخل المأمون أرض الروم، ونزل على أنطيغوا، فخرج أهلها على صلح وصاروا إلى هرقلة، فخرج أهلها إليه على صلح، ووجه أخاه أبا إسحاق، فافتتح ثلاثين حصنًا مطمورة. ووجه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار وقتل وحرق، وأصاب سبيًا ورجع إلى العسكر. ثم خرج المأمون إلى كيسوم، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم ارتحل إلى دمشق.

وفي هذه السنة ظهر عبدوس الفهري، فوثب بمن معه على عمال أبي إسحاق، فقتل بعضهم؛ وذلك في شعبان، فشخص المأمون من دمشق يوم الأربعاء لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة إلى مصر.

وفيها قدم الأفشين من برقة منصرفًا عنها، فأقام بمصر.

وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا، فبدءوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بيت من شهر رمضان من هذه السنة، حين قضوا الصلاة، فقاموا قيامًا، فكبروا ثلاث تكبيرات، ثم فعلوا ذلك في كل صلاة مكتوبة.

وفيها غضب المأمون على علي بن هشام، فوجه إليه عجيف بن عنبسة وأحمد بن هشام، وأمر بقبض أمواله وسلاحه.

وفيها ماتت أم جعفر ببغداد في جمادى الأولى.

وفيها قدم غسان بن عباد من السند، وقد استأمن إليه بشر بن داود المهلبي، وأصلح السند، واستعمل عليها عمران بن موسى البرمكي، فقال الشاعر:

سيف غسان رونق الحرب فيه ** وسمام الحتوف في ظبتيه

فإذا جره إلى بلد السن ** د فألقى المقاد بشر إليه

مقسمًا لا يعود ما حج لل ** ه مصل وما رمى جمرتيه

غادرًا يخلع الملوك ويغتا ** ل جنودًا تأوي إلى ذروتيه

فرجع غسان إلى المأمون، وهرب جعفر بن داود القمي إلى قم، وخلع بها.

وفي هذه السنة كان البرد شديد.

وحج بالناس - في قول بعضهم - في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وفي قول بعضهم: حج بهم في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس؛ وكان المأمون ولاه اليمن، وجعل إليه ولاية كل بلدة يدخلها حتى يدخل إلى اليمن، فخرج من دمشق حتى قدم بغداد، فصلى بالناس بها يوم الفطر، فشخص من بغداد يوم الاثنين لليلةٍ خلت من ذي القعدة، وأقام الحج للناس.

ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ظفر الأفشين فيها بالبيما؛ وهي من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، قرئ كتاب فتحها لليلة بقيت من شهر ربيع الآخر.

وورد المأمون فيها مصرفي المحرم، فأتى بعبدوس الفهري فضرب عنقه، وانصرف إلى الشام

ذكر الخبر عن قتل علي وحسين ابني هشام

وفيها قتل المأمون ابني هشام عليًا وحسينًا بأذنة في جمادى الأولى.

ذكر الخبر عن سبب قتله عليا

وكان السبب ذلك، أن المأمون للذي بلغه من سوء سيرته في أهل عمله الذيكان المأمون ولاه - وكان ولاه كور الجبال - وقتله الرجال، وأخذه الأموال؛ فوجه إليه عجيف، فأراد أن يفتك به ويلحق ببابك، فظفر به عجيف، فقدم به على المأمون، فأمر بضرب عنقه فتولى قتله ابن الجليل. وتولى ضرب عنق الحسين محمد بن يوسف ابن أخيه بأذنة، يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ثم بعث رأس علي بن هشام إلى بغداد وخراسان، فطيف به، ثم رد إلى الشام والجزيرة فطيف به كورة كورة، فقدم به دمشق في ذي الحجة، ثم ذهب به إلى مصر، ثم ألقي بعد ذلك في البحر.

وذكر أن المأمون لما قتل علي بن هشام، أمر أن يكتب رقعة وتعلق على رأسه ليقرأها؛ فكتب:

أما بعد، فإن أمير المؤمنين كان دعا علي بن هشام فيمن دعا من أهل خراسان أيام المخلوع، إلى معاونته والقيام بحقه، وكان فيمن أجاب وأسرع الإجابة، وعاون فأحسن المعاونة. فرعى أمير المؤمنين ذلك له واصطنعه، وهو يظن به تقوى الله وطاعته والانتهاء إلى أمر أمير المؤمنين في عمل إن أسند إليه في حسن السيرة وعفاف الطعمة، وبدأه أمير المؤمنين بالافضال عليه، فولاه الأعمال السنية، ووصله بالصلات الجزيلة التي أمر أمير المؤمنين بالنظر في قدرها، فوجدها اكثر من خمسين ألف ألف درهم، فمد يده إلى الخيانة والتضييع لما استرعاه من الأمانة، فباعده عنه وأقصاه، ثم استقال أمير المؤمنين عثرته فأقاله إياها، وولاه الجبل وأذربيجان وكور أرمينية، ومحاربة أعداء الله الخرمية، على ألا يعود لماكان منه؛ فعاود أكثر ما كان بتقديمه الدينار والدرهم على العمل لله ودينه، وأساء السيرة وعسف الرعية وسفك الدماء المحرمة، فوجه أمير المؤمنين عجيف بن عنفسة مباشرًا لأمره، وداعيًا إلى تلافي ما كان منه؛ فوثب بعجيف يريد قتله، فقوى الله عجيفًا بنيته الصادقة في طاعة أمير المؤمنين؛ حتى دفعه عن نفسه، واو تم ما أراد بعجيف لكان في ذلك ما لا يستدرك ولا يستقال؛ ولكن الله إذا أراد أمرًا كان مفعولأ. فلما أمضى أمير المؤمنين حكم الله في علي بن هشام، رأى ألا يؤاخذ من خلفه بذنبه، فأمر أن يجري لولده ولعياله ولمن اتصل بهم ومن كان يجري عليهم مثل الذي كان جاريًا لهم في حياته؛ ولو لا أن علي بن هشام أراد العظمى بعجيف، لكان في عداد من كان في عسكره ممن خالف وخان، كعيسى بن منصور ونظرائه. والسلام: وفي هذه السنة دخل المأمون أرض الروم، فأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنها وخلف عليها عجيفًا، فاختدعه أهلها وأسروه؛ فمكث أسيرًا في أيديهم ثمانية أيام، ثم أخرجوه، وصار توفيل إلى لؤلؤة، فأحاط بعجيف، فصرف المأمون الجنود إليه، فارتحل توفيل قبل موافاتهم، وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان.

كتاب توفيل إلى المأمون ورد المأمون عليه

وفيها كتب توفيل صاحب الروم إلى المأمون يسأله الصلح، وبدأ بنفسه في كتابه، وقدم بالكتاب الفضل وزير توفيل يطلب الصلح، وعرض الفدية. وكانت نسخة كتاب توفيل إلى المأمون: أما بعد، فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد بالضرر عليهما؛ ولست حريًا أن تدع الحظ يصل إلى غيرك حظًا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن إخبارك؛ وقد كنت كتبت إليك داعيًا إلى المسالمة، راغبًافي فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد لكل واحد وليًا وحزبا؛ مع اتصال المرافق والفسح في المتاجر، وفك المستأسر، وأمن الطرق والبيضة؛ فإن أبيت فلا أدب لك في الخمر، ولا أزخرف لك في القول؛ فغني لخائض إليك غمارها، آخذ عليك أسدادها؛ شان خيلها ورجالها، وإن أفعل فبعد أن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علم الحجة. والسلام. فكتب إليه المأمون: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة؛ مما استعطفت به؛ من شرح المتاجر واتصال المرافق، وفك الأسارى، ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من أعمال التؤدة والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وألا أعتقد الرأي في مستقبله إلا في استصلاح ما أوثره في معتقبه، لجعلت جواب كتابك خيلًا تحمل رجالًا من أهل البأس والنجدة والبصيرة ينازعونكم عن ثكلكم ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أوصل إليهم من الإمداد، وأبلغ لهم كافيًا من العدة والعتاد، هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة من مخوف معرتهم عليكم؛ موعدهم إحدى الحسنيين: عاجل غلبة، أو كريم منقلب؛ غير أني رأيت لأن أتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة؛ من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية؛ فإن أبيت ففدية توجب ذمة، وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك، ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول الإغراق في الصفة. والسلام على من اتبع الهدى.

وفيها صار المأمون إلى سلغوس.

وفيها بعث علي بن عيسى القمي جعفر بن داود القمي فضرب أبو إسحاق بن الرشيد عنقه.

وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.

ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك ما كان من شخوص المأمون من سلغوس إلى الرقة، وقتله بها ابن أخت الداري.

وفيها أمر بتفريغ الرافقة لينزلها حشمه، فضج من ذلك أهلها فأعفاهم.

وفيها وجه المأمون ابنه العباس إلى أرض الروم، وأمره بنزول الطوانة وبنائها، وكان قد وجه الفعلة والفروض، فابتدأ البناء، وبناها ميلًا في ميل، وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب، وبنى على كل باب حصنًا؛ وكان توجيهه ابنه العباس في ذلك في أول يوم من جمادى.

وكتب إلى أخيه أبي إسحاق بن الرشيد؛ إنه قد فرض على جند دمشق وحمص والأردن وفلسطين أربعة آلاف رجل، وأنه يجري على الفارس مائة درهم، وعلى الراجل أربعين درهمًا، وفرض على مصر فرضًا، وكتب على أهل بغداد وهم ألفا رجل، وخرج بعضهم حتى وافى طوانة ونزلها مع العباس.

ذكر خبر المحنة بالقرآن

وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه إلى الرقة؛ وكان ذلك أول كتاب كتب في ذلك، ونسختة كتابه إليه: أما بعد؛ فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم والتشمير لطاعة الله فيهم، والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته. وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق أهل جهالة بالله، وعمىً عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به. ونكوبٍ عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصورٍ أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكير والتذكر؛ وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه يخترعه، وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاءً، وللمؤمنين رحمةً وهدىً: " إنا جعلناه قرآنًا عربيًا "، فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال: " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور "، وقال عز وجل: " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق "، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بها وتلا به متقدمها، وقال: " آلر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير "، وكل محكمٍ مفصل فله محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله؛ فهو خالقه ومبتدعه.

ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل قولهم، ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم. ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم من أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيء آرائهم، تزينًا بذلك عندهم وتصنعًا للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم، فقبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم، ونفذت أحكام الكتاب بهم على دغل دينهم، ونغل أديمهم، وفساد نياتهم ويقينهم. وكان ذلك غايتهم التي إليها أجروا، وإياها طلبوا في متابعتهم والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم، " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها ".

فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورءوس الضلالة، والمنقوصون من التوحيد حظًا، والمخسوسون من الإيمان نصيبًا، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه؛ من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، لا يوثق بقوله ولا عمله؛ فإنه لا عمل له إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد، ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده؛ كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى وأضل سبيلًا. ولعمر أمير المؤمنين إن أحجى الناس بالكذب في قوله، وتخرص الباطل في شهادته، من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حقيقة معرفته، وإن أولاهم برد شهادته في حكم الله ودينه من رد شهادة الله على كتابه، وبهت حق الله بباطله.

فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه؛ فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة. فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده. واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم؛ والأمر لهم بمثل ذلك؛ ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك. إن شاء الله.

وكتب في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين.

وكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو سليم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين وزهير بن حرب أبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي؛ فأشخصوا إليه، فامتحنهم وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعًا إن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره، فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون، فخلى سبيلهم. وكان ما فعل من ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون.

وكتب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم: أما بعد، فإن من حق الله على خلفائه في أرضه، وأمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحملهم رعاية خلقه وإمضاء حكمه وسننه والائتمام بعدله في بريته، أن يجهدوا لله أنفسهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم، ويدلوا عليه - تبارك اسمه وتعالى - بفضل العلم الذي أودعهم، والمعرفة التي جعلها فيهم، ويهدوا إليه من زاغ عنه، ويردوا من أدبر عن أمره، وينهجوا لرعاياهم سمت نجاحهم، ويقفوهم على حدود إيمانهم وسبيل فوزهم وعصمتهم ويكشفوا لهم مغطيات أمورهم ومشتبهاتها عليهم، بما يدفعون الريب عنهم، ويعود بالضياء والبينة على كافتهم، وأن يؤثروا ذلك من إرشادهم وتبصيرهم، إذ كان جامعًا لفنون مصانعهم، ومنتظمًا لحظوظ عاجلتهم وآجلتهم، ويتذكروا ما الله مرصد من مساءلتهم عما حملوه، ومجازاتهم بما أسلفوه وقدموا عنده، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، وحسبه الله وكفى به. ومما بينه أمير المؤمنين برويته، وطالعه بفكره، فتبين عظيم خطره، وجليل ما يرجع في الدين من وكفه وضرره، وما ينال المسلمين بينهم من القول في القرآن الذي جعله الله إمامًا لهم، وأثرًا من رسول الله وصفيه محمد باقيًا لهم، واشتباهه على كثير منهم؛ حتى حسن عندهم، وتزين في عقولهم ألا يكون مخلوقًا، فتعرضوا بذلك لدفع خلق الله الذي بان به عن خلقه، وتفرد بجلالته؛ من ابتداع الأشياء كلها بحكمته وإنشائها بقدرته، والتقدم عليها بأوليته التي لا يبلغ أولاها، ولا يدرك مداها؛ وكان كل شيء دونه خلقًا من خلقه، وحدثًا هو المحدث له؛ وإن كان القرآن ناطقًا به ودالًا عليه، وقاطعًا للاختلاف فيه، وضاهوا به قول النصارى في دعائهم في عيسى بن مريم: إنه ليس بمخلوق؛ إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول: " إنا جعلناه قرآنًا عربيًا "، وتأويل ذلك أنا خلقناه كما قال جل جلاله: " وجعل منها زوجها ليسكن إليها " وقال: " وجعلنا الليل لباسًا وجعلنا النهار معاشًا "، " وجعلنا من الماء كل شيء حي " فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق التي ذكرها في شية الصنعة، وأخبر أنه جاعله وحده، فقال: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " فدل ذلك على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط إلا بمخلوق، وقال لنبيه : " لا تحرك به لسانك لتعجل به " وقال: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " وقال: " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو كذب بآياته " وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم أنهم قالوا: " ما أنزل الله على بشر من شيء " ثم أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى "، فسمى الله تعالى القرآن وذكرًا وإيمانًا ونورًا وهدى ومباركًا وعربيًا وقصصًا، فقال: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن "، وقال: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن بمثله. وقال: " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ". وقال: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فجعل له أولًا وآخرًا، ودل عليه أنه محدود مخلوق وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرفوا ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده، وشبهوه به، والاشتباه أولى بخلقه، وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظًا في الدين، ولا نصيبًا من الإيمان واليقين، ولا يرى أن يحل أحدًا منهم محل الثقة في أمانة، ولا عدالة ول شهادة ولا صدق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية، وإن ظهر قصد بعضهم، وعرف بالسداد مسدد فيهم؛ فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها؛ ومن كان جاهلًا بأمر دينه الذي أمر الله به من وحدانيته فهو بما سواه أعظم جهلًا، وعن الرشد في غيره أعمى وأضل سبيلا.

فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق القاضي كتاب أمير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصها عن علمهما في القرآن، وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك، فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن؛ فمن لم يقل منهم إنه مخلوق أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكمًا بقوله؛ وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره.

وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافًا يزيد الله به ذا البصيرة، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك. إن شاء الله.

قال: فأحضر إسحاق بن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين، وأحضر أبا حسان الزيادي وبشر بن الوليد الكندي وعلي بن أبي مقاتل والفضل بن غانم والذيال بن الهيثم وسجادة والقواريري وأحمد بن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بن الجعد وإسحاق بن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحيى بن عبد الرحمن العمري وشيخ آخر من ولد عمر بن الخطاب - كان قاضي الرقة - وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بن حاتم بن ميمون ومحمد بن نوح المضروب وابن الفرخان، وجماعة منهم النضر بن شميل وابن علي بن عاصم وأبو العوام البزاز وابن شجاع وعبد الرحمن بن إسحاق؛ فأدخلوا جميعًا على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون هذا مرتين حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة؛ قال: فقد تجدد من كاتب أمير المؤمنين ما قد ترى، فقال: أقول: القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء، قال: ما القرآن شيء؟ قال: هو شيء، قال: فمخلوق؟ قال: ليس بخالق، قال: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك. فأخذ إسحاق بن إبراهيم رقعة كانت بين يديه، فقرأ عليه، ووقفه عليها، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله أحدًا فردًا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنىً من المعاني، ولا وجه من الوجوه، قال: نعم؛ وقد كنت أضرب الناس على دون هذا، فقال للكاتب: اكتب ما قال.

ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول يا علي؟ قال: قد سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة وما عندي غير ما سمع، فامتحنه بالرقعة فأقر بما فيها، ثم قال: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، قال: هو كلام الله؛ وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا. فقال للكاتب: اكتب مقالته.

ثم قال للذيال نحوًا من مقالته لعلي بن أبي مقاتل، فقال له مثل ذلك. ثم قال لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قال: سل عما شئت، فقرأ عليه الرقعة ووقفه عليها، فأقر بما فيها، ثم قال: من لم يقل هذا القول فهو كافر، فقال: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، إن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا. قال: القرآن مخلوق هو؟ فأعاد عليه أبا حسان مقالته، قال: إن هذه مقالة أمير المؤمنين، قال: قد تكون مقال أمير المؤمنين ولا يؤمر بها الناس ولا يدعوهم إليها؛ وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتني به؛ فإنك الثقة المأمون فيما أبلغتني عنه من شيء؛ فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه، قال: ما أمرني أن أبلغك شيءًا. قال علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله في الفرائض والمواريث، ولم يحملوا الناس عليها، قال له أبو حسان: ما عندي إلا السمع والطاعة، فمرني آتمر، قال: ما أمرني أن آمرك؛ وإنما أن أمتحنك.

ثم عاد إلى أحمد بن حنبل فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: هو كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله لا أزيد عليها، فامتحنه بما في الرقعة، فلما أتى على " ليس كمثله شيء "، قال: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وأمسك عن لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن بصير من عين، فقال إسحاق لأحمد بن حنبل: ما معنى قوله: " سميع بصير "؟ قال: هو كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه.

ثم دعا بهم رجلًا رجلًا، كلهم يقول: القرآن كلام الله، إلا هؤلاء النفر: قتيبة وعبيد الله بن محمد بن الحسن وابن علية الأكبر وابن البكاء وعبد المنعم بن إدريس بن بنت وهب بن منبه والمظفر بن مرجأ، ورجلًا ضريرًا ليس من أهل الفقه، ولا يعرف بشيء منه، إلا أنه دس في ذلك الموضع، ورجلًا من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة وابن الأحمر؛ فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى: " إنا جعلناه قرآنًا عربيا " والقرآن محدث لقوله: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟ قال: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قال: لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول؛ فكتب مقالته.

فلما فرغ من امتحان القوم، وكتب مقالاتهم اعترض ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إن هذين القاضيين أئمة فلو أمرتهما فأعادوا الكلام! قال له إسحاق: هما ممن يقوم بحجة أمير المؤمنين، فلو أمرتهما أن يسمعانا مقالتهما، لنحكي ذلك عنهما! قال له إسحاق: إن شهدت عندهما بشهادة، فستعلم مقالتهما إن شاء الله.

فكتب مقالة القوم رجلًا رجلًا، ووجهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيام؛ ثم دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمرهم، ونسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد؛ فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك جواب كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنعه أهل القبلة وملتمسو الرئاسة، فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة من القول في القرآن، وأمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم، وتكشيف أحوالهم وإحلالهم محالهم. تذكر إحضارك جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق عند ورود كتاب أمير المؤمنين مع من أحضرت ممن كان ينسب إلى الفقه، ويعرف بالجلوس للحديث، وينسب نفسه للفتيان بمدينة السلام، وقراءتك عليهم جميعًا كتاب أمير المؤمنين، ومسألتك إياهم عن اعتقادهم في القرآن، وللدلالة لهم على حظهم، وإطباقهم على نفي التشبيه واختلافهم في القرآن، وأمرك من لم يقل منهم إنه مخلوق بالإمساك عن الحديث والفتوى في السر والعلانية، وتقدمك إلى السندي وعباس مولى أمير المؤمنين بما تقدمت به فيهم إلى القاضيين بمثل ما مثل لك أمير المؤمنين من امتحان من يحضر مجالسهما من الشهود، وبث الكتب إلى القضاة في النواحي من عملك بالقدوم عليك، لتحملهم وتمنحهم على ما حده أمير المؤمنين، وتثبيتك في آخر الكتاب أسماء من حضر ومقالاتهم، وفهم أمير المؤمنين ما اقتصصت.

وأمير المؤمنين يحمد الله كثيرًا كما هو أهله ويسأله أن يصلي على عبده ورسوله محمد ، ويرغب إلى الله في التوفيق لطاعته، وحسن المعونة على صالح نيته برحمته. وقد تدبر أمير المؤمنين ما كتبت به من أسماء من سألت عن القرآن، وما رجع إليك فيه كل امرئٍ منهم، وما شرحت من مقالتهم.

فأما ما قال المغرور بشر بن الوليد في نفي التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن مخلوق، وأدعى من تركه الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين؛ فقد كذب بشر في ذلك وكفر، وقال الزور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك ولا في غيره عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص، والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وأنصصه عن قوله في القرآن، واستتبه منه؛ فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قال بمقالته؛ إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح، والشرك المحض عند أمير المؤمنين؛ فإن تاب منها فأشهر أمره، وأمسك عنه؛ وإن أصر على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقًا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه؛ إن شاء الله.

وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرًا؛ فإنهكان يقول بقوله. وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ؛ فإن قال: إن القرآن مخلوق فأشهر أمره واكشفه؛ وإلا فاضرب عنقه وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه؛ إن شاء الله.

وأما علي بن أبي مقاتل، فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين: إنك تحلل وتحرم، والمكلم له بمثل ما كلمته به؛ مما لم يذهب عنه ذكره! وأما الذيال بن الهيثم؛ فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه في الأنبار وفيما يستولي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العباس ما يشغله؛ وأنه لو كان مقتفيًا آثار سلفه، وسالكًا مناهجهم، ومحتذيًا سبيلهم لما خرج إلى الشرك بعد إيمانه.

وأما أحمد بن يزيد المعروف بأبي العوام، وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله لا في سنه، جاهل، وأنه إن كان لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك؛ إن شاء الله.

وأما أحمد بن حنبل وما تكتب عنه؛ فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها، واستدل على جهله وآفته بها.

وأما الفضل بن غانم؛ فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، وما شجر بينه وبين المطلب بن عبد الله في ذلك؛ فإنه من كان شأنه شأنه، وكانت رغبته في الدينار والدرهم رغبته، فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعًا فيهما، وإيثارًا لعاجل نفعهما، وأنه مع ذلك القائل لعلي بن هشام ما قال، والمخالف له فيما خالفه فيه؛ فما الذي حال به عن ذلك ونقله إلى غيره! وأما الزيادي، فأعلمه أنه كان منتحلًا، ولا كأول دعي كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله ، وكان جديرًا أن يسلك مسلكه، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد أو يكون مولى لأحد من الناس؛ وذكر أنه إنما نسب إلى زياد لأمر من الأمور.

وأما المعروف بأبي نصر التمار؛ فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره.

وأما الفضل بن الفرخان، فأعلمه أنه حاول بالقول الذي قاله في القرآن أخذ الودائع التي أودعها إياه عبد الرحمن بن إسحاق وغيره تربصًا بمن استودعه، وطمعًا في الاستكثار لما صار في يده، ولا سبيل عليه عن تقادم عهده وتطاول الأيام به، فقل لعبد الرحمن بن إسحاق: لا جزاك الله خيرًا عن تقويتك مثل هذا واتمانك إياه، وهو معتقد للشرك منسلخ من التوحيد.

وأما محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر؛ فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد، وأن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لأربائهم، وما نزل به كتاب الله في أمثالهم، لاستحل ذلك، فكيف بهم قد جمعوا مع الإرباء شركًا، وصار للنصارى مثلًا! وأما أحمد بن شجاع؛ فأعلمه أنك صاحبه بالأمس، والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام؛ وأنه ممن الدينار والدرهم دينه.

وأما سعدويه الواسطي، فقل له: قبح الله رجلًا بلغ به التصنع للحديث، والتزين به، الحرص على طلب الرئاسة فيه؛ أن يتمنى وقت المحنة، فيقول بالتقرب بها متى يمتحن، فيجلس للحديث! وأما المعروف بسجادة، وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من أهل الحديث وأهل الفقه القول بأن القرآن مخلوق، فأعلمه أنه في شغله بإعداد النوى وحكه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وألهاه، ثم سله عما كان يوسف بن أبي يوسف ومحمد بن الحسن يقولانه؛ إن كان شاهدهما وجالسهما.

وأما القواريري؛ ففيما تكشف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات، ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه؛ وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنه يتولى لجعفر بن عيسى الحسني مسائله، فتقدم إلى جعفر بن عيسى في رفضه، وترك الثقة به والاستنامة إليه.

وأما يحيى بن عبد الرحمن العمري؛ فإن كان من ولد عمر بن الخطاب، فجوابه معروف.

وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم، فإنه لو كان مقتديًا بمن مضى من سلفه، لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي يحتاج إلى تعلم.

وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته بالقرآن، فحجم عنها ولجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميمًا، فأنصصه عن إقراره؛ فإن كان مقيمًا عليه فأشهر ذلك وأظهره؛ إن شاء الله.

ومن لم يرجع عن شركه سميت لأمير المؤمنين في كتابك، وذكره أمير المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا؛ ولم يقل إن القرآن مخلوق، بعد بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين، مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم؛ حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين، ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه، لينصهم أمير المؤمنين؛ فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعًا على السيف، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.

وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا في خريطة بندارية؛ ولم ينظر به اجتماع الكتب الخرائطية، معجلًا به، تقربًا إلى الله عز وجل بما أصدر من الحكم ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمل من جزيل ثواب الله عليه؛ فأنفذ لما أتاك من أمير المؤمنين، وعجل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك في خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط، لتعرف أمير المؤمنين ما يعلمونه إن شاء الله.

وكتب سنة ثمان عشرة ومائتين.

فأجاب القوم كلهم حين أعاد القول عليهم إلى أن القرآن مخلوق، إلا أربعة نفر؛ منهم أحمد بن حنبل وسجادة والقواريري ومحمد بن نوح المضروب. فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدوا في الحديد؛ فلما كان من الغد دعا بهم جميعًا يساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم؛ فلما كان من الغد عاودهم أيضًا، فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده، وخلى سبيله، وأصر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما، ولم يرجعا، فشدا جميعًا في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب معهما كتابًا بإشخاصهما، وكتب كتابًا مفردًا بتأويل القوم فيما أجابوا إليه فمكثوا أيامًا، ثم دعا بهم فإذا كتاب قد ورد من المأمون على إسحاق بن إبراهيم، أن قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه، وذكر سليمان بن يعقوب صاحب الخبر أن بشر بن الوليد تأول الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " وقد أخطأ التأويل؛ إنما عنى الله عز وجل بهذه الآية من كان معتقد الإيمان، مظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مظهر الإيمان؛ فليس هذه له. فأشخصهم جميعًا إلى طرسوس؛ ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الروم.

فأخذ إسحاق بن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا العسكر بطرسوس؛ فأشخص أبا حسان وبشر بن الوليد والفضل بن غانم وعلي بن أبي مقاتل والذيال بن الهيثم ويحيى بن عبد الرحمن العمري وعلي بن الجعد وأبا العوام وسجادة والقواريري وابن الحسن بن علي بن عاصم وإسحاق بن أبي إسرائيل والنضر بنشميل وأبا نصر التمار وسعدويه الواسطي ومحمد بن حاتم بن ميمون وأبا معمر وابن الهرش وابن الفرخان وأحمد بن شجاع وأبا هارون بن البكاء. فلما صاروا إلى الرقة بلغتهم وفاة المأمون؛ فأمر بهم عنبسة بن إسحاق - وهو والي الرقة، ثم أشخصهم إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السلام مع الرسول المتوجه بهم إلى أمير المؤمنين، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم، ثم رخص لهم بعد ذلك في الخروج، فأما بشر بن الوليد والذيال وأبو العوام وعلي بن أبي مقاتل؛ فإنهم شخصوا من غير أن يؤذن لهم حتى قدموا بغداد، فلقوا إسحاق بن إبراهيم في ذلك أذى، وقدم الآخرون مع رسول إسحاق بن إبراهيم؛ فخلى سبيلهم.

كتب المأمون إلى عماله ووصيته في كتبه

وفي هذه السنة نفذت كتب المأمون إلى عماله في البلدان: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد. وقيل إن ذلك لم يكتبه المأمون كذلك؛ وإنما كتب في حال إفاقة من غشية أصابته في مرضه بالبدندون، عن أمر المأمون إلى العباس بن المأمون وإلى إسحاق وعبد الله بن طاهر؛ أنه إن حدث به حدث الموت في مرضه هذا، فالخليفة من بعده أبو إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد. فكتب بذلك محمد بن داود، وختم الكتب وأنفذها.

فكتب أبو إسحاق إلى عماله: من أبي إسحاق أخي أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين.

فورد كتاب من أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ عامله على جند دمشق يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، عنوانه: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين الرشيد: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين أمر بالكتاب إليك في التقدم إلى عمالك في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل عمالك، في ذلك أشد التقدمة، واكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك.

وكتب إلى جميع عماله في أجناد الشام؛ جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك؛ فلما كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب صلى الجمعة إسحاق بن يحيى بن معاذ في مسجد دمشق، فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين: اللهم أصلح الأمير أخا المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبا إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد.

ذكر الخبر عن وفاة المأمون

وفي هذه السنة توفي المأمون.

ذكر الخبر عن سبب المرض الذي كانت فيه وفاته

ذكر عن سعيد العلاف القارئ، قال: أرسل المأمون وهو ببلاد الروم - وكان دخلها من طرسوس يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة - فحملت إليه وهو في البدندون، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه، فأمرني فجلست نحوه منه؛ فإذا هو وأبو إسحاق مدليان أرجلهما في ماء البدندون، فقال: يا سعيد، دل رجليك في هذا الماء وذقه؛ فهل رأيت ماء قط أشد بردًا، ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه! ففعلت وقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثل هذا قط، قال: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: رطب الآزاذ؛ فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد فالتفت، فنظر فإذا بغال من بغال البريد، على إعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: اذهب فانظر: هل في هذه الألطاف رطب؟ فانظره فإن كان آزاذ فأت به؛ فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ، كأنما جني من النخل تلك الساعة؛ فأظهر شكرًا لله تعالى؛ وكثر تعجبنا منه، فقال: ادن فكل، فأكل هو وأبو إسحاق، وأكلت معهما، وشربنا جميعًا من ذلك الماء؛ فما قام منا أحد إلا وهو محموم؛ فكانت منية المأمون من تلك العلة؛ ولم يزل المعتصم عليلًا حتى دخل العراق، ولم أزل عليلًا حتى كان قريبًا.

ولما اشتدت بالمأمون علته بعث إلى ابنه العباس، وهو يظن أن لن يأتيه، فأتاه وهو شديد المرض متغير العقل، قد نفذت الكتب بما نفذت له في أمر أبي إسحاق بن الرشيد، فأقام العباس عند أبيه أيامًا، وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق.

وقيل: لم يوص إلا والعباس حاضر، والقضاة والفقهاء والقواد والكتاب، وكانت وصيته:

هذا ما أشهد عليه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضره؛ وأشهدهم جميعًا على نفسه أنه يشهد ومن حضره أن الله عز وجل وحده لا شريك له في مكة، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئًا له مثل؛ ولا شيء مثله تبارك وتعالى، وأن الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، وثواب المحسن الجنة وعقاب المسيء النار، وأن محمدًا قد بلغ عن ربه شرائع دينه، وأدى نصيحته إلى أمته؛ حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه أفضل صلاة صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين، وأني مقر مذنب، أرجو وأخاف؛ إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت، فإذا أنا مت فوجهوني وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني؛ ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد؛ إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي؛ فإذا أنتم وضعتموني للصلاة؛ فليتقدم بها من هو أقربكم بي نسبًا، وأكبركم سنًا، فليكبر خمسًا، يبدأ في الأولى في أولها بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على سيدي وسيد المرسلين جميعًا، ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات؛ الأحياء منهم والأموات، ثم الدعاء للذين سبقونا بالإيمان، ثم ليكبر الرابعة، فيحمد الله ويهلله ويكبره ويسلم في الخامسة، ثم أقلوني فأبلغوا بي حفرتي، ثم لينزل أقربكم إلي قرابةً، وأودكم محبة، وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن واستقبلوا بي القبلة، وحلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا للحد باللبن، واحثوا ترابًا علي، واخرجوا عني وخلوني وعملي؛ فكلكم لا يغني عني شيئًا، ولا يدفع عني مكروهًا، ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرًا إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شرٍ إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون وما تلفظون به، ولا تدعوا باكية عندي، فإن المعول عليه يعذب. رحم الله امرأ اتعظ وفكر فيما حتم الله على جميع خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء. ثم لينظر ما كنت فيه من عز الخلافة؛ هل أغنى ذلك عني شيئًا إذ جاء أمر الله! لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، فيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشرًا، بل ليته لم يكن خلقًا! يا أبا إسحاق، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه؛ ولا تغتر بالله ومهلته؛ فكأن قد نزل بك الموت. ولا تغفل أمر الرعية. الرعية الرعية! العوام العوام! فإن الملك بهم وبتعهدك المسلمين والمنفعة لهم. الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين! ولا ينهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة لهم إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأتهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت. والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، وأكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة؛ فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجيًا ثواب الله عليه. واعلم أن العظة إذا طالت أوجبت على السامع لها والموصي بها الحجة؛ فاتق الله في أمرك كله، ولا تفتن.

ثم دعا أبا إسحاق بعد ساعة حين اشتد به الوجع، وأحس بمجيء أمر الله فقال له: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعته على معصيته؛ إذ أنا نقلتها من غيرك إليك؟ قال: اللهم نعم، قال:

فانظر من كنت تسمعني أقدامه على لساني فأضعف له التقدمة؛ عبد الله بن طاهر أقره على عمله ولا تهجه، فقد عرفت الذي سلف منكما أيام حياتي وبحضرتي، استعطفه بقلبك، وخصه ببرك، فقد عرفت بلاءه وغناءه عن أخيك. وإسحاق بن إبراهيم فأشركه في ذلك؛ فإنه أهل له. وأهل بيتك، فقد علمت أنه لا بقية فيهم وإن كان بعضهم يظهر الصيانة لنفسه. عبد الوهاب عليك به من بين أهلك، فقدمه عليهم، وصير أمرهم إليه. وأبو عبد الله بن أبي داود فلا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك؛ فإنه موضع لذلك منك، ولا تتخذن بعدي وزيرًا تلقي إليه شيئًا؛ فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته حتى أبان الله ذلك منه في صحة مني، فصرت إلى مفارقته! قاليًا له غير راضٍ بما صنع في أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الإسلام خيرًا! وهؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى. اتقوا الله ربكم حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. اتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلها. أستودعكم الله ونفسي وأستغفر الله مما سلف، وأستغفر الله مما كان مني، إنه كان غفارًا، فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمها، وإليه أنيب ولا قوة إلا بالله حسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة!

ذكر الخبر عن وقت وفاته والموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه ومبلغ سنه وقدر مدة خلافته

قال أبو جعفر: وأما وقت وفاته، فإنه اختلف فيه، فقال بعضهم: توفي يوم الخميس لاثني عشرة ليلة بقيت من رجب بعد العصر سنة ثمان عشرة ومائتين.

وقال آخرون: بل توفي في هذا اليوم مع الظهر، ولما توفي حمله ابنه العباس وأخوه أبو إسحاق محمد بن الرشيد إلى طرسوس، فدفناه في دار كانت لخاقان خادم الرشيد، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق المعتصم، ثم وكلوا به حرسًا من أهل طرسوس وغيرهم مائة رجل، وأجري على كل رجلٍ منهم تسعون درهمًا.

وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا، وذلك سوى سنتين كان دعي له فيهما بمكة وأخوه الأمين محمد بن الرشيد محصور ببغداد.

وكان يكنى - فيما ذكر ابن الكلبي - أبا العباس.

وكان ربعة أبيض جميلًا، طويل اللحية، وقد وخطه الشيب. وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أحنى أعين طويل اللحية رقيقها، أشيب، ضيق الجبهة، بخده خال أسود.

واستخلف يوم الخميس لخمس ليال بقين من المحرم.

ذكر بعض أخبار المأمون وسيره

ذكر عن محمد بن الهيثم بن عدي، أن إبراهيم بن عيسى بن بريهة بن المنصور، قال: لما أراد المأمون الشخوص إلى دمشق هيأت له كلامًا، مكثت فيه يومين وبعض آخر، فلما مثلت بين يديه قلت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، في أدوم العز وأسبغ الكرامة، وجعلني من كل سوء فداه! إن من أمسى وأصبح يتعرف من نعمة الله، له الحمد كثيرًا عليه برأي أمير المؤمنين أيده الله فيه، وحسن تأنيسه له، حقيق بأن يستديم هذه النعمة، ويلتمس الزيادة فيها بشكر الله وشكر أمير المؤمنين، مد الله في عمره عليها. وقد أحب أن يعلم أمير المؤمنين أيده الله أني لا أرغب بنفسي عن خدمته أيده الله بشيء من الخفض والدعة؛ إذ كان هو أيده الله يتجشم خشونة السفر ونصب الظعن، وأولى الناس بمواساته في ذلك وبذل نفسه فيه أنا، لما عرفني الله من رأيه، وجعل عندي من طاعته ومعرفة ما أوجب الله من حقه؛ فإن رأى أمير المؤمنين أكرمه الله أن يكرمني بلزوم خدمته، والكينونة معه فعل. فقال لي مبتدئًا من غير تروية: لم يعزم أمير المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحدًا من أهل بيتك بدأ بك؛ وكنت المقدم عنده في ذلك؛ ولا سيما إذ أنزلت نفسك بحيث أنزلك أمير المؤمنين من نفسه؛ وإن ترك ذلك فمن غير قلًا لمكانك؛ ولكن بالحاجة إليك. قال: فكان والله ابتداؤه أكثر من ترويتي.

وذكر عن محمد بن علي بن صالح السرخسي، قال: تعرض رجل للمأمون بالشأم مرارًا، فقال له: يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشأم كما نظرت لعجم أهل خراسان! فقال: أكثرت علي يا أخا أهل الشأم؛ والله ما أنزلت قيسًا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد؛ وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط؛ وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر؛ ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريًا، اعزب فعل الله بك! وذكر عن سعيد بن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قال له: أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله لكم، قال: فأريته، قال: فقال: إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على هذا الخاتم؟ قال: فقال له أبو إسحاق: حل العقد حتى تدري ما هو، قال: فقال: ما أشك أن النبي عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقدًا عقده رسول الله . ثم قال للواثق: خذ فضعه على عينيك؛ لعل الله يشفيك. قال: وجعل المأمون يضعه على عينه ويبكي.

وذكر عن العيثي صاحب إسحاق بن إبراهيم، أنه قال: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قل المال عنده حتى ضاق، وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه. قال: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما يتولاه له، قال: فلما ورد عليه ذلك المال، قال المأمون ليحيى بن أكثم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال، قال: فخرجا حتى أصحرا، ووقفا ينظرانه؛ وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أبا عره، وألبست الأحلاس الموشاة والجلال المصبغة وقلدت العهن، وجعلت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رءوسها. قال: فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك، فعظم في عينه، واستشرفه الناس ينظرون إليه، ويعجبون منه، فقال المأمون ليحيى: يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم، وننصرف بهذه الأموال قد ملكناها دونهم! إنا إذًا للئام. ثم دعا محمد بن يزداد، فقال له: وقع لأل فلان بألف ألف، ولآل فلان بمثلها، ولآل فلان بمثلها. قال: فوالله إن زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم قال: ادفع الباقي إلى المعلى يعطي جندنا. قال العيشي: فجئت حتى قمت نصب عينيه. فلم أرد طرفي عنها، لا يلحظني إلا رآني بتلك الحال. فقال: يا أبا محمد، وقع لهذا بخمسين ألف درهم من الستة الآلاف ألف؛ لا يختلس ناظري. قال: فلم يأت علي ليلتان حتى أخذت المال.

وذكر عن محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان؛ أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم، وكان شاعرًا ظريفًا خبيثًا منكرًا؛ وكنت أنا والي البصرة، آنس به وأستحليه؛ فأردت أن أخدعه وأستنزله، فقلت له: أنت شاعر وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف؛ فما يمنعك منه؟ قال: ما عندي ما يقلني، قلت: فأنا أعطيك نجيبًا فارهًا ونفقة سابغة، وتخرج إليه وقد امتدحته؛ فإنك إن حظيت بلقائه، صرت إلى أمنيتك. قال: والله أيها الأمير ما إخالك أبعدت؛ فأعد لي ما ذكرت. قال: فدعوت له بنجيب فاره، فقلت: شأنك به فامتطه؛ قال: هذه إحدى الحسنيين، فما بال الأخرى! فدعوت له بثلثمائة درهم، وقلت: هذه نفقتك؛ قال: أحسبك أيها الأمير قصرت في النفقة، قلت: لا هي كافية، وإن قصرت عن السرف. قال: ومتى رأيت في أكابر سعد سرفًا حتى تراه في أصاغرها! فأخذ النجيب والنفقة، ثم عمل أرجوزة ليست بالطويلة، فأنشد فيها وحذف منها ذكري والثناء علي - وكان ماردًا - فقلت له: ما صنعت شيئًا. قال: وكيف؟ قلت: تأتي الخليفة ولا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير أردت أن تخدعني فوجدتني خداعًا، ولمثلها ضرب هذا المثل: " من ينك العير ينك نياكًا "؛ أما والله ما لكرامتي حملتني على نجيبك، ولا جدت لي بمالك الذي ما رامه أحد قط إلا جعل الله خده الأسفل؛ ولكن لأذكرك في شعري وأمدحك عند الخليفة، أفهم هذا. قلت: قد صدقت، فقال: أما إذا أبديت ما في ضميرك، فقد ذكرتك، وأثنيت عليك، فقلت: فأنشدني ما قلت، فأنشدنيه، فقلت: أحسنت؛ ثم ودعني وخرج فأتى الشام؛ وإذا المأمون بسلغوس. قال: بينا أنا في غزاةٍ قرة، قد ركبت نجيبي ذاك، ولبست مقطعاتي، وأنا أروم العسكر؛ فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره، ولا يدرك خطاه. قال: فتلقاني مكافحة ومواجهة، وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: سلام عليكم - بكلام جهوري ولسان بسيط - فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قال: قف إن شئت، فوقفت فتضوعت منه رائحة العنبر والمسك والأذفر، فقال: ما أولك؟ قلت: رجل من مضر، قال: ونحن من مضر، ثم قال: ثم ماذا؟ قلت: رجل من بني تميم، قال: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قال: هيه، فما أقدمك هذا البلد؟ قال: قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، ولا أطول باعًا، ولا أمد يفاعًا منه. قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه، وتقتفيه الرواة، ويحلو في آذان المستمعين، قال: فأنشدنيه، فغضبت وقلت: يا ركيك، أخبرتك أني قصدت الخليفة بشعر قلته، ومديح حبرته، تقول: أنشدنيه! قال: فتغافل والله عنها، وتطأمن لها، وألغى عن جوابها، قال: وما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي عنه فألف دينار، قال: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدًا والكلام عذبًا وأضع عنك العناء، وطول الترداد؛ ومتى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامحٍ ونابل! قلت: فلي الله عليك أن تفعل! قال: نعم لك الله علي أن أفعل، قلت: ومعك الساعة مال؟ قال: هذا بغلي وهو خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، قال: فغضبت أيضًا وعارضني نزق سعد وخفة أحلامها، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب! قال: فدع عنك البغل، ولك الله علي أن أعطيك الساعة ألف دينار، قال: فأنشدته:

مأمون يا ذا المنن الشريفه ** وصاحب المرتبة المنيفه

وقائد الكتيبة الكثيفة ** هل لك في أرجوزة ظريفه

أظرف من فقه أبي حنيفه ** لا والذي أنت له خليفه

ما ظلمت في أرضنا ضعيفه ** أميرنا مؤنته خفيفه

وما اجتبى شيئًا سوى الوظيفه ** فالذئب والنعجة في سقيفه

واللص والتاجر في قطيفه

قال: فوالله ما عدا أن أنشدته، فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق، يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! قال: فأخذني أفكل، ونظر إلي بتلك الحال، فقال: لا بأس عليك أي أخي، قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أتعرف لغات العرب؟ قال: أي لعمرالله، قلت: فمن جعل الكاف منهم مكان القاف؟ قال: هذه حمير، قلت: لعنها الله، ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم! فضحك المأمون، وعلم ما أردت، والتفت إلى خادم إلى جانبه، فقال: أعطه ما معك، فأخرج إلي كيسًا فيه ثلاثة آلاف دينار، فقال: هاك، ثم قال: السلام عليك؛ ومضى فكان آخر العهد به.

وقال أبو سعيد المخزومي:

هل رأيت النجوم أغنت عن المأ ** مون شيئًا أو ملكه المأسوس

خلفوه بعرصتي طرسوس ** مثل ما خلفوا أباه بطوس

وقال علي بن عبيدة الريحاني:

ما أقل الدموع للمأمون ** لست أرضى إلا دمًا من جفوني

وذكر أبو موسى هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي أن علي بن صالح حدثه، قال: قال لي المأمون يومًا: أبغني رجلًا من أهل الشام، له أدب يجالسني ويحدثني، فالتمست ذلك فوجدته، فدعوته فقلت له: إني مدخلك على أمير المؤمنين، فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك، فإني أعرف الناس بمسألتهم يا أهل الشأم، فقال: ما كنت متجاوزًا ما أمرتني به. فدخلت على المأمون، فقلت له: قد أصبت الرجل يا أمير المؤمنين، فقال: أدخله، فدخل فسلم، ثم استدناه - وكان المأمون على شغله من الشراب - فقال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثتي، فقال الشأمي: يا أمير المؤمنين، إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة، قال: فأمر المأمون أن يخلع عليه؛ قال: فدخلني من ذلك ما الله به أعلم، قال: فلما خلع عليه، ورجع إلى مجلسه، قال: يا أمير المؤمنين؛ إن قلبي إذا كان متعلقًا بعيالي لم تنتفع بمحادثتي، قال: خمسون ألفًا تحمل إلى منزله، ثمقال: يا أمير المؤمنين، وثالثة، قال: وما هي؟ قال: قد دعوت بشيء يحول بين المرء وعقله؛ فإن كانت مني هنة فاغتفرها، قال: وذاك! قال علي: فكأن الثالثة جلت عني ما كان بي.

وذكر أبو حشيشة محمد بن علي بن أمية بن عمرو، قال: كنا قدام أمير المؤمنين المأمون بدمشق، فغنى علويه:

برئت من الإسلام إن كان ذا الذي ** أتاك به الواشون عني كما قالوا

ولكنهم لما رأوك سريعةً ** إلي، تواصوا بالنميمة واحتالوا

فقال: يا علويه، لمن هذا اشعر؟ فقال: للقاضي، قال: أي قاض ويحك! قال: قاضي دمشق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله، قال: قد عزلته، قال: فيحضر الساعة. قال: فأحضر شيخ مخضوب وقصير؛ فقال له المأمون: من تكون؟ قال: فلان بن فلان الفلاني، قال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله. فقال: يا علويه، أنشده الشعر، فأنشده، فقال: هذا الشعر لك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وكل ما يملك في سبيل الله إن كان قال الشعر منذ ثلاثون سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق، فقال: يا أبا إسحق اعزله؛ فما كنت أولي رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام. ثم قال: اسقوه؛ فأتي بقدح فيه شراب، فأخذه وهو يرتعد، فقال: يا أمير المؤمنين ما ذقته قط، قال: فلعلك تريد غيره! قال: لم أذق منه شيئًا قط، قال: فحام هو؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أولى لك! بها نجوت، اخرج. ثم قال: يا علويه، لا تقل: " برئت من الإسلام "، ولكن قل:

حرمت مناي منك إن كان ذا الذي ** أتاك به الواشون عني كما قالوا

قال: وكنا مع المأمون بدمشق، فركب يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، فاستحسن المأمون الموضع، فدعا ببزماورد ورطل، وذكر بني أميه، فوضع منهم وتنقصهم؛ فأقبل علويه على العود، واندفع يغني:

أولئك قومي بعد عز وثروةٍ ** تفانوا فإلا أذرف العين أكمدا

فضرب المأمون الطعام برجله، ووثب وقال لعلويه: يابن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر فيه مواليك إلا في هذا الوقت! فقال: مولاكم زرياب عند موالي يركب في مائة غلام؛ وأنا عندكم أموت من الجوع! فغضب عليه عشرين يومًا، ثم رضي عنه.

قال: وزرياب مولى المهدي، صار إلى الشأم ثم صار إلى المغرب، إلى بني أمية هناك.

وذكر السليطي أبو علي، عن عمارة بن عقيل، قال: أنشدت المأمون قصيدةً فيها مديح له، هي مائة بيت؛ فأبتدئ بصدر البيت فيبادرني إلى قافيته كما قفيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين؛ ما سمعها مني أحد قط، قال: هكذا ينبغي أن يكون؛ ثم أقبل علي، فقال لي: أما بلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن العباس قصيدته التي يقول فيها: تشط غدًا دار جيراننا فقال ابن العباس: وللدار بعد غد أبعد حتى أنشده القصيدة، يقفيها ابن عباس! ثم قال: أنا ابن ذاك. وذكر عن أبي مروان كازر بن هارون، أنه قال: قال المأمون:

بعثتك مرتادًا ففزت بنظرةٍ ** وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا

فناجيت من أهوى وكنت مباعدًا ** فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى!

أرى أثرًا منه بعينك بينًا ** لقد أخذت عيناك من عينه حسنا

قال أبو مروان: وإنما عول المأمون في قوله في هذا المعنى على قول العباس ابن أحنف، فإنه اخترع:

إن تشق عيني بها فقد سعدت ** عين رسولي، وفزت بالخبر

وكلما جاءني الرسول لها ** رددت عمدًا في طرفه نظري

تظهر في وجهه محاسنها ** قد أثرت فيه أحسن الأثر

خذ مقلتي يا رسول عاريةً ** فانظر بها واحتكم على بصري

قال أبو العتاهية: وجه إلي المأمون يومًا، فصرت إليه، فألفيته مطرقًا مفكرًا، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال؛ فرفع رأسه؛ فنظر إلي وأشار بيده؛ أن ادن، فدنوت ثم أطرق مليًا، ورفع رأسه، فقال: يا أبا إسحاق؛ شأن النفس الملل وحب الاستطراف؛ تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قال: وما هو؟ قلت:

لا يصلح النفس إذ كانت مقسمةً ** إلا التنقل من حالٍ إلى حال

وذكر عن أبي نزار الضرير الشاعر أنه قال: قال لي علي بن جبلة: قلت لحميد بن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض؛ فاذكرني له، فقال: أنشدنيه، فأنشدته، فقال: أشهد أنك صادق؛ فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال: يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثوابًا بمديحه؛ وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف القاسم بن عيسى؛ فإن كان الذي قال فيك وفيه أجود من الذي مدحنا به ضربنا ظهره، وأطلنا حبسه، وإن كان الذي قال فينا أجود أعطيته بكل بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه. فقلت: يا سيدي، ومن أبو دلف! ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك! فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرض ذلك على الرجل. قال علي بن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟ قلت: الإقالة أحب إلي، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قال حميد: فقلت لعلي بن جبلة: إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دلف وفي مدحك لي؟ قال: إلى قولي في أبي دلف:

إنما الدنيا أبو دلفٍ ** بين مغزاه ومحتضره

فإذا ولي أبو دلفٍ ** ولت الدنيا على أثره

وإلى قولي فيك:

لولا حميد لم يكن ** حسب يعد ولا نسب

يا واحد العرب الذي ** عزت بعزته العرب

قال: فأطرق حميد ساعة، ثم قال: يا أبا الحسن، لقد انتقد عليك أمير المؤمنين. وأمر لي بعشرة آلاف درهم وحملان وخلعة وخادم، وبلغ ذلك أبا دلف فأضعف لي العطية، وكان ذلك منهما في ستر لم يعلم به أحد إلى أنحدثتك يا أبا نزار بهذا.

قال أبو نزار: وظننت أن المأمون تعقد عليه هذا البيت في أبي دلف:

تحدر ماء الجود من صلب آدمٍ ** فأثبته الرحمن في صلب قاسم

وذكر عن سليمان بن رزين الخزاعي، ابن أخي دعبل، فقال: هجا دعبل المأمون، فقال:

ويسومني المأمون خطة عارفٍ ** أو ما رأى بالأمس رأس محمد

يوفي على هام الخلائف مثل ما ** يوف الجبال على رءوس القردد

ويحل في أكناف كل ممنعٍ ** حتى يذلل شاهقًا لم يصعد

إن التراث مسهد طلابها ** فاكفف لعابك عن لعاب الأسود

فقيل للمأمون: إن دعبلًا هجاك، فقال: هو يهجو أبا عباد لا يهجوني. يريد حدة أبي عباد، وكان أبو عباد إذا دخل على المأمون كثيرًا ما يضحك المأمون، ويقول له: ما أراد دعبل منك حين يقول:

وكأنه من دير هزقل مفلت ** حرد يجر سلاسل الأقياد

وكان المأمون يقول لإبراهيم بن شكلة إذا دخل عليه: لقد أوجعك دعبل حين يقول:

إن كان إبراهيم مضطلعًا بها ** فلتصلحن من بعده لمخارق

ولتصلحن من بعد ذاك لزلزلٍ ** ولتصلحن من بعده للمارق

أنى يكون ولا يكون ولم يكن ** لينال ذلك فاسق عن فاسق!

وذكر محمد بن الهيثم الطائي أن أبا القاسم بن محمد الطيفوري حدثه، قال: شكا اليزيدي إلى المأمون خلة أصابته، ودينًا لحقه، فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن الأمر قد ضاق علي، وإن غرمائي قد أرهقوني. قال: فرم لنفسك أمرًا تنال به نفعًا فقال: لك منادمون فيهم من إن حركته نلت منه ما أحب، فأطلق لي الحيلة فيهم، قال: فإذا حضروا وحضرت فمر فلانًا الخادم أن يوصل إليك رقعتي؛ فإذا قرأتها، فأرسل إلي: دخولك في هذا الوقت متعذر؛ ولكن اختر لنفسك من أحببت. قال: فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه، وتيقن أنهم قد ثملوا من شربهم، أتى الباب، فدفع إلى ذلك الخادم رقعة قد كتبها، فأوصلها إلى المأمون، فقرأها فإذا فيها:

يا خير إخواني وأصحابي ** هذا الطفيلي لدى الباب

خبر ان القوم في لذةٍ ** يصبو إليها كل أواب

فصيروني واحدًا منكم ** أو أخرجوا لي بعض أترابي

قال: فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل هذا الطفيلي على مثل هذه الحال. فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت تنادمه، فقال: ما أرى لنفسي اختيارًا غير عبد الله بن طاهر، فقال له المأمون: لقد وقع اختياره عليك، فصر إليه، قال: يا أمير المؤمنين، فأكون شريك طفيلي! قال:

ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين؛ فإن أحببت أن تخرج، وإلا فافتد نفسك، قال: فقال: يا أمير المؤمنين، له علي عشرة آلاف درهم، قال: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، قال: فلم يزل يزيده عشرة عشرة، والمأمون يقول له: لا أرضى له بذلك، حتى بلغ المائة ألف. قال: فقال له المأمون: فعجلها له، قال: فكتب له بها إلى وكيله، ووجه معه رسولًا، فأرسل إليه المأمون: قبض هذه في هذه الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله، وأنفع عاقبة.

وذكر عن محمد بن عبد الله صاحب المراكب قال: أخبرني أبي عن صالح بن الرشيد، قال: دخلت على المأمون، ومعي بيتان للحسين بن الضحاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحب أن تسمع مني بيتين، قال: أنشدهما، قال: فأنشده صالح:

حمدنا الله شكرًا إذ حبانا ** بنصرك يا أمير المؤمنينا

فأنت خليفة الرحمن حقًا ** جمعت سماحةً وجمعت دينا

فاستحسنهما المأمون، وقال: لمن هذان البيتان يا صالح؟ قلت: لعبدك يا أمير المؤمنين الحسين بن الضحاك، قال: قد أحسن، قلت: وله يا أمير المؤمنين ما هو أجود من هذا، قال: وماهو؟ فأنشدته:

أيبخل فرد الحسن فرد صفاته ** علي، وقد أفردته بهوىً فرد!

رأى الله عبد الله خير عباده ** فملكه والله أعلم بالعبد

وذكر عن عمارة بن عقيل، أنه قال: قال لي عبد الله بن أبي السمط: علمت أن المأمون لا يبصر الشعر، قال: قلت: ومن ذا يكون أعلم منه! فوالله إنك لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره، قال: أنشدته بيتًا أجدت فيه، فلم أره تحرك له، قال: قلت: وما الذي أنشدته؟ قال: أنشدته:

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلًا ** بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

قال: فقلت له: إنك والله ما صنعت شيئًا، وهل زدت على أن جعلته عجوزًا في محرابها، في يدها سبحتها! فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها، وهو المطوق بها! هلا قلت فيه كما قال عمك جرير في عبد العزيز بن الوليد:

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ** ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

فقال: الآن علمت أني قد أخطأت.

وذكر عن محمد بن إبراهيم السياري قال: لما قدم العتابي على المأمون مدينة السلام أذن له، فدخل عليه، وعنده إسحاق بن إبراهيم الموصلي - وكان شيخًا جليلًا - فسلم عليه، فرد السلام، وأدناه وقربه حتى قرب منه، فقبل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، فأقبل عليه يسائله عن حاله، فجعل يجيبه بلسان طلق، فاستطرف المأمون ذلك. فأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإبساس قبل الإيناس قال: فاشتبه على المأمون الإبساس، فنظر إلى إسحاق بن إبراهيم، ثم قال: نعم، يا غلام ألف دينار؛ فأتى بها، ثم صبت بين يدي العتابي، ثم أخذوا في المفاوضة والحديث، وغمز عليه إسحاق بن إبراهيم، فأقبل لا يأخذ العتابي بشيء إلا عارضه إسحاق بأكثر منه، فبقي متعجبًا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إيذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه، قال: نعم، سله، قال: ياشيخ، من أنت؟ وما اسمك؟ قال: أنا من الناس، واسمي كل بصل، قال: أما النسبة فمعروفة، وأما الاسم فمنكر، وما كل بصل من الأسماء؟ فقال له إسحاق: ما أقل إنصافك! وما كل ثوم من الأسماء! البصل أطيب من الثوم، فقال العتابي: لله درك! ما أحجك! يا أمير المؤمنين، ما رأيت كالشيخ قط، أتأذن لي في صلته بما وصلني به أمير المؤمنين؛ فقد والله غلبني! فقال المأمون: بل هذا موفر عليك؛ ونأمر له بمثله، فقال له إسحاق: أما إذا أقررت بهذه فتوهمني تجدني، فقال: والله ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره في العراق؛ ويعرف بابن الموصلي! قال: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: وأما إذا اتفقتما على الصلح والمودة، فقوما فانصرفا متنادمين؛ فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.

وذكر عن محمد بن عبد الله بن جشم الربعي أن عمارة بن عقيل قال: قال لي المأمون يومًا وأنا أشرب عنده: ما أخبثك يا أعرابي! قال: قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وهمتني نفسي، قال: كيف قلت:

قالت مفداة لما أن رأت أرقي ** والهم يعتادني من طيفه لمم

نهبت مالك في الأدنين آصرةً ** وفي الأباعد حتى حفك العدم

فاطلب إليهم ترى ما كنت من حسنٍ ** تسدي إليهم فقد باتت لهم صرم

فقلت عذلك قد أكثرت لائمتي ** ولم يمت حاتم هزلًا ولا هرم

فقال لي المأمون: أين رميت بنفسك إلى هرم بن سنان سيد العرب وحاتم الطائي! فعلا كذا وفعلا كذا، وأقبل ينثال علي بفضلهما، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا خير منهما، أنا مسلم وكانا كافرين، وأنا رجل من العرب.

وذكر عن محمد بن زكرياء بن ميمون الفرغاني، قال: قال المأمون لمحمد بن الجهم: أنشدني ثلاثة أبيات في المديح والهجاء والمراثي؛ ولك بكل بيت كورة، فأنشده في المديح:

يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها ** والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وأنشده في الهجاء:

قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ** حسنت مناظرهم لقبح المخبر

وأنشده في المراثي:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ** فطيب تراب القبر دل على القبر

وذكر عن العباس بن أحمد بن أبان بن القاسم الكاتب، قال: أخبرني الحسين بن الضحاك، قال: قال لي علويه: أخبرك أنه مر بي مرة ما أيست من نفسي معه لولا كرم المأمون؛ فإنه دعا بنا؛ فلما أخذ فيه النبيذ؛ قال: غنوني، فسبقني مخارق، فاندفع فغنى صوتًا لابن سريج في شعر جرير:

لما تذكرت بالديرين أرقني ** صوت الدجاج وضرب بالنواقيس

فقلت للركب إذ جد المسير بنا ** يا بعد يبرين من باب الفراديس!

قال: فحين لي أن غنيت، وكان قد هم بالخروج إلى دمشق يريد الثغر:

الحين ساق إلى دمشق وما ** كانت دمشق لأهلها بلدا

فضرب بالقدح الأرض، وقال: ما لك! عليك لعنة الله. ثم قال: يا غلام، أعط مخارقًا ثلاثة آلاف درهم؛ وأخذ بيدي فأقمت وعيناه تدمعان، وهو يقول للمعتصم: هو والله آخر خروج، ولا أحسبني أن أرى العراق أبدًا، فكان والله آخر عهده بالعراق عند خروجه كما قال.

خلافة أبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون الرشيد

وفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بالخلافة؛ وذلك يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين. وذكر أن الناس كانوا قد أشفقوا من منازعة العباس بن المأمون له في الخلافة، فسلموا من ذلك.

ذكر أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضره، فبايعه ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي؛ وسلمت الخلافة إليه؛ فسكن الجند.

وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة، وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله، وأحرق ما لم يقد على حمله؛ وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى بلادهم.

وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها - فيما ذكر - يوم السبت مستهل شهر رمضان.

وفيها دخل - فيما ذكر - جماعة كثيرة من أهل الجبال من همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجانقذق في دين الخرمية، وتجمعوا، فعسكروا في عمل همذان؛ فوجه المعتصم إليهم عساكر؛ فكان آخر عسكر وجه إليهم عسكر وجهه مع إسحاق بن إبراهيم بم مصعب، وعقد له على الجبال في شوال في هذه السنة، فشخص إليهم في ذي القعدة، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وقتل في عمل همذان ستين ألفًا، وهرب باقيهم إلى بلاد الروم.

وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد، وضحى أهل مكة يوم الجمعة، وأهل بغداد يوم السبت.


تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | فهرس