رسالة في الحيلة لدفع الأحزان

​رسالة في الحيلة لدفع الأحزان​ المؤلف يعقوب بن إسحاق الكندي


صانك الله – أيها الأخ المحمودُ – من كل زَلة؛ وحاطك من كل آفة؛ ووفّقك لسُبُل الانتهاء إلى مَرْضاته وجزيل ثوابه.

فهمتُ ما سألتُ مِنْ رَسم أقاويل تضادُّ الأحزانَ وتنبّه على عوراتها وتُحصِّن من الألم بملكها. ومِثْلُ نفسك الفاضلة وأخلاقك العادلة أنِفَتْ مِن تملّك الرذائل، وطلبت التحصين من آلامها وجور أحكامها. وقد رسمتُ لك بحسب ما رجوت أن يكون لك كافياً. كفاك الله جميع المهمات!

إن كل ألم غيرِ معروف الأسباب غيرُ موجود الشفاء. فينبغي إذَنْ أن نُبيَّنَ ما الحزن وأسبابه، لتكون أشفيته ظاهرة الوجود، سهلة الاستعمال. فنقول:

إن الحزن ألمٌ نفساني يعرض لفقد المحبوبات وفوت المطلوبات. فإذن قد تبيَّنَتْ أيضاً أسبابُ الحزن ممّا قد قيل: إذ هو عارضٌ لفقدِ محبوبٍ، أو لفوت مطلوبٍ. فإذن قد ينبغي أن نبحث هل يمكن أن يَعْرَى من هذه الأسباب أحَدٌ. فإنه ليس بممكن أن ينال أحدٌ جميعَ مطلوباته؛ ولا يَسْلَم مِن فقد جميع محبوباته، لأن الثَّبات والدوام معدومٌ في عالم الكون والفساد الذي نحن فيه. وإنما الثبات والدوام موجودان اضطراراً في عالم العقل الذي هو ممكنٌ لنا مشاهدته. فإن أحببنا أن لا نفقد محبوباتنا، ولا تفوتنا طلباتنا فينبغي أن نشاهد العالم العقلي، ونصيِّر محبوباتنا وقنياتنا وإرادتنا منه. فإنّا إن فعلنا ذلك أمِنّا أن يغصبنا قنياتنا أحدٌ، أو يملكها علينا يد؛ وأن نعدم ما أحببنا منها، إذْ لا تنالها الآفات ولا يلحقها الممات ولا تفوتنا الطِّلبة، إذ المطالب العقلية يلحق بعضُها بعضاً، واقفةً غير متحركة ولا زائلة: فهي مُدْرَكةٌ غيرُ فائتة. فأمّا القنية الحسّية والمحبوبات الحسّية والطلبات الحسية فإنها موقوتات لكل أحد، ومُبتَذَلْ لكل يد؛ لا يمكن تحصينها، ولا يؤمّن فسادها وزوالها وتبدُّلها؛ فيصير الشيء بعدما كان يؤنس بقربه موحشاً، وبعد الثقة بطاعته عاصياً، وبعد إقباله مدبراً، إذ ليس في الطّبع أن يكون ما ليس في الطبع. فإن أردنا من أحوال وأخلاق المشتركات - التي ليس فيها شيء خاصٌّ لأحدٍ دون غيره، بل هي مِلْكٌ لكل أحد - أن تكون لنا خاصة، ومن الفاسدة أن لا تكون فاسدة، ومن المقبلة المُدبرة أن تكون مقبلةً فقط، ومن الزائلة في كل حال أن تكون ثابتةً في كل حال فقد أردنا من الطبع ما ليس في الطبع؛ ومَنْ أراد ما ليس في الطبع أراد ما ليس موجوداً. ومَنْ أراد ما ليس موجوداً عَدم طلبته، والعادمُ طلبته شقيٌ. فمن أراد الموقوتاتْ وأراد أن تكون قنيته ومحابُّه منها شَقِيَ؛ ومَنْ تمت له إرادته فسعيد.

فينبغي إذن أن تَحْرِص على أن نكون سُعَداء، وأن نحترس من أن نكون أشقياء: بأن تكون إرادتنا ومحبوباتنا ما تهيّأ لنا، ولا نأسى على فائتة ولا نتطلب غير المتهيّء من المحسوسة؛ بل نكون إذا شاهدنا الأشياء التي يتمتع بها الناس من المحبوبات في العقل - أعني قَدْرَ ما بالنفس إليه الحاجة في تثبيت صورتها أيامَ مُدّتّها المقسومة لها وإثمار فِعْلها، وما دفع عنها الألم وأفادها الراحة - تناولناه بالأمر الأجمل بقدر الحاجة، ولم نتلقّها قبل مماسَّتنا إياها ومشاهدتها - بتمنَ، ولم نُتْبع أنفسنا بعد انصرافها عنّا تأسُفاً ولا إشغال فكر. فإن هذه مِنْ أخلاق الملوك الأجلّة: فإنهم لا يتلقون مقبلاً، ولا يشيعون ظاعناً، بل يتمتعون بكل ما يشاهدون بأركن فعل وأظهر استغناء. فأما ضد ذلك، فمن أخلاق صغار العامة، وذوي الدناءة والشره وشدة الحرص: فإنهم يتلقون كلّ مقبل، ويشيّعون كلّ ظاعن. وحقيق بذوي العقول ألاّ يختاروا أخلاق صغار العامّة ودناءتها على أخلاق أجلّة الملوك. وكذلك ما نقول: ينبغي إذا لم يكن ما نريد أن نريد ما يكون؛ وأن لا نختار دوامَ الحزن على دوام السرور. وإنّ مّن أحزنه فوتُ الفائتات وعدمُ المعدومات لم يتصرَّم حزنه أبداً، لأنه في كل حالٍ مِن مدته يفقد محبوباً ويفوته مطلوب. والحزن والسرور ضدان لا يثبتان في النفس معاً: فإذا كان محزوناً لم يكن مسروراً، وإذا كان مسروراً لم يكن محزوناً. فينبغي إذن أن لا نحزن على الفائتات ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة، راضية بكل حال، لنكون مسرورين أبداً.

فقد نرى ذلك موجوداً ظاهراً بالعادات. - فقد نرى من أحوال الناس واختلافهم في مراداتهم ومطالبهم - ما يدل على ذلك دلالة ظاهرة: فإنّا نرى المتنعّم بالمآكل والمشارب والمناكح والملابس وما أشبه ذلك من السارات الحسّية بذلك مسروراً بهجاً، يرى كلَّ ما خالف ذلك نقصاً ومصائب. ونرى الكَلِفَ بالقِمار - مع استلاب مالِه وضياع (أياه؟) باطلاً وتتالي أحزانه بمقموراته - بأمره بجاً مسروراً، وكل ما خالف ذلك عنده وحجبه عنه مصائبٌ ونقصٌ به. ونرى الشاطر - بشرارة سنَّته وخشونة استعماله، وما فيها من (العاطب؟) الفاحشة الموحشة: مِنْ ضرب السياط، وقطع الأعضاء، وكثرة الجراحات المؤلمة، ودوام الحرب المتصلة، متى تتناهى به مطالبه إلى الصَّلب - يعتد هذه المعاطب فخراً وشرفاً، ونراه بذلك كله بهجاً ويرَى ما خالف ذلك من العافية نقصاً ومصائب. – ونجد المخنّث - بالعوراء الفاضحة والأخلاق الدنية التي يستوحش منها كل أحد وينافيها كل فكر ، وتشويه الصورة: مِن نتف اللحية والتشبه بصور النساء - بهجاً جذلاً مفتخراً، يرى أنه قد فاق بذلك كل أحد، وأنهم قد حُرِموا - بما فاتهم من ذلك - أجزل حظّ، وخُصّ دونهم بأخصّ سارّةٍ وأجل نعمة؛ ويرى ما خالف ذلك نقصاً ومصائب.

فيتبيّن إذن أن المكروه والمحبوب الحسّي ليس شيئاً في الطبع لازماً، بل بالعادات وكثرة الاستعمال: فينبغي إذن - إذا كان الطريق إلى استعمال السرور بما شاهدنا والسلوة عن فائتنا سهلة واضحة بالعادة - أن نستعمل حَمْل أنفسنا على ذلك وتربيةً لها حتى يصير ذلك لنا عادة لازمة وخُلُقاً مستفاداً، أعني نتخلق خلقاً إذا لم يكن ذلك لنا بالطبع بالفعل، أعني من بدء عادتنا، ليطيب لنا العيشُ أيامَ مدتنا.

وإذا كان الحزن إنما من آلام النفس، وكان واجباً عندنا أن ندفع الآلام الجسدانية عنّا بالأدوية البشعة والكيّ والقطع والضمد والأزْم وما أشبه ذلك من الأشياء المشفية للأبدان، وأن نحتمل في ذلك الكُلفة العظيمة من الأموال لمن شَفى من هذه العلل؛ وكان فضل مصلحة النفس وإشفائها من آلامها على مصلحة البدن وإشفائه من آلامه كفضل النفس على البدن – إذ النفس سائسٌ والبدن مسوس، والنفس باقية والبدن داثر، ومصلحة الباقي والعناية بتقويمه وتعديله أصلح وأفضل من إصلاح وتعديل الداثر لا محالة الفاسد بالطبع - فإصلاح النفس وإشفاؤها من أسقامها أوجبُ شديداً علينا من إصلاح أجسامنا: فإنّا بأنفسنا نحنُ ما نحنُ، لا بأجسامنا، لأن الجسم مشترك لكل ذي جسم°؛ فأمّا حيوانية كل واحد من الحيّة فبنفسه؛ وأنفسنا ذاتية لنا، ومصلحة ذاتنا أوجب علينا من مصلحة الأشياء الغريبة منّا. وأجسامنا آلاتٌ لأنفسنا تظهر بها أفعالها: فإصلاح ذواتنا أولى بنا شديداً من إصلاح آلاتنا.

فينبغي أن نحتمل في إصلاح أنفسنا من بشاعة العلاج وصعوبته واحتمال المؤن فيه أضعاف ما نحتمل من ذلك في إصلاح أجسامنا، مع أن إصلاح أنفسنا أقلّ بشاعة وأخفّ مؤونة كثيراً ممّا يلحق في ذلك من إصلاح الأجسام، لأن إصلاح أنفسنا إنما هو بقوّة العزم على المُصْلح لنا، لا بدواءِ مشروب، ولا بألم حديدٍ ولا نارٍ، ولا بإنفاق مالٍ؛ بل بالتزام النفس العادةَ المحمودة في الأمر الأصغر الذي لزومه سهلٌ علينا؛ ثم نرتفع من ذلك إلى لزوم ما هو أكبر منه. فإذا اعتادت ذلك يُرْقى بها إلى ما هو أكبر من ذلك في دَرَجٍ متصلة حتى تلزمها العادة في لزوم الأمر الأعظم كلزوم العادة لها في لزوم الأمر الأصغر، فإن العادة تَسْهُل بما وصفنا، ويسهلُ بذلك الصبرُ على الفائتات والسلوةُ عن المفقودات.

1 - ومن أدوية ذلك السهلة: أن نفكّر في الحزن ونقسّمه إلى أقسامه فنقول: إن الحزن لا يخلو أن يكون ما عَرَض منه أمرٌ هو فِعْلُنا، أو فِعْلُ غيرنا. فإن كان فعلنا، فينبغي أن لا نفعل ما يحزننا، فإنّا إن فعلنا ما يحزننا فالإمساك عن فعله إلينا، إذ فعلنا والإمساك عنه إلينا، فنحن إذا كنّا نفعل: إما أن نكون نفعل ما نريد، أو ما لا نريد. فإن كنّا نفعل ما نرید - ولسنا نريد أن نحزن - فنحن نريد ما لا نريد. وهذه من خاصّة العادم عقلَه؛ فنحن إذن عُدماء لعقولنا. - وإن كان المحزن لنا فعل غيرنا فلا يخلو من أن يكون دَفعُهُ إلينا، أو لا يكون ذلك إلينا. فإن كان دفعه إلينا، فينبغي أن ندفعه ولا نحزن؛ وإن كان دفعه ليس إلينا فلا ينبغي أن نحزن قبل وقوع المحزن، فلعل الذي إليه دفعه أن يدفعه قبل وقوعه بنا؛ ولعلَ الذي إليه الأحزان ألاّ يُحْزِن ولا يفعل الذي خفنا. فإن حَزِنّا قبل وقوع المحزن كنا قد أكسبنا أنفسنا حزناً لعلّه غير واقع بإمساك المحزن عن الأحزان أو لدفع الذي إليه دفعه عنّا، فكنّا أكسبنا أنفسنا حزناً لم يُكْسِبناه غيرُنا. ومَن أحزن نفسه فقد أضرّ بها ، ومَن أضرّ بنفسه فجاهل فظ جائر في غاية الجور، إذ أدخل على نفسه ضرراً ، لأنه لو فعل ذلك بغيره كان جاهلاً جائراً ، وفعله ذلك بنفسه أعظم. فينبغي أن لا نرضى بأن نكون أجهل الجاهلين وأفظ الأفظّين وأجور الجائرين: فإنه لو كان الحزن شيئاً يجب، كان ما يعرض منه عند وقوع المحزن كافياً قبل أن نتقدم فيه قبل وقوع المحزن، وكان استعماله قبل وقوع المحزن نوعاً من الشرّ. وأيضاً فإن استعماله في وقت وقوع المحزن واجبٌ أن لا يستعمل قبل أن يُدْفَع، إذ فيه من الإضرار مثل ما قدمنا، إذ دفعه واجبٌ عن وقوعه لا محالة. فإن كل محزنٍ فدافعةٌ عنه السلوة واضطراراً في مدّة ما؛ إن لم يدثر الحزينُ مع الحزن أو بالقرب من مبتدإ الحزن. فإن كان في الطبع دثور الحزن - إذ كل ما تحت الكون فزائل غير دائم في جزئيات الأشياء - فينبغي أن نجتهد في الحيلة للتلطف لتقصير مدة الحزن. فإنّا إن قصّرنا في ذلك كنا مقصّرين في مهمة دفع البلاء الذي يمكننا دفعه - وهذه أمارة الجاهل الشقيّ الفظ الجائر، لأن الجائر مَن دام عليه البلاء. وأشقى الأشقياء من لم يجتهد في دفع البلاء عن نفسه بما أمكنه دفعه. وينبغي أن لا نرضى بأن نكون أشقياء ونحن نقدر على أن نكون سعداء.

2 - ومن لطيف الحيلة في ذلك تذكر محزناتنا التي سلونا عنها قديماً ومحزنات غيرنا الّتي شاهدنا حزنهم بها وسلوتهم عنها؛ وتمثيلنا في حال المحزن محزناً بالسالفات من محزناتنا والمحزنات التي شاهدنا وما آلت إليه من السلوة، فإن لنا بذلك قوةً عظيمة على السلوّ، كالذي عزّى به الاسكندر بن فيلفوس المقدوني الملكُ والدتَه عند حضور موته ؛ فإنه كتب إليها فيما كتب به: (فكِّري، يا أم الاسكندر، في أن كل ما تحت الكون والفساد داثر، وأن ابنك لم يكن يرضى لنفسه بأخلاق الصغار من الملوك، فلا تَرْضي لنفسك عند موته بأخلاق الصغار من أمهات الملوك. ومُري ببناء مدينة عظيمة حين يرد عليك خبر الاسكندر، وابعثي في أن يُحْشَر إليك الناس في جميع بلاد لوبية وأرفى وآسية ليوم معلوم؛ فيكون في ذلك اليوم جمعُهم في تلك المدينة للطعام والشَّروب والسرور. ومُرِي أن ينادى فيهم أن لا يوافيك كل مَنْ أصابته مصيبةٌ، ليكون ذلك مأتم الاسكندر بسرور على خلاف مأتم الناس بالحزن). فلما أمَرَتْ بذلك لم يوافِها للوقت الذي حَدّت إنسان. فقالت: ما بال الناس تخلفوا عنّا مع ما قدمنا؟ فقيل لها: إنّكِ أمَرْتِ ألاَ يوافيك أحدٌ أصابته مصيبة، وكل الناس قد أصابتهم مصائب، فلم يوافِك أحد. فقالت: يا اسكندر! ما أشبه أواخرك بأوائلك! لقد أحببت أن تعزّيني عن المصيبة بك التعزية الكاملة، إذ لستُ في المصائب ببدْع ولا مخصوصة بها على واحد من البشر.

3 - وأن نتذكر أيضاً أن كل شيء فاتنا أو فقدناه فقد فات خلقاً كثيراً وفَقَده خلقٌ كثير، كلُّهم قنع بفوته وفقدانه وهو ظاهر البهج بعيدٌ من الحزن. فإن مَن مات ولده أو عَدم الولد فإنه موجود كثير من الخلق مشابه له في ذلك: منهم مَن عَدم الولدَ وهو فَرحٌ، ومنهم مَن مات ولده وقد سلا وهو فرحٌ. كذلك يعرض في المال وفي جميع قُنية العالم الحسّية وجميع مرادات أنفُس البشر. وإذن إنما الحزن وضعٌ، لا طبع. لأنّا إذا وجدنا إنساناً سُلِب مُلكاً فحزن - وكثيرٌ ليس لهم ذلك المال وليس هم بحُزّان - فإذن إنما وضع ذلك الحزن لنفسه وضعاً على ما سُلِبه أو فاته. فينبغي أن لا نضع لأنفسنا شيئاً رديئاً، إذ الحُـزْن من الرداءة على ما قدّمنا. فإنّ مَن وضع لنفسه شيئاً رديئاً هو عديمُ عقلٍ. ولا ينبغي أن نكون عدماء عقولنا لأنها نهاية الخساسة، لأن العادِمَ عقله لا فَرْقَ بينه وبين باقي الحيوان غير الناطق، بل تلك أفضلُ منه، لأن كل واحد منها له خاصّة لازمة زمنية كالناموس في مُبتَدإه وتألَفه في جميع حاله. فأَما العادمُ عقله فلا نظم ولا استواء في أفعاله، بل بتمثيل الاختلاط وتخييل العقل. فينبغي لنا أن نستحيي من أن نكون في هذه الحالة الخسيسة، المرحوم مَن كانت فيه عند العقلاء، المضحوك به عند السفهاء.

4 - وينبغي لنا أيضاً أن نتذكر؛ أنّا إن أردنا أن لا نصاب بمصيبة فإنما أردنا أن لا نكون البتة، لأن المصائب إنما تكون بفساد الفاسدات؛ فإن لم يكن فسادٌ لم يكن كائنٌ. فإذن إن أردنا أن لا تكون مصائب، فقد أردنا أن لا يكون الكون والفساد في الطبع. وأيضاً فإن أردنا أن لا يكون ما في الطبع فقد أردنا الممتنع؛ ومَن أراد الممتنع حُرِم مراده؛ ومَن حُرِم مراده فشقيٌّ. فينبغي أن نستحيي من هذا الخلق ونأنف من هذه المرتبة، أعني من الجهل والشقاء؛ فإن أحدهما مكسِبٌ خساسةً، أعني الجهل؛ والثاني مُكْسِبٌ ذلةًّ وشماتةً، أعني الشقاء.

5 - وينبغي لنا أن يكون منّا على بال أن جميع الأشياء التي تصل إليها الأيدي مشتركةٌ لجميع الناس، وإنما هي مجاورة لنا لسنا أحقَّ بها من غيرنا، وأن الغالب عليها هي له ما غلب عليها. وأما الأشياء التي هي لنا وغيرُ مشاركة لغيرنا فهي التي لا تصل إليها الأيدي ولا يملكها علينا غيرنا، والتي هي قنية أنفسنا من الخيرات النفسانية. فهذه هي التي لنا العذرُ في الحزن عليها إن فقدناها من أنفسنا. فأمّا ما ليس لنا إلاّ بالتغلّب فليس يحسن بنا الحزنُ عليه، لأنه مَن حزن على أن لا يملك الناسُ ما لهم أن يملكوه. بالطبع - حسودٌ. فينبغي لنا أن لا نقرف أنفسنا بالحسد، إذ هو أكمل الشرارات، لأن مَن أحبّ أن ينال الأعداء الشر محبّ للشرور؛ ومَن أحبّ الشرَّ فهو شرير. وأشرُّ من هذا مَن أحبّ أن ينال الأصدقاءَ الشرُّ. ومَن أحبّ أن يُحْرَم الصديق ما يجب أن تقتنيه - وقَنيُه عنده خير - فقد أحبّ للصديق الحالَ التي هي عنده شرٌّ؛ فقد أحبّ للأصدقاء الشرّ. ومَن أحبّ ألاّ يتناول قنيته أحدٌ غيره، مما لغيره أن يتناوله منها، فقد أحبّ أن لا يتناول قنيته لا الأعداء ولا الأصدقاء. فأما من حزن على أن يتناول قنيته غيره فحسود. فينبغي أن لا نرضى بهذه الخساسة.

6 - وينبغي أيضاً أن يكون منّا على بالٍ أن كلّ ما لنا من القنية المشتركة فهي معنا عاريةٌ لمعير هو مُبْدع القنية - جل ثناؤه، يمكن أن يتناول عاريّته متى شاء ويدفعها إلى مَن شاء. فإنّه لو لم يدفعها إلى من شاء لم تكن وصلت إلينا البتة. وقد نظن أنه إذا تناولها منّا بأيدي الأعداء أنه يسيء إلينا. فينبغي أن يكون منا على بال أن المعير له أن يتناول ما أعار ويرتجعه على يد من أحبّ: فإنه ليس علينا في ذلك عارٌ ولا سُبّة، بل العار والسُّبة علينا أن نحزن إذا ارتجعت منا العواري: فإنها مِن أخلاق ذوي الشّرة والضنّ وسوء التمييز. ومَن إذا أُعير شيئاً ظن أنه ملكه. فهذا خارجٌ من باب الشكر، لأن أقل ما يجب من الشكر على المُعار ردّ العاريّة إذا أراد ارتجاعها المعير مع طيبة نفس وبَهَجٍ بالإسراع إلى تلبية المعير في ردها. فإذن مَن حزن على ردّ ما أعير - فقليل الشكر. فينبغي أن نستحيي لأنفسنا من هذا الخلق الخارج عن العدل؛ وينبغي أن نستحيي مِن وضع المعاذير الصبيانية السخيفة لأنفسنا في الحزن على ارتجاع المعير، فلا نقول: إنما نحزن لأن المعير ارتجع عاريّته على أيدي أعادينا، لأنه ليس واجباً أن يكون رسول المعير في ارتجاع عاريّته كما تهوى في الصورة والخُلُق والمحبّة لنا والزمان. وإذ ذلك غيرُ واجبٍ فواجبٌ أن لا نحزن لعلة مخالفة الرسول، بهيئته، لنا، فإن هذه من أخلاق الصبيان وجميع من لا تمييز له. وينبغي أن يكون منّا على بالٍ أنه إذْ لم يرتجع المعير منّا أنفسَ ما أعارنا، بل خسائس ما أعارنا، فقد أحسن إلينا كلَّ الإحسان؛ ونبتهج أشدّ بَهَجٍ ببقاء زينة عواريّه الشريفة علينا، ولا نأسى على فقد ما ارتجع منّا. إذ كان واجباً أن لو ارتجع كلّ ما أعار، أن لا نحزن بل نبتهج، إذ كان بهجنا من ذلك مِنْ شكره وفي موافقته على محبته، وأنه قد ترك الأفضل الأكثر، أعني ما لا تصير إليه يدٌ ولا يشركنا فيه أحد؛ - وأن نرجع إلى أنفسنا، وإن كنا محبّين لبقاء ما ارتجع منا علينا، فنقول: إن كان ارتجع الأقل الأخسّ، فقد أبقى الأكثر الأفضل ما كانت أنفسنا باقية.

7 - وينبغي أن يكون منّا على بال أنه إن كان واجباً أن نحزن على المفقودات والفائتات، فواجبٌ أن نحزن أبداً، وواجبٌ أن لا نحزن البتة: فهذا تناقضٌ فاحش. لأنه إن كانت علة الحزن فقْد المقتنيات الخارجة عنّا وفوتها، وكان الحزن مكروهاً ألا ينالنا ، وكان علته ما ذكرنا – فإنا إذا لم يكن لنا قنية خارجة عنّا ولم نطلبها لم يعرض لنا حزن ، لأنه لا يعرض لنا فَقْدُها ولا فوتُها؛ فيجب أن لا نقتني لئلاّ نحزن البتة. فإن كان يجب ألاّ نقتني، وكان مع عَدمِنا القنية حزنٌ - فإذن الحزن واجب أبداً إذا لم نقتنِ فإذن الحزن واجبٌ أبداً: إن اقتنينا، أو لم نقتن. فإذن قد وجب إن كان يجب أن نحزن أبداً أن لا نحزن البتة، وإن نحن اقتنينا أو لم نقتن أن لا نحزن البتة: فهو كله تناقض وخُلْف.

فإذن ليس بواجب أن نحزن. وما ليس بواجبٍ، فينبغي للعاقل أن لا يفكّر فيه ولا يستعمله، وسيّما هو ضارٌّ مؤلم. بل يجب أن نقلل القنية، إذ كان عَدمُها وفوتها - إذ كانت من الخارجة عنّا - سبباً للأحزان. فإن من ذلك وحده يكون الحزن. فإنه حكي عن سقراط الأثيني أنه قيل له: ما بالك لا تحزن؟ فقال: لأني لا أقتني ما إذا فقدتُه حزنتُ عليه. وقد حكي أيضاً عن نيرن ملك رومية أنه أهدى إليه مُهْدٍ قُبّة بَلُّور مثمنة عجيبة الصنعة. فعرضت عليه وعنده جماعة من الناس، فيهم رجل فيلسوف كان على عهده. فعظم بهجه بها وكثر وصف مَن حضره لمحاسنها. فالتفت إلى الفيلسوف فقال: ما تقول في هذه القبّة؟ فقال: أقول إنها قد أظهرت منك فقراً، ودلّت على مصيبة عظيمة أنت تعرفها. فقال له: وكيف ذلك؟ قال: لأنها إن عُدمَتْ فمأيوسٌ لك أن تملك مثلَها، فأبدَتْ فقرك عن مِثْلها. وإن عرَضَتْ لها آفةٌ أعدَمَتْكاها، أدخلت عليك مصيبة عظيمة - هذا القول أو ما هذا القول موافق له في المعنى.

فذكِر أن الأمر في ذلك كان كما قال الفيلسوف؛ وأن الملك، فيما ذكِر، خرج متنزهاً في أيام الربيع إلى بعض الجزائر القريبة منه. وأمر بحمل القبة فيما حُمِل له، لتُبْنى في متنزهه. فغرق المركب الذي كانت فيه، ولم يعثر عليها. فدخل على الملك من ذلك مصيبةٌ عظيمةٌ تبيّنها جميعُ من بحضرته. وجهد أن يصيب لها شَبَهاً؛ فلم يُصبه لها، حتى مات.

فلذلك ما نقول: من أحبّ أن تقلّ مصائبه، فليقلَّ قنيته من الخارجات عنه.

وقد حكي عن سقراط الحكيم أنه كان في بعض الأيام يأوي إلى حُبّ مكسور في العسكر الذي كانوا فيه. فقال يوماً من الأيام، وبحضرته بعض الفتَّانين في كلام تكلم به: (ينبغي أن لا نقتني لئلاّ نحزن). فقال له الفتَّان: (فإن انكسر الحبّ)؟ فقال له سقراط: (إن انكسر الحُبّ لم ينكسر المكان). – وبحقٍّ ما قال الفيلسوف، لأن مِن كل مفقود خلفاً.

ولذلك ما نقول إن خالق الكل - جلّ ثناؤه، لم يخلق شيئاً مصروم الطبع، بل مكفياً: فإنا نرى الحوت العظيم والفيل العجيب الخَـلْق المحتاج كل واحدٍ منها من الغذاء المقيم والمأوى والمَكَنّ وجميع الحاجات اللوازم لهما. وما دونهما من الخلق مكفي مهيأ له قدرُ الحاجة في قوامه وطيب عيشه، لم ينتقص شيئاً منه مُتأمِّلٌ" نقصه في ذلك. وكلّها طيب العيش، رخيَّ البال، ما لم يمسّه محسوسٌ مؤلم - غير الإنسان: فإنه لما زيد الفضيلة التي مُلِّك بها على جميع الحيوان. وصُيِّر بها له؛ سائساً ومدبراً – جهِلَ تدبيرَ نفسه، وهذه أمارة عدم العقل. وينبغي أن نستحيي من أن نكون عدماء العقول. فإنه لما زيد التمييز النطقي، أراد أن يقتني أشياء كثيرة لا حاجة له إليها في إقامة ذاته وصلاح عيشه: مِن تلوين الأطعمة والمناظر من الحيوانات، وغير الحيوانات والتنقيش لمشاهداته وتزويقها. وكذلك مسموعاته ومشموماته الشاغلات له عن منافله الحقية الحارجة له عن راحته الدنيائية: فإن هذه جميعاً كاسبات الهم في طلبها والألم لفقدها والحسرات على فوتها. فإن مع كل مفقودٍ من المرادات مصيبة، ومع كل فائتٍ حسرة وأسف، ومع ترقب كل معدومٍ حزنٌ وقلق، وبعد كل أمن خوف لأن الخائف مشغول مُزْعـجُ المعقول.

ولذلك ما نقول: من شغلته نفسه بتزييد الخارجات عنه، عَدم حياته الدائمة. وتكدَّرَ عليه عيشُه في حياته الزائلة؛ وكثرت أسقامه ، ولم تتصرَّم آلامه.

فإن شَبَه الناس في مجازهم في هذا العالم الداثر المتصرمة أحواله، المنقضية لذاته، الكاذبة مخايله، المكذَّبة أواخرُه أوائلَه، المخذولُ مَن وثق به، والمرحوم من اغترّ به - كقوم ركبوا مركباً إلى غابةٍ قصدوها هي محلّهم فانتهى بهم قَـيِّـمُ المركب إلى مرفإ قصدوه لبعض الحاجة. فأرسى مركبه فخرج مَن كان في المركب للحاجة اللازمة. فبعضٌ أبرم ما خرج له، ثم عاد إلى مركبه غير مُعرِّجٍ على شيء، فصار إلى أفسح المواضع من المركب وأوطأ مُرْتفَق، غير ممنوعٍ من ذلك ولا مُنافَسٍ فيه، ولا مزاحم عليه. - وبعضٌ وقف ينظر إلى مروج مزهرة بأنواع الزَّهر المختلف نُوّاره، ويتنسم أرايج لذيذة مختلفة، تتضوع من تلك المروج المزهرة، ومن غياض الأشجار الأنيقة المثمرة يشهد أصنافاً عجيبة الثمرات. ويسمع من أصوات نواطق الطير المونقة الأصوات، ويلحظ في تربة تلك الأرض من الأحجار المختلفة الأصباغ بالألوان المشرقة المونقة المناظر والأصداف المؤنسة الغريبة الصور، العجيبة الحبر، - غير جائز موقفه الذي بلغ فيه حاجته. فانصرف إلى موضعه من المركب وقد سبق إلى أفضل مواضع السّعة ولين المرتفق. – وبعض أكبّ على لقط تلك الأصداف والأحجار وما قرب منها من الأثمار والأزهار، غير متعد الموضع الذي بلغ فيه حاجته، فرجع مُثْقلاً بحمله، خادماً لحجارة الأرض وأصدافها وأزهارها الذابلة المستحية عمّا قليل عمّا خدعه منها، والثمار العائدة عما قليل رجيعاً مكروه المجاورة والقُرْب – فأصاب غيرَه قد سبقه إلى المحالّ المتسعة في مركبه، فحلَ في المحلّ الضيّق الوَعر الحـَزْن، وصار ما استوقر من الأحجار والأصداف والأزهار والثمار عليه ثقلاً مع ضيق محلّه وحُزُونته عليه مُضيّقاً مانعاً من راحته التي ينالها غيره ممن سبقه إلى السَّعّة مّن لم يكن له مجاور من الحجارة التي تضيّق عليه محله، وتُكْسِبه الخدمة لحراسته وحفظه ودفع الآفات عنه، وانقسم له أكثر راحته إلى القلق على عدم مجاورته، والشغل به، وكثرة المخاوف عليه، وشدّة تعلق النفس بمجاورته، وورَّثه المَـكْسبُ أسفاً وحزناً وحسرات كلما عدمه أو عَدم شيئاً منه –. وبعضهم قد تولج تلك المروج والغياض، ناسياً لمركبه والموضع الذي كان قد قصد من وطنه، متشاغلاً – بما يتطعم به من تلك الثمار – عن ذكر وطنه، وتضيُّق ما ينفلت إليه من المركب. وهو في ذلك، غير عادم روعاتٍ متتالية ونكبات متصلة وآلام مُشْغِلة: مِن سَبْع نافر، وحيّة متسربة، وصوت هائل. وغصن متعلق يكدح في وجهه وسائر بدنه كدحاً مؤلماً ، أو شوكة منتظمةٍ له قدماً يطول علاجه أو وحلٍ حابس له ملطخ مفسد لملابسه الساترة لعوراته أو غصن خارق هاتكٍ عنه ثوبه، أو أشبٍ متعلق به مانع له من الذهاب قُدُماً.

فلما دعاهم صاحب المركب لقلع مركبه، رجع بعضهم مثقلاً بما اجتنى والتقط، فدخلَتْ به الآفة التي وصفنا، فلم يوافِ المركب وهو يجد فيه محلاً إلا محلاً ضيقاً ومكدراً متعباً معدماً للراحة ومكسباً أسقاماً مهلكة. – وبعضهم لم يتناه إليه صوتُ قيـّم المركب لشدّة تولُّجه في الغياض وتخبُّطه في المروج والتياثها. فرفع المركب وهم بالمحل الذي هم به منقطعون عن أوطانهم بعُرْض مهالكه الموحشة القاتلة ومعاطب فظيعة: فمنهم مَن افترسته السباع، ومنهم مَن تورّط في اللهوات، ومنهم من توحّل في الموحلات، ومنهم مَن نهشته الحيات فصاروا خُبَثاء جيفاً موحشات، متفرقة أوصالهم، مستفظعة أحوالهم، رحمةً لمن جهلهم، وعبرةً لمن عرفهم؛ منقطعين عن أوطانهم التي قصدوا.

فأما من صار إلى المركب بثقل ما استوقر من ملقوطاته الخادعة لعقله، المسترقة لحريته، المعدمة راحته، المضيّقة عليه محله، المثقلة عليه مُرْتَـفَقه – فلم يلبث أن ذَبُـلـَتْ تلك الأزهار، وكمدت ألوانُ تلك الأحجار: إذ عدمت الرطوبات النضرة التي كانت لها ولألوانها، واستحالت تلك الأصداف في تأسُّنها وشدة نتن أراييحها؛ وصارت عليه ثقلاً، ومجاوراً مؤذياً؛ فلم يكن له فيها حيلة إلاّ إلقاءها في البحر. فصار ما منعه سَعْيَه ونَـغّص عليه عيشه، وأحزن عليه محلّه، واسترق حريته ثقلاً، وصارت يده منه صِفراً. فلم ينتهوا إلى المحلّ حتى كثرت أسقامهم لما تداخلهم من نتن تلك الأراييح وفناء القوّة بالتعب الذي نالهم: مِن ضيق المحل وخشونته وشدّة الخدمة لما حصل لهم منه البوار والإضرار. – وبعض تَلِف قبل بلوغ المحل – وبعض بلغه سقيماً ضعيفاً – فأما مَن تخلّف ناظراً متنسماً – وكان شغله هذا القدر – فإنه عَدِم سعة المحل ولينه فقط. – وأما مَن رجع إلى المركب غير متشاغل بشيء ممّا وقعت عليه حواسّه – إلا ريثما شاهدت عينه عند خروجه إلى الحاجة – فسبق إلى المحل الأوسع الألين، وبلغ وطنه مستريحاً.

وهذا المثل المشبِّه لمجازنا في هذا العالم إلى العالم الحق – مثالُ أحوال الجائزين في هذا العالم. فما أقبح بنا أن نكون من مخدوعي حَصى الأرض، وأصداف الماء، وأزهار الشجر، وهشيم النبت العائدة عما قليلٍ ثقلاً نرى أنه لا منجى لنا من مكروهه إلا مواراته عنّا في بعض الأرض ولجج البحار وهبَّ النار نَـسُدّ أنفنا من نتنه. ونغض أبصارنا دونه لاستقباحه، ونطلب البُـعْد عنه للاستيحاش من قربه ومنافرة الأنفس لمشاهدته، فإن هذه محزناتنا التي تحلّ عندنا هذا المحلّ. فإنْ حَزِنّـا فينبغي لنا أن نحزن لانقطاعنا عن محلّنا الحق، وأن نُصَيَّـر بـعُـرْض لا يبلغنا المركبُ إلى أوطاننا الحق التي لا مصائب فيها لأنه ليس ثم معدومات ولا حسرات فيها، لأنه ليس هناك فائتات، ولأنه ليس هنالك ما ليس بحق فليس يراد هنالك ما لا ينبغي أن يراد. فأما الذي ينبغي أن يُراد فهو هنالك مع المريد غيرَ مفارَقٍ ولا مدخول بالآفات.

فإنما ينبغي أن نحزن على أن نعدم أن لا نحزن، فإن هذه خاصّة للعقل. فأمّا الحزن على أن نعدم أن نحزن، فهذه خاصة للجهل.

8 - وينبغي أن يكون منّا على بالٍ أنه لا ينبغي أن نكره الذي ليس برديء، وإنما ينبغي أن نكره الرديء. فإن ثبت هذا في ذكرنا عظم غناؤنا به في دفع المحزنات الحسية، فإنه لا يُظن أن شيئاً أردأ من الموت. والموت ليس برديء. إنما خوفُ الموت رديء. فأما الموت فإنما هو تمام طباعنا: فإن لم يكن موتٌ لم يكن إنسانٌ بتةً، لأن حدَّ الإنسان هو: الحيّ الناطق المائت. والحدّ مبنيّ على الطبع، أعني أن طبع الإنسان أنه حيّ ناطق مائت. فإن لم يكن موتٌ، لم يكن إنسان، لأنه إن لم يكن ميتاً فليس بإنسان. فإذن ليس برديء أن نكون ما نحن؛ إنما الرديء أن لا نكون ما نحن. فإذن الرديء أن لا يكون موت، لأنه إن لم يكن، لم يكن إنسان. فإذن ليس الموت رديئاً.

فإن كان الذي هو مظنونٌ عند الكل أردأ الأشياء ليس برديء، فما هو دونه من المعدومات المفقودات الحِسّيّة ليس برديء. فإذن ينبغي أن تكون العلّة في الظن أن الموت رديء – إذ قد تبيّن أنه ليس برديء – في الجهل بحال الحياة والموت.

مثلاً أقول: إن الغذاء لو كان ذا عقل، وهو في الكبد، إلاّ أنه لم يشاهد غيرها. ثم قُصِد لنقله عنها، لأحزنه ذلك، وإن كان إنما ينتقل منها إلى بِـنْية صورة ونحو شيء أقرب إلى كون الكمال. فإذا صار إلى الأنثيين واستحال زرعاً، فإنه لو قُصِد لنقله إلى الرحم التي هي أوسع من محلّه في الأنثيين، لأحزنه ذلك حزناً شديداً. ولو قيل له: بعد أن تصيَّر إلى الرحم ترَدّ إلى الأنثيين، لأحزنه ذلك أشدً من حزنه الأول أضعافاً لتذكره ضيق الأنثيين وبُعْده عن كمال الصورة الإنسانية إذا أضيفت حاله فيها إلى حاله في الرحم. – وكذلك لو قُصِد إزعاجه عن الرحم إلى فسيح هذا العالم وسعته، لأحزنه ذلك حزناً شديداً. فإذا خرج في هذا الفسيح وجماله، ثم قيل له: تعاد إلى الرحم، وكان في ملكه جميع الأرض وما فيها لدفعه وأسْلَمه على أن لا يعاد إلى الرحم.

وكذلك وهو في هذا المحل الذي هو الدنيا شديد الجزع على فراقه. فإذا صار إلى المحلّ العقلي العادم للآلام الحِسّية والقنيات الحسية التي هي تتابع كل الآلام الحسيّة والنفسية، وفيه الخيرات التي لا تنال قنيتها الأيدي والآفات فلا يخرج مالكها عن ملكه شيء البتة – لو قيل له إنك تُرَدّ إلى هذا العالم الذي كنت فيه، لكان جزعه من ذلك أضعاف جزع الذي قيل له إنك تردّ من هذا الفسيح الدنيائي في حلوك الرحم.

فقد تبيّن إذن كيف غلطت الأنفس – الضعيفة التمييز المائلة إلى الحس – في الموت، وظنّته مكروهاً، وهو ليس بمكروه. فإذن عَدَمْ جميع الأشياء التي دون الحياة الدنيائية من القنيات الحسية – ليس برديء، بل الحزن عليها رديء، لأنها آلامّ نُدخِلها على أنفسنا، ليست باضطرارية فنحن إذن، إذا كنا كذلك، رديئو الطبع، رديئو العيش. فإن من رضي بذلك رديء الاختيار، عادمٌ عقله، لأن العقل يضع الأشياء مواضعها. فأما عَدَمُ العقل فيضع الأشياء غير مواضعها، ويظنها بخلاف ما هي.

9 - وينبغي أن يكون منّا على بالٍ عند كل فائتة ومعدوم ما بقي لنا من قنياتنا الحِسّية والعقلية، وأن نتشاغل بذكرها وتعديدها عن السالفة. فإن في تذكّر الباقي سلوةً من المصائب.

10 - وأيضاً قد يكون منّا على بالٍ عند كل محزنة من فائتٍ أو تالفٍ من الحسّية أن الذي بقي علينا من ترقب المصائب بفقد قنياتنا الحِسّيّة وأنه قد سقط عنّا – يُـقِلّ بعض المحزنات. فإن ذلك إن ثبت في ذكرنا نَـقَل المحزنات عن طبع المصائب إلى طبع النِّعـَم، وصار كل ما شملتنا مصيبة عندنا نعمة، لأنه إن كانت المصائب تقلل مصائبنا فهي نِعَم، لأن المصيبة إن كانت محزنة في ظنّنا فإنّ كل ما قَـلّل المُـحْزن نعمةٌ. فكل ما قَـلّل القنية الحسية التي كلما عَدمْنا منها شيئاً اكتسبنا عن أنفسنا مصيبة – نعمةٌ.

ولذلك ما نقول: مَن لم يَـقْتَنِ الخارجات عنه، مَلـَك مُسْتَرِقات الملوك، أعني الغضب والشهوة اللذين هما ينابيع الرذائل والآلام. فأعظم الأسقام إذن سقام النفس، إن سقام النفس أعظم من سقام البدن كما قلنا آنفاً. لأنه من لم يؤثر فيه الغضب والشهوة آثارهما المذمومة فليس لهما عليه سلطان. ومن آثر الغضب والشهوة تسلطتا عليه وملكتاه وتصرفتا به حيث شاءتا. فبحقّ أنه مَن لم يقتنِ الخارجات عنه، مَلَك مسترِقي الملوك وغلب أكبر الأعداء الحالة معه في حِصْنه التي لا يحترس من شرور أسلحتها بحَـمي الحديد، ولا يؤمن مع مساكنتها أفحش الآثام وجَلـَل البوار.

فمثِّل، أيها الأخ المحمود، هذه الوصايا مثالاً ثابتاً في نفسك، تَـنْجُ بها من آفات الحزن، وتبلغ بها إلى أفضل وطنٍ من دار القرار ومحل الأبرار. كَـمَّلَ اللهُ لك السعادة في دارَيْك؛ وجلّل الإحسان فيهما إليك؛ وجعلك من المقتدين المتنعمين بجنيِ ثمر العقل؛ وباعدك عن ذلّ خساسة الجهل. فإن هذا فيما سألت كاف، وإن كثرت فنون القول فيه؛ فإنه إذا بُـلغ الغرض المطلوب، فقد تنـُوولت النهاية من المراد، وإن كانت السّبُل إلى الغرض كثيرة، تكاد أن تكون بلا نهاية.

كفاك الله المُهِمَّ مِن أمر دنياك وآخرتك، كفايةً تبلغ بها أكملَ راحةٍ وأطيب عيشٍ.

تمت الرسالة، والحمد لله رب العالمين.