صفحة:في ظلال القرآَن (1953) - سيد قطب.pdf/19

تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
– ١٥ –

هذه اللمسات السريعة المبينة، الجميلة النسق، الموسيقية الإيقاع .. إنها صور: المتقين، والكافرين، والمنافقين.

فإذا انتهى من عرض هذه الصور الثلاث دعا الناس كافة إلى الصورة الأولى، وناداهم كافة أن يفيئوا إليها. وتحدى الذين لا يؤمنون، وأنذرهم عذاباً مفزعاً مرهوباً؛ وبشر المؤمنين وصور ما ينتظرهم من نعيم عظيم.

تلك مجمل الخطوط الرئيسية في هذا الدرس الأول من سورة البقرة. فلنحاول أن نتناول هذا الإجمال بشيء من التفصيل.

***

تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة: « ألف . لام . ميم » بوصفها مبتدأ، خبره: « ذلك الكتاب لاريب فيه » .. هذه الأحرف هي الكتاب؛ فمن نوع هذه الأحرف ومن جنسها يتألف ذلك الكتاب؛ ومن هذه الأصوات المألوفة يتكون. ولكنه مع هذا هو ذلك الكتاب المعجز الذي يتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فلا يستطيعون .. ذلك هو الإعجاز؛ وذلك مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس .. إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات. فإذا أخذ الإنسان هذه الذرات، فقصارى ما يصوغه منها لبنة أو آجرة، أو آنية أو اسطوانة، أو هيكل أو جهاز، كائناً في دقته ما يكون .. ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة. حياة نابضة خافقة، تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز، الذي لا يستطيعه بشر، ولم يعرف سر أحد .. وهكذا القرآن .. حروف وكلمات؛ يصوغ منها البشر كلاماً وأوزاناً؛ ويجعل منها الله قرآناً وفرقاناً، والفرق بين صنع البشر وصنع الله هذه الحروف والكلمات، هو الفرق ما بين الجسم الخامد والروح النابض. هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة.

ذلك الكتاب « هدى للمتقين » وهنا يأخذ في رسم الصورة الأولى: صورة المتقين:

« الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون » والتقوى شعور في الضمير، وحالة في الوجدان، تنبثق منها صفات وأعمال، وتتوحد معها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة؛ وتصل الإنسان بالله في سره وجهره؛ وتشف معها الروح، فتقل الحجب بينها وبين الناموس الكلي الذي يشمل عالمي الغيب والشهادة، ويربط بين المعلوم والمجهول.

ومتی شفت الروح، وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن، ولمست ذلك الكلي، الشامل للغائب والحاضر. فإن الإيمان بالغيب عندئذ هو الثمرة الطبيعية لإزاحة الحجب السائرة،