الفصل الأول

الحلم

ولما غمرتني لجج الرقاد؛ وجدت ذاتي أتخطر في برية واسعة، وكان يظهر لي عن بُعد غابة عظيمة ذات أشجار ضخمة عالية، بأغصان متكاثفة الأوراق ملتفَّة بعضها على بعض، بنوع أنه لا يمكن لأشعة الشمس أن تخترق قبابها الشاهقة إلى كبد السماء لكثرة تلبدها الشديد، وهي تفرش على الأرض بساطًا ثخينًا من ذلك الظل الذي لا يتقلص وبعد أن أجهدت المسير إلى أن تبطنت هذه الغابة، رأيت نفسي من ثَمَّ مُحاطًا بسكوت عميق يتخلَّله من فترة إلى أخرى هدير مبهم يشبه دوي غدير متدفق ممزوج ببعض زمرات من وحوش الغاب، أو تغريدات من طائر السماء؛ فأخذت أتتبع هذا الصوت الذي يظهر كأنه ينعي ألم الوحدة أو يبث شكوى الفراق، ولم أزل مهتديًا به إلى أصلِه وأنا أركض تارة وأتوقف أخرى إلى أن انتهى بي الجِدُّ إلى فسحة فسيحة واقعة في جوف تلك الغابة، ومحاطة بسياج من أعظم الأشجار، وهناك رفعت نظري فرأيت السماء حينئذٍ واقعة على تلك الفسحة المحاطة بذلك الشجر الهائل وقوع قبة من زجاج على عمد وقناطر من زبرجد، وإذ أطلقت نظري قليلًا وجدت صخرة منفردة القيام مائلة على ناحية يتدفق من أسفلها غدير عظيم تدفقًا يسابق الطير سرعة، وهو يتشعب إلى جوارٍ تذهب متشتتة في أقطار ذلك الحرش تاركة عند انفصالها صياحًا وأنينًا موجعَين.

وبينما كنت شاخصًا في هذا المشهد البهيج، ومتأملًا بما تصنعه الطبيعة من الفلتات الغريبة؛ وإذا بعاصف من الريح قد نهض من سكناته، وهب هبوبًا كاد أن يقتلع جميع الغابة ويطير بها إلى أعالي الجبال الشامخة.

نفضت نواظري إذ ذاك لدى تلك الزوبعة الطائرة خوفًا من لذع غبارها الثائر، ولما فتحت أجفاني رأيت عرشَين منتصبَين أمامي على الفور كأنهما مصاغان من الذهب الإبريز، وهما مرصَّعان بأفخر الأحجار الكريمة، ووضعهما كان قريبًا من تلك الصخرة وذلك الغدير، وفي كلٍّ منهما لمحت شخصًا جالسًا وعليه من اللياقة والكمال ما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر.

أما الشخص الأول: فكان رجلًا مكتسيًا حلة أرجوانية تتلامع كأنوار الضحى، وفي يده اليمنى صولجان طويل، وقابض باليسرى على رقعة مطويَّة بغير نظام وهو معتقل سيفًا ذا شفرتين، وعلى رأسه تاج مكتوب على إكليله: «يعيش ملك الحرية.» وكانت عيناه تتناثر شررًا وهو عاقد الحاجبين مقطب الوجه؛ بحيث يتضح للناظر كونه منفعلًا بنوبة عظيمة من الغضب لأمور تدخل في سياسته، وكان شاخصًا في نقطة من الأفق يتصاعد منها دخان وقتام.

وأما الشخص الثاني: فكان امرأة، وعلى ما بان لي أنها زوجة الأول، وهذه المرأة قد كانت ذات وجه بيضيِّ الشكل، يلوح عليه حسن بلغ أعلى درجة من سلم الجمال، بأعين تتلامع بأنوار الحور على سواد الكحل، وأجفُن كأنها سكرى بخمرة الفتور ومأخوذة بسحر الغزل، وحواجب كأنها صوِّرت بقلم رافائيل أو نُقِشَتْ بإزميل ميخائيل قد جمعت بين الاقتران والزَّجَج، جمع جبينها بين السعة والبلج، ورأسها متوَّج بشعر مسترسل يترامى على أقدامها كطالب شفاعة بهيئة تكلُّ عن إحاطة تشخيصها الصناعة، وسواد يتموَّج بسنا الصقال اللامع كالليل الذي يخامره ضياء الفجر الساطع وهو مزنَّر بإكليل من الذهب والغار علامة للظفر والانتصار، وكأنَّ وجنتيها صفحتا لُجَيْنٍ قد اندفع إليهما نور الشفق، وكأن جيدها ومباسمها كشقيق أخذ ينفتح إذا ما الصبح انفلق، وكأنَّ جيدها صيغ من بلور لطيف يعلو على صدر يحمل كرتي مرمر نظيف. أما معاصمها فقد كانت لدوائر الأساور مراكز ترسل أقطارًا متساوية الاتصال، وكذلك أرساغ أقدامها كانت تملأ الخلخال. أما لباسها فقد كان جامعًا لكل الاحتشام؛ بحيث لم يكن سوى جلباب عريض حريري النسج يحيط بجميع قوامها من العنق إلى الأقدام، مزرورًا على صدرها، ومستدقًّا عند معاطفها المحاطة به كنطاق، ومن هناك يأخذ بالاتساع إلى أسفل بدون أن يبدي مشهد قبة عظيمة.

وبينما كنت أنظر إليها نظر المندهش الحيران؛ مأخوذًا بخمرة ذلك الجمال البديع، مضطربًا بوقوع تأثيراته على قلبي الذي كنت أضغطه بيدي خوفًا لئلا يطير شَعاعًا؛ إذ لاح لي سطر من أحرف نارية على إكليلها الذهبي يعلن: «هكذا تحيا ملكة الحكمة.»

وإذ شرعت أتأمل بعد تلاوة تلك الأحرف في أبهة هذه الملكة المتواضعة رأيت جبينها زاهرًا بأنوار النباهة والذكاء، وأعينها متَّقدة بأشعة التعقل والفطنة، وأصداغها منتفخة بالحزم والرشد وهي تبتسم بالبشاشة والوقار، ملتفتة إلى ذلك الملك الغضبان التفاتًا يرسم شكل القمر في الليلة الإحدى عشر، ومنحنية أمامه بأيدٍ منبسطة تستميل خاطره وتستعطف قلبه بكلام يقع في السمع وقوع الدُّرِّ في الصدف، فسمعتها تقول له هكذا: نعم يجب التغاضي عن هذا الملك الظالم الذي لا يبرح مجتهدًا في زرع زوان الخشونة والتوحش في حقل مملكتنا ذات التمدُّن والتهذيب، ولا ينبغي الإضراب عن استئصال كل أعوانه وأنصاره الذين يلبَسون جلود الحملان، وينشرون ما بين خراف رعايانا كلما غفلت عنهم أعين التيقُّظ والانتباه، واضعين على وجوههم براقع المكر والخديعة حتى إذا ما تمكنوا من استعطافهم بقوة الاحتيال يأخذون حينئذٍ بإفساد ضمائرهم السليمة، مُظهِرين لهم شرف التعبُّد لملكهم وما به من الفوائد والمنافع إلى أن يطرحوهم أخيرًا بأيدي ذئاب عبوديته، ولكن مع ذلك لا ينبغي معاملة ذلك الملك العنيد وأولئك الأعوان المرَدة إلا بما يقتضيه قانون شريعتنا العادلة؛ أي بالأناءة والحلم والتدقيق حذرًا لئلا تحسب من الأجانب ظُلَّامًا أو حمقى. – كيف يمكنني أن أعامل هؤلاء القوم بما تقتضيه نواميسنا حسبما تشورين، مع أنني قد أفرغت جهدًا طويلًا وتكلفت تعبًا ليس بيسير حتى أوقعتهم أخيرًا في قبضتي؟ أفما يخشى مَن هربهم بواسطة الحيل والخدع إلى حيث لا نعود نظفر بهم ثانية؟ فها أنا قد اعتمدت على شنق هذا الملك الخبيث وسجن جميع حفدته وعبيده مؤبدًا، تدير مملكة العبودية بكل سرعة، ولم يعد لي حاجة لما كانت تدفعه هذه الدولة من الخراج؛ لأن جميعه آتٍ من مال الظلم.

– إياك تصنع هكذا يا أيها الملك العظيم لئلا نفتح سبيل التمرُّد والعصيان إلى شعوب مملكتنا، وتعود الثورات الأهلية قائمة؛ لأنه معلوم لديك كم وكم من الناس يميلون طبعًا إلى تلك الدولة ما عدا الذين قد مالوا إليها بقوة الفساد والغش؟ فإذا — لا سمح الله — أخذت الحروب الأهلية بالانتشاب نعدم راحتنا ونقع في وجل عظيم، فتصير المصيبة الأخيرة شرًّا من الأولى؛ إذ نكون كالطبيب الذي يسرع إلى سفك الدم حالًا في الحُمَّيَات الخبيثة بدون ملاحظة المزاج والبنية؛ فيهلك المريض بشدة انحطاط القوى الحيوية.

فأشور عليكَ إذن يا أيها الملك المهاب، وأرجو أن تتنازل إلى قبول مشورتي بأن تستحضر لديك ذلك الملك العنيد مع أهمِّ أعوانه، وتضع عليهم شرائع وقوانين جديدة يسلكون بموجبها، وتشدِّد ذلك الوضع بالصرامة اللازمة بعد توبيخهم وتبكيتهم، ثم تجعل لكلٍّ منهم مُناظرًا من طرفك، وكذلك يجب أن تكون أكثر عساكرهم من جنس عساكرنا؛ كي لا يعود لهم مقدرة على مخالفة الناموس أو العصيان والتمرد، ولكي يعلموا أنك أنت هو الملك الأكبر مقدارًا والأشد عزيمة والأوسع مملكة وأجنادًا، وأنه بأي وقت تشاء يمكنك شن الغارة عليهم وأسرهم حسبما فعلت الآن.

– قد ظهر لي الآن من كلامكِ يا أيتها الملكة السعيدة أنه يجب إرجاع هؤلاء الظَّلَمة إلى مملكتهم بعد تلك الحروب التي أثرناها عليهم، وكل ذلك التعب؛ فأنا أتعجب منك! كيف مع كونك بهذا المقدار حكيمة تشيرين عليَّ بهكذا مشورة ولا تشورين باستئصالهم عن آخرهم لكي نأمن غوائلهم ومكايدهم؟!

فقاطعته الملكة قائلة: إن إشارتي إليك يا أيها الملك الجليل بوضع شرائع جديدة على أولئك القوم أصحاب تلك المملكة المشئومة، وبإرفاقهم بمُناظرين عليهم من طرفنا وبجعل أكثر عساكرهم من جنس عساكرنا، إنما هو عين استئصالهم وإبادتهم؛ لأنه بذلك يمكننا وضع الأيدي على مملكتهم وضمها إلى مملكتنا بكل سهولة وبدون أدنى انزعاج لداخليتنا، ولكن مع طول الزمان والصبر الأمر الذي به قد نجحت أكثر ممالك العالم حسبما تخبرنا التواريخ، ولكن إذا أوقعت بهم الآن حدَّ السيف بدون التبصر بعواقب العجلة، فأخشى عليك من الوقوع في بلبلة البال والندم على المحال.

وبينما كانت هذه الملِكة الحكيمة تبسط أفكارها لذلك الملك الجليل، وإذا برجلين مُقبِلَيْنِ من جوف الغابة بأقدام مهرولة، وبوجوه عليها سيماء الانشغال، ولم يزالا يتقربان إلى أن وصلا أمام المظهر الملوكي وسجدا هنالك بكل احترام ووقار، وكانا متدرعين بأسلحة الحرب، وأعينهما ملتهبة بضرام المواقع، وأحذيتهما متوشحة بما نسجه النقع، والدماء سائلة على حد ظباهما ومضمخة ثيابهما العسكرية، وكان مكتوبًا على خوذة أحدهما: «هذا قائد جيش التمدن.» وعلى منكب الآخر: «هذا وزير محبة السلام.»

وعندما وقعت من الملك التفاتة إليهما حيَّاهما بالإكرام، وقال لهما: هات أخبراني بما فعلتما شفاهًا. فأخذ الأول يسرد الحوادث هكذا: إن نصرتنا الكاملة على الأعداء لم تحتمل أكثر من موقعتين: أما الأولى فكان حدوثها على هذا الوجه، وهو أن هؤلاء الأخصام عندما شاهدوا جيوش آدابنا المستظهرة مقبلة عليهم فرقًا فرقًا؛ عدوا حالًا على قتالنا منظِّمين صفوف أجناد مقاومتهم، وأخذوا يدافعون هجومنا عليهم بنيران مدافع العناد بدون أدنى اكتراث بنا، وكان حامل بيرقهم رجلًا يسمى بالبغض.

فعندما لاحظنا قحتهم هذه زمرنا حالًا ببوق النار الدائمة، ورفعنا بيرق النزال، فكنت ترى حينئذٍ جيوشنا تلك الغضنفرية غائصة في سحب دخان الغيرة، متلامعة ببروق سحيق التعاليم على صهوات جياد المدارس التي كانت تحمحم طلبًا للهجوم وشوقًا للاقتحام، ولم تزل قنابر براهيننا تنقضُّ على صفوف الأعداء كالصواعق من أفواه مدافع استظهاراتنا التي كانت ترعد تحت سماء حرب الحرية، ولم تبرح بنادق ألفاظنا تمطر عليهم رصاص العزيمة إلى أن رأيت تلك الصفوف أخيرًا متفرقة كبنات نعش، ومنهزمة أمام نظام فيلقنا الذي كان يحكي الثريا شملًا والجوزاء مسيرًا، وهكذا لم نزل هاجمين عليهم وهم ناكصون على أعقابهم حتى ظفرنا بالغلبة والانتصار، وتركنا أكثرهم بين قتيل وجريح، والبقية أدبروا وتحصَّنوا في معاقل الآراء السابق تصديقها.

أما الواقعة الثانية فكان وقوعها على هذه الكيفية، وهي أن أولئك الأعداء قد أرسلوا إلينا رسولًا حاملًا من طرف ملكهم رقعة بها يعدنا أنهم يتركون الأسلحة بشرط أن تنحي عنهم قليلًا عساكرنا، فوعدهم سعادة رفيقي هذا — وأشار إلى وزير محبة السلام — أن يجري شرطهم، وكتب لهم بذلك رقعة ودفعها للرسول فأخذها وذهب، وهكذا أتممنا الوعد.

ومذ شاهدوا تنحِّيَنا عن معاقلهم طمعوا بتغاضينا، وأخذوا يجمعون عساكر جديدة مجددي العزم، واندفعوا علينا ثانية كالوحوش الضارية تحت إدارة سبعة قوَّاد تسمى بالأرواح الشريرة، وكان حامل سنجقهم جنديًّا يقال له: «الخيانة».

فعندما رأينا تأهُّبهم للقتال وهجومهم علينا اغتيالًا ومفاجأة تحت لواء الخيانة هرعنا حالًا إلى أسلحتنا القاطعة وقابلناهم بأمواج كتائبنا المنتصرة، وأخذنا نصادمهم مصادمة بني أسد لبني كلب، وكنتُ أنا وهذا الوزير نخترق صفوف أجوقهم شاهرين سيف الهمة والمسعى، ونضرب يمينًا وشمالًا بكل عزائمنا لكي نشد قلوب الجنود المنقضَّة عليهم كالنسور، وكان دخاننا يبتلع دخانهم ورعود مدافعنا تُخرس مدافعهم، ولم نزل نجزر مدهم ونفلُّ حدهم حتى استظهرنا عليهم مليًّا وأوضحنا تقهقرهم جليًّا، ولم نرجع عنهم حتى أوقعنا جميع عساكرهم وقُوَّادهم في قبضتنا بعد حرب أقوم من ساق على قدم، وأشهر من نار على عَلَم.

ولم نكتفِ بهذه الغلبة فقط، بل دخلنا أيضًا إلى معاقلهم السخيفة لكي نستخرج ما فيها من القوات، وبينما كنا نتجسس ونبحث في تلك الحصون واحدًا فواحدًا وجدنا في أحدها رجلًا هرمًا قد نفضت أقدام الأيام على هامته غبار الشيب، وهو مختبئ في إحدى زوايا حجرةٍ ناكس الرأس مُكْفَهِرَّ الوجه منحط العزائم والقوى ذارف الدموع منحني الظهر، حتى يُرى كأنه صنم لا يمكنه أدنى حراك؛ فقبضنا عليه أيضًا وأخرجناه إلى الخارج وربطناه مع سبعة قُوَّاده المذكورين ومن يحمل بيرقه بسلسلة حديدية، ووضعناهم في سجن عندنا تحت الأسر، وحالًا أخذت قلمًا وقرطاسًا وسطرت به هاتين الواقعتين كواحدة على وجه الاختصار وأرسلت الأسطر إلى عظمتكم مع بريد مخصوص.

أجاب الملك: قد وصلتني رقعتكم مع البريد المذكور، ولكني لم أستوعب كل الحوادث حسب الواجب؛ ولذلك رددت إليكم البريد لكي يدعوكم إلى هنا وأفهم الأمر منكم مشافهة، فمن الرقعة التي أبرزتموها لي لم أعلم سوى موقعة واحدة وأنكم موعودون من الأعداء بالتسليم وترك الأسلحة عندما كان نظري يسبق ويرى من بعيد دخان وغبار معركة مهولة، وأذني كانت تسمع لغطًا يشبه دوي رعود من أفق شاسع، ولم ألبث أن أغرقتني لجة البلبال؛ لأنني لم أعلم النصر لمن يكون.

– نعم، إن هذه المعركة التي هي الثانية ربما كانت جارية حينما كنتم تشرفون معروضنا بتلاوته؛ لأننا بعد برهة قليلة من نهاية الكفاح الأول أسرعنا إلى إخبار عظمتكم وشرعنا في الاعتراك الأخير ونلنا النصر والظفر من حيث لا تعلمون.

ومع ذلك كنا نقتصر على إنجاز تلك الموقعة الأولى حسب المرغوب لو لم يدخل غش هؤلاء المردة على سلامة قلب وزير محبة السلام. وأشار إليه، أما هذا الأخير فقد كان مطرقًا في الأرض غير متحرك وكأنه واقع في هواجس كثيرة، فالتفت الملك إليه، وقال له: بالحقيقة إن سلامة قلبك قد صارت السبب الوحيد لانتشاب تلك الموقعة الثانية؛ لأنه لو كنت تُعرض عن تصديق دعواهم بالتسليم عالمًا أن الحرب خدعة لكانت جيوشنا أنهت الموقعة الأولى حسبما اقتضت الثانية، وكنا اغتنينا عن ثقلة هذه الأخيرة ووفرنا رجالًا ومالًا.

فأحنى الوزير رأسه لدى الملك، وقال: إنه لم يخطر بي البتة إمكان هجوم هؤلاء البرابرة علينا مرة ثانية بعد أن شاهدوا ما شاهدوه من بسالة أجنادنا الأقوياء في الحروب، وتيقنوا جيدًا عجزهم وضعفهم بالنسبة إلى ثباتنا وقوتنا؛ فقد جرت الأقدار بما لم يخطر بالأفكار، ومع ذلك فليست إجابتي لطلبهم كانت مبنية على اقتناعي فقط بكونهم لا يجسرون على محاربتنا ثانية، بل وعلى طمعي بحقن الدم أيضًا؛ إذ قد خطر لي أنه إذا لم نُجِب طلبتهم وواصلنا الحصار والمهاجمات فقد يمكن أن يجري نهر من الدماء حسبما جرى ذلك في كثير من مواقع العالم منذ يشوع أريحا إلى تيطس أورشليم وما بعده …

فقاطعه الملك قائلًا: إنه يوجد في طريق الإنسان كثير من الموانع التي لا يمكن الحصول على رفعها إلا بسفك الدماء، وكذلك قد يصيب الإنسانَ كثير من الحوادث التي لا يمكنه دفاعها إلا ببذل الروح، وعلى كل حال:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم – ولكن يا أيها الملك المعظم ليس بجيد للإنسان أن يسرع حالًا إلى إهراق الدماء على نزر الأشياء، وليس جميع الحوادث والأحوال تساوي الدم الإنساني الذي لا يوجد أثمن منه، ولا يجب مضارعة أولئك الشعوب الذين يبادرون إلى شنِّ الغارات وفتك بعضهم بعضًا على أقل أرب لا يعتد به، أو أدنى خرافة لا بيت لها في رقعة التمدن؛ بحيث لا يَئُول صنيعهم هذا إلى دمار ودثار أخصامهم فقط، بل وإلى انحطاط وخراب هيئتهم أيضًا؛ إذ إن الرجل الظالم يرتد وجعه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه؛ فلا برهان إذنْ على سموِّ عقل الإنسان وتروُّض أخلاقه ودعة سجيته أعظم من محبته للسلم ونفوره عن الحرب والخصومات، على أنه بالسلامة تنمو الهيئة الاجتماعية وتتسع دائرة تقدُّمها بالثروة والمعارف والآداب.

بالسلامة تخصب الحقول وتغطي الأرضَ غلاتها وتجود الفلاحة ويكثر الحصاد.

بالسلامة تعمر البلاد والقرى وتتسع التجارة التي عليها يقوم مدار الاشتراك مع كافة العالم.

بالسلامة تتقوى الممالك وتعظم رجالًا ومالًا.

وبالإجمال إنه بالسلامة يقوم شرف البلاد ومصالح العباد.

ولكن إذا أخذنا نتصفح الحروب وغوائلها إنما نرى العكس تمامًا.

على أنه بالحرب تتبدد الهيئة الاجتماعية وتضيق دائرة تقدمها ونجاحها حينما يرسل إليها مركز الجهل أقطار الخراب.

بالحرب تمحل الأرض وتضنُّ بإنتاجها وتتقهقر الفلاحة ويقل الحصاد.

بالحرب تنهدم البلاد وتغور المتاجر في أودية الاضمحلال، وتنقطع الشعوب عن مشاركة بعضهم بعضًا.

بالحرب تضعف الممالك وتقل رجالًا ومالًا. وبالجملة إنه بالحرب تذل البلاد وتبيد القبائل ويصفر الخراب.

ومع كل ذلك فقد تلد السلامة حروبًا والحروب سلامة.


بناءً على أن زيادة الراحة تنشئ أضرارًا جمة لا تذهب إلا بواسطة التعب والرياضة. وأيضًا زيادة التعب قد تسبب جملة أعراض رديئة لا يمكن إخضاعها إلى الزوال إلا تحت سلطنة الراحة والسكون.

أما ترى حينما تمردت علينا مملكة العبودية وأخذت تُفسِد في الأرض بواسطة أعوانها وتعيث بسذاجة شعوبنا كيف نهضنا ضدها ابتدارًا، وأشهرنا أسلحة الحروب حذرًا من أن يبتلعنا القعر وتطبق البئر علينا فاها؟

وهكذا أتممنا تشتيت شمل العدو، وصحنا عليه بصافور الغلبة والظفر، ضاربين بطبول الحرية التي نحن أولادها. وحينئذٍ فأنا الذي تدعونه وزير محبة السلام قد اخترقت بذاتي جماهير معسكر هذه الأعداء، واقتحمت قلاعهم ناضيًا سيف الهمة والمسعى، حتى أنزلت بهم النكال دفعًا لوقوع القلق والاضطراب في بلادنا، ورفعًا لتسلط القبائل الأجنبية علينا؛ الأمر الذي يفعل الخراب أكثر مما تفعله الحروب، فهنا نرى أن السلامة قد أنشأت حربًا.

وعندما تسترجع هذه الحروب راحتنا السابقة وهدوءنا الاعتيادي منادية بكون سيف السلطان طويلًا؛ نقول من ثَمَّ إن صخرة الحرب قد أفاضت مياه السلامة الدائمة التي بها يتمتع كل آتٍ بعدنا، كما يتمتع بماء هذه الصخرة التي فجرتها العناية بعصا موسى الإعتاق كل سارح في برية الحرية أو غابة الحق. وأَومى إلى الصخرة التي يتدفق منها الماء وأحاط بالإيماء جميع الغابة.

وبينما كان هذا الوزير يتكلم كانت الملكة الآخذة وضع الجلوس المحتشم متكئة على ساعد العرش السامي ومزهرةً راحتها بوردة خدها الأزهر، وعلى مباسمها تقرأ الحلاوة آية الكوثر، وهي تهز رجلها اللطيفة إشارة لاستيعاب الخطاب متوسمة بوجه محبة السلام بأعين تفيض جمالًا وكمالًا على طلعة تنفث في العقول سحرًا وتدير على القلوب خمرًا؛ فهي ترمي فؤاد فانوس — إلهة العشق — بنبال الفتور، وتأخذ قلب باكوس — إله السُّكر — بنشوة الخمور، مع أنها تخلق في مينارفا — إلهة الحكمة — مهابة واحترامًا، وتجري في روح المريخ — إله الحرب — بردًا وسلامًا.

فما أتم الوزير كلامه إلا ورأيت زنجيين مهروِلين من بُعد إلى ساحة هذا المرسح ولم تزل بطون الأدغال تبتلعهما تارة وتتقاياهما أخرى حتى أدركا أخيرًا هذا المحط، وسجدا على الفور تجاه المشهد الملوكي مكشوفي الرأس مطرقي الأعين، قد عبثت بأنفاسهما غصص الرعشة والهلع. وغب سجودهما أبرز أحدهما من جيبه درجًا مطويًّا، ورفعه منشور لدى العظمة الملوكية مطأمن الظهر منحل العزائم.

فألقت عليهما الملكة لمحة عينٍ، ثم أمرت قائد الجيش بحركة الإيماء أن يتناول الدرج ويتلوه عليًّا؛ فالتفت القائد وأشار إلى حامل هذا الدرج بالدنو، فدنا وألقى بين يديه الكتاب ونكص، فتلاه ذاك بصوت عالٍ، وإذا مكتوب به هكذا: إلى العظمة الملوكية إن تقادير النحس والتعاسة قد حركتنا — نحن معشر الأشقياء — إلى رفع الأسلحة إزاء وجه عظمتكم الملوكية بحيث لم نكترث بيدكم القوية وساعدكم الرفيع؛ وهو الأمر الذي جلب علينا من لدن ملوكانيتكم غضبًا لا يخفى وسخطًا لا يُطفى، فسقتم علينا جيوشكم الزاخرة، وصيرتمونا كالهباء الذي تذريه الريح عن وجه الأرض، فلبسنا اللعنة كالثوب؛ لأنه لم نعلم — لكثرة جهالتنا — أن كل سلطة هي من الله؛ ولذلك قد منعَنا رب الحكمة كل حركةٍ وأبقانا لديكم كعمود لوط، حاملين على عاتقنا رجسة الخراب، مسوَّدي الوجه مضطربين بين يدي الغضب الآتي.

فإذا كان لم يزل يوجد في قلوبكم نحونا ذرة رحمة فاقبلوا من عبيدكم إعلان الندم على ما فات، وأطلقونا من سجن الحماقة وأسر الجهالة. ونحن نعدكم وعدًا ثابتًا أننا نجري جميع أوامركم وقوانينكم في كافة ولاياتنا الصغيرة، ولا نعود لوضع أدنى خلل في نظام مملكتكم ذات الاتِّساع والعمار، عالِمِين أن سيف السلطان طويل، وأن الذي يعصي السلطان أو الشريعة تكون نهايته الدمار والدثار، وأنه لا يمكن قط لأي ملة كانت أو أمة قهر الصولجان الملوكي، أو مجاوزة قوانين السياسة، وأنه واجب على كل إنسان أن يخضع خضوعًا مطلقًا لعظمة السلطان عالمًا أن الله قد جعله على الأرض قهرمان، وسلمه مقاليد الشريعة ذات الأمان.

فحينما أتم القارئ تلاوة الدُّرج طرحه على الأرض مرتعدًا بثوران الحمية وصرخ: «يا للمكيدة!» فتناوله وزير محبة السلام وتلاه بفم الضمير ثانية، بينما كانت الملكة مشرئبة والبهتة شاملة وجهها وصارخة: «يا للحيرة!» وبعد برهة صمتٍ تكفي تكرارًا لتلاوة السرية رفع الوزير عينيه بحياء إلى حضرة الملكة واضعًا الدرج جنبه برفق، وأخذ يستميل بلحظاته قلبها إلى إجابة أولئك المسجونين، ويحركها بظرافة تبسماته إلى الشفقة عليهم.

فانعطفت هذه السيدة إلى الجانب الملوكي ورمقته بأعينٍ رطَّبها الإشفاق، وقالت له بتبسم يطفح بأنوار الحنوِّ: دعهم يحضروا إلى المحاكمة عسى يفلحون.

– أخشى وقوع المكيدة.

– أنا أكفل ذلك والحكمة تعرف طريقها.

– ليكن لكِ حسب قولكِ.

فالتفتت الملكة إلى الوزير وقالت له: قم فاذهب بذاتك واستحضر المسجونين إلى هنا كي نحاكمهم. فنهض المومَا إليه للوقت وجاز مسرعًا، ثم قالت الملكة لقائد الجيش: اكتب رقعة إلى الفيلسوف واستعجله بالحضور إلى هنا. ففعل، فقالت له: أرسلها مع هذين العبدين. فدفع لهما الرقعة حالًا بعد أن أطلعهما على محلته في مدينة النور؛ فذهبا يذرعان الأرض، والقائد راح يتخطى في ناحية، وأخذ المظهر الملوكي يضرب في أغوار التفكرات. وما عدت أرى سوى هيبة السكوت المتعمق، ولا أسمع سوى هدير الماء المتدفق.