كتاب الأم/الدعوى والبينات/الخلاف في اليمين مع الشاهد



الخلاف في اليمين مع الشاهد


[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فخالفنا في اليمين مع الشاهد مع ثبوتها عن رسول الله بعض الناس خلافا أسرف فيه على نفسه فقال لو حكمتم بما لا نراه حقا من رأيكم لم نرده وإن حكمتم باليمين مع الشاهد رددناها فقلت لبعضهم رددت الذي يلزمك أن تقول به ولا يحل لأحد من أهل العلم عندنا خلافه؛ لأنه سنة رسول الله وأجزت آراءنا التي لو رددتها كانت أخف عليك في المأثم. قال إنها خلاف كتاب الله ونحن نردها بأشياء.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وقد جهدت أن أتقصى ما كلموني به في رد اليمين مع الشاهد فكان مما كلمني به بعض من ردها أن قال لم تروها إلا من حديث مرسل قلنا: لم نثبتها بحديث مرسل وإنما أثبتناها بحديث ابن عباس وهو ثابت عن رسول الله الذي لا يرد أحد من أهل العلم مثله لو لم يكن فيها غيره مع أن معه غيره ممن يشده.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقال منهم قائل فكيف قلتم يقضى بها في الأموال دون غيرها فجعلتموها تامة في شيء ناقصة في غيره؟ فقلت له لما قال عمرو بن دينار وهو حملها قضى بها رسول الله في الأموال كان هذا موصولا في خبره عن النبي . وقال جعفر في الحديث في الدين والدين مال وقاله من لقيت من حملتها، والحكام بها قلنا إذا قيل: بها في الأموال دل ذلك والله تعالى أعلم على أنه لا يقضى بها في غير ما قضي بها فيه؛ لأن الشاهدين أصل في الحقوق فهما ثابتان، واليمين مع الشاهد أصل فيما يحكم بها فيه وفيما كان في معناه فإن كان شيء يخرج من معناه كان على الأصل الأول وهو الشاهدان قال فالعبد؟ قلت: له فإذا أقام رجل شاهدا على عبد أنه له حلف مع شاهده واستحق العبد، قال فإن أقام شاهدا أن سيده أعتقه؟ قلت فلا يعتق. قال فما الفرق بين العبد يقيم رجل عليه شاهدا ويحلف ويأخذه وبين العبد يقيم شاهدا أن سيده أعتقه؟ قلت الفرق البين، قال وما هو؟ قلت أرأيت إن: (قضى رسول الله باليمين مع الشاهد في الأموال) أما في هذا بيان أن المال المقضي به للمقيم شاهدا الحالف هو ما ليس بالمقضي له ولا بالمقضي عليه وإنما هو مال أخرجه من يدي المقضي عليه إلى يدي المقضي له به فملكه إياه كما كان المقضي عليه له مالكا؟ قال بلى قلت: وهكذا العبد الذي سألت عنه أخرجه من يدي مالكه المقضي عليه إلى مالك مقضي له قال نعم: قلت أفليس تجد معنى العبد إذا أقام شاهدا أن سيده أعتقه غير معنى المال الذي يتنازع فيه المشهود له، والمشهود عليه؛ لأنه إنما ينازع في نفسه؟ قال إنه ليخالفه في هذا الموضع قلت: ويخالفه أنه لا يخرجه من يدي مالكه إلى ملك نفسه فيكون يملك من نفسه ما كان سيده يملكه كما كان المقضي عليه يملك المال، ثم أخرج من يده فملكه المقضي له قال أجل قلت: فكيف أقضي باليمين مع الشاهد في شيء معناه غير معنى ما قضى به رسول الله ؟ قال فإنك تعتقه بالشاهدين؟ قلت: أجل وأقتل بالشاهدين؛ لأنهما حكم مطلق، واليمين مع الشاهد حكم خاص.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وقلت له رأيتك عبت أن تكون الشهادة تامة في بعض الأشياء دون بعض أفرأيت الشاهدين أليسا تامين في كل شيء ناقصين في الزنا؟ قال بلى. قلت أفرأيت الشاهد والامرأتين أليسا تامين في الأموال ناقصين في الحدود وغيرها؟ قال: بلى قلت أرأيت شهادة النساء في الاستهلال والرضاع وعيوب النساء أليست تامة حتى يلحق بها النسب وفيه عظيم من الأموال وأن يكون لمن شهدت له امرأة عندك أن فلانة ولدته، والمشهود عليه ينكر أن يلحق به نسبه فيعفو دمه ويرى بناته ويرث ماله؟ قال: بلى قلت أريت أهل الذمة أليست تتم شهادتهم عندك فيما بينهم على كل شيء.

ولو شهدوا على مسلم بفلس لم يجز؟ قال بلى قلت، ولو شهدت لرجل امرأة وحدها على أحد بفلس لم يجز؟ قال: بلى قلت، فأسمعك فيما عدا شهود الزنا من المسلمين قد جعلت الشهادات كلها تامة في شيء ناقصة في غيره وعبت ذلك علينا وإنما قلنا بسنة رسول الله فوضعناها حيث وضعها رسول الله ووضعنا حكم الله عز وجل حيث وضعه. قال فقال فإذا حلفتم الرجل مع شاهده فكيف زعمتم أن رجلا لو كان غائبا عن بلد فشهد له رجل بحق له على رجل من وصية، أوصى له بها ميت، أو شهد لابنه بحق وهو يوم شهد الشاهد صغير وغائب، أو شهد له بحق وليه عبد له، أو وكيل حلف وهو لا يعلم شهد شاهده بحق أم لا وهو إن حلف حلف على ما لا يعلمه.

[قال الشافعي]: رحمه الله: فقلت له لا ينبغي لرجل أن يحلف على ما لا يعلم ولكن العلم يكون من وجوه. قال وما هي؟ قلت أن يرى الرجل بعينه، أو يسمع بأذنه من الذي عليه الحق، أو يبلغه فيما غاب عنه الخبر يصدقه فيسعه اليمين على كل واحد من هذا. قال أما الرؤية وما سمع من الذي عليه الحق فأعرفه. وأما ما جاء به الخبر الذي يصدق فقد يمكن فيه الكذب فكيف يكون هذا علما أحلفه عليه؟ قال فقلت له الشهادة على علمه أولى أن لا يشهد بها حتى يسمعها من المشهود عليه، أو يراها، أو اليمين قال كل لا ينبغي إلا هكذا وإن الشهادة لاولاهما أن لا يشهد منها إلا على ما رأى، أو سمع قلت؛ لأن الله عز وجل حكى عن قوم أنهم قالوا: {وما شهدنا إلا بما علمنا} وقال: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} قال نعم قلت له أفيشهد الرجل على أن فلانا ابن فلان وهو غريب لم ير أباه قط؟ قال نعم قلت فإنما سمعه ينتسب هذا النسب ولم يسمع من يدفعه عنه ولا من شهد له بأن ما قال كما قال. قال: نعم قلت ويشهد أن هذه الدار دار فلان وأن هذا الثوب ثوبه، وقد يمكن أن يكون غصب هذه الدار، أو أعيرها ويمكن ذلك في الثوب. قال وإن أمكن، إذا لم ير مدافعا له في الدار والثوب، وكان الأغلب عليه أن ما شهد به كما شهد وسعته الشهادة وإن أمكن فيه أن يكون ليس على ما شهد به ولكن يشهد على الأغلب قلت: أرأيت لو اشترى رجل من رجل عبدا ولد بالمشرق، أو بالمغرب، والمشتري ابن مائة سنة، أو أكثر، والمشترى ابن خمس عشرة سنة، ثم باعه، فأبق عند المشتري فكيف تحلف البائع؟ قال أحلفه لقد باع العبد بريئا من الإباق قال فقلت يحلف البائع فقال لك هذا مغربي، أو مشرقي، وقد يمكن أن يكون أبق قبل أن يولد جدي، قال وإن؛ يسأل؟ قلت وكيف تمكن المسألة؟ قال كما أمكنتك قلت وكيف يجوز هذا؟ قال؛ لأن الأيمان يدخلها هذا قال أورأيت لو كان العبد ولد عنده أما كان يمكن فيه أن يأبق ولا يدري به؟ قلت بلى: قال فهذا لا تختلف الناس في أنهم يحلفون على البت لقد باع بريئا من الإباق ولكن يسعه أن يحلف على البت وإنما ذلك على علمه قلت فهل طعنت في الحالف على الحق يصير له بوجه من الوجوه وصية، أو ميراث، أو شيء يليه عبده، أو وكيله غائبا عنه بشيء إلا لزمك أكثر منه في الشهادات، والأيمان؟ قال ما يجد الناس من هذا بدا وما زال الناس يجيزون ما وصفت لك: قلت فإذا أجازوا الشيء فلم لم يجيزوا مثله وأولى أن يكون علما يسمع عليه الشهادة، واليمين منه؟ قال هذا يلزمنا قال فإن مما رددنا به اليمين مع الشاهد أن الزهري أنكرها قلت لقد قضى بها الزهري حين ولي فلو كان أنكرها، ثم عرفها وكنت إنما اقتديت به فيها كان ينبغي أن يكون أثبت لها عندك أن يقضي بها بعد إنكارها وتعلم أنه إنما أنكرها غير عارف بها وقضى بها مستفيدا علمها، ولو أقام على إنكارها ما كان في هذا ما يشبه على عالم قال وكيف قلت أرويت أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنكر على معقل بن يسار: (حديث بروع بنت واشق أن النبي جعل لها المهر، والميراث) ورد حديثه وقال بخلافه؟ قال: نعم قلت وقال بخلاف حديث بروع بنت واشق مع علي زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر؟ قال: نعم قلت ورويت عن عمر بن الخطاب أن عمار بن ياسر روى: (أن النبي أمر الجنب أن يتيمم)، فأنكر ذلك عليه وأقام عمر على أن لا يتيمم الجنب وأقام على ذلك مع عمر ابن مسعود وتأولا قول الله عز وجل: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} قال: نعم قلت ورويت وروينا: (أن النبي دخل الكعبة وليس معه من الناس إلا بلال وأسامة وعثمان، فأغلقها عليه وكلهم سميع بصير حريص على حفظ فعله والاقتداء به فخرج أسامة فقال أراد النبي الصلاة فيها فجعل كلما استقبل منها ناحية استدبر الأخرى وكره أن يستدبر من البيت شيئا فكبر في نواحيها وخرج ولم يصل فكان ابن عباس يفتي أن لا يصلى في البيت) وغيره من أصحابنا بحديث أسامة. وقال بلال صلى فما تقول أنت؟ قال يصلى في البيت، وقول من قال: كان أحق من قول من قال: لم يكن؛ لأن الذي قال: كان شاهد والذي قال: لم يكن ليس بشاهد، قلت: وجعلت حديث بروع بنت واشق سنة ولم تبطلها برد علي رضي الله تعالى عنه، وخلاف ابن عباس وابن عمر وزيد وثبت حديث بروع؟ قال: نعم قلت وجعلت تيمم الجنب سنة ولم تبطلها برد عمر وخلاف ابن مسعود في التيمم وتأولهما قول الله عز وجل: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} والطهور بالماء وقول الله عز ذكره: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} قال: نعم قلت له، وكذلك تقول لو دخلت أنا وأنت على فقيه، أو قاض فخرجت فقلت حدثنا كذا وقضى بكذا وقلت أنت ما حدثنا ولا قضى بشيء كان القول قولي لأني شاهد وأنت مضيع، أو غافل؟ قال: نعم قلت فالزهري لم يدرك رسول الله ولا أكثر أصحابه فلو أقام على إنكار اليمين مع الشاهد أي حجة تكون فيه إذا كان من أنكر الحديث عن النبي من أصحابه لا يبطل قول من روى الحديث كان الزهري إذا لم يدرك رسول الله أولى بأن لا يوهن به حديث من حدث عن رسول الله وإذا كان بعض السنن قد يعزب عن عامة أصحاب رسول الله حتى يجدوها عند الضحاك بن سفيان وحمل بن مالك مع قلة صحبتهما وبعد دارهما وعمر يطلبها من الأنصار، والمهاجرين فلا يجدها فإن كان الحكم عندنا وعندك أن من حدث أولى ممن أنكر الحديث فكيف احتججت بأن الزهري أنكر اليمين مع الشاهد؟ فقال لي: لقد علمت ما في هذا حجة. قلت: فلم احتججت. به؟ قال احتج به أصحابنا وأن عطاء أنكرها. قلت والزنجي أخبرنا عن ابن جريج عن عطاء أنه قال لا رجعة إلا بشاهدين إلا أن يكون عذر فيأتي بشاهد ويحلف مع شاهده.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فعطاء يفتي باليمين مع الشاهد فيما لا يقول به أحد من أصحابنا، ولو أنكرها عطاء هل كانت الحجة فيه إلا كهي في الزهري وأضعف منها فيمن أنكر ما لم يسمع من أصحاب رسول الله ؟ قال لا، قلت لو ثبت أن النبي قضى بها أكان لأحد خلافها وردها بالتأويل؟ قال لا فذكرت له بعض ما روينا فيها وقلت له أتثبت مثل هذا؟ قال نعم ولكني لم أكن سمعته قلت: أفذهب عليك من العلم شيء؟ قال نعم، قلت فلعل هذا مما قد ذهب عليك وإذ قد سمعته فصر إليه فكذلك يجب عليك. قال فإنه قد بلغنا: (أن النبي قضى باليمين مع الشاهد) أن خزيمة بن ثابت شهد لصاحب الحق.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فسألته من أخبره فإذا هو يأتي بخبر ضعيف لا يثبت مثله عندنا ولا عنده، فقلت له أرأيت لو كان خبرك هذا قويا، وكان خزيمة قد شهد لصاحب الحق، فأحلفه النبي ألم تكن خالفت خبرك الذي به احتججت؟ قال وأين خالفته؟ قلت أيعدو خزيمة أن يكون يقوم مقام شاهد فهو كما قلنا قال لا ولكنه من بين الناس يقوم مقام شاهدين قلت فإن جاء طالب حق بشاهدين أتحلفه معهما؟ قال لا، ولكن أعطيه حقه بغير يمين، قلت له: فهذه إذا سنة لرسول الله أخرى خالفتها؛ لأنه إن كان قضى بشهادة خزيمة وهو يقوم مقام شاهدين فقد أحلف مع شاهدين وإن كان قضى بشهادة خزيمة وهو كشاهدين فيما روينا عنه فقد قضى قضيتين خالفتهما معا. قال فلعل النبي إنما قضى باليمين أنه علم أن حق الطالب حق فقلت له: أفيجوز في جميع ما روي عن النبي أنه قضى فيه بقضية إما بإقرار من المدعى عليه، أو ببينة المدعي أن يقال لعله إنما قضى به أنه علم أن ما أقر به المقر، أو ما قامت به البينة حق فلا يجوز لأحد بعده أن يقضي ببينة ولا بإقرار؛ لأن أحدا بعده لا يعلم صدق البينة ولا المقر؛ لأن هذا لا يعلم إلا من جهة الوحي، والوحي قد انقطع بعد النبي قال: لا، قلت: وما قضى به على ما قضى به ولا يبطل بلعل؟ قال نعم، قلت: فلم أردت إبطال اليمين مع الشاهد بلعل؟ وقلت له: وأكلمك على لعل أفرأيت لو جاءك رجل يدعي على رجل ألفا فعلمت أنها عليه ثابتة هل تعدو من أن تكون ممن يقضي بعلمه فتأخذها له منه ولا تكلفه شاهدا ولا يمينا، أو ممن لا يأخذ بعلمه فلا تعطيه إياها إلا بشاهدين سواك؟ قال ما أعدو هذا، قلت له: فلو كان النبي قضى باليمين مع الشاهد من قبل أنه علم أن ما ادعى المدعي حق كنت خالفته؟ قال فلعل المطلوب رضي بيمين الطالب. قلت: وقد عدت إلى لعل، وقلت: أرأيت لو جاءك خصمان فرضي المطلوب بيمين الطالب أكنت تكلفه شاهدا وتحلفه؟ قال: لا، قلت: ولو حلف مع شاهده، والمطلوب يرضى بيمينه لم تعطه شيئا قال لا أعطيه بيمينه مع شاهده شيئا ولكن إن أقر بحقه أعطيته. قلت: أنت تعطيه إذا أقر ولا تحلف الطالب؟ قال نعم، قلت: فهذه سنة أخرى إن كانت كما قلت خالفتها. قال فما تقول أنت في أحكام رسول الله ؟ قلت: على المسلمين أن يحكموا بها كما حكم، وكذلك ألزمهم الله. قال فلعل النبي كان يحكم من جهة الوحي، قلت: فما حكم به من جهة الوحي فقد بينه، وذلك مثل ما أحل للناس وحرم وما حكم به بين الناس بالبينة فعلى الظاهر حكم به؟ قال فما يدل على ذلك؟ قلت: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي أن النبي قال: (إنما أنا بشر تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار).

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: قلت له: فقد أعلم رسول الله الناس أنه إنما يقضي بينهم بما يظهر له وأن الله ولي ما غاب عنه وليستن به المسلمون فيحكموا على ما يظهر لهم؛ لأن أحدا بعده من ولاة المسلمين لا يعرف صدق الشاهد أبدا إنما يحكم على الظاهر، وقد يمكن في الشهود الكذب، والغلط، ولو كان القضاء لا يكون إلا من جهة الوحي لم يكن أحد يقضي بعد النبي ؛ لأن أحدا لا يعرف الباطن بعد رسول الله فقال إذا حلفتم الحر مع شاهده فكيف أحلفتم المملوك، والكافر الذي لا شهادة له؟ قلت: أرأيت الحر العدل إذا شهد لنفسه أتجوز شهادته؟ قال لا، قلت: ولو جازت شهادته أحلف على شهادته؟ قال لا، قلت: فكيف توهمت أنا جعلناه شاهدا لنفسه؟ قال؛ لأنكم أعطيتموه بيمينه فقامت مقام شاهد، فقلت له: أعطيناه بما قضى به رسول الله وهي وإن أعطي بها كما يعطى بشاهد فليس معناها معنى الشهادة، قال وهل تجد على ما تقول دلالة؟ قلت نعم إن شاء الله تعالى، قلت له: أرأيت إن ادعى عليه حقا فجاء بشاهدين يشهدان له بالبراءة مما ادعى عليه أيبرأ؟ قال نعم، قلت: فإن حلف ولا بينة عليه أيبرأ؟ قال نعم، قلت: أفتقوم يمينه ببراءته مما ادعي عليه مقام شاهدين؟ قال نعم في هذا الموضع، قلت: أفيمينه شاهدان؟ قال لا وهما إن اجتمعا في معنى فقد يفترقان في غيره؛ لأنه لو حلف، فأبرأته، ثم جاء طالب الحق بشاهدين أبطلت يمينه وأخذت لصاحب الحق حقه بشهادته، قلنا فهكذا قلنا في اليمين وإن أعطينا بها كما أعطينا بشاهد فليست كالشاهد في كل أمرها.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وقلت له: أرأيت لو قال لك قائل قال النبي اليمين على المدعى عليه في زمان أهله أهل عدل وإسلام والناس اليوم ليسوا كذلك ولا أحلف من ادعي عليه من مشرك ولا مسلم غير عدل، قال ليس ذلك له، وإذا قال النبي شيئا فهو عام، قلنا، وكذلك اليمين مع الشاهد لما قضى بها رسول الله لطالب الحق كان الحر العدل وغيره سواء فيها، والعبد، والكافر كما يكونون سواء فيما يقع عليهم من الأيمان فيكون خير الناس لو كان يعرف إذا ادعي عليه يحلف فيبرأ، والكافر أيضا كذلك فكذلك يحلفان ويأخذان، وقلت له أرأيت أهل محلة وجد بين أظهرهم قتيل، فأقام وليه شاهدين أنهم قتلوه خطأ؟ قال فالدية عليهم، قلت: فلو لم يقم شاهدين أتحلفهم وتعطيهم الدية؟ قال نعم كما نعطيهم إذا أتى بشاهدين، قلت: فأيمانهم بالبراءة من دمه إذا لم يكن له شاهدان كشاهدين لو شهدا عليهم بقتله فقال لا، فقلت له ولم، وقد أعطيت بها كما أعطيت بالشاهدين؟ قال إنما أعطيت بالأثر، قلت: ولا يلزمك ها هنا حجة؟ قال لا، قلنا فنحن أعطينا بالسنة التي هي أولى من الأثر فكيف زعمت أن الحجة لزمتنا؟ قلت له: فأيمان أهل المحلة وهم مشركون كأيمانهم لو كانوا مسلمين؟ قال نعم، قلت: ولو ادعى رجل على رجل حقا فنكل عن اليمين أتعطي المدعي حقه؟ قال نعم، قلت أفنكوله كشاهدين لو شهدا عليه؟ قال لا، قلت فقد أعطيته بنكوله كما تعطي منه بشاهدين؟ قال فإن النبي قال: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه) قلنا هذا روي عن ابن عباس عن النبي ورواه عمرو بن شعيب عن النبي وثبته وثبتناه برواية ابن عباس خاصة وروى ابن عباس: (عن النبي أنه قضى باليمين مع الشاهد) وروى ذلك عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي وروى ذلك أبو هريرة وسعد بن عبادة وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز عن النبي فرددته وهو أكثر وأثبت وثبتنا وثبت معنا الذي هو دونه، وقلت له أرأيت إذ حكم الله عز وجل في الزنا بأربعة شهود وجاءت بذلك السنة وقال الله عز وجل: {شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} أما صار أهل العلم إلى إجازة أربعة في الزنا واثنين في غير الزنا ولم يقولوا أن واحدا منهما نسخ الآخر ولا خالفه وأمضوا كل واحد منهما على ما جاء فيه؟ قال بلى قلت: فإذا أجاز أهل العلم شهادة النساء وحدهن في عيوب النساء وغيرها من أمر النساء بلا كتاب مضى فيه ولا سنة أيجوز أن يقال إذ حد الله الشهادات فجعل أقلها شاهدا وامرأتين فلا تجور شهادة النساء لا رجل معهن ومن أجازها خالف القرآن والسنة إذا كان أقل ما روي عن النبي شاهد ويمين، قال لا يجوز إذا لم يحظر القرآن لا يجوز أقل من شاهد وامرأتين نصا ولم تحظر ذلك السنة، والمسلمون أعلم بمعنى القرآن والسنة. قلت: والسنة عن النبي ألزم، أو ما قالت الفقهاء عن رجل من أصحاب النبي ؟ قال، بل السنة، قلت فلم رددت السنة في اليمين مع الشاهد وتأولت القرآن ولم ترد أثرا بأقل من شاهد ويمين فتأولت عليه القرآن؟ قال وإذا ثبتت السنة لم أردها، وكانت السنة دليلا على القرآن. قلت: فإن عارضك أحد بمثل ما عارضت به فقال لا يثبت عن علي رضي الله تعالى عنه أنه أجاز شهادة القابلة ولا عن عمر أنه حكم بالقسامة؟ قال إذا رواه الثقات فليس له هذا، قلت، فمن روى اليمين مع الشاهد عن رسول الله أوثق وأعرف ممن روى عن عمر وعلي ما رويت أفترد القوي وتأخذ بأضعف منه؟ وقلت له لا يعدو الحكم بالشاهدين أن يكون محرما أن يجوز أقل منه فأنت تجيزه، أو لا يكون محرما ذلك، فأنت مخطئ بقولك إنه محرم أن يجوز أقل منه، وقد بينا بعض ذلك في مواضعه وسكتنا عن كثير لعله أن يكون أكثر مما بينا اكتفاء بما بينا عما لم نبين وإن الحجة لتقوم بأقل مما بينا، والله تعالى أعلم.

كتاب الأم - الدعوى والبينات
باب الدعوى في الميراث | باب الشهادة على الشهادة | باب شهادة أهل الذمة في المواريث | باب للدعويين إحداهما في وقت قبل وقت صاحبه | باب الدعوى في الشراء والهبة والصدقة | باب الدعوى في البيوع | باب دعوى الولد | اليمين مع الشاهد | ما يقضى فيه باليمين مع الشاهد | الامتناع من اليمين وكيف اليمين | باب ما لا يقضى فيه باليمين مع الشاهد وما يقضى | الخلاف في اليمين مع الشاهد | المدعي والمدعى عليه | باب اليمين مع الشاهد | الخلاف في اليمين على المنبر | باب رد اليمين | في حكم الحاكم | الخلاف في قضاء القاضي | الحكم بين أهل الكتاب