كتاب الزهرة/الباب السادس والخمسون ذكرالنوح على من مات من الأبناء والقرابات


الباب السادس والخمسون ذكرالنوح علَى من مات من الأبناء والقرابات

ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلّم، لما قتل النَّضْر بن الحارث بن كَلْدة جاءت أخته فعلقت بزمام راحلته صلى الله عليه وأنشأت تقول:

يا راكباً إن الأثيلَ مظنَّةٌ
من صُبْحِ خامسةٍ وأنتَ مُوفَّقُ
بلِّغ به مَيْتاً بأن تحيةً
ما إن تزال به النجائب تخْفقُ
منّي إليه وعَبْرةٍ مسفوحةً
جادتْ لمائحها وأُخرى تخْنُقُ
هل يسمعَنَّ النَّضِرُ إنْ ناديتهُ
إن كان يسمعُ ميتٌ لا ينطقُ
ظلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشُهُ
لله أرحامٌ هناك تَشقّقُ
النضرُ أقربُ ما أخذت قرابةً
وأحقُّهم إنْ كان عتْقٌ يُعْتقُ
ما كان ضَرَّك لو منَنْت ورُبّما
منَّ الفَتَى وهو المغيظَ المُحنقُ

فيقال أن النبي صلى الله عليه قال: لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته، وليس هذا مستنكر من أخلاقه. وذكروا أن أبا بكر الصديق رحمه الله صلى الصبح يوماً فلما انفتل قام متمم بن نويرة في مؤخر الناس، وكان رجلاً أعورَ ذميماً فاتّكى علَى سيَّةِ قوسه ثمَّ قال:

نِعمَ القتيلُ إذا الرياحُ تناوحت
خلف البيوت قُتلْتَ يا ابنَ الأزورِ
أدعوتهُ بالله ثمَّ غرَرْتهُ
لو هو دعاكَ بربه لم يُغررِ

وأومأ إلى أبي بكر فقال أبو بكر: والله ما دعوته، ولا غدرت به. ثمَّ بكى مُتمّم وانخرط على سيَّةِ قوسه حتَّى دمعت عينه العوراء. ثمَّ أتمَّ شعره فقال:

لا يُمسكَ العوراءَ تحت ثيابه
حُلوٌ شمائله عفيف المئزر
ولنعمَ حشوَ الدرع كنت وحاسراً
ولنعم مأوى الطارق المتنوّر

فقال له عمر: لوددت أنك رثيتَ أخي بمثل هذا. فقال يا أبا حفص: لو لم أعلم أن أخي صار حيث ما صار أخوك ما رثيته: يعني أن أخا عمر مات شهيداً فقال عمر: ما عزَّاني أحدٌ عن أخي بمثل تعزيته. وذكروا أنّ مُتمّم بن نويرة كان لا يمرُّ بقبر، ولا يُذكر الموت بحضرته إلاَّ قال: يا مالك ثمَّ فاضت عبرته ففي ذلك يقول:

وقالوا أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللِّوى فالدكادكِ
فقلت لهم إن الأسى يبعث البُكا
ذروني فهذا كلُّه قبرُ مالك

وقال دُريد بن الصمّة يرثي أخاه:

أمرتهُمُ أمري بمُنْعرج اللِّوى
ولم يسْتبينوا النُّصحَ إلاَّ ضُحى الغدِ
فلما عصوني كنتُ منهم وقد أرى
غوايتهم وأنَّني غيرُ مُهْتدِ
فما أنا إلاَّ من غزيّة إن غَوتْ
غويتُ وإن ترشُدْ غزيّةَ أرشُدِ
وقلتُ لهم طنّوا بألفي مُقاتل
سرابهمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ
دعاني أخي والخيلُ بيني وبينهُ
فلما دعاني لم يجدْني بقُعْددِ
فجئت إليه والرماح تنوشهُ
كوقع الصّياصي في النسيج المُمدَّدِ
وكنتُ كذاتِ البَوِّ ريعتْ فأقبلت
إلى قطع من جلد سَقْب مُقدّدِ
فطاعنتُ عنه الخيلَ حتَّى تنهنهتْ
وحتَّى علاني حالك اللون أسودِ
فنادوا وقالوا أردت الخيلَ فارساً
فقلتُ أعبدَ الله ذلكم الرَّدي
فإن يكُ عبد الله خلَّى مكانهُ
فما كان وقّافاً ولا طائشَ اليدِ
قليل التشكّي للمصيبات حافظٌ
من اليومِ أعقابَ الأحاديثِ في غدِ

وقالت الخنساء في أخيها:

وقد كنتُ أستعفي الإله إذا اشتكى
من الأجر لي فيه وإنْ عَظُم الأجْرُ
وأجزعُ أن تنأى به بين أهله
فكيف ببينٍ صار معتاده الحشرُ

وقالت أيضاً:

يا صخر بنت فهاجني تذكاري
شأنيك عاش بذلةٍ وصغار
كنا نعدُّ لك المدائح كلها
فاليوم صرت تناح في الأشعار

وقال أيضاً:

ألا يا صخرُ إن أبكيتَ عَيْني
فقد أضحكتني دهْراً طويلا
بكيتُك في نساءٍ مُعْولاتٍ
وكنتُ أحقَّ من أبدى العويلا
دفعتُ بك الجليلَ وأنت حيٌّ
فمن ذا يدفعُ الخطبَ الجليلا
إذا قَبُحَ البُكاءُ علَى قتيلٍ
رأيتُ بكاءك الحَسنَ الجميلا

ولما مات عاصم بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه أخوه عبد الله فرثاه فقال:

فإنْ تكُ أحزان وفائض عَبْرةٍ
أثرْنَ دماً من داخل الجوف منقعا
تجرّعتما في عاصمٍ واحتسبْتُها
لأعظمَ منها ما احتسى وتجرَّعا
فليتَ المنايا كُنَّ صادفْنَ غيرهُ
فعشنا جميعاً أوْ ذهبْنَ بنا معا

وقال ربيع الأسدي يرثي أخاه:

كأني وصيفيُّ شقيقيَ لم نَقُلْ
لموقد نار آخرَ اللَّيل أوْقدِ
فلو أنَّها إحدى يديَّ رُزِئتها
ولكنْ يدي بانتْ علَى إثرها يدي

وقال آخر في أخ له قُتل:

زعموا قُتلتَ وعندهُمْ عُذْرُ
كذبوا وقبرك ما لهُ عُذرُ
والله لو بِك لم أدَعْ أحداً
إلاَّ قتلتَ لفاتني الوترُ

قال العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان، وكان من رواة أخبار الجاهلية والإسلام ومات له بنون فرثاهم مراتٍ كثيرة منها:

أضْحتْ بخدي الدموع رسومُ
أسفاً عليك وفي الفؤادِ كُلومُ
والصبرُ يُحمدُ في المصائبِ كُلِّها
إلاَّ عليك فإنَّه مَذمومُ
ما واحدٌ في ستةٍ أسكنتُهم
حُفَراً تُقسَّمُ بينهم ورجومُ
لولا معالمُ رسمهن لما اهتدى
لحميمه بين القُبور حميمُ

وقال أيضاً:

أما يزجُر الدَّهرُ عنِّي المنونا
يُبَقّي البنات ويُفني البنونا
وكنتُ أبا ستة كالبدو
رقدَ فقأوا أعين الحاسدينا
فمروا علَى حادثات الزما
نِ كمرّ الدراهم بالناقدينا
وما زال ذلك دأب الزما
نِ حتَّى أماتهمُ أجمعينا
وحتَّى بكى لي حُسَّادهُمْ
وقد أقرحوا بالدموع الجفونا
وحسبُك من حادث بامرئ
ترى حاسديه له راحمينا
فمن كان يُسليه مرُّ السنين
فحزني تجدّده لي السنونا

وقال محمد بن حسّان الضَّبِّيّ:

هيئْ لأحمدَ في الثرى بيتُ
وخلا لهُ من أهلهِ بيتُ
وكأن مولده ويوم وفاته
صوتٌ دعا فأجابه صوتُ

ومات ابن لأرطاة بن سُهيَّة من غطفان، فأقام على قبره حولاً يأتيه كلَّ غداة فيقول: يا عمرو إنْ أقمتُ حتَّى أصبح هل أنت غادٍ معي. وينصرف، فلما كان عند رأس الحول انصرف عن قبره وأنشأ يقول:

وقفتُ علَى قبر ابن ليلَى ولم يكُنْ
وقوفي عليه غير مبكًى ومجزع
هل أنت ابن ليلَى إن نظرتُك ليلةً
من القوم أو غادٍ غداة غدٍ معي

وذكروا أن خالد بن الوليد قتل رجلاً من بني عُذرة يقال له فطن بن شريع، فأقبلت أمه فقالت:

ألا تلك المسرَّةُ لا تدومُ
ولا يبقى علَى الدَّهر النعيمُ
ولا يبقى علَى الحدثانِ عَقْرٌ
بشاهقةٍ لها أمُّ رؤومُ

وقالت أيضاً:

يا جامعاً جامعَ الأحشاء والكبدِ
يا ليتَ أمَّكَ لم تولد ولم تَلدِ

ثمَّ انكبت عليه وشهقت وماتت.

وقالت امرأة ترثي ابنها:

لا يبعد الله فتياناً رزئتهم
بانوا لوقتِ مناياهم وقد بعدوا
أمست قبورُهمُ شتَّى وتجمعُهمْ
حوض المنايا ولم يجْمعهم بلدُ
ميتٌ بمصرَ وميت بالعراق
وميتٌ بالحجاز منايا بينهم بدَدُ
دُعوا من المجد أحياناً إلى أجلٍ
حتَّى إذا أكملتْ أطمارُهمْ وردوا
كانت لهم هممٌ فرّقْنَ بينهم
إذا القعاديد عن أمثالهم قعدوا
بذل الجميل وتفريج الجليل
وإعطاءَ الجزيل إذا لم يُعْطه أحدُ

وقال آخر:

لقد شمتَ الأعداء بي وتنكّرتْ
عيونٌ أراها بعدَ هُلك أبي عمرو
تجرّى عليَّ الدَّهر لمّا فقدتهُ
ولو كان حيّاً لاجترأتُ علَى الدَّهرِ
أسكّان بطنِ الأرض لو يُقبلُ الفدا
فدينا وأعطينا بكم ساكنَ الظّهرِ
وقاسمني دهري بنيَّ بحُكمه
فلما ترقّى شطرُهُ مالَ في شطري
فأضحوا ديوناً للمنايا ومن يكُنْ
عليه لها دينٌ قضاه إلى العُسرِ
كأنهمُ لم يعرف الدَّهر غيرهم
فثكلٌ علَى ثكلٍ وقبرٌ جدا قبرِ
وكنتُ به أُكنى فأصبحتُ كلَّما
كنيتُ به فاضَتْ دموعي علَى نحري
ألا ليتَ أمي لم تلدني وليتني
سبقتُكَ إذْ كنا إلى غاية نجري

وقال بعض الشعراء يرثي ابناً له مفقوداً:

فلو صارفونا النَّاس قبلي بينهم
أُتيحَ له موتٌ فأضْمَرهُ قبرُ
إذن لصبرتُ النَّفس ثمَّ احتسبتهُ
وفي الصبر لله المثوبة والأجْرُ
ولكنْ طوَتْ عنّي المقادير علمه
فما لي به منذ انثنى شخصه خبرُ
أموتٌ فيُسلى أم حياةٌ فترتجى
أبرُّ أتى من دون مثواه أوْ بحرُ
فرحمتك اللهم قد بلغ الأسى
نهاية مجهودي فقد غلب الصبرُ

وقال الفضل بن العباس الكاتب:

نفسي فداءُ فقيد خفَّف المؤنا
طول الحياة وعند الطَّعن إذْ طَعَنا
فما حمينا له زاداً يزوّدهُ
ولا كفلنا له نعشاً ولا كفنا
مضى علَى وجهه لا عن مُراغمةٍ
تشجيه منا وإلاَّ استدعت له الإحنا
قد كنتَ تذكرُ أن الأمرَ مُقتربٌ
في سفرةٍ لم تزلْ منها تُحذرُنا
فليت شعري أمقتولاً ثويتَ بها
أوْ في عراض الرَّدَى أمسيت مُرْتهنا
يقربنّكَ لأم الأرض أكِلة
لم يبق فيه لنا روحاً ولا بدنا
أودى الزَّمان بعباسٍ وخلَّفني
من بعده كمداً حيرانَ مُرتهنا
كأنني والهٌ اغتيل واحدُها
فليس تألفُ من ثُكل به وطنا
فإن تضمّنهُ ربي إليه فما
أُحصي السوالف من نعماه والمننا

وفي نحو ذلك وهو من نفس الكلام:

ليتَ شعري ضلَّةً
أيُّ شيءٍ قتلكْ
أعدوُّ لم تخف
ه أم رصيدٌ ختلكْ
طاف يبغي نجوةً
من هلاكٍ فهلكْ
كل شيءٍ قاتل
حين تلقى أجلك
والمنايا رَصَدٌ
للفَتَى حيثُ سلكْ
أيُّ شيءٍ حسنٍ
في فتًى لم يكُ لكْ