مبسوط السرخسي - الجزء الثلاثون2

قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله : اعلم بأن علم الشروط من آكد العلوم ، وأعظمها صنعة فإن الله - تعالى - أمر بالكتاب في المعاملات فقال عز وجل { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } ورسول الله أمر بالكتاب في المعاملة بينه وبين من عامله ، وأمر بالكتاب فيما قلد فيه عماله من الأمانة وأمر بالكتاب في الصلح فيما بينه وبين المشركين ، والناس تعاملوه من لدن رسول الله إلى يومنا هذا ، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بعلم الشرط فكان من آكد العلوم وفيه المنفعة من أوجه : أحدها : صيانة الأموال ، وقد أمرنا بصيانتها ونهينا عن إضاعتها . والثانية : قطع المنازعة فإن الكتاب يصير حكما بين المتعاملين ويرجعان إليه عند المنازعة فيكون سببا لتسكين الفتنة ، ولا يجحد أحدهما حق صاحبه مخافة أن يخرج الكتاب وتشهد الشهود عليه بذلك فيفتضح في الناس . والثالثة : التحرز عن العقود الفاسدة ؛ لأن المتعاملين ربما لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقد ليتحرزا عنها فيحملهما الكاتب على ذلك إذا رجعا إليه ليكتب . والرابعة : رفع الارتياب فقد يشتبه على المتعاملين إذا تطاول الزمان مقدار البدل ومقدار الأجل فإذا رجعا إلى الكتاب لا يبقى لواحد منهما ريبة ، وكذلك بعد موتهما تقع الريبة لوارث كل واحد منهما بناء على ما ظهر من عادة أكثر الناس في أنهم لا يؤدون الأمانة على وجهها فعند الرجوع إلى الكتاب لا تبقى الريبة بينهم فينبغي لكل أحد أن يصرف همته إلى تعلم الشروط لعظم المنفعة فيها ولأن الله - تعالى - عظمها بقوله - جل جلاله - : { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله } فقد أضاف الله - تعالى - تعليم الشروط إلى نفسه كما أضاف تعليم القرآن إلى نفسه فقال - عز وجل - : { الرحمن علم القرآن } وأضاف تعليم الرسول إلى نفسه فقال - جل جلاله - : { وعلمك ما لم تكن تعلم } وأبو حنيفة رحمه الله سبق العلماء رحمهم الله ببيان علم الشروط ، وبذلك يستدل على أن مذهبه أقوى المذاهب فإنه يبعد أن يقال : المبتدئ ببيان ما أخبر الله - تعالى - أنه هو المعلم له لم يكن على غير صواب . ثم بدأ الكتاب فقال : إذا أراد الرجل أن يشتري دارا كتب : هذا ما اشترى فلان بن فلان من فلان بن فلان ، وبعض أهل الشروط رحمهم الله لم يستحسن هذا اللفظ ، وقال : هذا إشارة إلى البياض الذي كتب فيه فظاهره يوهم أن المشترى ذلك البياض ولكن ينبغي أن يكتب هذا كتاب فيه ذكر ما اشترى ، ولكنا نقول : إنما اختار أصحابنا رحمهم الله هذا اللفظ اقتداء بالكتاب والسنة فإن الله - تعالى - قال : { هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ } ولم يقل هذا كتاب فيه ذكر ما توعدون ولما { اشترى رسول الله من العداء عبدا كتب ما اشترى محمد رسول الله من العداء بن خالد بن هوذة الحنفي } ولا شك أن الأحسن ما وافق الكتاب والسنة ثم في هذا إيجاز وحذف لما يحتاج إليه فكل أحد يعرف أن المراد هذا كتاب فيه ذكر ما اشترى ، وقوله : فلان بن فلان من فلان بن فلان إنما يستقيم الاكتفاء بهذا على قول أبي يوسف فإن عنده التعريف يتم بذكر اسم الرجل واسم أبيه ، فأما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يتم التعريف إلا بذكر اسمه واسم أبيه واسم جده أو اسم أبيه وذكر قبيلته ، واحتج أبو يوسف بما روي { في صلح الحديبية كتب رسول الله هذا ما صالح محمد بن عبد الله وسهل بن عمرو على أهل مكة } فقد اكتفى بذكر اسم الأب ، والمعنى فيه : أن التعريف يتم بما يمتاز به من غيره وبمجرد اسمه لا يحصل ذلك فالمسمى بذلك الاسم كثير في الناس ، فإذا ضم إلى اسمه اسم أبيه يحصل المقصود باعتبار الظاهر فإنه لا يتفق اسم رجلين واسم أبيهما إلا نادرا فلا يعتبر ذلك النادر لبقاء ذلك مع ذكر اسم الجد فإنه كما يتوهم اتفاق اسمين يتوهم اتفاق أسام ثلاثة ، ويسقط اعتبار ذلك ؛ لأنه مخالف للعادة ، فكذلك هذا ، وهما يستدلان بما روينا { أن النبي كتب : هذا ما اشترى محمد رسول الله من العداء بن خالد بن هوذة } ففي هذا دليل أن من كان مشهورا يكتفى في تعريفه بذكر اسمه ونعته ، كما ذكر في حق نفسه وأن من لم يكن معروفا فإتمام تعريفه بذكر اسم أبيه واسم جده ، كما ذكره في حق العداء ، ولا يعارض هذا حديث صلح الحديبية ؛ لأن الصلح ما كان في ذلك الوقت إلا واحدا ، فكان لا يقع الالتباس فيه فيحتاج إلى تمام التعريف . ( ألا ترى ) أنه في نظره قد اكتفى بذكر الاسم أيضا ، وهو { فيما كتبه لأكيدر بن عبد الملك فقال : هذا ما كتب محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام ، وخلع الأنداد والأصنام ثم أتم الكتاب } ؛ لأنه ما كان يقع الاشتباه في ذلك فاكتفى بذكر اسمه ، وفي المعاملة لما كان يقع الاشتباه ذكر اسم من عامله واسم أبيه واسم جده . والدليل على أن تمام التعريف بما قلنا أن من له أب واحد في الإسلام لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الإسلام ومن له أبوان في الإسلام يكون كفؤا لمن له عشرة آباء في الإسلام وقيل : المعتبر ما يتم به التعريف في الإسلام ، وذلك يحصل بالأب والجد ، ولا يحصل بالأب وحده ، وهذا لأنه قد يتفق اسم رجلين واسم أبيهما في العادة فلا يمتاز أحدهما من الآخر إلا بذكر اسم الجد أو بذكر القبيلة . والتعريف في حق الغائب والميت بما يمتاز به عن غيره فإذا كان تمام الامتياز بما قلنا كان على الكاتب أن يكتب ذلك ، ويكنيه في الكتاب أيضا إن كان معروفا بكنيته ، وإن كان له لقب لا يغيظه ذلك ، ولا يشينه يذكر ذلك أيضا لزيادة التعريف فأما ذكر الصناعة ذكر الطحاوي عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه لا يعتبر ذلك في التعريف ؛ لأنه قد يتحول من صناعة إلى صناعة قال الطحاوي رحمه الله : وأما نحن فنعتبر ذلك كما اعتبر المالك في حق المكاتب للتعريف أن يكتب مكاتب فلان وقد يتحول منه إلى العتق ، ولكنا نقول : مراد أبي حنيفة رحمه الله مما قال : ليس ما ذكره الطحاوي رحمه الله بل مراده أنه ليس المقصود بالصناعات التعريف فلا يذكر ذلك عند التعريف ، وإنما يذكر ما يكون المقصود به التعريف ، وهو الاسم والنسب وأما كتبه الحلية فهو حسن للمبالغة في التعريف ، ولكن لا يحصل به أصل التعريف ؛ لأن الحلية تشبه الحلية كما أن النعمة تشبه النعمة . ثم قال : اشترى منه جميع الدار في بني فلان ، وإنما أعاد لفظة الشراء ؛ لأن من عادة أهل اللسان أنه إذا تخلل بين الخبر والمخبر عنه كلام آخر فإنه يعاد الخبر للتأكيد ، وقوله : جميع الدار للتأكيد أيضا فإن المقصود يحصل بقوله : الدار التي في بني فلان ، ولكن يتوهم أن يكون المراد بعضها فذكر الجميع لقطع هذا الوهم ثم كما لا بد من تعريف المتعاقدين لا بد من تعريف المشترى ، وتعريف المشترى إذا كان محدودا بذكر الحدود والبلدة إلا أن في ظاهر الرواية عندنا يبدأ بالأعم من ذلك ، وهو ذكر البلدة ثم المحلة ثم الحدود وأبو زيد البغدادي رحمه الله يذكر في شروطه أن الأحسن أن يبدأ بالأخص من ذلك ثم يترقى إلى الأعم بمنزلة التعريف بالنسب فإنه يبدأ باسمه ؛ لأنه أخص به ثم باسم أبيه ثم باسم جده ولكنا نقول : العام يعرف بالخاص والخاص لا يعرف بالعام فكانت البداية بالأعم أحسن لهذا المعنى . وفي الحقيقة لا فرق بين هذا وبين النسب ، فإن هناك يبدأ باسمه ؛ لأن ذلك أعم ، فالمسمى بذلك الاسم يكثر في الناس عادة ثم بذكر اسم أبيه يصير أخص به ثم بذكر اسم جده يصير أخص فكذلك يبدأ بذكر البلدة ثم بذكر المحلة ليصير أخص ثم بذكر الحدود . وإذا ذكر الحدود فالأحسن أن يقول : أحد حدودها ينتهي إلى كذا ، وبعض أهل الشروط يكتب : أحد حدودها لزيق كذا أو يلاصق كذا ، وإنما ذكروا هذه الألفاظ ؛ لأنه لو كتب : أحد حدودها دار فلان ثم كتب اشتراها بحدودها دخلت الحدود في البيع . وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة أنه لا بأس بأن يكتب : أحد حدودها الداخلة أو الطريق العام ثم يكتب : اشتراها بحدودها ؛ لأنه لا يسبق إلى وهم أحد بهذا اللفظ لشراء الدجلة وما يدخل تحت البيع ، وقد روي عن محمد رحمه الله أنه استحسن في آخر عمره أن يكتب : أحد حدودها يلي كذا ، ولكن ما ذكرنا أحسن ؛ لأن الشيء قد يلي الشيء ، وإن كان لا يتصل به قال عليه السلام { ليليني منكم أولو الأرحام والنهى } ، والمراد به : القرب دون الاتصال فإذا قلنا : ينتهي إلى كذا أو يلاصق كذا يفهم الاتصال من هذا اللفظ لا محالة . ثم ذكر الحدود الأربعة للتحرز عن الاختلاف وقد قال بعض العلماء رحمهم الله : إن التعريف يحصل بذكر حد واحد ، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يحصل بذكر حدين وعندنا يحصل بذكر ثلاث حدود وعلى قول زفر لا يحصل إلا بذكر الحدود الأربعة ، وقد بينا هذا في الشهادات والكتاب يكتب على أحوط الوجوه ويتحرز فيه عن مواضع الخلاف فلهذا يكتب فيه الحدود الأربعة ثم قال : اشترى منه هذه الدار المحدود في كتابنا هذا ، ومن أهل الشروط من يقول : الأحسن أن يقول في هذا الكتاب هو اختيار هلال وأبي يوسف بن خالد رحمهما الله ؛ لأنه إذا قال في كتابنا : فظاهره يوهم أن الكتاب مشترك بينهما فربما يحول البائع بين المشتري وبين الكتاب احتجاجا بهذا اللفظ ، ولكنا نقول : هذا مما لا يسبق إلى الأوهام ، واللفظ المذكور في الكتاب أقرب إلى موافقة كتاب الله تعالى { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } ثم قال بحدودها كلها . وعن أبي يوسف ومحمد رحمه الله قال : لا أرى أن يكتب بحدودها ؛ لأن الحد غير المحدود ، والمشترى المحدود دون الحد فإذا قال : اشتراها بحدودها دخل في العقد الحدود التي تسمى ، ولكنا نقول : قد ذكرنا أنه إذا كتب : أحد حدودها ينتهي إلى كذا فقوله : اشتراها بحدودها ينصرف إلى المنتهي دون المنتهى إليه والمنتهي داخل في العقد فيستقيم أن يكتب اشتراها بحدودها ، وعلى ما قاله أبو حنيفة إذا كانت الحدود مما لا يدخل تحت العقد فلا يسبق إلى وهم أحد ذلك فيكتب اشتراها بحدودها كلها وأرضها وبنائها وسفلها وعلوها ، ومن أصحاب الشروط من يختار سفله وعلوه ، وقال : السفل والعلو للبناء لا للدار فالأحسن أن يكتب : ومنها سفله وعلوه ؛ لأن البناء مذكور لكن الأول أحسن ؛ لأنه ربما يكون في الأرض سرداب ، فإذا قال : سفله وعلوه لا يدخل السرداب ؛ لأن ذلك ليس ببناء والبناء ما يكون على الأرض ، فإذا قال : سفلها وعلوها دخل جميع ذلك فإن قيل : إذا قال : سفلها وعلوها يدخل الهواء في ظاهر هذا اللفظ ، وبيع الهواء لا يجوز فيفسد به العقد قلنا : هذا لا يسبق إليه وهم أحد ويعلم أن المراد ما يدخل تحت العقد دون ما لا يدخل فيه ثم قال : طريقها ومرافقها وذكر الطحاوي أن أكثر أهل الشروط يذكرون الطريق والمختار عندنا تركه ، وكذلك المسيل ؛ لأنهم إن ذكروا الطريق مطلقا يتناول ذلك الطريق العام الذي لا يحوزه ، وكذلك الميزاب ربما يصب في جزء من طريق العامة ، فإذا أطلق ذلك يدخل في البيع ما لا يجوز بيعه فيفسد به العقد ، وإن كان قال وطريقها ، وسبيل مائها الذي من حقوقها فربما لا يكون للدار طريق خاص هو من حقوقها فيصير جامعا في العقد بين المعدوم والموجود . والأحسن : أن لا يذكر الطريق والمسيل أصلا ؛ لأن المقصود حاصل بذكر المرافق فإنه إن كان لها طريق خاص أو مسيل ماء خاص دخل ذلك في العقد بذكر المرافق ، وإن لم يكن فإنما ينصرف هذا اللفظ إلى ما وراءهما من المرافق ثم قال : وكل قليل وكثير هو فيها أو منها وعند أبي يوسف لا يكتب هذا اللفظ ؛ لأنه إذا كتب هذا دخل في العقد الأمتعة الموضوعة فيها فإن ذلك كله مما يحتمل البيع ، وعند زفر بذكر هذا اللفظ يدخل ما يحتمل البيع ، وما لا يحتمل من زوجة أو ولد للبائع ، ومن حشرات هي فيها ؛ لأنه من القليل والكثير التي فيها فزفر رحمه الله يعتبر حقيقة اللفظ ، وأبو يوسف يعتبر ما يكون صالحا للعقد محلا له ؛ لأن قصد المتعاقدين إيراد العقد على ما يكون محلا له قال محمد رحمه الله : أرى أن يقيد ذلك الكتاب فيقول بما هو فيها أو منها من حقوقها فبهذا القيد يتبين أن المراد ما يكون من حقوق المبيع دون ما ليس من حقوقه من الأمتعة الموضوعة في الدار ثم في هذا الكتاب يقول بكل قليل أو كثير هكذا ذكر في كتاب الشفعة ، وفي كتاب الوقف قال : بكل قليل أو كثير ، والذي ذكر هنا أحسن ؛ لأن أو للشك ، وإنما يدخل عند ذكر حرف أو أحد المذكورين لا كلاهما ، ثم قال : وكل حق هو لها داخل فيها وخارج منها وذكر الطحاوي رحمه الله أن المختار عندنا أن يكتب بكل حق هو لها داخل فيها وكل حق هو لها خارج منها ؛ لأنه إذا قال وخارج منها فإنما يتناول هذا شيئا واحدا منعوتا بالنعتين جميعا ، وهذا لا يتصور والمشروط في العقد خارج منها بخلاف قوله : وكل كثير وقليل ؛ لأن القليل جزء من الكثير فلا حاجة إلى أن يقول بكل قليل وكل كثير ، وهنا الحقوق الداخلة غير الحقوق الخارجة ؛ فلهذا يذكرهما جميعا على نحو ما بينا . ثم قال كذا بكذا درهما وزن سبعة ، وهذا إذا كان في البلد نقد واحد فينصرف مطلق تسمية الدراهم إلى ذلك النقد ، ويحتاج إلى بيان مقداره وبيان وزنه ، وأنه وزن سبعة أي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل ، وإن كانت النقود مختلفة ، وكلها في الرواج سواء فلا بد من بيان صفة الدراهم ؛ لأن العقد لا يجوز بدونه ثم قال : وقد نقده فلان الثمن كله وافيا ، وبرئ إليه منه ؛ لأن من العلماء رحمهم الله من يقول : لا يستفيد المشتري البراءة بقبض البائع إذا لم ينقده المشتري فيكتب هذا اللفظ للتحرز عن قول ذلك القائل ثم قال : فما أدرك فلان بن فلان من درك أبي في هذه الدار فعلى فلان بن فلان خلاصه حتى يسلمه له ، وذكر أبو القاسم الصفار رحمه الله أنه ينبغي أن يكتب الدرك على وجه الشرط فيقول على أن ما أدرك فلان ؛ لأنه إذا كتب : فما أدرك فلان يكون ذلك ابتداء كلام لا على وجه الشرط ، فيذكر على وجه الشرط ولكن الأول أصح ؛ لأن الرجوع بالدرك لا يكون باعتبار الشرط ، ولكنه سواء شرط أو لم يشرط فحق الرجوع بالدرك ثابت ، وإنما الاختلاف فيما يرجع به عند لحوق الدرك على ما نبينه في موضعه . وقد روي عن أبي يوسف أن الأحسن أن يكتب فما أدرك من يحق له الرجوع من درك ولا يسمى المشترى لجواز أن يلحق الدرك بعد موته فإنما يكون الرجوع لوارثه ولكنا نقول : حق الرجوع بالدرك يثبت بالعقد فإنما يثبت لمن باشر العقد ، والدرك هو الاستحقاق الذي يسبق العقد فأما الاستحقاق بسبب يعترض بعد العقد لا يسمى دركا وبالسبب الذي يسبق العقد فإنما يلحق الدرك المشتري حيا كان أو ميتا فلهذا كتب فما أدرك فلان بن فلان من درك في هذه الدار ، ومن أهل الشروط من يزيد من درهم فما فوقها تحرزا عن قول ابن أبي ليلى رحمه الله إن ضمان الدرك لا يصح إلا بتسمية المقدار فللتحرز عن قوله : يكتبون هذه الزيادة ، ثم قال : فعلى فلان ابن فلان خلاصه حتى يسلمه له . معناه يرد عليه ثمن ما لحق الدرك فيه فهو المراد بالخلاص عندنا على ما نبينه . ثم قال : شهد أي شهد عليه الشهود المسمون ، ومن أهل الشروط من يكتب هذا اللفظ في أول الكتاب فيقول : هذا ما شهد عليه الشهود ، والأحسن عندنا : أن يذكره في الكتاب ؛ لأن الشهود إنما تكون شهادتهم في آخر الكتاب فالأحسن ذكر هذا اللفظ في الموضع الذي يثبت الشهود فيه أساميهم فإن أخذ منه كفيلا بالدرك كتب فما أدرك فلان من درك في هذه الدار فعلى فلان بن فلان وفلان بن فلان خلاص ذلك ، وإنما اخترنا لفظ الدرك دون لفظ العهد كما يكتبه بعض أهل الشروط فما لحقه في ذلك من عهدة ؛ لأن العهدة عند بعضهم اسم للصك ، وعند بعضهم اسم للعقد الذي جرى بينهما فاخترنا لفظ الدرك لهذا والمراد بالخلاص المذكور رد الثمن عند استحقاق المبيع عندنا ، وهو قول شريح رحمه الله فإنه كان يقول : من شرط الخلاص فهو أحمق سلم ما بعت أو رد ما قبضت ، ولا خلاص وكان سوار بن عبد الله القاضي رحمه الله يجوز اشتراط الخلاص ويقول : إن عجز البائع عن تسليم المبيع فعليه تسليم مثله فيما له مثل وتسليم قيمته فيما لا مثل له إذا شرط الخلاص ، وقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قضيا بالخلاص ، وكان عبد الله بن الحسن القاضي رحمه الله يقول : عليه أن يخلص المبيع من يد المستحق بما يقدر عليه بتسليمه إلى المشتري إذا شرط الخلاص ، وهذا كله غير صحيح عندنا ؛ لأن التزام ما لا يقدر على تسليمه بالعقد لا يصح ، فإنما عليه تسليم المبيع إن قدر عليه ، ورد الثمن إن عجز عنه ، ومن العلماء رحمهم الله من يقول : إن أقر البائع أن المبيع غير مملوك له واشترط الخلاص فعليه تسليمه أو تسليم مثله عند الاستحقاق ، فإن زعم أنه ملكه فعليه رد الثمن عند الاستحقاق ثم ينبغي أن يكتب في ضمان الدرك من غير أن يكون ذلك شرطا بينهما في العقد ؛ لأنه إذا شرط كفالة إنسان بالدرك ففي القياس يفسد به العقد وفي الاستحسان إذا كان فلان حاضرا في المجلس ، وكفل يصح ، وإن كان غائبا عن المجلس لا يصح فللتحرز عن ذلك يكتب من غير أن يكون ذلك شرطا في العقد . ويكتب : وكل واحد منهما ضامن لجميع ما أدرك فلان فيها ، وأيهما شاء فلان يأخذه بذلك تحرزا عن قول ابن أبي ليلى : إن مطلق الكفالة يوجب براءة الأصيل ، ويكتب : إن شاء أخذهما جميعا ، وإن شاء أخذ أحدهما تحرزا عن قول ابن شبرمة فإن على قوله بعد ما اختار مطالبة أحدهما ليس له أن يطالب الآخر فيكتب من شاء وكما شاء تحرزا من قول بعض العلماء : إنه بعد ما اختار مطالبة أحدهما ليس له أن يطالب الآخر إلا أن يتوى حقه على الذي طالبه به ثم يكتب حتى يسلما له هذه الدار أو يردا عليه ثمنها ، وهو كذا درهما فيكون ذلك تفسيرا للخلاص ، وليحصل به التحرز عن قول ابن أبي ليلى رحمه الله : إن الكفالة بالمال المجهول لا تصح ثم تفسير الدرك أن يستحق المبيع كله أو بعضه فأما إذا هلك قبل التسليم أو وجد به عيبا فرده فهذا لا يكون دركا حتى لا يرجع على ضامن الدرك بشيء إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله . قال إذا باع جارية من إنسان ، وضمن له آخر تسليمها فهلكت فإنه يكون له أن يرجع على الضامن بالثمن ؛ لأن الضامن بهذا اللفظ التزم ما هو مستحق على البائع ، والمستحق على البائع تسليم المبيع بالمال ، فإن عجز عنه يرد الثمن فالضامن بهذا اللفظ يكون ملتزما ذلك أيضا ، وإن ضمن الدرك فحينئذ لا يكون عليه رد الثمن . وإن كان المشتري منه رجلين ، فأراد أن يضمن كل واحد منهما ما أدركه فيه كتب فلان وفلان كفيلان ضامنان لما أدرك فلان من درك في هذه الدار ، وكل واحد منهما كفيل ضامن لما أدرك فلان من درك فلان فيها وأهل الشروط رحمهم الله يقولون : يريد في هذا الكتاب اشترى منهما صفقة واحدة لأن حكم العقد يختلف بالشراء من رجلين في اتحاد الصفقة واختلاف الصفقة ، ويكتب أيضا ، وكان العقد من كل واحد منهما بإذن صاحبه فإن على قول بعض العلماء ينصرف إيجاب كل واحد منهما عند الإطلاق إلى نصيبه ونصيب صاحبه ، فإذا لم يكتب هذه الزيادة عند الإطلاق لا ينفذ عقده عنده في نصيب صاحبه ويكتب على أن كل واحد منهما ضامن له ما يلحقه من العهدة ، أو ما أدركه فيه من درك ؛ لأن العلماء رحمهم الله يختلفون في أن الرجوع بالعهدة يكون على الوكيل أو على الموكل ، وكل واحد منهما في نصيب صاحبه يكون بمنزلة الوكيل باعتبار إذن صاحبه فللتحرز عن هذه الأقاويل يكتب هذه الزيادة ، وإن لم يقل : كفيل ضامن فهو مستقيم أيضا بقوله فما أدرك فلان من درك فيها إن شاء أخذهما بذلك جميعا ، وإن شاء أخذ أحدهما حتى يسلما له الدار أو يردا عليه الثمن ، وهو كذا كذا درهما فإن هذا تفسير للكفالة والضمان وبعد ما صرح بمعنى العقد فلا معنى للتصريح بلفظ العقد . وإن اشترى منزلا في دار كتب حدود الدار ثم ذكر حدود المنزل ، وموضعه من الدار أنه على يمين الداخل أو على يساره أو مقابله ، ووصف فيما يذكر من حقوق طريقه في ساحة الدار إلى باب الدار الأعظم مسلما ، والأحوط أن يبين عرض الطريق وطوله فمن العلماء رحمهم الله من يقول : إذا لم يبين ذلك فسد العقد لجهالة مقدار الطريق ، وعندنا : لا يفسد العقد ؛ لأن ذلك معلوم بطريق العرف ، ولكن الأحوط ذكره للتحرز ، ولو كتب المقصورة ، وهو منزل عليه حجرة على حدة فهذا مستقيم أيضا ، وكذلك لو كتب المسكن أو كتب الحجرة والأبيات التي فيها ، وهي كذا كذا بيتا ، فذلك كله مستقيم ، وهو تفسير للمنزل ثم يبين بعد هذا ما يدخل في العقد بدون ذكر الحقوق ، وما لا يدخل إلا بذكر الحقوق ، وفي الحاصل هذه ثلاثة فصول : الدار والمنزل والبيت ، فإن اشترى دارا ، ولم يقل بكل حق هو لها كان له بناؤها والجذوع والأبواب وغير ذلك ؛ لأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط فيدخل فيه السفل والعلو فأما الظلة التي على الهواء أحد جانبيها على حائط الدار ، والجانب الآخر على حائط دار الجار فعند أبي حنيفة لا تدخل إلا بذكر الحقوق ، وعند أبي يوسف ومحمد إذا كانت مفتحة في الدار فهو داخل في العقد بدون ذكر الحقوق ، والطريق الخاص لهذه الدار في دار قوم لا يدخل إلا بذكر الحقوق ، وعن أبي يوسف أنه يدخل أيضا كالظلة ، وفي الأمالي فرق بينهما فقال : الظلة تدخل فأما الطريق الخاص أو مسيل خاص في دار قوم لا يدخل إلا بذكر الحقوق ، والطريق التي في السكة العظمى لهذه الدار داخل ، وإن لم يذكر الحقوق . وإن اشترى منزلا ، فإن قال بحقوقه دخل فيه العلو ، وإن لم يذكر ذلك لم يدخل العلو ، وإن اشترى بيتا لم يدخل العلو سواء ذكر الحقوق أو لم يذكرها ما لم ينص على العلو والسفل ؛ لأن البيت اسم لمسقف واحد يبات فيه والعلو في هذا كالسفل فلا يكون أحدهما من حقوق الآخر ومرافقه وأما المنزل فهو الموضع الذي يسكنه المرء بأهله وثقله والأصل في ذلك السفل ولكن تمام مرافقه بالعلو ، فإن ذكر الحقوق والمرافق دخل فيه العلو وإلا فلا . ثم المنزل دون الدار وفوق البيت فلكونه دون الدار قلنا : لا يدخل العلو إذا أطلق اسم المنزل ولكونه فوق البيت قلنا بأنه يدخل إذا ذكر الحقوق أو المرافق . وإن اشترى نصيبا من الدار غير مسمى فهو باطل ؛ لأن المعقود عليه مجهول جهالة تفضي إلى المنازعة . وإن اشترى أذرعا مسماة من الدار لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله ، وفي قولهما يجوز وتذرع الدار فيكون المشتري شريكا بتلك الأذرع المسماة إن كانت ذراعان والدار أكثر من ذلك ، وإن كانت أقل فهو بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن ، وإن شاء تركه إلا أن يكون سمى لكل ذراع ثمنا فحينئذ يأخذ كل ذراع بالثمن المسمى ، وقد بينا هذا في البيوع . والمأذون وإن اشترى نصيب البائع من الدار ، فإن كانا يعلمان ذلك أو يعلمه المشتري جاز العقد ، وإن كان المشتري لا يعلم ذلك لم يجز في قول أبي حنيفة ، وفي قول أبي يوسف يجوز للمشتري الخيار إذا علم نصيب البائع ، وقول محمد مضطرب ذكر هنا مع أبي يوسف ، وقد تقدم بيانها في آخر الشفعة ، فإن كان سمى ربعا أو ثلثا أو سهما من كذا كذا سهما فذلك جائز ، وكذلك إن سمى كذا أجزأ من كذا جزءا بعد الثلث أو كذا سهما من كذا سهما بعد الربع فهذا كله جائز ، وإن سمى كذا ذراعا من كذا ذراعا من دار لم يجز في قول أبي حنيفة وجاز عندهما ، وكذلك إن سمى كذا جريبا من كذا جريبا ؛ لأن الجريب معلوم المقدار بالذراع فكان تسميته كتسمية الذراع وعندهما تسمية الذراع كتسمية السهم ؛ لأن ذراعا من ذراعين نصف الدار وذراعا من عشرة أذرع عشر الدار وأبو حنيفة رحمه الله يقول : الذراع اسم لجزء معلوم يقع عليه الذراع ، وذلك يتفاوت بتفاوت جانب الدار فبعض الجوانب يكون عامرا وبعضها غامرا وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة ، فبطل العقد بها . وقال يكتب في شراء نصيب دار من امرأة اشترى جميع نصيبها من هذه الدار المحدودة في كتابنا هذا ، وهو كذا سهما من كذا سهما من جميع هذه الدار بحدوده كله وأرضه وبنائه وطريقه ومرافقه ، وكل قليل أو كثير هو فيه أو منه قلت لم كتبه بحدوده وأرضه ، ولم يثبت بحدودها وأرضها كما في الكتاب المتقدم قال : لأن النصيب مذكر فلما أضفته إليه ذكرته ، وإن كتب بحدودها أرضها فهو جائز ؛ لأن عند ذلك الإضافة إلى الدار ، وهي مؤنثة ، والأول أحبهما إلي وأوضحهما فإن المشترى النصيب دون الدار وذكر هذه الأشياء لبيان المشتري وحقوقه . وإذا اشترى منزلا في دار وفوقه منزل واشترط كل حق هو له ، وكان العلو لغيره فهو بالخيار إن شاء أخذ السفل ، وإن شاء تركه ؛ لأن اشتراط كل حق في المنزل اشتراط العلو فكأنه شرط العلو أيضا ، فإذا ظهر استحقاق العلو فقد تغير عليه شرط عقده فكان له الخيار في الباقي بخلاف ما إذا لم يشترط كل حق هو له ، وإذا اشترى البيت سواء ذكر كل حق أو لم يذكر لا يدخل العلو ، فإذا استحق العلو لم يكن له خيار في السفل ، وفي الدار سواء ذكر كل حق أو لم يذكر إذا استحق العلو أو بعضه يخير فيما بقي ؛ لأن ذلك داخل في العقد بمطلق اسم الدار . وإن كان للدار طريق خاص في دار إنسان فمنع صاحب تلك الدار الطريق فالقول قوله إلا أن يقيم البائع البينة ، فحينئذ يثبت له استحقاق الطريق ، فإن كان ذكر الحقوق والمرافق كان ذلك للمشتري ، وإن عجز البائع عن إقامة حق البينة يثبت للمشتري حق الفسخ ؛ لأنه تغير عليه شرط عقده ، وإن كان طريق دار أخرى للبائع في هذه الدار ، فإذا لم يذكرها لم يستحق البائع ذلك ؛ لأنه أوجب للمشتري ما كان له من الملك في هذه البقعة فيدخل فيه الطريق ، وغير الطريق إلا أن يستثنى الطريق بخلاف ما إذا كان الطريق لغير البائع ، فإن البائع إنما أوجب للمشتري ما هو حقه إلا أن يكون المشتري غير عالم لم يكن الطريق لغيره ، فحينئذ الخيار للمشتري ؛ لأن هذا يعد في الناس عيبا وينتقص - باعتباره - الثمن . فإن اشترى بيت سفل في دار ليس له علو كتب اشترى منه جميع البيت الذي كان في الدار - التي في بني فلان - أحد حدود هذا البيت فيذكر حدوده ؛ لأن البيت في الدار كما أن الدار في المحلة فكما أن في شراء الدار ينبغي له أن يذكر المحلة ففي شراء البيت لا بد من إعلام الدار التي فيها البيت ، وإعلامها بذكر حدودها ثم العقد يتناول بقعة معلومة من الدار ، وهو موضع البيت فلا بد من إعلام ذلك على وجه لا يتمكن بينهما المنازعة وإعلامه بذكر حدوده ثم يكتب اشترى منه هذا البيت الذي حددنا في هذه الدار المحدودة في كتابنا هذا بحدوده كله وأرضه وبنائه وطريقه في ساحة الدار إلى باب الدار الأعظم مسلما ؛ لأن المشترى بيت ، وهو مذكر فيقول بحدوده كله ويذكر طريقه في ساحة الدار ؛ لأن ذلك لا يدخل بالذكر والانتفاع من حيث السكنى والبيتوتة لا يتأتى إلا بذلك ، وقال أبو يوسف رحمه الله : أرى أن يكتب الحدود الحد الأول ، ومن قبل القبلة دار فلان ، والحد الثاني في شرقي الدار دار فلان والحد الثالث : دبر القبلة دار فلان والحد الرابع : الغربي دار فلان ؛ لأن جهة القبلة أشرف الجهات فالبداية أولى منها ، وإن شاء بدأ بالغربي ودار عليها ، وإن شاء بدأ بالذي هو دبر القبلة ثم سمى الذي يليه ، وهو قول محمد رحمه الله أيضا ، وإن لم يكتب ذلك أيضا لم يضره ؛ لأن المقصود هو الإعلام وبذكر الحدود صار معلوما ، وإن لم يقل من قبل القبلة أو دبر القبلة ، والكلام في قوله أحد حدودها دار فلان وانتهى إلى دار فلان أو لزيق دار فلان كما بينا . وإن كان المشترى بيتا علوا في الدار ليس له سفل كتب اشترى منه البيت الذي في علو الدار التي في بني فلان ويذكر حدود الدار ثم يقول : وهذا البيت على البيت الذي من هذه الدار في موضع كذا ؛ لأنه قد ينهدم ذلك البيت فيحتاج المشتري إلى إعادته ، ولا يتمكن من ذلك إلا بعد أن يكون موضعه من الدار معلوما ، وإعلام موضعه بإعلام موضع البيت الذي هذا علوه فيكتب ، وهو علو سفله لفلان أحد حدود البيت الذي هذا البيت عليه ، والرابع : أنه ليس للعلو حدود ، وإنما الحدود للسفل وذكر الطحاوي رحمه الله قال : هذا إذا لم يكن حول هذا العلو حجرة ، فإن كان ذلك فعليه أن يذكر حدود العلو أيضا ؛ لأن المبيع هو العلو ، وإنما يثبت إعلام المبيع بذكر حدوده ، فإن أمكن ذلك فلا بد من ذكر حدود المبيع ، ثم يكتب أشتري منه هذا البيت الذي حددنا سفله في هذه الدار المحدودة في كتابنا هذا بحدوده كله وأرضه وبنائه وطريقه في الدرج ، وفي ساحة الدار إلى باب الدار الأعظم ، وإلى علو البيت مسلما ، قالوا وينبغي أن يبين موضع الدرج من الدار أيضا ؛ لأن ذلك ينقل من موضع إلى موضع فربما ينتفع به صاحب العلو في جانب ويتضرر به في جانب آخر ، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله نرى أن يكتب ، وقد نقد فلان بن فلان الثمن كله ، وقبضه فلان منه ، وهو كذا درهما ؛ لأن من العلماء من يقول : لا يجبر البائع على قبض الثمن إذا نقده المشتري ولا يستفيد المشتري بالبراءة ما لم يقبضه البائع منه فللتحرز عن هذا القول تذكر هذه الزيادة . وإن كان بيت فوقه بيت فاشتراهما جميعا كتب : أشتري منه بيتين من الدار التي في بني فلان أحدهما فوق الآخر ؛ لأن مطلق اسم البيتين يتناول بيتين متلاصقتين كل واحد منهما سفل فيذكر : أحدهما فوق الآخر ، ويكتب : هذا البنيان من هذه الدار من موضع كذا ، أحد حدود البيت الأسفل كذا ؛ لأن الحدود للبيت السفل وبذكرها يصير العلو معلوما ثم يكتب : اشترى منه هذين البيتين اللذين حددنا أسفلهما في هذه الدار المحدودة في كتابنا هذا بحدودها كلاهما وأرضهما وبنائهما وطريقهما في الدرج ، وفي ساحة الدار ، ويحد به على ما وصفنا ؛ لأن كل واحد من البيتين أصل هنا لا يدخل في العقد إلا بالذكر فلا بد من أن يسميهما عند ذكر الحدود والمرافق . وإذا اشترى دارا من رجلين ، وهي صحراء كتب : اشترى منهما الدار التي في بني فلان أحد حدودها ، والرابع : اشترى منهما هذه الدار المحدودة في كتابنا هذا وهي صحراء ليس فيها بناء ؛ لأن اسم الدار يتناول الصحراء كما يتناول المبنى بدليل مسألة الأيمان إذا حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما صارت صحراء كان حانثا في يمينه ولكن في العرف إنما يفهم المبنى عند إطلاق الاسم ، وربما يبنيهما المشتري فيستحق بناءه ، فإما أن يفسخ العقد أو يرجع بقيمة البناء ، فإذا لم يبين في صك الشراء أنها كانت يومئذ صحراء ربما يقضي القاضي له بذلك بناء على العرف الظاهر فلهذا يكتب هذه الزيادة في هذا الكتاب . قال وقال أبو يوسف ومحمد نرى أن يكتب في الضمان قيمة البناء يعني إذا اشترى هذه وضمن له إنسان الدرك ينبغي أن يذكر في آخر الكتاب : وكل واحد منهما كفيل ضامن بجميع ما أدرك في هذه الدار وقيمة ما بني فيها من بناء من بين كذا إلى كذا درهما ، وإنما استحسن التنصيص على قيمة البناء في الضمان لاختلاف العلماء رحمهم الله فإن على قول أهل المدينة عند الاستحقاق المشتري لا يرجع بقيمة البناء الذي بناه على البائع إلا أن يكون البائع أمره بالبناء وعلى قول الشافعي لا يرجع بقيمة البناء والأشجار إلا إذا ضمن البائع له ذلك نصا ؛ لأن البناء ليس بمتولد من عين المبيع ، وإنما يثبت حكم الغرور في المبيع ، وفيما يكون متولدا منه كالأول وعندنا يرجع بقيمة البناء ، ومن غير شرط باعتبار أن مطلق العقد يقتضي صفة السلامة ولا عيب فوق الاستحقاق ، والبائع بمطلق العقد يصير ضامنا للمشتري قرار البناء ، فإذا لم يسلم له ذلك كان له أن يرجع بقيمة البناء فللتحرز عن هذا الخلاف يكتب ضمان قيمة البناء وينص أيضا على مقدار ذلك بقوله : ما بين كذا إلى كذا درهما ؛ لأن على قول ابن أبي ليلى الكفالة بالمجهول لا تصح فكان بيان المقدار في الوثيقة للتحرز عن ذلك ثم قال إلى كذا درهما بقيمة عدل يوم يستحق الدار من يده ؛ لأن حق الرجوع إنما يثبت له بقيمة البناء عند الاستحقاق فإن المستحق ينقض بناءه فإنه يسلم النقض إلى البائع ويرجع عليه بقيمة البناء مبنيا وقت الاستحقاق ، وإنما يرجع بقيمة عدل ، وهو ما فوق الوكس ودون الشطط . ، ومن أهل الشروط رحمهم الله من استحسن أيضا أن يكتب وذلك البناء قائم يستحق من ذلك ؛ لأن المشتري قد يبني ثم ينهدم البناء قبل الاستحقاق فعند الاستحقاق لا يرجع بقيمة ما انهدم من البناء الذي أحدثه فيكتب ، وذلك البناء قائم فيما يستحق من ذلك ، ولا يقول : في هذه الدار ؛ لأنه قد يستحق نصف الدار ، فإنما يكون رجوعه بقيمة نصف البناء عند ذلك ، وإن كان على قول مالك : العقد يبطل كله باستحقاق النصف ، ويكون له أن يرجع بقيمة جميع البناء ولكن هذا فاسد عندنا ، فإن الرجوع بحكم الاستحقاق ، فإنما يثبت بمقدار ما يوجد فيه الاستحقاق ؛ فلهذا يكتب بقيمة ما يستحق من ذلك ، وبعض أهل الشروط يكتب قيمة البناء والعرش وغير ذلك ، وهذا غير مستحق عندنا ؛ لأنه يتناول هذا اللفظ ما لا رجوع له من مرمة ليست بعين مال أو حفر فإن المشتري إنما يرجع بقيمة البناء باعتبار أنه يسلم النقض إلى البائع ولا ينافي ذلك في هذه الأشياء ، فاشتراطه في العقد يفسد العقد حتى لو قالوا لو حفر بئرا في الدار وطواها فالحفر ليس من البناء في شيء ، والعلو من البناء فيكون له أن يرجع بقيمة ما هو بناء مطوي ويكتب بعض أهل الشروط الرجوع بما أنفق في البناء ، وهذا مستحسن عندنا فإن رجوع المشتري بقيمة البناء باعتبار أنه يملك النقض من البائع ، وهذا المعنى لا يوجد فيه ؛ لأنه أنفقه لنفسه على ملكه فلا يرجع به عند الاستحقاق ؛ فلهذا كان المختار اللفظ الذي ذكره محمد رحمه الله في الكتاب ، وإنما يكتب : إن كل واحد منهما ضامن لجميع ذلك ؛ لأنه لو لم يكتب هذا رجع على كل واحد من البائعين بنصف قيمة البناء ، فإن كل واحد منهم إنما باعه النصف ، وإنما ضمن له السلامة باعتبار عقده فلمعنى النظر للمشتري يكتب هذا اللفظ حتى يكون له أن يرجع على أيهما شاء بجميع قيمة البناء ؛ لأن في النصف هو بائع ، وفي النصف الآخر هو ضامن عن صاحبه ، ويكون ضمانه كضمان أجنبي آخر . وإن اشترى بيتين متفرقين في دار واحدة أحدهما علو ، والآخر سفل كتب أشتري منه بيتين في الدار التي في بني فلان ؛ أحد حدود هذه الدار التي فيها هذان البيتان والرابع : وأحد هذين البيتين في موضع كذا من هذه الدار من سفل علوه له ؛ لأن أحد حدود البيت السفل فيذكر حدوده ثم يذكر حدود البيت الآخر علو سفله لفلان ويحد البيت فيذكر حدوده ثم يجريه على ما وصفنا ، وقد بينا هذا في السفل المشترى وحده ، والعلو المشترى وحده بدون السفل ، فكذلك إذا اشترى سفل بيت وعلو بيت آخر وهما في دار واحدة فلا بد من إعلام كل واحد منهما بذكر الموضع والتحديد وإعلام العلو وبتحديد السفل إذا لم يكن حول العلو بناء ، وإن كان فتحديده ممكن في نفسه على ما فسره الطحاوي رحمه الله . وإن اشترى منه طريقا في دار كتب أشتري منه طريقا من الدار التي في بني فلان ويحددها ، وهذا الطريق من هذه الدار ما بين موضع كذا من دار فلان التي إلى جانب هذه الدار إلى باب هذه الدار المحدودة في كتابنا هذا ، عرض هذا الطريق عرض باب الدار ؛ لأنه لا بد من إعلام المعقود عليه ، وإعلام الطريق بذكر طوله وعرضه ثم يكتب : أشتري منه هذا الطريق الذي ضمنا في هذه الدار المحدودة في كتابنا هذا بحدوده كلها وأرضه مسلما إلى باب الدار ، وقد استحسن بعض أهل الشروط أن يبين ذلك بالذراع طولا وعرضا ؛ لأن في قوله عرضه عرض باب الدار بعض الإبهام فقد يبدل بالباب باب آخر ولكن يجوز محمد رحمه الله بهذا القدر من الإبهام ؛ لأن عرض باب الدار طريق متفق عليه ، وعند المنازعة يرد المختلف فيه إلى المتفق عليه ، والمقصود من الطريق التطرق ، وهذا المقصود إنما يتم إذا كان الطريق بقدر عرض باب الدار ، فإن ما لا يدخل في ذلك الباب لا يمكنه أن يحمله في الطريق قال : ولو لم يسم عرض الطريق كان يجوز أيضا لهذا المعنى ، وهو أن التسمية للرجوع إليه وقطع المنازعة به عند الحاجة ، وهذا حاصل بمعرفة باب الدار فلا حاجة إلى ذكر ذلك ، وإن كان على هذا الطريق علو لغيره ينبغي أن يكتب : علوه لفلان لقطع المنازعة فإن بمطلق التسمية يستحق المشتري ذلك الموضع من الأرض ، فربما ينقض العلو الذي للغير عليه أو يمنع صاحب العلو من أن يبني عليه علوا بعد الانهدام . وإن اشترى حائطا كتب : أشتري منه الحائط التي في الدار الذي في بني فلان ، وهذا الحائط من هذه الدار في موضع كذا ما بين كذا إلى كذا عرضه كذا ؛ لأن بتناول الطول والعرض يصير المشترى - وهو البناء وموضعه من الأرض - معلوما ، ثم يقول : أشتري منه هذا الحائط الذي سمينا بحدوده كله أرضه وبناءه ؛ لأنه إذا لم ينص على ذلك دخل فيه اختلاف شبهة العلماء دخول الأصل في البيع . وإن اشترى دارا غير بيت فيها كتب : أشتري منه الدار التي في بني فلان غير بيت واحد من هذه الدار ، وطريقه ، وهذا البيت من هذه الدار من موضع كذا ، وعين حدوده ؛ لأن البيت المستثنى باق على ملك البائع ، ولا يمكنه الانتفاع به إلا بالطريق إليه في حاجة الدار ، فإذا لم يذكر الطريق فيما يستثنى تضرر البائع في تسليم المعقود عليه ؛ لأنه يتعذر عليه الانتفاع بما ليس بمعقود عليه ، وذلك مفسد للعقد ؛ فلهذا يقول : غير هذا البيت ، وطريقه إلى باب الدار الأعظم ثم يكتب في آخره ، وقد رأى فلان هذا البيت ، وعرفه لئلا يكون له الخيار إذا رآه ؛ لأنه لما لم ير المستثنى تتمكن به جهالة في صفة المعقود عليه ، فإن بيوت الدار تختلف في المنفعة والمالية ؛ ولهذا لو اشترى بيتا من الدار بغير عينه لا يجوز . وإذا اشترى بيتا لم يره كان له الخيار ، وإن كان قد رأى ما سواه من البيوت فكذلك إذا رأى المستثنى بيتا لم يره كان له الخيار في الباقي . وإن اشترى منزلا في دار ونصف ساحة تلك الدار ونصف مخرجها والطريق كتب : أشتري منه منزلا في الدار التي في بني فلان وأشتري منه أيضا نصف ساحة هذه الدار ونصف مخرج فيها سوى هذا المنزل ثم يحدد هذا الدار ثم يكتب ، وهذا المنزل من هذه الدار في موضع كذا ويذكر حدود المنزل ثم يكتب ، وهذا المخرج من هذه الدار في موضع كذا ويذكر حدوده ثم يذكر حدود ساحة الدار ؛ لأن العقد يتناول كل ذلك إما كله أو بعضه فلا بد من أن يحدد جميع ذلك ثم يكتب اشترى منه هذا المنزل الذي حددنا ونصف هذا المخرج ونصف ساحة هذه الدار بحدودها كلها وأرضها وبنائها وطريقها إلى باب الدار ، وإلى المخرج مسلما ثم يجريه على ما وصفنا . وإن اشترى دارا بناؤها للمشتري يكتب على رسم ما لو اشتراها كلها إلا أنه لا يكتب وبناءها ؛ لأن البناء مملوكا له وشراؤه إنما يتناول ملك البائع لا ملك نفسه ، ومن أهل الشروط من يقول : الأحسن أن يكتب اشترى أرض دار بناؤه للمشتري ؛ لأن اسم الدار مطلقا في العرف يتناول المسمى والأولى أن يستعمل أخص الألفاظ فيما يرجع إلى إعلام المشتري . وإن اشترى نصف دار ونصفها الآخر للمشتري وأراد أن يبينه كتب أشتري منه نصف الدار التي في بني فلان وهذه الدار التي نصفها لفلان أحد حدودها والرابع ، وإنما يذكر حدود جميع الدار ، وإن كان المشترى نصفها ؛ لأن تحديد نصف الدار غير ممكن . وإن اشترى دارا لغيره وأراد أن يكتب اسمه في الشراء كتب اشترى فلان لفلان من فلان وأكثر أهل الشروط رحمهم الله يكتبون اشترى لفلان بأمره وماله وذلك غير مستحسن عندنا ؛ لأن الثمن بالشراء يجب في ذمة المشتري فلا يتصور أن يكون مشتريا بمال الغير ؛ لأن ما يجب في ذمته بعقد لا يتصور أن يكون مالا للغير ثم في هذا ضرر على البائع ؛ لأن الموكل إذا حضر وأنكر الوكالة كان له أن يسترد المال من البائع لإقرار البائع أن المال له ثم هو يحتاج إلى الرجوع على المشترى بالثمن وربما لا يقدر على ذلك قال الطحاوي رحمه الله ، وفيه إفساد آخر أيضا ، وهو على أن قول زفر والشافعي النفوذ يتعين في العقد ، فإذا أنكر الموكل الأمر ورجع بدراهمه انفسخ العقد فلهذا لم يذكر محمد رحمه الله هذه الرواية ، وإنما ذكر اشترى فلان لفلان من فلان ويجري الكتاب على رسمه إلى أن يكتب في آخره فما أدرك فلان بن فلان من درك فيما اشترى له فلان فعلى فلان خلاصه حتى يسلمه له فقد ذكر ضمان الدرك للوكيل ؛ لأن الوكيل بالعقد فيما هو من حقوق العقد ينزل منزلة العاقد لنفسه ولكن إنما ذكر هذا ؛ لأن الوكيل بالتسليم يخرج من الوسط فالاستحقاق بعد ذلك يكون للموكل والدرك إنما يلحق الموكل . ( ألا ترى ) أنه ليس للمستحق الخصومة مع الوكيل بعد التسليم وذكر الخصاف أن محمد بن الحسن رحمه الله حين كان بالرقة كتب للرشيد كتابا بهذه الصفة وكتب فما أدرك أمير المؤمنين من درك فعلى فلان خلاصه حتى يسلمه له أو يرد الثمن على المشتري ، وهو فلان فقال له بعض من حضر المجلس من أصحابه لماذا كتبت الدرك للمشترى له فقال هكذا كتب أبو حنيفة رحمه الله فقال إذا كتب الدرك له فلماذا لم تكتب رد الثمن عليه قال لأن رد الثمن عند الاستحقاق إنما يكون على من وجب عليه الثمن بالعقد والثمن بالعقد وجب على الوكيل دون الموكل فكذلك الرد يكون عليه عند الاستحقاق قيل فإن كتب كاتب أو يرد الثمن على المشترى له قال أكره ذلك ولا أفسد به العقد وكأنه سلك في هذا طريقة الاستحسان على قياس الوكيل بالبيع إذا قبض الموكل الثمن بنفسه ، فإن كتب كاتب فما أدرك فلان المشتري قال أكره ذلك أيضا ولا أفسد به العقد ؛ لأن الدرك قد يلحق الوكيل قبل أن يسلمه إلى الموكل ولكن لو كتب في ضمان قيمة البناء أنه ضامن لقيمة ما يبني المشتري كان ذلك يفسد العقد ؛ لأن الوكيل في البناء في هذه الدار كأجنبي آخر فإنه ليس له أن يبني بدون رضا الموكل فاشتراط ضمان بنائه في العقد كاشتراط ضمان أجنبي آخر وذلك مفسد للعقد . وإن اشترى دارا فيها حمام كتب على نحو ما وصفنا في شراء الدار والدارين قال ويسمي فيها قدر الحمام ، وهذا تنصيص على أن قدر الحمام لا تدخل في العقد من غير شرط بخلاف الأبواب والسرر المركبة في شراء الدار ؛ لأن القدر لا يركب في موضعه ليكون على البناء ولكنه يوضع على الأبواب ويطين ما حوله لكي لا يخرج النار والدخان من جوانبه ، وهو بمنزلة المتاع الموضوع لا يدخل إلا بالتسمية وأكثر أصحاب الشروط رحمهم الله يكتبون بعد ذكر الحمام بحدودها وقدرها وآنيتها وملقى رمادها وشرفاتها وبئرها والبكرة والدلو والرشاء التي فيها ومستنقع ما فيها من حقوقها وبعض هذا دخل في العقد من غير ذكر ولكنهم يذكرونه للمبالغة في ذكر ما يختص به الحمام من سائر المحدودات . وإن اشترى دارا من ثلاثة نفر لأحدهم نصفها وللآخرين النصف كتب بعد ذكر الحدود أشتري منهم هذه الدار المحدودة في كتابنا هذا ، ومن فلان كذا ، ومن فلان كذا ؛ لأن الأنصباء قد تفاوتت ، والحكم يختلف باختلاف ذلك يعني فيما يستوجب كل واحد منهم الثمن فيما يكون للمشتري فيما يستوجب كل واحد منهم من الثمن ، وفيما يكون للمشتري من حق الرجوع على كل واحد منهم عند لحوق الدرك فلا بد من ذكر نصيب كل واحد منهم نفسه ثم يكتب وقد نقدهم الثمن كله وبرئ إليهم منه فقبض فلان من ذلك كذا وفلان كذا ؛ لأن عند الاستحقاق إنما يرجع على كل واحد منهم بما نقده من الثمن ؛ لأنه لو لم يفسره بكذا ربما يدعي صاحب النصف أنه لم يصل إليه إلا ثلث الثمن ويحتج بمطلق إقراره فإنه نقدهم الثمن ثم قال فما أدرك فلان من ذلك في هذه الدار فعلى فلان وفلان خلاص ذلك على قدر أنصبائهم التي اشترى منهم حتى يسلموه له على قدر ما اشترى منهم . وإن اشترى ثلاثة نفر من واحد كتب اشتروا منه هذه الدار المحدودة في كتابنا هذا اشترى منه فلان كذا وفلان كذا ، وهذا على ما عليه العادة من إعادة الخبر إذا تخلل بينه وبين المخبر عنه كلام آخر فيكتب اشترى منه فلان كذا وفلان كذا ويكتب وقد نقده الثمن كله وافيا من أموالهم على قدر أنصبائهم التي اشتروا منه نقد فلان من ذلك كذا وفلان كذا وفلان كذا وبرئوا إليه منه فصار لفلان من هذه الدار كذا ولفلان كذا ولفلان كذا فما أدركهم من ذلك في ذلك فعلى فلان خلاص ذلك إلى آخره . وإن اشترى دارا لابنه الصغير كتب اشترى فلان لابنه فلان وأهل الشروط رحمهم الله يكتبون اشترى لابنه الصغير بماله وبولايته عليه مميزا لماله ، وقد بينا في الشراء للغير أن الأحسن أن لا يذكر المال فكذلك في الشراء لابنه واتفق أهل الشروط هنا على أنه يكتب اسم الأب قبل اسم الابن ، وفي الشراء للغير منهم من يقدم اسم الموكل فيكتب اشترى لفلان فلان ، ومنهم من يقدم اسم المشتري فيكتب اشترى فلان لفلان الوكيل ولكن يكتب اشترى لفلان الآمر بأمره فلان بن فلان وأهل الشروط يزيدون في هذا الكتاب عند ذكر الثمن ، وهو ثمن مثل هذه الدار ، ولم يذكر محمد رحمه الله هذه الزيادة ؛ لأن أهل الشروط بنوا على أنه اشترى بمال الصغير فذكروا هذه الزيادة ؛ لأن الشراء بماله بغبن فاحش لا ينفذ عليه ، ومحمد رحمه الله لم يذكر ماله أصلا فلهذا لم يتعرض لهذه الزيادة في الابتداء إلا أنه ذكر في آخره ، وقد نقد فلان الثمن كله وافيا ، ومن مال ابنه فلان ، وإنما ذكر هذا ليكون فيه نظر للولد فربما يدعي الأب أنه نقد الثمن من مال نفسه فيرجع به عليه أو يدعي ذلك سائر الورثة بعد موته ، ويكون القول قولهم فلهذا ذكر هذه الزيادة ، ويكتب وهو يومئذ صغير في عيال أبيه ؛ لأن من العلماء رحمهم الله من يقول : إذا لم يكن الولد في عياله فليس له ولاية التصرف في ماله ، وإن كان الولد صغيرا فللتحرز عن ذلك يكتب هذه الزيادة ثم يكتب فما أدرك فلانا من درك فيما اشترى له فلان فعلى فلان خلاصه ؛ لأن بعد بلوغ الولد إنما يلحق الابن دون الأب ، وقد استحسن بعضهم أن يكتب هنا ، وفي الشراء للغير أيضا ، وقد وكل فلان يعني المشتري فلانا بالخصومة فيما يلحقه من العهدة في هذه الدار إما وكالة مطلقة في الدار في الحال أو مضافة إلى ما بعد البلوغ في حق الولد ويزيدون أيضا على أنه كلمة عز له فهو وكيل من جهته توكيلا جديدا ، وفي هذا النوع احتياط للموكل وللابن فإنه إذا دفعت الحاجة إلى الخصومة بالعيب لا يتمكن الموكل ولا الابن من خصومة البائع وربما يكون المشتري غائبا أو حاضرا ويمتنع من مباشرة الخصومة بنفسه قد ذكر هذا التوكيل لكي لا يتعذر على المشتري له الوصول إلى حقه . وإذا باع رجل داره من ابنه ، وهو صغير في عياله كتب هذا كتاب من فلان بن فلان لفلان بن فلان ابنه إني بعتك الدار التي في بني فلان ويحددها ويجري الكتاب على الرسم بكذا درهما وقبضت الثمن كله منك وبرئت إلي منه وأنت يومئذ صغير في عيالي فما أدركك من ذلك في هذه الدار فعلي خلاصه ، وفي هذا تنصيص على أن الأب لا يحتاج إلى لفظين في البيع من ولده لنفسه . ويحكى عن أبي علي الشاشي رحمه الله أنه كان يقول : يحتاج إلى ذلك ؛ لأنه في جانب الولد فيما يعامل نفسه فيكون نائبا ولا يكون كالمباشر للعقد حتى إن العهدة بعد البلوغ فيه تكون على الولد بخلاف ما يعامل غيره فإن الأب فيه مباشر للعقد والعهدة عليه بعد بلوغ الولد ، وهو في لفظ واحد لا يصلح أن يكون مباشرا للعقد وسفيرا فلا بد من لفظ هو يكون مباشرا فيه من جانب نفسه ، ومن لفظ آخر يكون هو سفيرا فيه عن الابن بخلاف المولى يزوج وليته ممن هو وليه فالعاقد في النكاح يكون بمنزلة السفير من الجانبين ، وهو باللفظ الواحد يستقيم أن يكون سفيرا عن جماعة ولكن الأصح ما ذكره محمد رحمه الله ، وقد أشار إليه في الزيادات أيضا أنه في البيع يتم بقوله بعت منه بكذا ، وفي الشراء يتم بقوله اشتريت منه بكذا ؛ لأن اللفظ الذي به يلتزم العهدة ، ويكون مباشرا يكون أقوى من اللفظ الذي يكون سفيرا والقوي ينتظم الضعيف ولا يظهر في مقابلته ففي حق من يكون مباشرا يسقط اعتبار اللفظ الذي يكون به معبرا عن غيره في العقد حتى قالوا لو ذكر اللفظ الذي هو سفير فيه فقال اشتريت مني هذه الدار بكذا ، وفي الشراء قال بعت هذه الدار لابني من نفسي لا يتم ؛ لأن الضعيف لا ينتظم القوي فلا بد من التصريح باللفظ الذي به يلتزم العهدة وذلك في البيع بالإيجاب ، وفي الشراء بالقبول قال وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا كان في الرسم لفلان فكل شيء أضفته إليه فاجعله بالكاف ولا تجعله بالياء ، وإذا كان الكتاب من رجل فكل شيء أضفته إليه فاجعله بالياء ولا تجعله بالكاف والصواب فاجعله بالهاء ومعنى هذا الكلام أنه إذا كتب : هذا الكتاب من فلان بن فلان ، يكتب : إني قد بعتك ، وكذلك ما بعده كله بالكاف ، وإذا كتب : هذا الكتاب من رجل لابنه فلان بن فلان أنه باع منه فيذكر هذا ، وما بعده بالهاء . وإذا اشترى رجل دارا بدين له على البائع كتب هذا كتاب لفلان بن فلان أنه كان لك على هذا كذا درهما ، وهو جميع ما كان لك علي وإني بعتك بذلك كله الدار التي في بني فلان ويجريه على الرسم حتى يقول : بجميع الدين الذي لك علي ، وهو كذا درهما ولا يكتب ، وقد قبضته منك ولكن يكتب ، وقد برئت إلي من الثمن كله ، ولم يستحسن بعض أهل الشروط هذا اللفظ أيضا وقالوا هذا إقرار بالقبض ، وفي الشراء بالدين يسقط الدين إذا تم الشراء إلا أن يصير المديون قابضا له ؛ لأنه لا يجوز أن يكون قابضا دين الغير من نفسه ولكنا نقول لا يجوز أن يكون قابضا دين الغير من نفسه للغير ولكن يجوز أن يكون قابضا لنفسه فيجعله قابضا الثمن لنفسه ولكن قبض حكمي لا حسي فيكتب : وقد برئت إلي من الثمن كله ولا يكتب ، وقد قبضته منك ؛ لأن ذلك عبارة عن القبض الحسي ثم يكتب ، وقد قبضت هذه الدار مني ، وقد برئت إليك منها وبرئت أنا مما كان لك علي من الدين وهذه زيادة لا يحتاج إليها ولكن من الألفاظ ما جرى الرسم بذكره للتأكيد فيذكر محمد رحمه الله بعض تلك الألفاظ كما هو عادة أهل الشروط ، فإن أراد الذي عليه الدين أن يكتب براءة من الدين كتب هذا كتاب من فلان أنه كان لي عليك كذا ، وهو جميع ما كان لي عليك وأنك بعتني به دار كذا وقبضتها منك وبرئت إلي منه فما ادعيت قبلك من دعوى في هذا الدين أو غيره بعد هذه البراءة فإني فيما ادعيت من ذلك مبطل وأنت مما ادعيت من ذلك كله بريء وهذه زيادة زيادات لا يحتاج إليها ، ولم يستحسن بعض أهل الشروط قوله أو غيره ؛ لأنه إن كان المراد غير هذا الدين مما كان واجبا له عليه فهو ما برئ من ذلك بهذا الشراء ، وإن كان المراد به غيره مما يجب له عليه بعد هذا الشراء فهو لا يبرأ من ذلك بهذا الشراء ، وإن كان المراد غيره مما ليس بواجب فهو مبطل في دعوى ذلك كتب هذا أو لم يكتب فلا فائدة في هذه الزيادة ولكن جرى الرسم بكتب هذه الزيادة لطمأنينة القلوب . وإذا كان الشراء من وكيل كتب كتاب الوكالة وشهادة الشهود عليها على حدة وكتب كتاب الشراء من الوكيل باسمه مجردا وجعل تاريخه بعد تاريخ كتاب الوكالة فإن كتاب الوكالة حجة الوكيل من وجه وكتاب الشراء وثيقة للمشتري فينبغي أن يفصل أحدهما عن الآخر ، وإن كتب الكل في بياض واحد وبدأ بكتاب الوكالة ثم بكتاب الشراء فهو مستقيم أيضا ؛ لأن مقصودهما بذلك يحصل ، وإنما يجعل تاريخ كتاب الشراء بعد تاريخ كتاب الوكالة ؛ لأن صحة البيع تنبني على صحة الوكالة ، وإنما يكتب كتاب الشراء من الوكيل باسمه ؛ لأن الوكيل بالبيع بمنزلة البائع لنفسه فيما هو من حقوق العقد . ( ألا ترى ) أن عند لحوق العهدة إنما يخاصم المشتري الوكيل خاصة ولا حاجة إلى حضرة الموكل ، وكذلك إن كان وكيلا من قبل القاضي في بيع مال الميت أو كان وصيا لميت فهو بمنزلة ما تقدم ؛ لأن وكيل القاضي تلحقه العهدة وينزل منزلة العاقد لنفسه والوصي كذلك فإن القاضي نائب عن الميت في هذا التوكيل فيكون بمنزلة توكيل الميت إياه في حياته ، وفي هذه المواضع يكتب اشترى منه الدار التي في بني فلان ولا ينسب الدار إلى أحد ؛ لأن نسبتها إلى العاقد تكون كذبا في الحقيقة وإلى غيره لا يكون مستقيما ؛ لأنه لم يجز ذكر غيره في كتاب الشراء . وإذا هلك صك الشراء فطلب المشتري من البائع أن يكتب له كتابا آخر فإنه ينبغي له أن يكتب كتاب الشراء كما وصفنا ويكتب في آخره وقد كنت كتبت لك هذه الدار شراء مني في صك فهلك ذلك وسألتني أن أشهد لك على شرائك هذه الدار مني فكتبت لك هذا الكتاب وأشهدت لك عليه الشهود المسمين في هذا الكتاب . وإذا ضمن رجل للمشتري ما أدركه في الدار من درك ثم استحقت فعلى الضامن رد الثمن الذي أخذه البائع وليس عليه ضمان قيمة البناء ؛ لأنه سمى له في الضمان الدرك وقيمة البناء ليس بضمان في شيء ، فإن صرح به في الضمان كان له أن يطالبه به ، وإن ذكر الدرك خاصة لم يكن له أن يطالبه بضمان قيمة البناء ؛ لأن رجوع المشتري على البائع بقيمة البناء إنما يكون بسبب الغرور ، وضمان الغرور بمنزلة ضمان العيب والكفيل بالدرك لا يلحقه شيء بسبب العيب فكذلك لا يضمن قيمة البناء ولأن البائع إنما يضمن قيمة البناء باعتبار أن المشتري يملكه النقض إذا رجع عليه ، وهذا لا يوجد في حق الكفيل فإنه لا يملك شيئا من النقض فلا يكون عليه شيء من قيمة البناء ، وإن استحق من الدار سدسها للمشتري أن يرد ما بقي ؛ لأن التبعيض في الأملاك المجتمعة عيب ولكنه لا يرجع على الكفيل إلا بسدس الثمن ، وهو حصة ما استحق ؛ لأن لحوق الدرك كان في ذلك الجزء ، وإنما رد الباقي بسبب العيب ولو رد الكفيل بالعيب لم يرجع على الكفيل بشيء من الثمن ولو استحق الكل رجع على الكفيل بجميع الثمن ، فإذا استحق البعض ورد البعض يجب اعتبار كل جزء بجملته . وإذا قال الرجل للرجل بعتك هذه الدار كل ذراع بدرهم على أنها ألف ذراع فهو جائز ؛ لأن ببيان جملة الذرعان يصير جملة الثمن معلوما ولأنه سمى بمقابلة كل ذراع درهما ، وإنما يذرع بذراع وسط ، وهو الذي يسمى الذراع المكسرة ؛ لأن الذراع الأطول ذراع الملك ولكن الناس ما اعتادوا الذرع به غالبا ومطلق التسمية في العقد تنصرف إلى المتعارف ، وهو الذراع الوسط ، فإن ذرعها ووجدها ألف ذراع فهي له بألف درهم ولا خيار له في ذلك ؛ لأنه وجد المعقود عليه كما شرط له ، وإن وجدها أقل أو أكثر فله الخيار : إن شاء أخذها كل ذراع بدرهم ، وإن شاء ترك ؛ لأنه إن وجدها أقل فقد وجدها أضيق مما شرط له في الدار ، والسعة في الدار مقصودة فبتغير ما هو المقصود يثبت الخيار للمشتري ، وإن وجدها أكثر فلأنه يلزمه زيادة في الثمن ، وهو لم يرض بالتزام هذه الزيادة فربما لا يجد من المال أكثر من ألف درهم فهو يرغب في شراء الدار بها ولا يرغب في شرائها بأكثر من ألف فلهذا يثبت له الخيار في الوجهين ، فإن اشتراها على أنها ألف ذراع بمائتي درهم فكانت ألفا أو أكثر فهي لازمة للمشتري ؛ لأنها لا تلزمه في الثمن زيادة باعتبار زيادة الذرع فإنه سمى الثمن جملة بمقابلة الدار والذرع فيها صفة وليس بمقدار ، وإنما يقابل الثمن العين دون الوصف فلا يزداد الثمن بزيادة الوصف بخلاف الأول فقد جعل الذراع هناك مقصودا حتى سمى بإزاء كل ذراع درهما ، وهذا ؛ لأن هناك إذا وجدها ألفي ذراع فلو جعلنا الثمن ألفا كان بإزاء كل ذراع نصف درهم ، وهو بخلاف ما نص عليه المتعاقدان ، وإن وجدها أقل من ألف ذراع فالمشتري بالخيار ؛ لأنه يقر عليه شرطه ، وإذا أخذها بجميع الثمن ؛ لأن الثمن هنا بمقابلة العين وبنقصان الذراع إنما يتمكن النقصان في الوصف ولا يسقط باعتباره شيء من الثمن . وكذلك لو اشترى أرضا معلومة على أنها عشرون جريبا وعشرون نخلة بكذا درهما فزادت الأرض والنخل فهي للمشتري بما سمى ؛ لأن النخل صفة في الأرض بمنزلة البناء حتى أنها تدخل من غير الذكر وزيادة الصفة لا توجب زيادة في الثمن ولا تثبت الخيار للمشتري . ثم بعد هذا ثلاث فصول أحدها أن يشتري براح أرض فيها نخل مطلقا أو يشتريها بدون النخل أو يشتري النخل الذي فيها دونها فأما إذا اشتراها مطلقا دخل في العقد ما فيها من النخل والأشجار المثمرة وغير المثمرة والطرفاء والحطب والقصب في ظاهر الرواية ، وإن لم يذكر الحقوق والمرافق وروى بشر عن أبي يوسف أن القصب لا يدخل في البيع إلا بذكر الحقوق ولا خلاف في قصب السكر والدريرة أنه لا يدخل في البيع بدون ذكر الحقوق ؛ لأن ذلك من جملة ريع الأرض بمنزلة الزرع ولهذا يجب فيه العشر وأبو يوسف ألحق القصب الفارسي بقصب السكر فإن كل واحد منهما يقطع إذا أدرك ، وفي ظاهر الرواية القصب الفارسي ليس من ريع الأرض ولهذا لا يجب فيه العشر فهو بمنزلة النخل والشجر يدخل في البيع من غير ذكر ، والثمار التي على رءوس الأشجار لا تدخل بدون ذكر الحقوق والمرافق إلا على قول ابن أبي ليلى وعند ذكر الحقوق والمرافق يدخل في قول أبي يوسف رحمه الله ، وفي ظاهر الرواية ، وهو قول محمد رحمه الله لا يدخل إلا بالتنصيص عليها أو بذكر كل قليل أو كثير هو فيها أو منها من غير أن يقول ومن حقوقها ، وقد بينا هذا فيما سبق . والزرع الذي في الأرض لا يدخل في العقد بدون ذكر الحقوق ، وما عليه من الحمل لا يدخل إلا بذكر الحقوق ؛ لأن شجره لا يعد من زرع الأرض ولهذا لا يجب فيه العشر . ( ألا ترى ) أنه يوجد منه جملة من غير أن يقطع من أصله كما يؤخذ الثمر من الشجر والورد من الشجرة فكما أن شجر الورد والياسمين يدخل في بيع الأرض بدون ذكر الحقوق ولا يدخل ما عليه من الورد والياسمين فكذلك ما سبق . وإن اشترى الأرض بدون النخل فالشراء صحيح ؛ لأن النخل في الأرض بمنزلة البناء فكما يجوز استثناء البناء في الأرض يجوز استثناء النخل ثم يكتب أنه اشترى البراح بكل حق هو له بمنزلة النخل التي فيه في موضع كذا ، وهو كذا نخلة فإنها لم تدخل فيما اشتراه بطريقها إلى باب البراح ، وإنما يستثنى الطريق لكي لا يتعطل على البائع الانتفاع بملكه الذي استثناه لنفسه ، وهو النخل فإن بذكر النخل يصير مستثنيا أصول النخل في الصحيح من الرواية ؛ لأنها إنما تكون نخلا إذا كانت ثابتة على أصولها فأما بدون ذلك جذوعا ولهذا لو رفع البائع تلك النخل كان له أن يغرس في منابتها نخيلا آخر أو يضع في ذلك الموضع أسطوانة أو ما أحب . وإن اشترى النخل الذي في الأرض دون الأرض فهو جائز بمنزلة شراء البناء بدون الأرض ؛ لأن ما يجوز استثناؤه من الأرض يجوز إيراد العقد عليه مقصودا بمنزلة الجزء الشائع ، وما لا يجوز إيراد العقد عليه لا يجوز استثناؤه من العقد بمنزلة أطراف العبد ثم يكتب حدود البراح في كتاب الشراء وحدود الموضع الذي فيه النخل ويكتب أنه اشترى النخل بمواضعها من الأرض وطريقه في البراح ؛ لأنه إذا لم يذكر : بمواضعها من الأرض يتمكن فيه اختلاف الروايات ، وفي النوادر يذكر فيه اختلافا بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في دخول مواضعها من الأرض على قولين أحدهما لا يدخل ؛ لأنه سمى في العقد النخل ، واسم النخل لا يتناول الأرض والنخل تبع للأرض والأصل لا يصير مذكورا بذكر التبع وعلى القول الآخر يدخل ؛ لأنه لا يسمى نخلا إلا وهو ثابت في الأرض فكان دخوله في الأرض من ضرورة ما سماه في العقد فلهذا يذكر مواضعها من الأرض حتى لا يتمكن فيه منازعة بينهما ، ولم يذكر هذا فيما إذا اشترى النخيل ولا فرق بينهما في الحقيقة بل الأحوط أن يذكر ذلك في الموضعين ويذكر طريق النخل في البراح ؛ لأنه إذا لم يذكر ذلك الطريق بدون ذكر الحقوق فلا يتمكن المشتري من الانتفاع بملكه ويذكر عدد النخلات هنا ؛ لأنها صارت مقصودة بالعقد فلا بد من بيانها على وجه لا يبقى بينهما منازعة ما بعد التسليم والتسليم لا يكون إلا بذكر عدد النخلات وربما يقلع البائع بعضها قبل التسليم أو يستحق بعضها فيسقط عن المشتري حصة ذلك من الثمن . وإذا اشترى أرضا فيها عيون النفط والغاز فالعين تدخل في الشراء عندنا ، وما هو حاصل من النفط والغاز لا يدخل إلا بذكر ؛ لأن الحاصل فيه بمنزلة الريع للأرض وأما العين فهي جزء من الأرض فتدخل في العقد بدون ذكر ، وهذا بخلاف الماء الذي في البئر فإنه لا يدخل ذلك في شراء الأرض والدار ؛ لأن الماء قبل الإحراز لا يكون مملوكا لأحد فلا يتناوله البيع ذكر أو لم يذكر بخلاف النفط والغاز فإنه مال مملوك بمنزلة الملح في المملحة ، ومن العلماء من قال العين لا تدخل في بيع الأرض بدون الذكر ؛ لأن اسم الأرض يتناول الموضع الذي يمكن الانتفاع به بالزراعة أو السكنى والعين ليس من ذلك في شيء فلا تدخل في العقد بدون الذكر فللتحرز عن هذا الخلاف ذكر أنه يكتب اشترى منه الأرض التي يقال لها كذا والعيون التي فيها الغاز والنفط ، أحد حدود هذه الأرض التي فيها العيون اشترى منه هذه الأرض المحدودة في كتابنا هذا والعيون التي فيها النفط والغاز ، وما في العيون من النفط والغاز بحدودها كلها . وإذا قال المشتري للشفيع : أنا أبيعكها بما اشتريتها به فقال : قد قبلت ذلك فأبى المشتري بعد ذلك أن يعطيه فلا شفعة له ؛ لأنه أظهر الرغبة في شراء مستقبل وذلك يتضمن إسقاط حقه في الشفعة ولا يتم البيع بينهما بما جرى من اللفظ ؛ لأن تمام البيع بلفظين هما عبارة عن الماضي وقول المشتري : أبعتها عبارة عن المستقبل فهو وعد لا إيجاب ، والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم . وإذا اقتسم القوم دارا فإنه ينبغي لهم أن يكتبوا للقسمة بينهم كتابا ؛ لأن في قسمة الدار معنى المعاوضة ، فكل واحد منهم يسلم لأصحابه بعض ملكه عوضا عما يأخذ منهم من أنصبائهم والقسمة تكون مستدامة بينهم فينبغي أن يكتب منهم الوثيقة ، وصفة ذلك : هذا ما اقتسم عليه فلان وفلان وفلانة بنو فلان اقتسموا الدار التي هي في بني فلان أحد حدودها والرابع اقتسموها على فرائض الله - تعالى - وكان ذرع جميع هذا الدار كذا ذراعا مكسرة ، وكان جميع الذي لفلان من هذه الدار بكل حق هو له كذا ذراعا مكسرة فأصابه ذلك عند القسمة في موضع كذا من هذه الدار وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله نرى أن يكتب ما أصابه ذلك في موضع كذا من هذه الدار أحد حدود الذي أصابه كذا والرابع ، وهذا قولهم جميعا فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يخالفهما في تحديد الموضع الذي أصاب كل واحد منهم عند القسمة ؛ لأن كل واحد منهم عند المشتري في معنى المشتري لذلك الموضع فقبل هذه القسمة كان حقه شائعا في جميع الدار ، وقد تعين الآن في موضع منها فلا بد من تحديد الموضع الذي أصاب كل واحد منهم حتى يصير معلوما بذكر الحدود فيتم الكتاب وتنقطع المنازعة . وإذا كان الحائط بين رجلين نصفين ولأحدهما عليه خشب كان للآخر أن يضع عليه من الخشب مثل ما وضع صاحبه ؛ لأنهما لما استويا في أصل الملك ينبغي أن يستويا في الانتفاع بالمملوك ، فالانتفاع بالحائط من حيث وضع الخشب فللشريك أن يضع عليه من الخشب مثل ما وضع صاحبه وليس له أن يرفع شيئا من خشب صاحبه ؛ لأن فيه ضررا بصاحبه من حيث هدم البناء عليه ، وإنما له حق الانتفاع بالملك المشترى ولا يكون له حق الإضرار بشريكه وقيل هذا إذا كان الحائط بحيث يحتمل مثل ذلك الخشب أن لو وضعه عليه . فإن كان يعلم أنه لا يحتمل ذلك ، وهما متصادقان في أن أصل الحائط بينهما نصفان فحينئذ يكون له أن يأمر صاحبه برفع بعض الخشب حتى يضع عليه من الخشب مثل ما يبقى لصاحبه ما يحتمله الحائط ، وهذا لأنه إن وضع الزيادة بغير إذن الشريك فهو غاصب ، وإن وضعها عليه بإذنه فالشريك معير نصيبه من الحائط منه وللمعير أن يسترد العارية وإن أراد أحدهما أن يزيد عليه خشبة واحدة على صاحبه أو بفتح كوة أو يتخذ عليه سترة أو يفتح فيه بابا لم يكن له ذلك إلا بإذن صاحبه ؛ لأنه تصرف في الملك المشترك وأحد الشريكين لا ينفرد بالتصرف في الملك المشترى ، وإنما ينفرد بالتصرف في نصيبه خاصة ، وهذه التصرفات لم تكن في نصيبه خاصة ، ولأن في هذا التصرف ضررا من حيث توهين البناء أو زيادة الحمل عليه وليس لأحد الشريكين ولاية إلحاق الضرر بشريكه ؛ فلهذا كان ممنوعا من هذه التصرفات إلا بإذن شريكه . وإذا انهدم الحائط فقال أحدهما نبنيه كما كان ونضع عليه جذوعنا كما كانت وأبى الآخر لم يجبر الآخر على البناء معه ؛ لأنه يحتاج في البناء إلى الإنفاق بماله والإنسان لا يجبر على إتلاف ماله في مثل ذلك فإن صاحب الشرع ذم الإنفاق في البناء فقال { شر المال ما تنفقه في البنيان } وقال عليه السلام { إنما يتلف المال الحرام الربا والبناء } فلهذا لا يجبر أحد الشريكين على ذلك عند طلب الآخر ، وهذا لأنه إنما يجبر الآخر عند طلب أحدهما على قسمة المشترك ولا شركة بينهما فيما ينفق كل واحد منهما على البناء من ملك نفسه ، فإن قال الطالب : أنا أبنيه بنفقتي ، وأضع عليه جذوعي كما كانت فله ذلك ؛ لأنه ينفق ماله يتوصل إلى الانتفاع بملكه ، ولا ضرر على شريكه في ذلك فلا يمنع منه ، وإذا منعه شريكه من ذلك يكون متعنتا قاصدا إلى الإضرار به فلا يمكن من ذلك ، فإن فعله فأراد الآخر أن يضع عليه جذوعه ، كما كانت فله ذلك بعد ما يرد عليه نصف قيمة البناء ؛ لأن البناء ملك الثاني ، فيكون له أن يمنع صاحبه من الانتفاع به حتى يرد عليه نصف قيمته ، فإذا رد ذلك يصير متملكا عليه نصف البناء بنصف قيمته ، وهو نظير العلو والسفل إذا انهدما فأبى صاحب السفل أن يبنيه كان لصاحب العلو أن يبني السفل ويبني فوقه بيته ثم يمنع صاحب السفل من الانتفاع بسفله حتى يرد عليه قيمة البناء . وقد بينا هذا في الدعوى إشارة هنا إلى أنه استحسان ، وليس له في القياس أن يبني السفل ؛ لأنه يضع البناء في ملك غيره ولا ولاية له على الغير في وضع البناء في ملكه ولكنه استحسن ذلك لدفع الضرر عنه فإنه لا يتوصل إلى بناء علوه والانتفاع به ما لم يبن السفل ، وهذا القياس والاستحسان في الحائط المشترك أيضا . وإذا كانت الدار بين رجلين فاقتسماها على نصفين وباع أحدهما حصته ثم استحقت حصة الآخر قال : يرجع على صاحبه بنصف ما باع يعني بنصف قيمة ما باع ؛ لأن ما أخذ كل واحد منهما ، فإنما أخذ نصفه بقديم ملكه ونصفه عوضا عما سلم لصاحبه من نصيبه ، فكأنه ملك ذلك على صاحبه من جهة المعاوضة فحين استحقت حصة أحدهما فقد ظهر أن نصف ما أخذه عوضا عما هو مستحق ، وبدل المستحق يملك بالقبض ، وينفذ تصرف القابض فيه بالبيع ثم بعد الاستحقاق وجب عليه رده ، وقد تعذر رد عينه بإخراجه من ملكه فيرد نصف قيمته لهذا ، وإن لم يكن باع رجع عليه بنصف ما في يده من الدار ؛ لأن المعاوضة قد بطلت بالاستحقاق ولأنه لما استحق نصيب أحدهما فقد بطلت القسمة ، وتبين أن المشترك بينهما النصف الذي هو في يد الآخر فرجع عليه شريكه بنصف ذلك ، وإن لم يستحق إلا بيت واحد أعيدت القسمة على ما بقي نصفين ؛ لأن باستحقاق بيت واحد يتبين أنه كان لهما في الدار شريكا في البناء والقسمة لا تصح بدون رضاه ؛ لأن فيما يخص البيت القسمة تبطل فلو بقيت فيما سوى ذلك تضرر به المستحق عليه من حيث إنه يتفرق نصيبه في موضعين والقسمة لدفع الضرر فلهذا تعاد القسمة على ما بقي نصفين . ولو كانت الدار بينهما نصفين فاقتسماها فأخذ أحدهما الثلث من مقدمها بجميع نصيبه وأخذ الآخر الثلثين من مؤخرها بنصيبه ، وباع صاحب الثلثين ثم استحق نصف الثلث قال : يرجع على صاحب الثلثين بربع قيمة الثلثين ، وقال أبو يوسف رحمه الله : يرجع عليه بنصف قيمة الثلثين ، ويكون ما بقي من الثلث بينهما نصفين ، وهو قول محمد رحمه الله فإن قول محمد مع قول أبي حنيفة رحمهما الله ، وقد بينا أصل هذه المسألة في كتاب القسمة أن باستحقاق نصف نصيب أحدهما عند أبي حنيفة لا تبطل القسمة فيما بقي ، وهو الصحيح من قول محمد رحمه الله على ما ذكره الكرخي رحمه الله في كتابه فإن ابن سماعة رحمه الله كتب إلى محمد رحمه الله يسأله عن قوله في هذه المسألة فكتب إليه في جوابه أن قوله كقول أبي حنيفة وعند أبي يوسف رحمه الله تبطل القسمة باستحقاق نصف نصيب أحدهما ، وهذه المسألة تنبني على تلك المسألة فإن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله : لو لم يبع صاحب الثلثين لكانت القسمة تبقى ويتخير المستحق عليه إن شاء رد ما بقي فتبطل القسمة في الكل ، وإن شاء أمضى القسمة ورجع على صاحبه بربع الثلثين ، فإذا باع نصيبه فقد تعذر نقض القسمة لإخراجه نصيبه من ملكه بالبيع ، فإنما يرجع صاحب الثلث عليه بما يخص به المستحق من الثلثين ولو استحق جميع نصيبه رجع على شريكه بنصف قيمة الثلثين ، فإذا استحق نصف نصيبه رجع عليه بربع قيمة الثلثين وعلى قول أبي يوسف رحمه الله القسمة تبطل بظهور شريك ثالث لهما في الدار ، ولكن إخراجه عن ملكه بالبيع كان صحيحا فيرجع عليه بقيمة نصيبه من ذلك ، وهو نصف قيمة الثلثين ، ويكون ما بقي من الثلث بينهما نصفين على أصل الشركة . ولو كان عشرون جريب أرض بين رجلين نصفين فاقتسما فأخذ أحدهما خمسة عشر جريبا تساوي ألف درهم ، وأخذ الآخر خمسة أجربة تساوي ألف حصته فباع صاحب الخمسة عشر ما في يده واستحق نصف ما في يد الآخر قال : يرد صاحب الخمسة عشر ربع قيمة ما كان في يده على الآخر ؛ لأنه لو استحق جميع ما في يده رجع على صاحبه بنصف قيمة ما في يده فإن بدل المستحق كان مملوكا له فكان بيعه نافذا فيه ، فإذا استحق نصفه رجع عليه بربع قيمة ما كان في يده ، وهذا لأن ما أخذه البائع كان نصفه له بقديم ملكه ، وأخذ نصفه من نصيب شريكه عوضا عما سلم لصاحبه من نصيبه في الخمسة عشر الأجربة ، وقد استحق نصف الخمسة شائعا فيما كان للمستحق عليه باعتبار قديم ملكه ، وفيما أخذه بطريق المعاوضة فلهذا لا يرجع على صاحبه بربع قيمة ما في يده . ولو كانت الأرض خمسة عشر جريبا بينهما أثلاثا فأخذ صاحب الثلث سبعة أجربة بحصة قيمتها خمسمائة ، وأخذ صاحب الثلثين ثمانية أجربة بحصة قيمتها ألف درهم فباع صاحب الثلث واستحق نصف ما في يد صاحب الثلثين وباع ما بقي فإنه يرجع على صاحب الثلث بثلث قيمة ما كان في يده وذلك مائة وستة وستون وثلثان ، وقد سلم له مما كان في يده خمسمائة فجملة ذلك ستمائة وستة وستون وثلثان ، وإنما سلم لصاحب الثلث ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلثا وبالاستحقاق تبين أن قيمة المشترك بينهما كان ألف درهم ، فإذا سلم لصاحب الثلثين ما يساوي ثلثي الألف وللآخر ما يساوي ثلث الألف استقامت القسمة ، ولأنه لو استحق جميع ما في يد صاحب الثلثين رجع على شريكه بثلثي قيمة ما كان في يده ، فإذا استحق نصفه رجع عليه بنصف ذلك ، وهو ثلث قيمة ما كان في يده ولأن ما أخذه صاحب الثلث ، فإنما سلم ثلثه له بقديم ملكه وثلثيه بطريق المعاوضة ، وقد استحق نصف العوض فرجع بما هو عوض المستحق ، وهو ثلث قيمة ما كان في يده ، وفي جميع هذه الفصول إذا كتب الكاتب بينهما كتاب القسمة ينبغي أن يبين كيفية القسمة بينهما إن وقعت بقضاء القاضي بين ذلك في الكتاب ، وإن كانت بتراضيهما بين ذلك ؛ لأن الحكم يختلف باختلاف القسمة بقضاء أو غير قضاء حتى إن في القسمة بقضاء القاضي إذا ظهر العيب في نصيب أحدهما ترد القسمة ، والقسمة بالتراضي لا ترد لمكان العيب فلهذا ينبغي أن يبين صفة القسمة فيما بينهما . وإذا كانت الدراهم بين رجلين وهي موضوعة عند أحدهما فقال له الآخر : اقسم ما عندك فأعطني حصتي فأعطاه حصته فهو جائز ؛ لأن هذه قسمة تمت بين اثنين وتمامها بدفع نصيب صاحبه إليه وإمساكه حصة نفسه بمنزلة أخذه ابتداء بحكم القسمة ؛ لأن الاستدامة فيما يستدام بمنزلة الإنسان ، وإن قال خذ حصتك ودع ما بقي حتى أقبضها فأخذ حصته لم يكن ذلك قسمة حتى لو هلك ما بقي كان للآخر أن يأخذ من صاحبه نصف ما في يده ؛ لأن القسمة لا تتم بالواحد فإن تمامها بالحيازة ، وذلك لا يكون إلا بين اثنين فكان شرط سلامة المقبوض للقابض أن يسلم ما بقي للآخر ، فإذا هلك فقد انعدم الشرط ، فكان ما هلك من النصيبين ، وما بقي من النصيبين . وإذا كانت الدار لقوم وأحدهم شاهد ، والآخرون غيب ، فأراد الشاهد أن يسكنها إنسانا أو يؤاجرها إياه ففيما بينه وبين الله - تعالى - لا ينبغي له أن يفعل ذلك ؛ لأنه يكون معيرا أو مؤجرا نصيب شركائه بغير رضاهم ، ولا ولاية له عليهم وكما لا يتصرف في عين ملكهم بغير رضاهم لا يتصرف في منفعة ملكهم أيضا ، ولا يمكنه أن يتصرف في نصيب نفسه بالإسكان والإجارة إلا بعد القسمة ، والقسمة لا تتم بالواحد ، وأما في القضاء ، فإذا لم يكن لهم خصم يخاصمه لم يحل بينه وبين ذلك ؛ لأن القاضي لفصل الخصومة لا لإنشائها ، وإذا لم يحضر خصم لا يكون له أن يمنع صاحب اليد من التصرف فيما في يده بالإسكان والإجارة ، ولكنه إذا علم حقيقة الحال أفتاه بالكف عن ذلك كما يفتيه به غيره ، وإن أراد أن يسكنها بنفسه ففي القياس يمنع ذلك فيما بينه وبين ربه ؛ لأنه يصير مستوفيا منفعة نصيب شركائه ، وهو ممنوع من ذلك شرعا . ( ألا ترى ) لو كانوا حضروا منعوه من ذلك ، فإذا كانوا غيبا لم يبطل حقهم بغيبتهم ، فكان هو ممنوعا من ذلك شرعا ، وفي الاستحسان يرخص له في ذلك ؛ لأنهم قد رضوا جميع الدار في يده وليس في سكناه إلا إثبات اليد إليه . ( ألا ترى ) أن من لا يضمن العقار باليد لا يضمنه بالسكنى أيضا ؛ لأن في سكناه منفعة لشركائه ؛ لأن الدار إذا لم يكن فيها ساكن فإنها تخرب ، وإذا سكنها إنسان كانت عامرة ففي هذا التصرف منفعة لشركائه بخلاف ما تقدم ، فإنه بالإسكان يثبت يد غيره على الدار ، ولم يرض به شركاؤه فربما لا يتمكنون إذا حضروا من إرجاعه واسترداد أنصبائهم ، وإن أجرها الحاضر ، وأخذ الآخر حصة نصيبه من ذلك تطيب له ، وحصة نصيب شركائه لا تطيب ؛ لأنه بمنزلة الغاصب يؤاجر في حصتهم فلا يطيب له الأجر ولكنه يتصدق به ؛ لأن ملكه حصل له بسبب خبيث ، ويعطي ذلك شركاءه إن قدر عليهم ؛ لأن تمكن الخبث كان لمراعاة حقهم فيرتفع بالرد عليهم ، وقد بينا نظيره في كتاب الغصب . وإذا باع الرجل الأرض ليزرعها كتب إنك أطعمتني أرض كذا لأزرع فيها ما بدا لي من غلة الشتاء والصيف وقال أبو يوسف رحمه الله إذا كتب عارية فهو أحب إلي من أن يكتب أطعمتني ، وهو قول محمد رحمه الله ؛ لأنه بالإعارة يجعل له منفعة الأرض بغير عوض ، والعارية اسم موضوع لتمليك المنفعة بغير عوض كما أن استعمال هذا اللفظ أولى من استعمال غيره مما لم يوضع لتمليك المنفعة في الأصل ، وهو نظير إعارة الدار وغيرها من الأعيان وأبو حنيفة يقول : لو كتب أعرتني كان المفهوم منه الانتفاع بها من حيث السكنى ، وإذا كتب أطعمتني كان المفهوم التمكن من الزراعة ؛ لأن الأرض لا يطعم عينها ، وإنما يطعم ما يكون منها ، وذلك لا يحصل إلا بالزراعة ، وإذا كانت الإعارة للسكنى فلفظ الإعارة أقرب في بيان ما هو المقصود ، وإذا كانت الإعارة للزراعة فلفظ الطعمة أقرب إلى بيان ما هو المقصود ، فينبغي أن يستعمل في كل فصل ما هو دليل على المقصود ، وهذه مسألة الجامع الصغير قال : وخراجها على ربها ؛ لأن الخراج مؤنة الأرض النامية ، وجوابه يعتمد التمكن من الانتفاع بالأرض وبالإعارة لا يزول تمكنه من الانتفاع بها ، وإنما ينتفع بها المستعير بتسليط المعير فهو كانتفاع المعير بها بنفسه ، فإن اشترط على المستعير أداء الخراج ؛ فبهذا الشرط يخرجه من الطعمة ، وتكون إجارة فاسدة ؛ لأنه لا يعرف خراجها ، ومعنى هذا : أن الخراج على رب الأرض ، فإذا شرطه على المستعير فكأنه شرط لنفسه عوضا عن المنفعة فيصير العقد به إجارة ، وفسادها لجهالة الخراج قبل هذا في الأراضي الصلحية التي يكون خراج الحماحم والأراضي جملة ثم يقسم على الحماحم والأراضي فعند قلة الحماحم تزداد حصة الأرض ، وعند كثرة الحماحم تنتقص فأما خراج الوظيفة يكون معلوم المقدار ، وقيل : بل المراد الجهالة في روادف الخراج فإن ولاة الجور ألحقوا بالخراج روادف ، وذلك مجهول يزداد ، وينتقص ولإفساد هذا العقد علة أخرى ، وهي أن الخراج في ذمة رب الأرض ، فكأنه شرط على المستأجر أن يتحمل عنه دينا في ذمته وذلك مفسد للإجارة ، وإذا أوصى الرجل بغلة أرضه ، فالخراج على الموصى له بالغلة ؛ لأن وجوبه باعتبار التمكن من الانتفاع بالأرض ، والموصى له هو المتمكن من الانتفاع بالأرض دون الوارث ، وبه فارق الإعارة ولأن للخراج تعلقا بالغلة . ( ألا ترى ) أنه إن منع الخراج لم تطب له الغلة وللإمام أن يحول بينه وبين الغلة ليؤدي الخراج والموصى له هو المختص بالغلة فيكون الخراج عليه ، ولا وجه لإيجاب الخراج على الورثة ؛ لأنهم لو زرعوا الأرض واصطلم الزرع آفة لم يلزمهم الخراج ، فإذا لم يتمكنوا من زراعتها أولى لا يلزمه الخراج . وإذا استأجر رجل من رجل أرضا مدة معلومة فمات أحدهما قبل مضيها ، ولم يستحصد الزرع ترك الزرع فيها إلى وقت الإدراك استحسانا ، وقد بينا هذا في الإجارات قال : وجعل المستأجر آخر ما ترك فيه ، وظاهر هذا اللفظ يدل على أنه يلزمه أجرة المثل ، وهو اختيار بعض مشايخنا رحمهم الله فإن العقد قد انفسخ بموت أحد المتعاقدين ثم يبقى الزرع لدفع الضرر عن المستأجر ودفع الضرر واجب عنه ، وإنما يتحقق ذلك إذا وجب على المستأجر لصاحبها أجر المثل في مدة الترك والأصح : أنه يجب على المستأجر حصة هذه المدة من المسمى ؛ لأنه لما وجب ابتداء عقد الإجارة لدفع الضرر عن المستأجر فلأن يجب عليهم إبقاؤه بعد ظهور السبب المفسد ، وهو الموت أولى ؛ لأن بقاء الشيء أهون من ابتدائه ، وإذا بقي العقد الأول ، فإنما يجب باستيفاء المنفعة الأجر المسمى فيه وإن كان فيها كرم أو رطبة لم يترك وقطع ؛ لأنه لانتهاء ذلك مدة معلومة ، وتطول مدتها ففي إبقاء العقد في هذه المدة الطويلة إضرار بوارث المؤجر بخلاف الأول فلأن لإدراك الزرع نهاية معلومة ، وهي مدة لا تطول عادة . وإذا استأجر دابة ثم جعل عليها سرجا وأجرها بأكثر مما استأجرها طاب له الفضل ؛ لأن زيادة الأجر في العقد الثاني بإزاء منفعة ما زاد من عنده فلا يتحقق فيه ربح إلا على ضمانه ، وقبل الزيادة إنما كان لا يطيب له الفضل ؛ لأنه ربح حصل لا على ضمانه ، فإذا انعدم هذا المعنى باعتبار الزيادة كان الفضل طيبا له ، وكذلك لو استأجر بيتا بمائة درهم ثم أجر نصفه بمائة درهم إلا دانقا ومراده : أجر نصفا معينا منه أو نصفا شائعا على قول من يرى جواز إجارة المشاع ، وإنما يطيب له الفضل ؛ لأن الربح لا يتحقق ، فإنه يمكن أن يجعل الدانق حصة النصف الآخر ليكون مائة درهم إلا دانقا حصة الذي أجره ولا يقال : قد كان بمقابلة كل نصف من البيت في العقد الأول نصف الآخر ؛ لأن ذلك لم يكن باعتبار تنصيص المتعاقدين بل باعتبار المعاوضة والمساواة وذلك لا يوجد في العقد الثاني ؛ لأنه أجر فيه النصف فقط ، والحاصل : أن الخبث الذي يمكن في إجارة الشيء بأكثر مما استأجره به يسير فينعدم ذلك باعتبار الإمكان من وجه واحد ولهذا قلنا لو زاد من عنده شيئا قليلا ثم أجره بأضعاف مما استأجره طاب له الفضل فكذلك إذا أجر بعضه بما دون الأجر الأول والنقصان يسير قلنا يطيب له الفضل . ولو استأجر عبدا بمائة درهم ثم أجره بالدنانير بأكثر من ذلك يتصدق بالفضل وأشار في غير هذا الموضع إلى أنه لا يلزمه التصدق بالفضل ؛ لأن معنى الخبث ضعيف هنا والدراهم والدنانير في الحقيقة جنسان فباعتبار الحقيقة ينعدم ربح ما لم يضمن لاختلاف الجنس ووجه ما ذكر هنا أن الدراهم والدنانير في الصورة جنسان ، وفي الحكم جنس واحد . ( ألا ترى ) أن في شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن جعلا كجنس واحد فكذلك في الإجارة بأكثر مما استأجر يجعلان كجنس واحد ؛ لأن المعنى فيهما سواء ، وهو أن الربح يحصل لا على ضمانه ، وإن أجر بثوب قيمته أكثر من مائة لم يتصدق بشيء ؛ لأن جنس البدلين مختلف حقيقة وحكما فلا يتمكن فيه ربح ما لم يضمن ؛ لأن تمكن ربح ما لم يضمن إنما يكون بعد عود رأس المال إليه . وإذا استأجر الرجل رجلا يحمل له دن خل فعثر الحمال فانكسر الحمل قد بينا في الإجارات أن الحمال أجير مشترك ، وأن هذا النوع من الانكسار يكون بجناية يده فيكون ضامنا إلا على قول زفر رحمه الله وصاحب الدن بالخيار إن شاء ضمنه قيمته غير محمول ولا أجر عليه ، وإن شاء ضمنه قيمته محمولا إلى الموضع الذي انكسر فيه وأعطاه من الأجر بحساب ما حمل ولو تعمد كسره فكذلك الجواب عندنا . وقال زفر يضمنه قيمته محمولا إلى الموضع الذي كسر فيه وأعطاه الأجر بحساب ما حمل وذكر عيسى بن أبان رحمه الله أن قياس قول أبي حنيفة رحمه الله هكذا ؛ لأن أجير المشترك عنده أمين لا يضمن باعتبار القبض ، فإنما يلزمه الضمان باعتبار جنايته عند الكسر فلا بد من اعتبار قيمته عند تقرر سبب الضمان ؛ لأن الحكم لا يسبق سببه ، ولكنا نقول : إذا اختار صاحب الدن أن يضمنه قيمته غير محمول لم يضمنه ذلك باعتبار القبض ، ولا باعتبار جنايته أيضا ، ولكن تفرق عليه الصفقة حين كسره في بعض الطريق فغير عليه شرط عقده فيكون له أن يفسخ العقد في مقدار ما يحمله فيسقط حصة ذلك من الأجر ويضمنه قيمته غير محمول ، فإن قيل : كيف يفسخ العقد في مقدار ما يحمله ، وذلك متلاش غير قائم ؟ قلنا : بل هو قائم حكما ببقاء بدله فإن الحمال ضامن قيمته محمولا إلى هذا الموضع بالاتفاق ، وكما لا يجوز الفسخ عند تفرق الصفقة على العين يجوز فسخه على بدل العين إذا كان قائما كما لو اشترى عبدين فقتل أحدهما قبل القبض ثم مات الآخر كان للمشتري أن يفسخ العقد على القيمة في المنقول كتفرق الصفقة عليه ، ولكن لو انكسر من غير عمله بأن أصابه حجر من مكان أو وقع عليه حائط أو كسره رجل ، وهو على رأسه فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما هو ضامن إذا تلف بما يمكن الاحتراز عنه وإن لم يكن من عمله ، وإن قال رب الدن عبر فانكسر ، وقال الحمال أصابه حجر فانكسر أو قال كان منكسرا فالقول قول الحمال وله الأجر إلى حيث انكسر ؛ لأنه ينكر سبب وجوب الضمان عليه فالقول قوله مع يمينه بمنزلة المودع يدعي عليه صاحب الوديعة الاستهلاك ، وهو منكر لذلك ، وأما الأجر إلى حيث انكسر ؛ لأن صاحب الدن صار مستوفيا ذلك القدر من المعقود عليه فيقرر عليه حصته من الأجر ثم مات ، ولم يخلف بدلا فلا يمكن فسخ العقد فيه باعتبار تفرق الصفقة ؛ فلهذا كان للحمال الأجر حيث انكسر . وإذا دفع الرجل ثوبا إلى صباغ يصبغه فصبغه فقال رب الثوب : أمرتك أن تصبغه أحمر وقال الصباغ : أمرتني أن أصبغه أسود فالقول قول رب الثوب ؛ لأن الإذن مستفاد من جهته ، وفيه خلاف ابن أبي ليلى ، وقد بيناه في الإجارات ، فإن اختار أخذ الثوب قوم الثوب أبيض وقوم مصبوغا بذلك الصبغ فأعطاه ما زاد الصبغ فيه ولأنه وافق في أصل الصبغ ، وإن خالف في الصفة ولأن الصبغ عين اتصل به فلا يسلم له مجانا بمنزلة ما لو هبت الريح بثوب إنسان وألقته في صبغ غيره أو غصب ثوبا وصبغه واختار رب الثوب أخذ الثوب فإنه يعطيه ما زاد الصبغ فيه . وإذا تكارى الرجل دابة من البصرة إلى الكوفة فله أن يذهب بها إلى أي نواحيها شاء ؛ لأن الكوفة اسم للبلدة الواحدة ، وجوانب البلدة الواحدة كمكان واحد . ( ألا ترى ) أن في عقد السلم إذا شرط إبقاء المسلم فيه بالكوفة جاز العقد ، فكذلك في الإجارة إذا استأجرها إلى الكوفة جاز العقد له أن يذهب إلى أي نواحيها شاء باعتبار العادة فإن من استأجر دابة من بلد إلى بلد يبلغ عليها إلى منزله في العادة . ولو استأجر دابة إلى الري لم يكن له أن يذهب بها إلى أي نواحيها شاء ، والكراء إلى الري فاسد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : هو جائز ، وهو إلى مدينتها دون نواحيها ، وقد روى هشام عن محمد رحمهما الله أن ذلك جائز إلى مدينتها بالاستحسان ، والحاصل أن عند أبي حنيفة ومحمد الري اسم لولاية تشتمل على مدائن ونواحي فلا يجوز العقد للجهالة التي تفضي إلى المنازعة ، وعند أبي يوسف إنما يطلق هذا الاسم على مدينتها في العرف والثابت بالعرف كالثابت بالنص ولو سمى مدينة من مدائنها كان جائزا ، وكذلك خراسان والشام والعراق إن سمى منها مكانا معلوما جاز العقد ، وإن أطلق فسد العقد للجهالة التي تفضي إلى المنازعة ونظير هذا في ديارنا لو استأجر دابة إلى كاشغر جاز العقد فإنه اسم للبلدة خاصة ، ولو استأجرها من كاشغر إلى فرغانة لم يجز العقد ؛ لأن الاسم مشتمل على بلاد متباعدة فتمكن فيه جهالة تفضي إلى المنازعة ولو استأجرها إلى أوزجند جاز العقد ، وكذلك إن استأجرها من أوزجند إلى سمرقند ؛ لأنه اسم للبلدة أو إن استأجرها إلى بخارى فقد اختلف فيه مشايخ بخارى رحمهم الله والأظهر أنه لا يجوز فإن بخارى من كرمينية إلى قرير وهي تشتمل على مواضع متباينة بمنزلة الري فتمكن فيه جهالة تفضي إلى المنازعة بينهما . ولو تكارى دابتين يحمل عليهما إلى المدائن بعشرين درهما فأكرى أحدهما بتسعة عشر درهما بمثل ذلك الشرط طاب له الفضل ؛ لأنه يمكن أن يجعل هذا القدر من المسمى في العقد الأول خاصة بحصة هذه الدابة فلا يظهر في العقد الثاني ربح ما لم يضمن ولو أكرى أحدهما بأكثر من الأجر كله يتصدق بالفضل وبشيء من رأس المال ؛ لأنا نعلم أن شيئا من رأس المال بإزاء الدابة الثانية في العقد الأول فيكون ذلك ربحا ما لم يضمن في العقد الثاني مع الزيادة على المسمى في العقد الأول فيتصدق بذلك الفضل . ولو استأجر رجلين يبنيان له حائطا ، فعمله أحدهما ، ومرض الآخر وهما شريكان فالأجر بينهما نصفين استحسانا ، وفي القياس لا أجر للذي لم يعمل ؛ لأن استحقاق الأجر باعتبار العمل ، ووجه الاستحسان أنهما قبلا العقد جميعا ثم الذي أقام العمل في نصيبه مسلم لما التزمه ، وفي نصيب شريكه نائب عنه فقام مقامه فيكون الأجر بينهما نصفين ، وقد بينا نظائره في الإجارات وذكرنا أن المقصود بالشركة هذا فيما بين الناس . ولو استأجر رجلا يحمل له طعاما معلوما إلى مكان معلوم على دوابه هذه فحمله على غير تلك الدواب فله الأجر كله استحسانا ، وفي القياس لا أجر له ؛ لأن الإجارة إنما تتناول منافع الدواب التي عينها ، ولم يسلم إليه ذلك ، وفي حق غير تلك الدواب يجعل العقد كأن ليس فكأنه متبرع بحمل طعامه على دوابه فلا أجر له ووجه الاستحسان أنه قبل عمل الحمل في ذمته بعد الإجارة ، وقد أوفى ما قبله سواء حمل الطعام على تلك الدواب أو على غيرها ، وهذا ؛ لأنه لا حاجة إلى تعيين تلك الدواب في تصحيح العقد بعد إعلام مقدار الطعام . ( ألا ترى ) أنه لو استأجره يحمل له طعاما معلوما إلى مكان معلوم كان العقد جائزا ، وإن لم يعين الدواب ، وكذلك ليس لصاحب الطعام في عين تلك الدواب مقصود ، وإنما مقصوده حمل الطعام ، فإذا سقط اعتبار تعيين الدواب لهذين المعنيين كان له الأجر بإقامة العمل المشروط ، وهو حمل الطعام . ولو استأجره لحمله بنفسه فحمله على دوابه أو عبيده أو على غيرهم ، وذهب معه حتى بلغه ذلك المكان فله الأجر استحسانا لحصول المقصود ؛ لأن المقصود حمل الطعام ، وقد أوفاه كما التزم ، وليس هو بمخالف ؛ لأنه ما فارق الطعام حين ذهب معه ، ولا أخرجه من يده فلا يكون مخالفا ، وكذلك إن اشترط له طريقا فحمله في طريق آخر ؛ لأن مقصود صاحب الطعام قد حصل حين أوصل الطعام إلى المكان المشروط في أي الطريقين حمله ، وإن حمله في البحر ضمنه إن غرق ؛ لأنه عرضه للتلف فإن الغالب من حال راكب البحر أنه على شرف الهلاك مع ما معه ، وإن سلم له الأجر استحسانا ، وهو بمنزلة ما لو كان إلى ذلك الموضع طريقان في البر أحدهما : آمن والآخر مخوف فحمله في الطريق المخوف ، فإن تلف كان ضامنا ، وإن سلم استحق الأجر استحسانا ، فكذلك هنا ؛ لأن البحر بمنزلة الطريق المخوف ؛ ولهذا لم يكن للمودع أن يسافر الوديعة في طريق البحر كما ليس له أن يسافر بها في الطريق المخوف . ولو استأجر رجلين يحملان له طعاما من الفرات إلى أهله فحمله كله أحدهما ، وهما شريكان في العمل فالأجر بينهما ؛ لأن وجوب الأجر باعتبار تقبل العمل ، وقد باشراه أو باشره أحدهما بوكالة لصاحبه ؛ لأن مبنى شركة العنان على الوكالة ثم هو في إقامة العمل نائب عن صاحبه أيضا ، وإن لم يكونا شريكين في العمل فللعامل نصف الأجر في نصف الطعام ؛ لأنه إنما قبل حمل نصف الطعام بنصف الأجر ، وقد حمله ولا أجر له في النصف الآخر ؛ لأنه كان في الحمل ضامنا لنصف الأجر بمنزلة أجنبي آخر لو حمله ، وهذا لأنه غير نائب عن الآخر هنا ، فإنه لم يسبق بينهما عقد شركة فلم يجعله نائبا عن نفسه فيكون هو في ذلك كأجنبي آخر . ولو استأجر رجلا ليذهب إلى مكان كذا فيجيء بأهله كلهم ، وهم خمسة ، فذهب وجاء بهم فله الأجر المسمى ؛ لأنه استؤجر على عمل معلوم ببدل معلوم ، وقد أوفى العمل المشروط عليه بكماله فله الأجر كله ، فإن وجد بعضهم قد مات فجاء بمن بقي منهم فله أجر ذهابه ، وله الأجر بحساب من جاء بهم ؛ لأنه في الذهاب أقام ما التزم من العمل على نحو ما التزمه فاستوجب أجر الذهاب ، وما يكون من الأجر المسمى ، فإنه يتوزع على حصة من جاء بهم ، ومن ماتوا فيلزمه بحصة من جاء بهم ؛ لأنه أقام بعض هذا العمل دون البعض فيكون له من الأجر بحساب ما أقام من العمل ، وإن وجدهم كلهم قد هلكوا فعاد بنفسه فله أجر ذهابه ؛ لأنه في الذهاب أقام ما لزمه بالعقد كما التزمه ، وفي الرجوع هو عامل لنفسه بالعود إلى وطنه ليس بعامل للمستأجر حين لم يأت بأحد من أهله ؛ فلهذا كان له أجر الذهاب خاصة ؛ ولأنه إنما يذهب لتحصيل مقصود المستأجر فكان عاملا له في ذلك وليس في رجوعه وحده تحصيل شيء من مقصود المستأجر ، فلم يكن عاملا له في ذلك . فإن استؤجر على أن يذهب بكتاب له إلى مكان كذا فيدفعه إلى فلان ، فذهب به فوجده قد مات أو تحول إلى بلد آخر فرد الكتاب فلا شيء له ، وإن لم يرد الكتاب فله الأجر بحساب ذهابه معنى هذا أنه استأجره ليذهب بالكتاب إلى فلان ويأتيه بالجواب ، فإذا ذهب به ، ولم يرد الكتاب ، ولم يأته بالجواب فهو في الذهاب عامل للمستأجر ساع في تحصيل مقصوده وليس بعامل في الرجوع فيستحق حصة الذهاب من الأجر ، وإن رد الكتاب فلا شيء له في قول أبي حنيفة ؛ لأنه فوت على المستأجر ما يحصل له من المقصود حين رد كتابه إليه فخرج من أن يكون عاملا له في الذهاب ، وعلى قول محمد له أجر الذهاب ؛ لأنه ليس للكتاب حمل ومؤنة ، وإنما يستوجب الأجر باعتبار ذهابه بنفسه ، وقد ذهب فقد تقرر حقه في أجر الذهاب فلا يسقط ذلك بعوده رد الكتاب أو لم يرده ، ولكنا نقول : هو لا يستوجب الأجر بمجرد الذهاب من غير اعتبار الكتاب . ( ألا ترى ) أنه لو ترك الكتاب في أهله ، وذهب بنفسه لم يكن له أجر فكذلك إذا رد الكتاب معه ، وقول أبي يوسف في المسألة مضطرب . وإن استأجره ليحمل له طعاما إلى مكان كذا فيدفعه إلى فلان فوجد فلانا قد مات فرجع بالطعام إلى الذي استأجره فلا أجر له عندنا وقال زفر رحمه الله له الأجر ، وهو غاصب في رد الطعام الذي استأجره ضامن إن هلك في يده ؛ لأنه لما حمل الطعام إلى ذلك المكان فقد أوفى العمل المشروط ، وما كان البدل بمقابلته فتقرر حقه في الأجر وانتهى العقد نهايته ثم هو في الرجوع بالطعام غاصب كأجنبي آخر فيكون ضامنا له إن هلك وبغصبه لا يبطل حقه فيما تقرر من الأجر ولكنا نقول : البدل بمقابلة حمل الطعام إلى ذلك المكان ، وقد فسخ ذلك حين رجع بالطعام ، وفوت المعقود عليه قبل التسليم إلى المشتري . وإن استودع الطعام رجلا في تلك البلاد فهلك الطعام فهو ضامن له ؛ لأنه مخالف في الدفع إلى الأجنبي ، وهو بمنزلة الأمين في ذلك الطعام ما لم يدفعه إلى فلان والمودع إذا أودع الوديعة رجلا آخر كان ضامنا إذا هلك في يد المودع الثاني ، وإذا صار ضامنا كان هذا ، وما لو استهلك الطعام سواء ولصاحبه الخيار إن شاء ضمنه قيمته في المكان الذي حمله منه ولا أجر له أو في المكان الذي استودعه وله الأجر ، وهذا نظير مسألة الدن إذا تعمد كسره ، وإنما الشبهة هنا في أنه اعتبر القيمة والطعام من ذوات الأمثال ، وإنما ينبغي أن يقال يضمنه مثله في المكان الذي حمله منه ولا أجر له أو في المكان الذي استودعه ، وله الأجر إلا أن يكون عدديا متقاربا من الطعام كالبطيخ وغير ذلك ، فحينئذ يكون مضمونا بالقيمة غير أنه إن انتهى إلى ذلك البلد فوجد صاحبه قد مات فرفع الأمر إلى القاضي فأمر ببيعه أو يدفعه إلى رجل آخر ففعل ذلك بأمره فلا ضمان عليه وله الأجر ؛ لأن للقاضي ولاية النظر في مال الغائب ، وفعله بأمر القاضي ، وفعله بأمر صاحب الطعام سواء ، ولو فعل شيئا من ذلك بأمر صاحب الطعام لم يكن ضامنا وله الأجر فكذلك إذا فعل بأمر القاضي قال : ولا ينبغي للقاضي أن يدخل في ذلك ؛ لأنه لا يعرف صدقه فيما يقول : ولأنه قد التزم حفظه فيوليه القاضي ما تولى ؛ لأنه إنما نصب القاضي لفصل الخصومة لا لإنشائها ، وليس هنا خصم لمن في يده الطعام ؛ فلهذا لا ينظر القاضي في ذلك ، وهو أولى الوجهين له . وإذا قال الرجل : من جاءني بمتاعي من مكان كذا فله درهم فذهب رجل فلم يجد المتاع ثم جاء فلا أجر له أما إذا ذهب فجاء بالمتاع فله أجر مثله لا يجاوز به المسمى عندنا وعلى قول الشافعي له المسمى لقوله تعالى { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } وما أخبر الله - تعالى - من الأمم السالفة فهو ثابت في حقنا حتى يقوم دليل النسخ ولكنا نقول : هذا استئجار المجهول ، واستئجار المجهول باطل إلا أنه إذا حمله إنسان بعد ما سمع كلامه ، فإنما جاء به على جهة تلك الإجارة ، وقد رضي القائل بذلك فيستوجب أجر المثل باعتبار أن جهة الشيء بمنزلة حقيقته فأما إذا ذهب فلم يجد المتاع فرجع لم يكن له الأجر بخلاف ما إذا خاطب به إنسانا بعينه فهناك يستحق أجر الذهاب ؛ لأن العقد انعقد بينهما حين خاطبه بعينه فكان هو في الذهاب عاملا للمستأجر ساعيا في تحصيل مقصوده فيستحق أجر الذهاب ، وهنا العقد ما انعقد بين المستأجر وبين الذاهب ؛ لأنه لم يخاطبه بعينه ، وإنما يكون انعقاد العقد باعتبار مجيئه بالمتاع ، وإذا لم يجئ بالمتاع لم يكن عاملا له في الذهاب والمجيء بحكم العقد فلهذا لا يستوجب شيئا من الأجر . ولو استأجر دابة ليحمل عليها عشرين ثوبا ربطيا فحمل عليها هرويا فعطبت الدابة لم يضمن استحسانا ؛ لأن في الضرر على الدابة لا فرق بين الربطي والهروي ، وإنما يعتبر من القيمة ما يكون مقيدا دون ما لا يقيد كما أنه يعتبر من التعيين ما يكون مقيدا دون ما لا يقيد ولو استأجرها ليحمل عليها هذه الأثواب الربطية فحمل عليها مثلها من الثياب الربطية فعطبت لم يضمن شيئا فكذلك هنا . وإذا تكارى الرجل من الرجل دابة ، ونقده الكراء ثم أخذ منه كفيلا بالكراء ثم أفلس المكاري ، ولم يركب الرجل فعلى الكفيل أن يرد الكراء ؛ لأنه كفيل للمستكري عن المكاري ما وجب رده من الكراء المقبوض وحين أفلس المكاري ، ولم يجد المستكري الدابة ليركبها فقد وجب على المكاري رد جميع الكراء ، وقد كفل الكفيل بذلك فكان مطالبا به ؛ لأن إضافة الكفالة إلى سبب الوجوب صحيح ، فإن رضي من الكفيل أن يحمله إلى المكان الذي تكارا إليه فحمله وأنفق أكثر من الكراء لم يرجع الكفيل على المكاري إلا بالكراء الذي قبض من المستكري ؛ لأنه ما ضمن عنه إلا ذلك القدر فهو في الزيادة متبرع ، فإن قيل : كان ينبغي أن لا يرجع عليه بالكراء المقبوض أيضا ؛ لأنه ما نقد عنه الكراء ، وإنما أوفى عنه ما التزم من الحمل بعقد الإجارة والمكاري ما أمره أن يكفل عنه ذلك فكان هو في إيفاء ذلك بمنزلة متبرع أو كفيل بغير الأمر قلنا : لا كذلك فإنه بما أوفى من الحمل أسقط عن نفسه ضمان الكراء كما أنه بأداء المقبوض يسقط عن نفسه ضمان الكراء ، ولا يكون متبرعا بل هو محتاج إليه ليسقط به الضمان عن نفسه ، ولما أمره بالكفالة بالكراء عنه فقد أقامه مقام نفسه في إيفاء ما التزمه فلا فرق بين أن يوفي عنه الكراء ، وبين أن يوفي بما التزمه من الحمل فإنه يسقط به مطالبة المستكري إياه في ذلك ، وإن مات المكاري ، ولم يحمله فعلى الكفيل أن يرد الكراء ؛ لأن بموت المكاري قد انفسخ العقد ، ولزمه رد المقبوض من الكراء فإنه كفل الكفيل بذلك . وإذا استأجر الرجل الرجل أشهرا معلومة يؤدب ابنه ، ويقوم عليه في ذلك فهو جائز ؛ لأنه استأجره مدة معلومة لعمل معلوم بطريق العرف ، وهو عمل غير مستحق على المؤدب إقامته عرفا ولا دينا والاستئجار على مثله صحيح ببدل معلوم بخلاف تعليم القرآن فإنه يستحق عليه دينا ؛ لأنه في المعنى خلافة عن رسول الله وكل مسلم مأمور به دينا . ولو استأجر رجلا ليجصص له حائطا أو ليطين له سطحا ، ولم يبين طينا ولا جصا معلوما فهو فاسد ؛ لأن جهالة ذلك تفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم ، فإن عمل الناس في ذلك مختلف ، وكل نوع منه متعارف فكان العمل المعقود عليه مجهولا ؛ فلهذا فسد العقد ، وله أجر مثله إن عمل ؛ لأنه أوفى العمل بحكم عقد فاسد فلا يلزمه جميع المسمى ؛ لأن المستأجر يقول : أنا ما رضيت بجميع المسمى بهذا القدر من العمل ، فإن كان اشترط عليه أن يجعل غلظة من الجص أو الطين كذا فهو جائز ؛ لأن المعقود عليه صار معلوما ببيان الغلظة على وجه لا يفضي إلى تمكن المنازعة بينهما . ولو استأجر رجلا ينقد له الدراهم كل ألف بكذا أو استأجره على كل شهر بكذا ينقد له فهو جائز ؛ لأن في الفصل الأول استأجره على عمل معلوم ببدل معلوم والاستئجار على ذلك متعارف بين الناس ، وهو الأصل في عقد الإجارة ، وفي الفصل الثاني عقد على منافع في مدة معلومة ببدل معلوم ليقيم بتلك المنافع عملا مقصودا في الناس . وإذا كانت الورثة كبارا غيبا وليس على الميت دين ولا وصية فللوصي أن يبيع الرقيق والمتاع استحسانا ؛ لأن له ولاية الحفظ إلى أن يحضر الغائب ، وبيع المنقول من الحفظ فإن حفظ الثمن ربما يكون أيسر من حفظ العين ، وإنما تثبت هذه الولاية نظرا للغائب ، ولو أنهم نهوه عن البيع فباعه بعد ذلك لم يجز بيعه ؛ لأنه إنما ثبتت له الولاية لأجل النظر لهم إذا لم يوجد منهم النهي عن ذلك نصا بخلاف ما إذا كان على الميت دين فهناك إنما يثبت له حق التصرف نظرا للذي أقامه مقام الميت فنهي الورثة إياه عن البيع لا يصح . وإذا كان الوارث صغيرا ، وللميت دين على رجل بصك فقال المطلوب للوصي : حط عني النصف لأعطيك النصف وادفع إلي الصك ، وكان فيه شهود لا يشهدون إلا أن يروا الصك ويعلموا أنه حط لليتيم في الحال فإنه لا يسع الوصي أن يفعل ذلك ؛ لأن فيه إتواء ما بقي من ماله يعني في رد الصك عليه ؛ لأن حط الدين عنه باطل ، وإذا لم يكن الدين واجبا بعقده فلا يتوى به حق اليتيم ، ولكن إذا كان الشهود لا يشهدون ما لم يروا الصك ففي دفع الصك إليه إتواء مال اليتيم حتى إذا كانت الشهود يشهدون بغير صك فلا بأس بأن يفعل ذلك ؛ لأنه ليس فيه إتواء ماله بل فيه نظر له من حيث إنه يستوفي نصف حقه في الحال ثم يقيم البينة على ما بقي فيستوفيه ، وحطه باطل إذا أثبت المديون ذلك بالحجة . وإذا ادعى رجل في داره دعوى فرأى الوصي أن يصالحه ؛ لأنه يخاف إن لم يصالحه أن يأتي ببينة فإنه لا يسعه أن يصالحه ؛ لأن بمجرد الدعوى ما استوجب المدعي شيئا كما قال النبي { لو أعطي الناس بدعواهم } ، وما يخافه الوصي موهوم فليس كل مدع يكون له بينة على دعواه ، ولا كل شاهد يرغب في حضور مجلس القاضي لأداء الشهادة وبعد الأداء ربما تظهر عدالته ، وربما لا تظهر ، ولو أدى شيئا من مال اليتيم باعتبار هذا الموهوم كان مخرجا ماله عن ملكه من غير عوض يحصل بمقابلته ، ولا منفعة تحصل له حقيقة وليس للوصي هذه الولاية ، وإن جاء المدعي ببينة عدول يعرفهم الوصي ، وكان الصلح خيرا لليتيم في رأي الوصي وسعه أن يصالحه ؛ لأن باعتبار الظاهر حق المدعي قد ثبت ظهوره بشهادة العدول ، وقد تحقق ذلك ففي هذا تحصيل المال من الوصي لليتيم أو توفير المنفعة ، وإنما نصب الوصي لذلك قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد رحمه الله كان شيخنا الإمام الأجل رضي الله عنه يقول : هذا إذا علم الوصي قبل إقامة البينة من المدعي أنه لو لم يجب إلى الصلح حتى يقيم البينة رغب فيه المدعي بعد ذلك فأما إذا علم أنه بعد إقامة البينة لا يرغب في الصلح فلا بأس بأن يصالحه قبل إقامة البينة إذا علم أن له شهودا يشهدون على ذلك ؛ لأن بهذا التأخير ينعدم تمكنه من توفير المنفعة عليه وعلى الوصي أنه لا يؤخر ذلك إلى وقت يفوته . وإذا كاتب الرجل عبده على نفسه وماله دخل فيه رقيقه ودوره وكل عين ودين هو من كسبه ؛ لأن ذلك ماله فالمال يصير مضافا إلى العبد باعتبار أنه كسبه قال عليه السلام { : من باع عبدا وماله } الحديث والإضافة إليه تبقى ما بقي المال في يده فأما بعد أخذ المولى المال منه لا يبقى مضافا إليه شرعا وعرفا فلا يكون المقبوض منه فيما سمى من ماله ، وإن كانت له أمة قد زوجها إياه مولاه لم يدخل في كتابته ؛ لأن المولى بتصرفه صار قابضا الأمة منه فالتحقت بغيرها مما قبضه منه . ( فإن قيل ) أليس إن المشتري إذا زوج الأمة المبيعة قبل القبض لا يصير قابضا لها بتصرفه فكيف يصير المولى هنا قابضا ، وفي الاستحسان إنما لم يجعله قابضا هناك ؛ لأن اليد للبائع فيها يد مستحقة ، والمشتري ممنوع من قبضها ما لم يؤد الثمن ، وإن تعيبت بالنكاح ، ولكن لما لم يؤثر هذا العيب في عينها لم يجعل قابضا به ، وهنا ما كان للعبد في هذه الأمة يد مستحقة ولا كان المولى ممنوعا من قبضها والتصرف فيها فجعلناه قابضا لها بالتزويج ؛ لأن بالتزويج التزم تسليمها إلى الزوج فلا يتمكن من ذلك إلا بيده فيها ، وإذا أنفق المفاوض على نفسه أفضل من نفقة صاحبه ، وكانت تطيب نفس صاحبه بذلك ، وكان لصاحبه دين على الذي أنفق لم تفسد المفاوضة استحسانا حتى يؤدي إليه ، وهذا بناء على الأصل الذي بينا في كتاب الشركة أنه متى فضل أحدهما بمال يصلح أن يكون رأس المال في الشركة تفسد بها المفاوضة ، وإن فضل بمال لا يصلح أن يكون رأس المال في الشركة لا تصلح بها المفاوضة استحسانا ، والدين الذي وجب لأحدهما لا يصلح أن يكون رأس المال في الشركة ، فإذا قبضه فقد صار نقدا صالحا أن يكون رأس مال في الشركة ، وعلى هذا لو ورث أحد المتفاوضين دارا أو رقيقا في القياس تفسد المفاوضة ، وفي الاستحسان لا تفسد حتى يبيع شيئا من ذلك فيصير مالا يعني حتى يقبض الثمن نقدا ، وقد بينا هذه المسألة في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله فإن ما ورث أحدهما يكون مشتركا بينهما عنده وعندنا لا يكون مشتركا ، ولكن الدار والرقيق لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة فلا تفسد المفاوضة حتى يصير ثمنه نقدا في يده فحينئذ تفسد المفاوضة لانعدام شرط الصحة ، وهو المساواة بينهما في المال الذي يصلح أن يكون رأس مال في الشركة . وإذا خلع امرأته التي لم تبلغ وقبل خلعها ضمن أبوها بالمهر وضمن للزوج ما أدركه فيه جاز ذلك على الأب ، وتؤاخذ الابنة الزوج بنصف الصداق فيرجع به الزوج على الأب ؛ لأن وقوع الطلاق بالخلع يفيد وجود القبول من الضامن للدرك ، وقد وجد ذلك ، وقد وقع الطلاق قبل الدخول فيقرر نصف مالها على الزوج ؛ لأنه ليس للأب ولاية على إسقاط حقها من غير عوض يقابله فترجع على الزوج بنصف المهر ويرجع به الزوج على الأب ؛ لأنه ضمن له ما أدركه فيه من الدرك في حقها ، وإضافة الكفالة إلى سبب الوجوب بهذا الطريق صحيح وبعض المتأخرين من أصحابنا رحمهم الله يقول : الخلع لا يقع إلا بالمهر ؛ لأن ذلك حقها ، وليس للأب أن يخلعها من زوجها على مالها بل هو في ذلك كأجنبي آخر ، فإنما يجعلها على مال يلزمه في ذمته فكأنه خلعها على مثل ذلك المهر دينا في ذمته ، وجعل ذلك قصاصا بالمهر ففيما لم يحصل مقصود الزوج ، وهو النصف الذي رجعت الابنة به على الزوج كان له أن يرجع على الأب فيطالبه بذلك بسبب الخلع مع الضمان ؛ لأن المقاصة لم تقع في ذلك القدر ، ولم يستفد الزوج البراءة إلا بأداء المال فيرجع به على الأب بهذا الطريق . وإذا قال الرجل لامرأته : قد بارأتك بما لك علي من المهر فقبلت فهو جائز ؛ لأن الخلع والمبارأة يستعملان استعمالا واحدا وبينهما تفاوت في المعنى والحكم ولو قال خالعتك بما لك علي من المهر فقبلت جاز فكذلك إذا قال : بارأتك ، ولو خلعها على حكمه ثم حكم بشيء لم ترض به المرأة فله الأقل من حكمه ، ومن المهر الذي أعطاها ؛ لأن المسمى مجهول ، وهو ما يحكم به فإنه مجهول الجنس والقدر ، والخلع على بدل مجهول يوجب عليها رد المقبوض من المهر كما لو خلعها على ثوب بغير عينه إلا أن يحكم بأقل من ذلك ، فإنما حكم على نفسه بإسقاط بعض حقه ، وذلك نافذ منه ، فإن حكم بأكثر من ذلك ، فإنما حكم عليها بالزيادة ، وليس له عليها هذه الولاية ؛ فلهذا كان له الأقل ، ولو خلعها على أن له عليها أقل مهر يتزوج عليه فالخلع جائز ، وله عليها المهر الذي أخذت منه ؛ لأنه سمى في الخلع مالا مجهول الجنس والقدر فلم تصح التسمية ، ولكن ثبت حكم الغرور به ، وذلك يوجب عليها رد المقبوض ، والدليل على فساد هذه التسمية أن المهر لا يجب ما لم تزوج نفسها ولا يلزمها بهذه التسمية أن تزوج نفسها ، وربما لا يرغب أو لا يبقى إلى أوانه بعد انقضاء العدة . وإذا أقام رجل البينة في حق له على رجل في بلد آخر فسأل القاضي أن يكتب بشهادة الشهود وعدالتهم وبتوكيله وكيلا بالقيام مقامه بالمطالبة والقبض إلى قاضي ذلك البلد فله فعله بعد ما يستحلف بالله ما أخذ من ماله هذا شيئا ولا يعلم وكيلا ، ولا رسولا له أخذ منه شيئا ؛ لأنه إنما يكتب له بذلك نظرا منه للمدعي ، والقاضي مأمور بالنظر من الجانبين ففي الاستحلاف بهذه الصفة نظر منه للغائب ، وهو عاجز عن المطالبة بهذا النظر لغيبته فعليه أن ينظر له ، وفيه نظر للمدعي أيضا فربما يدعي الخصم عند القاضي المكتوب إليه أنه قد أوفاه المال ويطلب يمينه ، ومن رأي ذلك القاضي أن لا يقضي بالمال ما لم يحلف على قياس مسألة الغيب فيتعذر على وكيله استيفاء حقه ؛ فلهذا يستحلفه على ذلك ويكتب ذلك الاستحلاف في كتابه ؛ لأن تمام النظر فيه ، ولا يستحلف الطالب لقد شهدت شهودك بحق ؛ لأن الخصم لو كان حاضرا وطلب استحلافه على ذلك لم يجبه إلى ذلك بخلاف الأول فإن الخصم لو كان حاضرا وطلب يمينه ما أخذ من ماله شيئا أجابه القاضي إلى ذلك ، فإن كان قاضيا لا يجيز الكتاب إلا على ذلك يعني إن كان يرى رأي ابن أبي ليلى في استحلاف الطالب لقد شهدت شهودك بحق فقال الطالب : استحلفني واكتب لي بيميني استحلفه بالله لقد شهدت شهودك بحق فإن المال له على فلان ثم يكتب له ، وإنما يريد بهذا إذا كان القاضي المكتوب إليه يرى ذلك ، فإن في هذا الاستحلاف نظرا للطالب ؛ لأن الطالب يريد أن يبعث وكيلا ولا يحضر مجلس ذلك القاضي ليستحلفه فلا يحصل مقصوده إلا بهذا ، والقاضي مأمور بالنظر له ، فإذا طلب منه ما فيه نظر له أجابه القاضي إلى ذلك ، ولو أقام شاهدا واحدا وسأله أن يكتب شهادته وحاله فعل ذلك ؛ لأن فيه نظرا للطالب فربما يكون شاهده الآخر في البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه فلا يتمكن من الجمع بين شهادة الشاهدين في مجلسه إلا بهذا الطريق فيجيبه القاضي إلى ذلك حتى إذا ثبت الكتاب عنده وجاء بشاهده الآخر فشهد له قضى بحقه لتمام الحجة . وإذا أسلمت مدبرة الذمي فاستسعت في قيمتها فعجزت عن السعاية ، فإن كان القاضي هو الذي قومها ، واستسعاها لم يردها وأجبرها على السعاية ؛ لأن السبب الموجب للقضاء قائم ، وهو إسلامها مع كفر المولى فلا يعتبر عجزها بمنزلة معتق البعض إذا استسعاه القاضي فيما بقي من قيمة الشريك الساكت فعجز عن ذلك ، وكذلك إن كان المولى هو الذي صالحها على ذلك إلا أن يكون فيه فضل على القيمة فيبطل القاضي الفضل ويجبرها على السعاية في القيمة ، والحاصل : أن القاضي لا يشتغل بما لا يفيد ، ولا ينقض شيئا ليعيد مثله في الحال ، وإذا كان الصلح على مقدار القيمة فليس في نفس هذا الصلح فائدة لها فلا يشتغل القاضي به ، وإن كان فيه فضل على القيمة ففي نقضه فائدة لها ، وهو سقوط الزيادة عنها وعجزها يسقط عنها ما التزمت لمولاها باختيارها لعجز المكاتبة عن أداء بدل الكتابة ؛ فلهذا يبطل هذا الصلح عند عجزها ، ويجبرها على السعاية في القيمة لإسلامها مع إصرار مولاها على الكفر ، والله أعلم بالصواب .

كتاب الحيل قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء اختلف الناس في كتاب الحيل أنه من تصنيف محمد رحمه الله أم لا كان أبو سليمان الجوزجاني ينكر ذلك ، ويقول : من قال : إن محمدا رحمه الله صنف كتابا سماه الحيل فلا تصدقه ، وما في أيدي الناس ، فإنما جمعه وراقو بغداد . وقال : إن الجهال ينسبون علماءنا رحمهم الله إلى ذلك على سبيل التعيير ، فكيف يظن بمحمد رحمه الله أنه سمى شيئا من تصانيفه بهذا الاسم ليكون ذلك عونا للجهال على ما يتقولون وأما أبو حفص رحمه الله كان يقول : هو من تصنيف محمد رحمه الله ، وكان يروي عنه ذلك ، وهو الأصح فإن الحيل في الأحكام المخرجة عن الإمام جائزة عند جمهور العلماء ، وإنما كره ذلك بعض المتعسفين لجهلهم وقلة تأملهم في الكتاب والسنة . والدليل على جوازه من الكتاب - قوله تعالى - { : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } هذا تعليم المخرج لأيوب عليه السلام عن يمينه التي حلف ليضربن زوجته مائة ، فإنه حين قالت : له لو ذبحت عناقا باسم الشيطان في قصة طويلة أوردها أهل التفسير رحمهم الله وقال - تعالى - : { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه } إلى قوله { ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف } وذلك منه حيلة ، وكان هذا حيلة لإمساك أخيه عنده حينئذ ليوقف إخوته على مقصوده . وقال جل جلاله حكاية عن موسى عليه السلام { ستجدني إن شاء الله صابرا } ، ولم يقل على ذلك ؛ لأنه قيد سلامته بالاستثناء ، وهو مخرج صحيح قال الله - تعالى - { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } وأما السنة فما روي { أن رسول الله قال يوم الأحزاب لعروة بن مسعود في شأن بني قريظة فلعلنا أمرناهم بذلك ، فلما قال له عمر رضي الله عنه في ذلك قال عليه السلام الحرب خدعة } ، وكان ذلك منه اكتساب حيلة ومخرج من الإثم بتقييد الكلام بلعل { ولما أتاه رجل وأخبره أنه حلف بطلاق امرأته ثلاثا أن لا يكلم أخاه قال له : طلقها واحدة ، فإذا انقضت عدتها فكلم أخاك ثم تزوجها } . وهذا تعليم الحيلة والآثار فيه كثيرة ، من تأمل أحكام الشرع وجد المعاملات كلها بهذه الصفة فإن من أحب امرأة إذا سأل فقال : ما الحيلة لي حتى أصل إليها ؟ يقال له تزوجها ، وإذا هوي جارية فقال : ما الحيلة لي حتى أصل إليها ؟ يقال له : اشترها ، وإذا كره صحبة امرأته فقال : ما الحيلة لي في التخلص منها قيل له طلقها . وبعد ما طلقها إذا ندم وسأل الحيلة في ذلك قيل له راجعها ؟ وبعد ما طلقها ثلاثا إذا تابت من سوء خلقها وطلبا حيلة قيل لهما الحيلة في ذلك أن تتزوج بزوج آخر ، ويدخل بها فمن كره الحيل في الأحكام ، فإنما يكره في الحقيقة أحكام الشرع ، وإنما يقع مثل هذه الأشياء من قلة التأمل . فالحاصل : أن ما يتخلص به الرجل من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن ، وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق لرجل حتى يبطله أو في باطل حتى يموهه أو في حق حتى يدخل فيه شبهة فما كان على هذا السبيل فهو مكروه ، وما كان على السبيل الذي قلنا أولا فلا بأس به ؛ لأن الله - تعالى - قال { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ففي النوع الأول معنى التعاون على البر والتقوى ، وفي النوع الثاني معنى التعاون على الإثم والعدوان إذا عرفنا هذا فنقول : بدأ الكتاب بحديث عبد الله بن بريدة رضي الله عنه قال { سئل رسول الله عن آية من كتاب الله - تعالى - فقال عليه السلام للسائل لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بها فقام رسول الله فلما أخرج إحدى رجليه من المسجد أخبره بالآية قبل أن يخرج الرجل الأخرى } فأهل الحديث رحمهم الله يروون هذا الحديث على وجه آخر فإنهم يروون { عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان يصلي في المسجد إذ دخل رسول الله فدعاه فلما فرغ من صلاته جاء فقال عليه السلام ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك أما تدري قول الله - تعالى - { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } قال : كنت في الصلاة يا رسول الله عليك السلام ، فقال عليه السلام ألا أنبئك بسورة أنزلت علي ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها فقلت نعم فقال عليه السلام لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بها ثم شغله وفد عني فلما قام النبي ليخرج جعلت أمشي معه ، وأقول في نفسي : لعله نسي يمينه فلما أخرج إحدى رجليه فقلت : السورة التي وعدتني يا رسول الله فقال عليه السلام ماذا تقرأ في صلاتك قلت : أم القرآن قال عليه السلام نعم إنها هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها } . وفائدة الحديث أنه عليه السلام أخبره بعد إخراج إحدى الرجلين للتحرز عن خلف الوعد فإن الوعد من الأنبياء عليهم السلام كالعهد من غيرهم ، وللتحرز عن الحنث على ما أشار إليه في حديث أبي رضي الله عنه من قوله لعله نسي يمينه ففيه إشارة إلى أنه كان حلف له ، وفيه دليل على أنه لا يصير خارجا بإخراج إحدى الرجلين ، ولا داخلا بإدخال إحدى الرجلين ؛ ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله : من حلف على زوجته أن لا تخرج من الدار فأخرجت إحدى رجليها لم يحنث في يمينه ، وهذا لأن الخروج انتقال من الداخل إلى الخارج ولا يحصل ذلك إلا بإخراج القدمين ، وقد بينا وجوه هذه المسألة في كتاب الأيمان ثم مراد رسول الله من تفضيل آية أو سورة على غيرها هو الثواب عند التلاوة فإن القرآن كله كلام الله - تعالى - غير محدث ولا مخلوق ، ولا تفاوت بين السور والآي في هذا ولكن يجوز أن يقال : إن القارئ ينال الثواب على قراءة سورة ما لا يناله على قراءة سورة أخرى بيانه أنه بقراءة سورة الإخلاص يستحق من الثواب ما لا يستحق بقراءة تبت من حيث إنه في قراءة سورة الإخلاص قراءة القرآن والإقرار بوحدانية الله - تعالى - والثناء على الله - تعالى - بما هو أهله ، وفي قراءة سورة تبت قراءة القرآن ولكن ليس فيها ما بينا من المعاني الأخرى ، وما نقل في هذا الباب من الآثار من نحو ما روي أن { من قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات فكأنما ختم القرآن ، ومن قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن } تأويله ما بينا وأيد ما قلنا : اتفاق العلماء رحمهم الله على تعيين الفاتحة للقراءة في كل صلاة عند بعضهم واجبا وعند بعضهم فرضا . وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : من معاريض الكلام ما يغني المسلم عن الكذب ، وفيه دليل على أنه لا بأس باستعمال المعاريض للتحرز عن الكذب فإن الكذب حرام لا رخصة فيه ، والذي يروي حديث عقبة بن أبي معيط رضي الله عنه { أن رسول الله رخص في الكذب في ثلاثة مواضع في الرجل يصلح بين الناس ، والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب } تأويله في استعمال معاريض الرجال الكلام فإن صريح الكذب لا يحل هنا كما لا يحل في غيره من المواضع . والذي يروى أن الخليل عليه السلام كذب ثلاث كذبات إن صح ، فتأويل هذا : أنه ذكر كلاما عرض فيه ما خفي عن السامع مراده ، وأضمر في قلبه خلاف ما أظهره فأما الكذب المحض من جملة الكبائر ، والأنبياء عليهم السلام كانوا معصومين عن ذلك ومن جوز عليهم الكذب فقد أبطل الشرائع ؛ لأنه جعل ذلك باختيارهم ، وإذا جاز عليهم الكذب في خبر واحد جاز في جميع ما أخبروا به . وبطلان هذا القول لا يخفى على ذي لب ، فعرفنا أن المراد استعمال المعاريض ، وقال ابن عباس ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم ، فإنما يريد به أن بمعاريض الكلام يتخلص المرء من الإثم ، ويحصل مقصوده فهو خير من حمر النعم والأصل في جواز المعاريض قوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } الآية فقد جوز الله - تعالى - المعاريض ، ونهى عن التصريح بالخطبة بقوله عز وجل { ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا } . ثم بيان استعمال المعاريض من أوجه : أحدها : أن يقيد المتكلم كلامه بلعل وعسى كما قال عليه السلام { فلعلنا أمرناهم بذلك } ، ولم يكن أمر به ، ولم يكن ذلك كذبا منه لتقييد كلامه بلعل . والثاني : أنه يضمر في لفظه معنى سوى ما يظهره ويفهمه السامع من كلامه ، وبيانه فيما روي { أن النبي قال لتلك العجوز : إن الجنة لا يدخلها العجائز فجعلت تبكي فقال لها رسول الله  : أهل الجنة جرد مرد مكحلون } أخبرها بلفظ أضمر فيه سوى ما فهمت من كلامه فدل أن ذلك لا بأس به . ومن ذلك ما روي عن عبيدة السلماني رضي الله عنه قال خطب علي رضي الله عنه فقال : والله ما قتلت عثمان ولا كرهت قتله ، وما أمرت ولا نهيت فدخل عليه بعض من الله أعلم بحاله فقال له في ذلك قولا فلما كان في مقام آخر فقال من كان سائلي عن قتل عثمان رضي الله عنه فالله قتله ، وأنا معه قال ابن سيرين رحمه الله هذه كلمة قرشية ذات وجوه أما قوله ما قتلت عثمان رضي الله عنه فهو صدق حقيقة ولا كرهت قتله أي كان قتله بقضاء الله - تعالى - ونال درجة الشهادة فما كرهت له هذه الدرجة ، وما كرهت قضاء الله وقدره وأما قوله : فالله قتله وأنا معه مقتول أقتل كما قتل عثمان رضي الله عنه فقد كان رسول الله أخبر بأنه يستشهد بقوله { وإن أشقى الأولين والآخرين من خضب بدمك هذه من هذه وأشار إلى عنقه ولحيته } . وقد كان علي رضي الله عنه ابتلي بصحبة قوم على همم متفرقة فقد كان يحتاج إلى أن يتكلم بمثل هذا الكلام الموجه ، ومنه ما يروى عن سويد بن غفلة أن عليا لما قتل الزنادقة نظر إلى الأرض ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال : صدق الله ورسوله ثم قام فدخل بيته فأكثر الناس في ذلك فدخلت عليه فقلت يا أمير المؤمنين ماذا فنيت به الشيعة منذ اليوم أرأيت نظرك إلى الأرض ثم رفعك إلى السماء ثم قولك صدق الله ورسوله أشيء عهد إليك رسول الله أم شيء رأيته فقال علي هل علي من بأس أن أنظر إلى الأرض فقلت لا فقال وهل علي من بأس أن أنظر إلى السماء فقلت لا فقال هل علي من بأس أن أقول : صدق الله ورسوله فقلت لا فقال فإني رجل مكابد ، وإنما أشار إلى المعنى الذي بينا أنه يحتاج إلى الوقوف على ما يضمره كل فريق من أصحابه ، وكان يضع مثل هذا الكلام ويتكلم بكلام موجه لذلك . ومنه ما روي أنه كان إذا دخله ريبة من كل فريق جعل يمسح جبينه ويقول : ما كذبت ولا كدت يوهمهم أن رسول الله أخبره بحالهم فيظهرون له ما في باطنهم ، ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه قال : والله لا أغسل شعري حتى أفتح مصر وأترك البصرة كجوف حمار ميت وأعرك أذن عمار عرك الأديم ، وأسوق العرب بعصاي فذكروا لابن مسعود رضي الله عنه ذلك فقال إن عليا يتكلم بكلام لا يصدر ، وها غرة هامته على مثل الطشت لا شعر عليها ، فأي شعر يغسله بهذه يتبين أن الكبار من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون معاريض الكلام في حوائجهم ، وكذلك من بعدهم من التابعين رحمهم الله على ما حكي عن رجل قال كنت عند إبراهيم رحمه الله وامرأته تعاتبه في جاريته وبيده مروحة فقال أشهدكم أنها لها فلما خرجنا قال على ماذا شهدتم قلنا شهدنا على أنك جعلت الجارية لها فقال : أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما قلت لكم اشهدوا أنها لها ، وأنا أعني المروحة التي كنت أشير إليها وكانوا يعلمون غيرهم ذلك أيضا على ما ذكره في الكتاب عن إبراهيم رحمه الله في رجل أخذه رجل فقال إن لي معك حقا قال لا فقال احلف لي بالمشي إلى بيت الله - تعالى - فقال : احلف واعن مسجد حيك ، وإنما يحمل هذا على أن إبراهيم رحمه الله علم أن المدعي مبطل ، وإنما المدعى عليه بريء فعلمه الحيلة ، وهو أن يحلف بالمشي إلى بيت الله - تعالى - يعني مسجد حيه فإن المساجد كلها بيوت الله - تعالى - أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه قال - عز وجل - { وأن المساجد لله } . ولكن فيه بعض الشبهة فإنه إن كان الرجل بريئا عن الحق ما كان يلزمه شيء لو حلف بالمشي إلى بيت الله من غير هذه النية ، وإن لم يكن بريئا ما كان له أن يمنع الحق ولا كان يحل لإبراهيم أن يعلمه هذا ليمنع به الحق ، وما كان ينفعه هذه النية فإن الحالف إن كان ظالما فاليمين على نية من يستحلفه لا على نية الحالف ، ولا يعتبر بنيته على ما بينته في هذا النوع من الشبهة وعن إبراهيم رحمه الله أن رجلا قال له إن فلانا أمرني أن آتي مكان كذا وأنا لا أقدر على ذلك فكيف الحيلة لي ؟ فقال : قل والله لا أبصر إلا ما بصرني به غيري ، وفي رواية إلا ما سدد لي غيري يعني إلا ما بصرك ربك فيقع عند السامع أن في بصره ضعفا يمنعه من أن يأتيه في الوقت الذي يطلب منه فلا يستوجس بامتناعه ، وهو يضمر في نفسه معنى صحيحا فلا تكون يمينه كاذبة . وبيانه فيما روي عن رسول الله أنه قال { من كمال العقل موابأة الناس فيما لا يأثم به } وذكر عن ابن سيرين رحمه الله أنه قال كان رجل من باهلة عيونا فرأى بغلة لشريح رحمه الله فأعجبته فقال له شريح أما إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام أي أن الله عز وجل هو الذي يقيمها بقدرته ، وقال الرجل : أف أف ، وفي هذا الحديث زيادة فإن الرجل لما أبصر البغلة فأعجبته ربضت من ساعتها فقال شريح ما قال فلما قال الرجل : أف أف قامت . وفي هذا دليل أن العين حق ، وقد { كان رسول الله يتعوذ من عين السوء } ، ومنه يقال إن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر فأراد شريح أن يرد عينه بأن يحقرها في عينه ، وقال ما قال وأضمر فيه معنى صحيحا ، وهو أن الله - تعالى - يقيمها بقدرته وذكر عن النزال بن سيدة قال جعل حذيفة يحلف لعثمان رضي الله عنهما على أشياء بالله ما قالها ، وقد سمعناه يقولها ، فقلنا له : يا أبا عبد الله سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها ، وقد سمعناك قلتها فقال : إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله وإن حذيفة رضي الله عنه من كبار الصحابة ، وكان بينه وبين عثمان رضي الله عنه بعض المداراة فكان يستعمل معاريض الكلام فيما يخبره به ويحلف له عليه فلما أشكل على السامع سأله عن ذلك فقال : إني أشتري ديني بعضه ببعض يعني أستعمل معاريض الكلام على سبيل المداراة أو كأنه كان يحلف ما قالها ، ويعني ما قالها في هذا المكان أو في شهر كذا أو يعني الذي فإن ما قد تكون بمعنى الذي فهذا ونحوه من باب استعمال المعاريض وبيانه فيما ذكر عن إبراهيم رحمه الله قال لي رجل : إني أنال من رجل شيئا فيبلغه عني فكيف أعتذر منه فقال له إبراهيم والله إن الله ليعلم ما قلت لك من ذلك من شيء أي أضمر في قلبك الذي معناه أن الله ليعلم الذي قلت لك من حقك من شيء . وعن عقبة بن غرار رحمه الله قال : كنا نأتي إبراهيم رحمه الله ، وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول لنا : إن سئلتم عني وحلفتم فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لكم علم بمكاني ولا في أي موضع أنا واعنوا أنكم لا تدرون في أي موضع أنا فيه قاعد أو قائم فتكونون قد صدقتم وأتاه رجل في الديوان فقال إني اعترضت على دابة ، وقد نفقت وهم يريدون يحلفونني أنها الدابة التي اعترضت عليها فكيف أحلف فقال اركب دابة واعترض عليها على بطنك راكبا ثم احلف لهم أنها الدابة التي اعترضت عليها فيفهمون الغرض وأنت تعني اعترضت عليها على بطنك ويحكى عن إبراهيم رحمه الله أنه كان استأذن عليه رجل ، وهو لا يريد أن يأذن له ركب رشادا وأراد فرس البخت وقال لجاريته قولي : إن الشيخ قد ركب وربما يقول لها : اضربي قدمك على الأرض وقولي : ليس الشيخ هنا أي تحت قدمي . وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ومراده بهذا المبالغة في النهي عن الحلف بغير الله - تعالى - فقد قال رسول الله { من حلف بغير الله فكفارته أن يقول لا إله إلا الله } وقال { عليه السلام لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت } فالحلف بغير الله منهي عنه سواء كان كاذبا أو صادقا ، وليس المراد الرخصة في الحلف بالله كاذبا ، فإن الكذب حرام من غير أن يؤكده باليمين فكيف يرخص فيه مع التأكيد باليمين وقد أوله بعضهم على أن الحالف بالله - تعالى - وإن كان كاذبا في خبره ، فهو معظم اسم الله - تعالى - في حلفه ، ويروون فيه حديثا عن رجل من بني إسرائيل عن رجل أنه حلف بالله الذي لا إله إلا هو ، وكان كاذبا في يمينه فنزل الوحي على نبي ذلك الزمان أنه غفر له ذلك بتوحيده ، ولكن الأول أصح . وذكر عن إبراهيم رحمه الله قال اليمين على نية الحالف إذا كان مظلوما ، وإن كان ظالما فعلى نية المستحلف وبه نأخذ ، ويقول : المظلوم يتمكن من دفع الظلم عن نفسه بما تيسر له شرعا في وإنما يحلف له ليدفع الظلم عن نفسه فتعتبر نيته في ذلك ، والظالم مأمور شرعا بالكف عن الظلم واتصال الحق إلى المستحق فلا تعتبر نيته في اليمين ، وإنما تعتبر نية المستحلف ، وهذا لأن المدعي إذا كان محقا فاليمين مشروعة لحقه يمتنع الظالم عن اليمين لحقه فيخرج من حقه أو يهلك إن حلف كاذبا كما أهلك حقه فيكون إهلاكا بمقابلة إهلاك بمنزلة القصاص ، وإنما يتحقق هذا إذا اعتبرنا نية المستحلف فأما إذا كان الحالف مظلوما فاليمين مشروعة لحقه ، وهذا رجحان جانب الصدق في حقه ، وانقطاع منازعة المدعي معه بغير حجة فتعتبر نية الحالف في ذلك ؛ ولهذا يعتبر في اليمين علمه أيضا على ما روي عن الشعبي رحمه الله قال : من حلف على يمين ولا يستثني فالإثم والبر فيهما على علمه يعني إذا حلف ، وعنده أن الأمر كما حلف عليه ثم تبين بخلافه لم يكن آثما في يمينه ، وهو تفسير يمين اللغو عندنا ؛ لأنه ما كان ظالما حين كان لا يعلم خلاف ما هو عليه فاعتبرنا ما عنده ، وإذا كان يعلم خلاف ذلك فهو ظالم في يمينه فيكون آثما ويعتبر فيه نية ما عند صاحب الحق والله أعلم بالصواب .

باب الإجارة ( قال رحمه الله ) رجل استأجر من رجل دارا سنين معلومة فخاف المستأجر أن يغدر به رب الدار فليسم لكل سنة من هذه السنين أجرا أو يجعل للسنة الأخيرة أجرا كثيرا ومعنى هذا : أن المستأجر خاف أن تنقض الإجارة بينهما قبل انتهاء مدة الإجارة بموت رب الدار أو بأن يلحقه دين فادح أو غير ذلك من أنواع العذر ، وقد لا يكون مقصوده إلا السكنى في آخر المدة فالحيلة ما ذكر ، وهو أن يجعل الأجر للسنين المتقدمة شيئا قليلا حتى إذا انفسخ العقد قبل حصول مقصوده لا يلزمه من الأجر ما يتضرر به ، ويمنع رب الدار من الفسخ للعذر كي لا يفوته معظم الأجر بالسكنى في السنة الأخيرة والأحوط أن يجعل العقد في صفقتين ؛ لأنه إذا جعل الكل صفقة واحدة ، وفرق التسمية فربما يذهب بعض القضاة إلى رأي ابن أبي ليلى رحمه الله ويوزع المسمى على جميع المدة بالحصة ، فلا ينظر إلى تفريق التسمية مع اتحاد الصفقة وعند اختلاف الصفقة يأمن من ذلك وعلى هذا لو أراد المستأجر أن ينفق على الدار من مرمتها ، ويخاف أن لا يرد عليه ذلك رب الدار إن انفسخ العقد فإنه ينبغي له أن ينظر إلى مقدار ما يريد أن ينفقه فيضم ذلك إلى أجر الدار في السنة الأخيرة ويقر رب الدار أني استسلفت منه هذا المقدار من أجر السنة الأخيرة حتى إذا انفسخ العقد رجع عليه بما أقر أنه استسلفه من ذلك ، وإن خاف أن يحلفه رب الدار أنه سلم إليه شيئا كما هو رأي بعض القضاة فإنه ينبغي أن يبيع منه شيئا بذلك القدر حتى إذا حلف لم يكن كاذبا في يمينه ، فإن كان رب الدار هو الذي يخاف أن ينكر المستأجر بعض السنين ، ويعذر به بعد ذلك أي يفسخ العقد بعذر فالسبيل أن يجعل أكثر الأجرة للسنة الأولى حتى لا يفسخ المستأجر بعد مضيها العقد في بقية المدة ؛ لأنه قد لزمه أكثر الأجرة ، وإن انفسخ العقد لم يتضرر به صاحب الدار . وإن خاف أن يغيب المستأجر ويمتنع أهله من رد الدار إليه إذا طلبه لوقته فينبغي أن يؤاجرها من أهله ، ويضمن له الزوج ردها للوقت الذي يسميه فيؤخذ به حينئذ على الشرط ؛ لأنه إذا أجرها من الأهل فعليه ردها إليه عند انتهاء المدة ، ويصير الزوج ملتزما ردها بالضمان أيضا فيطالبه به عند انتهاء المدة قال : وفي هذا بعض الشبهة فإنه ليس على المستأجر رد الدار إنما عليه أن لا يمنع الآجر إذا جاء ليأخذها ، ومثل هذا لا تصح الكفالة به بمنزلة الكفالة برد الوديعة على المودع هذا ولأن الكفالة إنما تصح بما هو مضمون على الأصيل ، والرد غير مضمون على المستأجر فكيف تصح الكفالة به إلا أن يقر الزوج أنه ضامن له تسليم الدار إليه في وقت كذا بحق لازم صحيح فيكون مؤاخذا بإقراره ، ولكن هذا كذب لا رخصة فيه فالأحوط أن يأخذ الزوج الدار منها بعد رضاها على طريق الاستيلاء ليصير به ضامنا رد الدار عليها في المدة وعلى مالك الدار بعد مضي المدة أن يقر بذلك بين يدي الشهود ، ويكون لرب الدار أن يطالبه بتسليم الدار إليه بعد انتهاء المدة ، وفيه وجه آخر ، وهو أن يؤاجر الدار من المستأجر ثم إن المستأجر يوكل رب الدار في الخصومة مع أهله لاسترداد الدار منهم على أنه كلما عزله فهو وكيل به ، فإذا غاب المستأجر كان له أن يطالب أهل المستأجر برد الدار عليه بحكم وكالة المستأجر في وقته ، وإن كان المستأجر غير مليء بالأجر فينبغي للآجر أن يأخذ منه كفيلا بأجر الدار ما سكنها أبدا أو يسمى كل شهر للضامن فتكون هذه كفالة بمال معلوم ، وهو مضاف إلى سبب الوجوب فيكون صحيحا ، ويأخذ الكفيل بها إذا تعذر استيفاؤها من المستأجر للإفلاس ودين الأجرة كسائر الديون ، فكما أن طريق التوثق في سائر الديون الكفالة فكذلك في الأجرة . رجل استأجر دارا لا بناء فيها فأذن له رب الدار أن يبنيها ويحسب له رب الدار ما أنفق في البناء من الأجر ، فإن بينه وبين كذا كذا درهما فهو جائز قيل : هذا الجواب بناء على قولهما ، فأما عند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز ؛ لأن الأجر دين على المستأجر ، وإنما أمره أن يشتري له الآلات بالدين الذي له عليه وأبو حنيفة رحمه الله لا يجوز هذه الوكالة على ما قال في البيوع إذا قال صاحب الدين للمديون : سلم مالي عليك في كذا واشتر لي بمالي عليك عبدا والأصح : أن هذا قولهم جميعا ؛ لأنه أمره بالصرف إلى محل معلوم ، وهو بناء الدار ، وهو نظير ما قال في الإجارات إذا أمر صاحب الحمام المستأجر بمرمة الحمام ببعض الأجرة أو استأجره دابة وغلاما إلى مكان معلوم وأمره بأن ينفق بعض الأجرة في علف الدابة ونفقة الغلام فإن ذلك جائز فهذا مثله ، وإن اختلفا في مقدار ما أنفق فالقول قول رب الدار ؛ لأن المستأجر يدعي صرف الزيادة إلى البناء فيما أنفق ، ورب الدار ينكر ، فالقول قوله مع يمينه . ( ألا ترى ) أنه لو ادعى تسليم ذلك إلى رب الدار فأنكره رب الدار كان القول قوله ، وكذلك إن كان رب الدار أشهد أن المستأجر مصدق فيما يقول : إنه أنفق فليس ذلك بشيء فالقول قول رب الدار ؛ لأنه أشهد على ما هو مخالف لحكم الشرع فإن الأجر دين مضمون له في ذمة المستأجر ، وإنما يقبل قول الأمين في الشرع ، ولا يقبل قول الضامن ، فإذا شهد على تصديق الضامن كان الإشهاد باطلا ، والقول قول رب الدار . ( ألا ترى ) أنه لو شهد عند الإجارة أن المستأجر مصدق فيما يدعي إنفاقه من الأجرة لم يصدق في ذلك ، وكذلك لو جحد أن يكون بنى فيها وقال دفعتها إليه ، وهذا البناء فيها فالقول قوله ؛ لأنه منكر استيفاء شيء من الأجر والبناء تبع للأصل فاتفاقهما على أن الأصل ملك له لا من جهة المستأجر يكون دليلا على أن البناء له لا من جهة المستأجر أيضا ، فإذا ادعى المستأجر أنه هو الذي بنى هذا البناء كان عليه أن يثبت ما ادعاه بالبينة ، فإن أراد المشتري أن يصدق في النفقة عجل له من الأجر بقدر النفقة ، وأشهد عليه بقبضه ثم يدفعه رب الدار إليه ، ويوكله بالنفقة على داره فيكون القول قول المستأجر حينئذ في نفقة مثله ، وفي هذا الهلاك إذا ادعاه ؛ لأن بالتعجيل ملك الأجر المقبوض وبرئت ذمة المستأجر منه ثم إذا رده عليه لينفقه في داره كان أمينا في ذلك ، والقول قول الأمين في المحتمل مع اليمين كالمودع يدعي رد الوديعة أو هلاكها إلا أنه إنما يصدق في نفقة مثله ؛ لأن الظاهر لا يكذبه في ذلك المقدار ، وفيما زاد على ذلك يكذبه فلا يقبل قوله إلا بحجة كالوصي يدعي الإنفاق على اليتيم من ماله يصدق في نفقة مثله ولا يصدق في الزيادة على ذلك . وإذا خاف رب الدار أن يتبعه المستأجر في رد الدار بعد مضي مدة الإجارة وأجرها منه سنة من يومه على أن أجرتها بعد مضي السنة تكون كل يوم دينارا فيجوز العقد على هذا الوجه ؛ لأن العقد بعد مضي السنة يكون مضافا إلى وقت في المستقبل وإضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل صحيح فبعد مضي السنة لا يمتنع المستأجر من رد الدار مخافة أن يلزمه كل يوم دينار ، فإن قال المستأجر : أنا لا آمن أن يغيب رب الدار بعد مضي السنة فلا يمكنني أن أردها عليه ، ويلزمني كل يوم دينار فالحيلة في ذلك : أن يجعلا بينهما عدلا ويستأجر المستأجر الدار من العدل بهذه الصفة حتى إذا مضت السنة ، وتغيب رب الدار يتمكن المستأجر من ردها على العدل فلا يلزمه الدينار باعتبار كل يوم بعد ذلك ، وعلى هذا لو استأجر دارا كل شهر بكذا فلزوم العقد يكون في شهر واحد ، فإذا تم الشهر فلكل واحد منهما أن يفسخ العقد في الليلة التي يهل فيها الهلال فالحيلة : أن يمضيه قبل الفسخ ليلزم العقد في رأس الشهر الداخل ، فإذا خاف المستأجر أن يبعث الأجر في الليلة التي يهل فيها الهلال فالحيلة أن يجعلا بينهما عدلا حتى يتمكن من فسخ الإجارة مع العدل عند رأس الشهر ، ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول إذا أدى الأجر في وسط الشهر ، ومن عزمه الفسخ عند مضي الشهر ينبغي أن يقول له إذا جاء رأس الشهر فقد فسخت العقد بيني وبينك ، وهذا فاسد ؛ لأنه تعليق الفسخ بالشرط وذلك لا يجوز ولكن ينبغي أن يقول له : فسخت الإجارة بيني وبينك رأس الشهر فتكون هذه إضافة الفسخ إلى وقت في المستقبل ، ولا تكون تعليقا بالشرط ، وكما تصح إضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل ، وإن كان لا يجوز تعليقها بالشرط ، فكذلك يجوز إضافة الفسخ إلى وقت في المستقبل ، وهذا يجوز ، وإن كان لا يجوز تعليقه بالشرط . وإذا اكترى الرجل إبلا لمتاع له إلى مصر بمائة دينار ، فإن قصر عنها إلى الرملة فالكراء سبعون دينارا فإن قصر عن الرملة إلى أذرعات فالكراء ستون دينارا فالإجارة فاسدة على هذا الشرط لجهالة مقدار المعقود عليه وجهالة الأجر المسمى عند العقد ولأنه علق البراءة من بعض الأجر بالشرط ولو علق البراءة من جميع الأجر بشرط فيه حظر لم تصح الإجارة فكذلك إذا علق البراءة من بعض الأجر ، فإن حمله إلى مصر ففي القياس له أجر المثل ؛ لأنه استوفى المنفعة بعقد فاسد ، وفي الاستحسان تجب المائة الدينار ؛ لأن المعنى المفسد قد زال ، وهو نظير القياس والاستحسان الذي تقدم في الإجارات أنه لو استأجر دابة للركوب بأجر معلوم أو ثوبا للبس ، ولم يبين من يركب ومن يلبس كان العقد فاسدا ، ولو ركبها أو لبسه حتى مضت المدة وجب المسمى استحسانا لانعدام المفسد ، وهو الجهالة قال : والحيلة لهما في ذلك حتى لا يفسد أن يستأجرها إلى أذرعات بخمسين دينارا ، ويستأجر من أذرعات إلى الرملة بعشرين دينارا ويستأجر من الرملة إلى مصر بثلاثين دينارا ، فإذا بلغ أذرعات ، فإن أراد صاحب المتاع أن لا يذهب إلى الرملة كان ذلك عذرا له في فسخ العقد الثاني والثالث ، وإن أراد أن يحمله إلى الرملة فليس لصاحب الإبل أن يمتنع ، وكذلك من الرملة إلى مصر ، وهذا ؛ لأن صاحب الإبل عليه تسليم الإبل ولا يلزمه أن يذهب بنفسه ماشيا ، وإن أبى فلا يكون ذلك عذرا له في فسخ الإجارة وصاحب المتاع له أن يبيع متاعه بأذرعات ولا يخرج منها إلى الرملة فيكون ذلك عذرا له في فسخ الإجارة . وإذا أراد الرجل أن يؤاجر أرضا له فيها زرع لم يكن له فيها حيلة إلا خصلة واحدة ، وهي أن يبيعه الزرع ثم يؤاجره الأرض ؛ لأن شرط جواز عقد الإجارة أن يتمكن المستأجر من الانتفاع بالأرض بعد الإجارة ، وإذا باعه الزرع ثم أجر الأرض فهو يتمكن من الانتفاع بها ؛ لأنه يرى زرعه فيها ، وإذا لم يبعه الزرع لا يتمكن المستأجر من الانتفاع بها ، وهي مشغولة بزرع الآخر ، ولا يمكنه التسليم إلا بقلع زرعه ، وفيه ضرر بين عليه ؛ فلهذا كان العقد فاسدا ، وعلى هذا لو كانت في الأرض أشجار أو بناء فأراد أن يؤاجرها منه ينبغي له أن يبيع الأشجار والبناء منه أولا ثم يؤاجره الأرض وذكر الطحاوي رحمه الله في هذا الفصل أنه يبيع الأشجار بطريقها إلى بابها ، فإن لم يكن لها باب فإنه ينبغي أن يبين طريقا معلوما لها من جانب من جوانب الأرض حتى يصح الشراء ثم يؤاجر الأرض بعد ذلك فيكون صحيحا ؛ لأن صحة الإجارة تنبني على صحة الشراء ، فإن لم يبين الطريق في الشراء فسد الشراء ؛ لأنه لا يملكها قبل القبض ، ولو قبضها كان الرد مستحقا عليه لفساد العقد فلا يتمكن من الانتفاع بالأرض ما لم يكن الشراء صحيحا فشرط ذلك لبيان الطريق والله أعلم بالصواب .

باب الوكالة ( قال رضي الله عنه ) رجل وكل رجلا أن يشتري جارية له بعينها بكذا درهما فلما رآها الوكيل أراد أن يشتريها لنفسه ، فإن اشتراها بمثل ذلك الثمن ، أو أقل فهو مشتر للآمر ، وإن نوى الشراء لنفسه عند العقد ، أو صرح به ؛ لأنه ممتثل أمر الموكل فيما باشره من العقد ، وهو لا يملك عزل نفسه في موافقة أمر الآمر ، فيكون مشتريا للآمر ، وإن اشتراها بأكثر مما سمى له من الثمن أو اشتراها بدنانير كان مشتريا لنفسه ؛ لأنه خالف أمر الآمر فلا ينفذ تصرفه عليه ، وهو بعد قبول الوكالة تام الولاية في تصرفه فيصير مشتريا لنفسه لما تعذر تنفيذه على الآمر ، ولا يكون آثما في ذلك ؛ لأن قبول الوكالة لا يلزمه الشراء للآمر لا محالة . ( ألا ترى ) أنه له أن يفسخ الوكالة ، وأن يمتنع من الشراء أصلا ، ولا يكون آثما في اكتسابه هذه الحيلة ليشتريها لنفسه ، ولا يقال : إذا اشترى بأكثر مما سمى له ففي حصة ما سمى له ينبغي له أن يكون مشتريا للآمر ؛ لأنه إنما أمره بشراء جميعها بالمسمى من الثمن لا بشراء بعضها ولأن الوكيل بشراء الجارية لا يملك أن يشتري نصفها للآمر ، فإن مقصود الأمر لا يحصل بذلك فإنه كان أمره أن يشتريها له ، ولم يسم ثمنا ، فإن اشتراها بأحد النقدين فهو للآمر ، وإن نواها لنفسه أو اشتراها بمكيل أو موزون بعينه أو بغير عينه أو بعرض بعينه فهو مشتر لنفسه ؛ لأن مطلق التوكيل بالشراء ينصرف إلى الشراء بالنقد فهو مختص بالشراء فكأنه صرح بذلك ؛ لأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص ، فإن أمر الوكيل رجلا آخر أن يشتريها للوكيل الأول ، فإن اشتراها بمحضر من الوكيل الأول بالدراهم أو الدنانير كان مشتريا للآمر ؛ لأن فعل الوكيل الثاني بمحضر من الوكيل الأول كفعل الأول . ( ألا ترى ) أن بمطلق التوكيل ينفذ هذا التصرف على الآمر ، فإن اشتراها بغير محضر من الوكيل الأول ليس له أن يوكل غيره ليشتريها بمحضر منه ، وإذا فعل لا ينفذ شراؤه على الآمر فيكون مخالفا أمر الموكل في هذا العقد عليه خاصة إلا أن يكون الآمر الأول قال له : اعمل فيها برأيك فحينئذ يكون شراء الوكيل الآخر للآمر الأول ؛ لأنه ممتثل أمر الآمر في هذا التوكيل فإنه متى فوض الأمر إلى رأي الوكيل على العموم يملك أن يوكل غيره به ، ويكون فعل الوكيل الثاني كفعل الوكيل الأول ، فينفذ على الآمر إذا اشتراها بالنقد . ولو كان وكله ببيع جارية بعينها فليس للوكيل أن يبيعها من نفسه ، فإن أراد أن يجعلها لنفسه فالحيلة في ذلك : أن يطلب من الموكل تفويض الآمر إلى رأيه في بيعها على العموم ويقول له : ما صنعت في ذلك من شيء فهو جائز ، فإذا فعل ذلك وكل الوكيل رجلا آخر يبيعها ثم يشتريها من ذلك الوكيل فيصح ذلك ؛ لأن ذلك الوكيل الثاني ليس الوكيل الأول ولكنه وكيل صاحب الجارية فقد قال له صاحبها : ما صنعت من شيء فهو جائز ، والتوكيل من صنيعه فيصير الثاني بمنزلة ما لو وكله صاحب الجارية ببيعها فينفذ بيعه إياها من الوكيل الأول . وإن أبى صاحب الجارية أن يفوض الأمر إلى رأيه على العموم فالسبيل له أن يبيعها ممن يثق به ثم يستقيله العقد فتنفذ الإقالة على الوكيل خاصة أو يطلب من المشتري أن يوليه العقد فيها أو يشتريها منه ابتداء ولا يأثم بذلك بعد أن لا يدع الاستقصاء في ثمنها في البيع ممن يثق به ؛ لأن صاحبها قد ائتمنه فعليه أن يؤدي الأمانة كما قال عليه السلام { أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك } وأداء الأمانة في أن لا يدع الاستقصاء في ثمنها . فلو اشتراها الوكيل للآمر في مسألة التوكيل بالشراء وقبضها ثم وجد بها عيبا قبل أن يدفعها إلى الآمر كان له أن يردها بالعيب لتمكنه من ردها بكونها في يده والوكيل بالعقد في حقوق العقد بمنزلة العاقد لنفسه ، فإذا ردها على البائع بقضاء القاضي انفسخ العقد الأول من الأصل وصار كأن لم يكن ، وقد بقي هو على وكالته ما لم يحصل مقصود الآمر فلو أراد أن يشتريها لنفسه بعد ذلك فاشتراها ، وهو عالم بعيبها لم يكن الشراء إلا للآمر لما مر أنه باق على وكالته ما لم يحصل مقصود الآمر إلا أنه عالم بعيبها ، وهو في الابتداء لو علم بعيبها ، واشتراها لنفسه كان الشراء للآمر فكذلك في المرة الثانية . والوكيل بالبيع يكون خصما في الرد بالعيب بمنزلة البائع لنفسه ، فإن أراد أن يتحرز عن ذلك فالحيلة فيه أن يأمر غيره ليبيعه بحضرته فينفذ ذلك على الآمر عندنا ، وخصومة المشتري في الرد بالعيب لا تكون مع الوكيل ، وإنما تكون مع عاقده ، فإن أبى المشتري إلا بأن يضمن الوكيل الأول الدرك فينبغي له أن لا يتحرز من ذلك ؛ لأن مقصوده حاصل من غير ضمان الدرك فإن المشتري إذا وجد بالمبيع عيبا فلا خصومة له بالعيب مع الضامن للدرك ، وإذا رده على البائع بالعيب لم يكن له أن يرجع بالثمن على الضامن للدرك ؛ لأن العيب ليس يدرك . وإذا خلع الأب ابنته من زوجها بمالها على الزوج من الصداق لم يجز ذلك ، ولم تطلق البنت سواء كانت صغيرة أو كبيرة إلا على قول مالك رحمه الله فإنه يجوز خلع الأب على ابنته الصغيرة ، كما يجوز تزويج الأب ابنه الصغير بمال الابن ، وقد بينا المسألة في النكاح فإن في الخلع المرأة تلتزم مالا بإزاء ما ليس بمتقوم ؛ لأنه لا يدخل في ملكها بالخلع شيء متقوم ، وليس للأب هذه الولاية على ابنته صغيرة كانت أو كبيرة فهي في الخلع كأجنبي إلا أن يضمن الدرك للزوج فحينئذ ينفذ الخلع على الوجه الذي بيناه في الشروط . وإذا خاف الوكيل بشراء متاع من بلد من البلدان يبعث بالمتاع مع غيره أو يستودع المال غيره فيصير ضامنا فالحيلة له في ذلك : أن يستأذن رب المال في أن يعمل برأيه ، فإذا أذن له في العمل برأيه كان له أن يصنع ذلك ، وجاز له أن يوكل غيره بالتصرف ويدفع المال إليه ، فإن الموكل أجاز صنيعه على العموم ، والتوكيل من صنيعه فينفذ ذلك على الموكل ، كأنه باشره بنفسه ، والله أعلم بالصواب .

باب الصلح ( قال رحمه الله ) رجل له على رجل ألف درهم فصالحه منها على مائة يؤديها إليه في كل شهر كذا ، فإن لم يفعل فعليه مائتا درهم فذلك جائز عندنا ، وهو قول أبي يوسف رحمه الله ويبطله غيرنا يعني شريكا وابن أبي ليلى رحمهما الله فإنهما كانا يقولان : هذا تعليق التزام المال بالحظر ؛ لأنه يقول : إن لم يفعل فعليه مائتا درهم يعني إن لم يؤد المائة في نجومها ، ولا يدري أيؤدي أم لا يؤدي وتعليق التزام المال بالحظر لا يجوز فالفقه في ذلك أن يحط رب المال عنه ثمانمائة درهم عاجلا ثم يصالحه من المائتين على مائة درهم يؤديها إليه ما بينه وبين شهر كذا على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما على هذا . وإذا أراد أن يكاتب عبده على ألف درهم يؤديها إليه في سنة ، فإن لم يفعل فعليه ألف درهم أخرى فإن هذا لا يجوز ؛ لأنه صفقتان في صفقة وشرطان في عقد ، ولأن فيه تعليق التزام المال بالحظر ، وهو أن لا يؤدي الألف في السنة ، وإن أراد الحيلة في ذلك فالحيلة أن يكاتبه على ألفي درهم ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه في سنة ، فإن لم يفعل فلا صلح بينهما فيكون العقد صحيحا على بدل مسمى ، ويكون الصلح صحيحا على ما وقع الاتفاق عليه بينهما ؛ لأن عقد الصلح ينبني على التوسع ، ومثل هذا الصلح يصح بين الحرين فبين المولى ومكاتبه أولى ، ولأن مثل هذا الشرط في البيع يصح فإنه لو باع على أنه إن لم يؤد الثمن على ثلاثة أيام فلا بيع بينهما كان جائزا على هذا الشرط ، فلأن يجوز الصلح على شرط أولى . رجل مات وترك دارا في يد ابنه وامرأته فادعى رجل أنها له فصالحه الابن والمرأة على مائة درهم من غير إقرار منهما كانت المائة عليهما أثمانا والدار بينهما أثمانا ؛ لأن الصلح عن الإنكار إنما يجوز باعتبار أنه إسقاط دعوى المدعي حقه وخصومة تلزمه لبعض المصالح ولهذا جاز مع الأجنبي ، وإن كان بغير أمر المدعى عليه لو كان منه تمليكا من المدعى عليه لم يجز بغير أمره ، فإذا صح أنه إسقاط بقيت الدار بينهما بعد الصلح على ما كانت عليه قبل الدعوى ، وقد كانت أثمانا ، وإذا ثبت أن الدار بينهما على ثمانية ثبت أن المال عليهما يتوزع على ذلك أيضا ؛ لأنه بمطلق قبول العقد إنما يجب المال على من ينتفع فيجب على كل واحد منهما من المال بقدر ما ينال من المنفعة ، وإن صالحاه بعد إقرارهما بها له ، وأرادا بالإقرار تصحيح الصلح فالمائة عليهما نصفان ، والدار بينهما كذلك ؛ لأنهما لما أقرا أنها للمدعي ثم صالحاه فكأنهما اشتريا الدار بالمائة وظهر بإقرارهما أن الدار لم تكن ميراثا بينهما وبمطلق الشراء يقع الملك للمشتريين في المنزل نصفين ، ويكون الثمن عليهما نصفين ، فإن أرادا أن يكون بينهما أثمانا فالحيلة في ذلك أن يقرا للمدعي بالدار ثم يصالحهما منها على مائة درهم على أن يكون للمرأة ثمن الدار وللابن سبعة أثمانها ، فإذا صرحا بذلك كان الملك في الدار بينهما على ما صرحا به ، والثمن كذلك بمنزلة ما لو اشترياها على أن يكون لأحدهما ثمنها ، وللآخر سبعة أثمانها . رجل ادعى في دار رجل دعوى فصالحه على مائة ذراع منها فهو جائز ؛ لأن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي ؛ ولهذا لو وقع الصلح على دار كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة ، وفي زعم المدعي أنه يستوفي من الدار مائة ذراع بملكه القديم إلا أن يتملكها على ذي اليد ابتداء فيكون صحيحا ، فإن صالحه على مائة ذراع من دار أخرى لم يجز في قول أبي حنيفة وجاز عندهما ؛ لأنه يتملك ما وقع عليه الصلح بعوض فهو بمنزلة من اشترى مائة ذراع من دار ، وذلك فاسد عند أبي حنيفة جائز عندهما . مريض ادعى على رجل مالا ، وله به عليه بينة فصالحه منه على دراهم يسيرة وأقر المريض أنه لم يكن له على هذا المطلوب شيء ثم مات جاز إقراره في القضاء ، ولم يقبل من ورثته بينة على المطلوب بذلك المال أما إذا لم يكن يقر بذلك فيتمكن في هذا الصلح محاباة ، وهو يعتبر من ثلث المال ، وأما إذا أقر بذلك ، فإقراره بما يتضمن براءة الأجنبي معتبر بإقراره للأجنبي ، وذلك صحيح من جميع ماله فكذلك إقراره أنه لم يكن له على المطلوب شيء يكون صحيحا وبعد صحة الإقرار منه لا تسمع الدعوى من ورثته ؛ لأنهم يقومون مقامه ، وهو لو ادعى بعد ذلك مالا مطلقا عليه لم تسمع دعواه ، ولم تقبل بينته فكذلك الورثة إذا ادعوا ذلك . رجل له على رجل دين حال فصالحه على أن ينجمه نجوما عليه ، وأخذ منه كفيلا على أن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه على أنهما إن أخرا نجما عن محله ، فالمال عليهما حال فهو جائز ؛ لأنه إذا أخذ بالمال كفيلا كان الكفيل مطالبا به كالأصيل فهذا بمنزلة رجل له على رجلين مال وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه فنجمه عليهما نجوما على أنهما لو أخرا نجما عن محله فالمال عليهما حال وذلك جائز ؛ لأن تنجيم المال عليهما صلح فقد علق بطلان الصلح بعام الوفاء بالشرط ، وذلك جائز ، فإن كان الطالب إنما أخذ من المطلوب كفيلا بنفسه على أنه إن لم يوف به عند كل نجم فالكفيل ضامن لجميع المال على النجوم التي سميا فإن ذلك جائز عندنا ، وبعض الفقهاء رحمهم الله يعني ابن أبي ليلى لا يجوز تعليق المال بالمال بحظر عدم الموافاة بالنفس ، وقد بيناه في كتاب الكفالة ، فالفقه في ذلك : أن يضمن الكفيل المال على أنه يبرأ من كل نجم بدفع المطلوب عند محله إلى الطالب ، فيجوز ذلك في قول الكل ؛ لأن إيفاء المطلوب يوجب براءة الكفيل فاشتراط براءته عند إيفاء الكفيل شرط موافق لحكم الشرع فيكون صحيحا . رجل صالح غريما له على أن يؤجله بما عليه على أن يضمن له فلان المال إلى ذلك الأجل ، فإن لم يفعل فلا صلح بينهما ، والمال حل عليه فذلك جائز ولا آمن أن يبطله بعض الفقهاء يعني به أن يبطله على طريق القياس فإن الصلح قياس البيع في بعض الأحكام وإذا شرط في البيع ضمان رجل بعينه كان ذلك مبطلا للبيع فكذلك الصلح فالفقه في ذاك أن يكون الكفيل حاضرا فيضمنه ؛ لأن على طريق القياس إنما لا يصح هذا العقد لبقاء الغرر فيه ، وهو أنه لا يدري أيضمن الكفيل المال أو لا يضمن ، فإذا ضمنه فقد انعدم معنى الغرور ، وإن لم يكن حاضرا فالفقه فيه أن يصالحه على ما ذكرت على أن فلانا إن ضمن هذا المال ما بينه وبين قوم كذا فالصلح تام وإلا فلا صلح بينهما ، فإذا كان العقد بهذه كان تمام الصلح بقدر ما ضمن فلان ، ولا يبقى غرر إذا ضمن فلان فالصلح بينهما صحيح . وإذا كفل بنفس رجل على أنه إن لم يواف به إلى كذا فالمال عليه وأخذ الكفيل من المطلوب رهنا لم يجز الرهن ؛ لأن موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء ، وما وجب للكفيل على المطلوب ماله ، والكفالة بالنفس ليست بمال ، والكفالة بالمال متعلقة بعدم الموافاة بالنفس فكيف يصح الرهن من غير دين له عليه ، فإن أراد الحيلة في ذلك فالوجه أن يبدأ بضمان المال فيقول : أنا ضامن لما لك عليه من المال ، فإن وافيت به إلى كذا من الأجل ، فأنا بريء ، فإن فعل ذلك جاز له أن يرتهن منه رهنا بما ضمنه ؛ لأنه كما وجب المال للطالب على الكفيل وجب للكفيل على المطلوب فيجوز أخذ الرهن منه به ، ولم يذكر في الكتاب ما إذا كانت الكفالة بالنفس فقط ، وأراد الكفيل أن يأخذ من المطلوب رهنا ولا إشكال أن ذلك لا يجوز بخلاف ما إذا أخذ منه كفيلا فإن صحة الكفالة لا تستدعي دينا واجبا ، وصحة الرهن تستدعي ذلك ؛ ولهذا لا يجوز الرهن بالدرك ، وتجوز الكفالة بالدرك ثم الحيلة في هذا : أن يقر المطلوب أن هذا الكفيل ضمن عنه مالا لرجل من الناس باشره ولا يسمي ذلك الرجل ولا مقدار المال ثم يعطيه رهنا بذلك فيكون صحيحا في الحكم ، ويكون القول قول المطلوب في مقدار ذلك المال ، فيمكن بأدائه من إخراج الرهن ، فإن قال الكفيل : مقصودي لا يتم بهذا وربما يقول : المطلوب بعد كفالتي بالنصف أن المال درهم فيعطيني ذلك ويسترد النصف فالسبيل أن يجعلا بينهما عدلا ثقة يثقان به ، ويكون ارتهان الكفيل من ذلك العدل بأمر المطلوب فلا يسترد منه الرهن قبل براءته عن الكفالة بالنفس . رجل أخذ من غريمه كفيلا بنفسه على أنه إن لم يواف به يوم كذا فالكفيل ضامن لنفس فلان غريم آخر للطالب فهو جائز عندنا يعني قول أبي حنيفة وأبي يوسف ولا آمن أن يبطله بعض العلماء رحمهم الله يعني أن على قول محمد رحمه الله هذا لا يجوز ، فالفقه فيه أن يكفل بنفس فلان وفلان على أنه إن وافى بفلان أحدهما ما بينه وبين يوم كذا فهو بريء من الكفالة الأخرى فيكون جائزا عندهم جميعا ؛ لأنه علق البراءة على الكفالتين بالموافاة وبنفس أحدهما ، وكما يجوز تعليق البراءة عن الكفالة بالنفس بالموافاة بالمال ، فكذلك يجوز تعليق البراءة عن الكفالتين بالموافاة بنفس أحدهما ، ولو أخذ منه كفيلا بنفسه على أنه إن لم يواف به يوم غد فما على المطلوب من المال فهو على الكفيل فلم يواف به فهو ضامن للمال والنفس ؛ لأنه كفل بالنفس كفالة مطلقة فلا يبرأ إلا بتسليم النفس وعلق الكفالة بالمال بحظر عدم الموافاة ، وقد وجد ذلك ، فإن قال : لا آمن أن


[ 226 ] يبرئه بعض الفقهاء من الكفالة بالنفس ولا يعرف من هذا القائل ، وله وجه صحيح ، وهو أن المقصود المال دون النفس وبعد ما حصل المقصود وتمكن الطالب من استيفاء المال من الكفيل لا تبقى الكفالة بالنفس ، وهذا ؛ لأن اللفظ في معنى توقيت الكفالة بالنفس إلى الوقت الذي حصل عدم الموافاة فيه فشرط الكفالة بالمال ، فلا تبقى الكفالة بالنفس بعد مضي وقتها ثم الفقه في ذلك أن يضمنه المال والنفس على أنه إن وافاه بنفسه لوقت كذا فهو بريء من النفس والمال ، وإن لم يوافه به لذلك الأجل فالنفس والمال عليه ؛ لأنه كفل له كفالة مطلقة . . ( مسائل متفرقة ) قال : وإذا خاف الوصي جهل بعض القضاة في أن يسأله عما وصل إليه من تركة الميت ثم يسأله البينة على ما أنفق وعمل ، وإنما سمى هذا جهلا ؛ لأنه خلاف حكم الشرع فالوصي أمين ، والقول في المحتمل قول الأمين ، وهو متبرع في قبول الوصاية قائم مقام الميت فكما لم يكن للقاضي أن يسأل الموصي عما تركه من المال لا يكون له أن يسأل الوصي عما وصل إليه من المال فمن فعل ذلك من القضاة كان جهلا ، ولكن رأى بعض القضاة أن يفعلوا ذلك ويعدوه من الاحتياط فبين الحيلة للوصي في ذلك بأن يولي غيره في قبض التركة وبيعها وقضاء الدين وغير ذلك ، ولا يشهد الوصي على نفسه بوصول شيء إليه ولا يباشرها بنفسه بل يأمر غيره بالبيع وقضاء الدين فلا يكون للقاضي أن يسأله شيئا من ذلك ؛ لأنه لم يصل إليه تركة الميت ولا عمل في التركة بنفسه ، فإن أراد القاضي أن يستحلفه ما قضيت دينا ولا وصل إليك تركة ولا أمرت بشيء منها يباع ولا وكلت به ، فإذا كان الوصي ، وضع التركة مواضعها على حقوقها فهو مظلوم في هذه اليمين فيسعه أن يحلف وينوي غير ما استحلف عليه ؛ لأنه إذا كان مظلوما فيمينه معتبرة شرعا ليتمكن بها من دفع الظلم عن نفسه والخصاف رحمه الله توسع في كتابه في هذا الباب ، فقال : ينوي ما فعل شيئا من ذلك في وقت كذا لوقت غير الوقت الذي فعل فيه أو في مكان كذا لمكان غير المكان الذي فعل فيه أو مع إنسان غير الذي عامله ، وهذا لأن من مذهبه أن نية التخصيص فيما ثبت بمقتضى الكلام صحيحة كما تصح في الملفوظ فإن المقتضي عنده كالمنصوص في أن له عموما فتجوز نية التخصيص فيه ، وكان يستدل على ذلك بمسألة المساكنة التي أوردها محمد رحمه الله في كتاب الأيمان إذا حلف لا يساكن فلانا ، وهو ينوي مساكنته في بيته أنه يعمل بنيته ، والمكان ليس في لفظه فصحت نية التخصيص فيه . وقال في الجامع : إذا حلف لا يخرج ونوى السفر صحت نيته ، والموضع الذي يخرج إليه ليس في لفظه وصح نية التخصيص فيه . وقال في كتاب الدعوى : إذا أقر بنسب غلام صغير فجاءت أم الصغير بعد موته تطلب ميراث الزوجات فإنها تستحق ذلك ؛ لأن إقراره بالنسب يقتضي الفراش بين المقر وبين أم الصغير ، فجعل الثابت بمقتضى كلامه كالثابت بالنص ، ولكن الصحيح من المذهب عندنا أن المقتضى لا عموم له وأن نية التخصيص فيما ثبت بمقتضى الكلام لا تكون صحيحة حتى إذا حلف لا يأكل أو لا يشرب ونوى طعاما بعينه أو شرابا بعينه لم تعتبر نيته ؛ لأن المنصوص فعل الأكل ، فأما المأكول ثابت بمقتضى كلامه وثبوت المقتضى للحاجة إلى تصحيح الكلام ؛ ولهذا لا يثبت في موضع يصح الكلام بدونه ، والثابت بالحاجة لا يعدو موضع الحاجة ، ولا حاجة إلى إثبات العموم للمقتضى ، ولا إلى جعله كالمنصوص عليه فيما وراء المحتاج إليه فأما مسألة المساكنة فهناك نية التخصيص في المكان لا تعمل عندنا حتى لو قال : عنيت به المساكنة في بيت بعينه لا يعمل بنيته ، ولكن إنما يعمل بنيته فيما يرجع إلى إكمال المنصوص فالمساكنة تكون تارة في بلده وتارة في محله وتارة في دار وأيا ما كان من المساكنة أن يكون بينهما في بيت واحد فهو إنما نوى صفة الكمال في المنصوص عليه ؛ فلهذا يعمل بنيته ، وكذلك في مسألة الخروج لا نقول بنيته في تخصيص المكان حتى لو نوى الخروج إلى بغداد لا يعمل بنيته ، فإذا نوى السفر ، فإنما نوى نوعا من أنواع الخروج ؛ لأن الخروج أنواع شرعا خروج للسفر ولما دون السفر ، وإنما اختلافهما باختلاف الأحكام ، فإنما يعمل بنيته في تنوع الخروج في لفظه ؛ لأن ذكر الفعل كذكر المصدر ، وفي مسألة النسب الفراش بينه وبينها ثبت بمقتضى كلامه ، ولكن ما ثبت بطريق الاقتضاء يثبت حكمه ، وإن لم يجعل كالمنصوص عليه كالبيع الثابت في قوله : أعتق عبدك عني على ألف درهم يثبت حكمه ، وهو ملك البدلين ، وإن لم يجعل ذلك كالبيع المصرح به إذا عرفنا هذا فنقول : ينبغي أن ينوي شيئا هو من محتملات لفظه أو يكون راجعا إلى تخصيص ما في لفظه حتى يكون عاملا وأسهل طريق قالوا في هذا النوع من الأيمان : إن القاضي إذا قال له : قل والله ؛ ينبغي أن يقول : هو الله فدغم الهاء على وجه لا يفطن به القاضي ثم يمضي في كلامه إلى آخره فلا يكون ذلك يمينا ولا يأثم به إذا كان مظلوما . وإذا أراد الوصي أن يدفع إلى الورثة أموالهم ، ويكتب عليهم البراءة من كل قليل وكثير أيهما أوثق له أن يسمي ما جرى على يده ، وما أعطاهم أو لا يسمي قال : الأوثق له أن يكتب البراءة من كل قليل وكثير ولا يسمي شيئا فإنه لا يأمن أن يحضر صاحب دين أو وصية أو وارث فيضمنه ما سمى أنه دفعه إلى الورثة ، وإذا كتب براءته من كل قليل وكثير فليس له ولاية أن يضمنوه شيئا فهذا أوثق للوصي ولكن الأوثق للوارث أن يسمي ذلك فربما يخفي الوصي بعض التركة ، فإذا كتبوا له البراءة من كل قليل أو كثير لم يكن لهم سبيل على ما ظهر عليه من الجناية بعد ذلك ، فإذا سموا ما وصل إليهم كان لهم أن يخاصموا فيما يظهر في يده من التركة بعد ذلك . وذكر عن سالم بن عبد الله أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا فانقضت عدتها فتزوجها رجل ليحلها للزوج الأول لم يأمره الزوج بذلك ولا المرأة قال : هذا ما يجوز ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وبه نأخذ ؛ لأنه تزوجها نكاحا مطلقا ، والنكاح سنة مرغوب فيها ، وإنما قصد بذلك ارتفاع الحرمة بينهما ليمنعهما بذلك على ارتكاب المحرم ويوصلهما إلى مرادهما بطريق حلال فتكون إعانة على البر والتقوى ، وذلك مندوب إليه ، فالظاهر أن كل واحد منهما نادم على ما كان منه من سوء الخلق خصوصا إذا كان بينهما ولد فلو امتنع الثاني من أن يتزوجها ليحلها للأول ربما يحملها الندم أو فرط ميل كل واحد منهما إلى صاحبه على أن يتزوجها من غير محلل فهو يسعى إلى إتمام مرادهما على وجه يندبان إليه في الشرع فيكون مأجورا فيه ، وفي نظيره قال رسول الله { من أقال نادما أقاله الله عثراته يوم القيامة } ، فإذا تقرر هذا تبين أن الحل يحصل بدخول الزوج الثاني بها ، وإن كان مراده أن يحلها للأول ، فإذا تزوجها بهذا الشرط بأن قالت المرأة له : تزوجني فحللني أو قال له الزوج الأول : تزوج هذه المرأة فحللها لي أو قال الثاني للمرأة : أتزوجك فأحللك للأول فهذا مكروه ، وهو معنى قوله عليه السلام { لعن الله المحلل والمحلل له } وقال عليه السلام { ألا أنبئكم بالتيس المستعار قالوا بلى قال هو الرجل يتزوج المرأة فيحللها لزوج كان لها قبله } ولكن مع هذا يجوز النكاح ويثبت الحل للأول بدخول الثاني بها عند أبي حنيفة رحمه الله ؛ لأن هذا المنهي لمعنى في غير النكاح فلا يمنع صحة النكاح والدخول بالنكاح الصحيح يحلها للزوج الأول ثبت ذلك بالسنة ، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله هذا النكاح فاسد ؛ لأنه في معنى التوقيت للنكاح والتوقيت مفسد للنكاح كما لو تزوج امرأة شهرا ، وإذا فسد النكاح الثاني فالدخول بالنكاح الفاسد لا يوجب الحل للزوج الأول ، وقال محمد رحمه الله النكاح جائز ، ولكن الشرط باطل ؛ لأن النكاح يهدم الشرط ولا يبطل بالشرط الفاسد إلا أنهما لو قصدا الاستهجان عوضا بالحرمان فلا يثبت به الحل للزوج الأول كما لو قتل مورثه بغير حق ، وقد تقدم بيان المسألة في كتاب الطلاق . ولو قال الرجل إن خطبت فلانة أو تزوجتها فأجازت فهي طالق ثلاثا فله أن يخطبها ثم يتزوجها بعد ذلك ، ولا يحنث ؛ لأنه إذا دخل حرف أو بين الشرطين فيكون الثابت أحدهما ، وتتحلل اليمين بوجوب أحد الشرطين ، فإن خطبها أولا انحلت اليمين وهي ليست في نكاحه فلم يقع عليها شيء ثم تزوجها بعد ذلك ولا يمين فلا تطلق بمنزلة ما لو قال إن قبلتها أو تزوجتها فهي طالق فقبلها ثم تزوجها لم تطلق ولو تزوجها قبل أن يخطبها ثم بلغها فأجازت طلقت ثلاثا ؛ لأن الموجب هنا شرط التزوج وإتمام ذلك بإجازتها وهي عند تمام الشرط في نكاحه فتطلق ثلاثا بمنزلة قوله إن قبلتها أو تزوجتها ثم تزوجها قبل أن يقبلها وتبين بهذه المسألة أن من قال إن خطبت فلانة فهي كذا أو كل امرأة خطبتها فهي كذا أن يمينه لا تنعقد ؛ لأن الخطبة غير العقد ، وهي تسبق العقد فلا يكون هو بهذا اللفظ مضيفا الطلاق إلى الملك ، وهذا في لسان العربية ، فإن عقد يمينه بلسان الفارسية فقال : " أكر فلانة رابحوا همه ما هو دى له بحراهم " ، ففي كل موضع يكون هذا اللفظ يفهم غير الخطبة لا ينعقد اليمين أيضا هكذا العرف بخراسان ، وما وراء النهر فأما في هذه الديار ، فإنما يريدون بهذا اللفظ التزوج فينعقد اليمين إذا كان مراده هذا ويقع الطلاق إذا تزوجها . رجل حلف أن لا يتزوج بالكوفة امرأة فزوجه وكيل له بالكوفة فهو حانث ؛ لأن الوكيل بالنكاح سفير ومعبر حتى لا يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل ولا يتعلق به شيء من حقوق العقد فمباشرة الوكيل له كمباشرته بنفسه في حق الحنث بخلاف البيع فإنه إذا حلف لا يشتري شيئا بالكوفة فاشترى له وكيله لا يحنث ؛ لأن الوكيل في الشراء بمنزلة العاقد لنفسه حتى يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل ويتعلق حقوق العقد به ثم الحيلة في مسألة النكاح : أن توكل المرأة وكيلا يزوجها منه ثم يخرج الوكيل والزوج إلى الحيرة أو غيرها بعد أن يخرجا من أبيات الكوفة ثم يزوجها منه فلا يحنث ؛ لأنه لم يتزوجها بالكوفة . ( ألا ترى ) أن المقيم بالكوفة إذا خرج من أبيات الكوفة على قصد السفر كان مسافرا يقصر الصلاة فعرفنا أن التزوج في هذا الموضع لا يكون تزويجا بالكوفة ، وإنما ذكر توكيلها لئلا تبتلى بالخروج مع غير المحرم إلى ذلك الموضع . رجل قال لعبده قد أذنت لك أن تتزوج كل أمة تشتريها فاشترى العبد أمة فتزوجها ببينة فهو جائز ؛ لأن ما اشتراها صارت مملوكة للمولى وقد أقامه المولى مقام نفسه في ذلك ، ولو زوج بنفسه أمته بمحضر من الشهود جاز فكذلك العبد إذا فعل ذلك . وقال أبو حنيفة رحمه الله في رجل له جارية تخرج في حوائجه ، وهو يطؤها فحملت وولدت وسعه أن يدعيه ، وأن يبيعه معها ، وإن كان لا يدعها تخرج لم يسعه ذلك ، وإن كان يعزل عنها ، ولا يطلب ولدها لم يسعه ذلك إذا حبسها ومنعها من الخروج ، وهذا فيما بينه وبين ربه ، فأما في الحكم لا يلزمه النسب إلا بالدعوى إلا أنه إذا حصنها فالظاهر أن الولد منه سواء كان يعزل عنها أو لا يعزل فعليه الأخذ بالاحتياط والبناء على الظاهر ، وذكر عن علي رضي الله عنه أن رجلا أتاه فقال : إن لي جارية أطؤها وأعزل عنها فجاءت بولد فقال علي رضي الله عنه نشدتك بالله : هل كنت تعود إلى جماعها قبل أن تبول ؟ قال نعم فمنعه من أن ينفيه فهو عندنا على التي قد حصنت ومعنى هذا أنه يتوهم بقاء بعض المني في إحليله فبالمعاودة يصل إليها إذا عاد في جماعها قبل البول ؛ ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله إذا أتى أهله واغتسل قبل أن يبول ثم سال منه بقية المني يلزمه الاغتسال ثانيا ، وكذلك إن كان يعزل عنها فصب الماء من فوق فربما يعود إلى فرجها فتحبل به ؛ ولهذا لا يسعه نفي الولد والأصل فيه ما روي عن { النبي عليه الصلاة والسلام أنه لما سئل عن العزل قال إذا أراد الله خلق نسمة من ماء فهو خالقها ، وإن صببتم ذلك على صخرة فاعزلوا أو لا تعزلوا } . وإذا غاب أحد المتفاوضين فأراد الثاني منهما أن يبطل الشركة فالحيلة له : أن يرسل رسولا إليه بأنه قد فارقه ونقض ما بينهما من الشركة ، فإذا بلغ الرسول ذلك فقد انقضت الشركة بينهما ؛ لأن كل واحد منهما ينفرد بنقض الشركة بعد أن يكون ذلك بعلم صاحبه ليندفع الضرر عنه والغرر عن شريكه بذلك وعبارة الرسول في إعلامه كعبارة المرسل ، وهذا في كل عقد لا يتعلق به اللزوم نحو عزل الوكيل والحجر على العبد المأذون وفسخ المضاربة ونقض ولاء الموالاة إذا كان الأسفل غائبا فأراد الأعلى أن ينقض ولاءه أرسل إليه رسولا يبلغه عنه أنه قد نقض موالاته فيكون تبليغ الرسول إياه كتبليغ المرسل بنفسه ، وإن أراد ذلك الأسفل فله ذلك قبل أن يعقل عنه الأعلى ، وإن شاء فعل كذلك ، وإن شاء إلى غيره فيكون ذلك نقضا للموالاة مع الأول ، وقد بينا هذا في كتاب الولاء والله أعلم بالصواب

باب الأيمان ( قال رحمه الله ) ولو حلف لا يلبس من ثياب فلان شيئا وليس لفلان يومئذ ثوب ثم اشترى ثوبا فلبسه الحالف حنث ؛ لأنه عقد يمينه على لبس ثوب مضاف إلى فلان فيعتبر وجود الإضافة عند اللبس ، كما لو حلف لا يأكل طعام فلان بشرط وجود الإضافة عند الأكل ، وهذا ؛ لأن الذي دعاه إلى اليمين ليس معنى في الثوب والطعام بل لمعنى لحقه من جهة فلان وبذلك المعنى إنما يمتنع من اتحاد الفعل فيه لكونه مضافا إلى فلان وقت اتحاد الفعل لا وقت اليمين وفرق أبو يوسف رحمه الله بين هذا وبين الدار وقال : الدار لا يستحدث الملك فيها في كل وقت فلا يتناول يمينه إلا ما كان موجودا في ملك فلان عند يمينه فأما الثوب والطعام فيستحدث الملك فيهما في كل وقت ، وإنما يتناول يمينه ما كان في ملك فلان عند وجود الفعل . ولو حلف لا يكسو فلانا فوهب له ثوبا صحيحا وأمره أن يصنع منه قميصا حنث ؛ لأنه قد كساه فهذا اللفظ إنما يتناول تمليك الثوب منه لا إلباس الثوب إياه . ( ألا ترى ) أن كفارة اليمين تتأدى بكسوة عشرة مساكين ، وذلك بالتمليك دون الإلباس ويقال في العادة كسا الأمير فلانا إذا ملكه سواء لبسه فلان أو لم يلبسه ، فقد يطلق اسم الكسوة على ما لا يتأتى فيه اللبس فعرفنا أن المراد به التمليك ، ولو حلف لا يلبس قميصا لفلان فلبس قميصا لعبده لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله . وقال أبو يوسف قال الحاكم رحمه الله : يحنث ، وهذا خلاف ما مضى في كتاب الأيمان أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إذا لم يكن على العبد دين لم يحنث إلا أن ينويه وعلى قول محمد يحنث قال : ولكن عندي أن الجواب الذي ذكر في الكتاب فيما إذا كان على العبد دين مستغرق ونواه ، فإنه لا يحنث عند أبي حنيفة ؛ لأنه لا يملك كسبه ، وعند أبي يوسف يحنث ؛ لأنه مالك كسبه فأما عند عدم النية أو عند عدم الدين على العبد فلا خلاف عند أبي حنيفة وأبي يوسف إنه لا يحنث ، وإن حلف أنه لا يكسو فلانا فكسا عبده لا يحنث ؛ لأنه ما ملك الثوب من فلان ، وإنما ملكه عبده ؛ لأن الملك يقع للمولى على سبيل الخلافة من عبده حكما ، وذلك ليس شرط حنثه ثم هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله ظاهر ، فإن عنده لو وهب لعبد أخيه يملك الرجوع فيه ، ولم يجعل كهبته لأخيه فكذلك إذا كسا عبد فلان لا يجعل في حكم الحنث كأنه كسا فلانا وهما يقولان في حكم الرجوع هبته لعبد أخيه كهبته لأخيه لاعتبار أن الخصومة في الرجوع تكون مع المولى ، وهو قريب له فرجوعه يؤدي إلى قطيعة الرحم وهنا شرط حنثه نفس الكسوة لا معنى ينبني عليه ، وقد وجد ذلك مع العبد دون المولى . ( ألا ترى ) أن القبول والرد فيه يعتبر مع العبد دون المولى ؟ وعلى هذا لو حلف لا يبيع من فلان شيئا فباع من عبده لم يحنث ، وهذا في البيع أظهر ؛ لأنه لو باع من وكيل فلان لم يحنث فكيف يحنث إذا باع من عبد فلان والعبد في الشراء يتصرف لنفسه لا لمولاه ، ولو حلف لا يبيع هذا الثوب من فلان بثمن فباعه بجارية لم يحنث ؛ لأن الثمن اسم للنقد الذي يتعين في العقد ، ولأن البيع بثمن لا يتناول بيع المقابضة ، فإن في بيع المقابضة يكون كل واحد منهما بائعا من وجه مشتريا من وجه والبيع بثمن ما يكون بيعا من كل وجه . ولو حلف لا يشتري من فلان ثوبا فأمر رجلا فاشترى له منه لم يحنث ؛ لأن الوكيل بالشراء في حقوق العقد بمنزلة العاقد لنفسه . ( ألا ترى ) أنه يستغنى عن إضافة العقد إلى الآمر ؟ قالوا : وهذا إذا كان الحالف ممن يباشر الشراء بنفسه فإن كان ممن لا يباشر ذلك بنفسه ، فهو حانث في يمينه ؛ لأنه يقصد بيمينه منع نفسه عما لا يباشره عادة ، وفي اليمين مقصود الحالف معتبر ، وحكي أن الرشيد سأل محمدا رحمه الله عن هذه المسألة فقال : أما أنت فنعم يعني إذا كان لا يباشر العقد بنفسه فجعله حانثا بشراء وكيله له ، وإن وهب المحلوف عليه الثوب للحالف على شرط العوض لم يحنث ؛ لأنه ما اشتراه منه فالشراء يوجب الملك بنفسه ، والهبة بشرط العوض لا توجب الملك إلا بالقبض ثم بالهبة بشرط العوض إنما يثبت حكم البيع بعد اتصال القبض به من الجانبين ، وهو جعل الشرط نفس العقد وبنفس العقد لا يصير هو مشتريا ، ولا صاحبه بائعا منه ، فلهذا لم يحنث قال : وسألت أبا يوسف رحمه الله عن رجل حلف لا يساكن فلانا في دار ، ولا نية له فسكن معه في دار كل واحد منهما في مقصورة على حدة قال : لا يحنث حتى يكونا في مقصورة واحدة ، وفيها قول آخر أنه يحنث ، وهو رواية هشام عن محمد رحمهما الله وهذه ثلاث فصول : أحدها : أن يسكنا في محلة واحدة وكل واحد منهما في دار منها لا يحنث بدون النية ؛ لأن المساكنة على ميزان المفاعلة فتقتضي وجود الفعل منهما في مسكن واحد وكل دار مسكن على حدة فلم يجمعهما مسكن واحد . والثاني : أن يسكنا في دار واحدة وكل واحد منهما في بيت منها ، فإنه يكون حانثا في يمينه ؛ لأن جميع هذه الدار مسكن واحد ويسمى في العرف ساكنا مع صاحبه ، وإن كان كل واحد منهما في بيت والثالث أن يكون في الدار مقاصير وكل واحد منهما في مقصورة على حدة ومحمد رحمه الله يقول : هنا الدار مسكن واحد والمقاصير فيها كالبيوت . ( ألا ترى ) أنه يتخذ المرافق كالمطبخ والمربط ؟ فعرفنا أن جميعها في السكنى مسكن واحد وأبو يوسف رحمه الله يقول كل مقصورة مسكن على حدة . ( ألا ترى ) أن السارق من بعض المقاصير لو أخذ في صحن الدار قبل أن يخرج كان عليه القطع ، وإن ساكن إحدى المقصورتين لو سرق من المقصورة الأخرى متاع صاحبه كان عليه القطع ؟ فكانت المقاصير في دار بمنزلة الدور في محلة واحدة بخلاف البيوت فكل بيت من الدار ليس بمسكن على حدة . ( ألا ترى ) أن الكل حرز واحد حتى إن السارق من بيت إذا أخذ في صحن الدار ومعه متاع لم يقطع والضيف الذي هو مأذون بالدخول في إحدى البيتين إذا سرق من البيت الآخر لم يقطع فعرفنا أن الكل مسكن واحد هناك ولو حلف لا يدخل على فلان ، ولا نية له فدخل عليه في دار قال أبو يوسف رحمه الله : لا يحنث وجعل الدخول عليه في الدار كالدخول في محلة أو قرية ، وإنما الدخول على الغير في العرف بأن يدخل بيتا هو فيه أو مقصورة هو فيها على قصد زيارته فما لم يوجد ذلك لا يحنث في يمينه ، ومشايخنا رحمهم الله قالوا : في عرف ديارنا يحنث في يمينه ، فإن الإنسان كما يجلس في بيته ليزوره الناس يجلس في داره لذلك فكان ذلك مقصودا بيمينه قال : وكذلك لو دخل عليه في دهليز لم يحنث في يمينه ، ومراده من ذلك دهليز إذا رد الباب يبقى خارجا فإما كل موضع إذا رد الباب يبقى داخلا ، فإذا دخل عليه في ذلك الموضع ينبغي أن يحنث ؛ لأن الإنسان قد يجلس في ذلك الموضع ليزوره الناس فيه . ( ألا ترى ) أنه ليس لأحد أن يدخل عليه في ذلك الموضع إلا بإذنه ؟ بخلاف الموضع الذي هو خارج الباب فلكل أحد أن يصل إلى ذلك الموضع بغير إذنه ، ولو دخل عليه في المسجد لم يحنث ؛ لأن لكل واحد أن يدخل المسجد بدون إذنه فلم يكن ذلك شرط حنثه ، ولا يسمى دخولا عليه في العادة ولو حلف لا يدخل على فلان منزلا وحلف الآخر بعد ذلك لا يدخل على الحالف الأول منزلا فدخلا معا لم يحنث واحد منهما ؛ لأن كل واحد منهما داخل المنزل ولكن مع صاحبه لا على صاحبه فالدخول عليه أن يكون قصده عند الدخول لقاءه وإكرامه بالزيارة ، وهذا لا يتحقق إذا كان هو معه ، فإنه لا يتصور أن يكون كل واحد منهما داخلا على صاحبه في موضع واحد في حالة واحدة وليس أحدهما بأن يجعل داخلا على صاحبه بأولى من الآخر ولو حلف لا يطأ منزل فلان بقدمه يعني بذلك لا يضع قدمه على أرض منزله فدخله وعليه خفان أو نعلان أو راكبا لم يحنث ، وإن لم يكن له نية حنث ؛ لأن المراد من هذا اللفظ في العرف دخوله منزله فعند الإطلاق يحمل على ذلك ، وهو داخل سواء كان راكبا أو ماشيا أو حافيا أو منتعلا ، وإن نوى حقيقة وضع القدم ، فإنما نوى حقيقة كلامه ؛ لأنه إنما يطأ الشيء بقدميه حقيقة من غير فاصل بينهما ، ولا يحصل ذلك إذا دخلها راكبا أو منتعلا ، ومن نوى حقيقة كلامه عومل بنيته ولو قال لامرأته : إن دخلت دار أبيك إلا بإذني فأنت طالق فالحيلة في ذلك في أن لا يحنث أن يقول لها : قد أذنت لك في دخول هذه الدار كلما شئت فتدخل كلما شاءت ، ولا يحنث ؛ لأنه جعل الدخول بإذنه مستثنى من يمينه ، والإذن بكلمة كلما يتناول مرة بعد مرة ما لم يوجد النهي فهي كل مرة إنما تدخل بإذنه إلا أن يمنعها من الدخول فحينئذ إذا دخلت بعد ذلك كان دخولا بغير إذنه ولو قال : أنت طالق إن خرجت من بيتي ، ولا نية له فخرجت من البيت إلى الحجرة لم يحنث ؛ لأنها ليست بخارجة من البيت . ( ألا ترى ) أن المعتدة لا تمنع من ذلك ؟ بقوله عز وجل { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } ، ولأن مقصوده من هذا أن لا يراها الناس ، وإنما يكون ذلك بالخروج إلى السكة لا بالخروج إلى الحجرة ؛ لأن الحجرة من حرزه لا يدخلها أحد إلا بإذنه لمنزله ولو حلف لا يدخل على فلان بيته فدخل حجرته قيل : لا يحنث ؛ لأنه ما دخل بيته ، وهو نظير ما تقدم أنه إذا دخل عليه في دار لم يحنث قالوا : وفي عرف ديارنا يحنث في يمينه فاسم البيت يتناول السفل . ( ألا ترى ) أن من بات في حجرته إذا قيل له : أنذيت البلدة الليلة يستجير أن يقول في بيتي ؟ ولو حلف لا يأخذ ماله على فلان إلا جميعا فأخذ حقه جميعا إلا درهما وهبه للمطلوب لم يحنث ؛ لأن شرط حنثه أن يأخذ ماله على فلان متفرقا ، فإنه لما استثنى الأخذ جملة واحدة عرفنا أن المستثنى منه الأخذ متفرقا ، فإذا وهب له البعض أو أبرأه عن البعض فلم يوجد الأخذ متفرقا فلم يحنث ، وإن أخذ جميع حقه فوجد فيه درهما متفرقا لم يحنث حتى يستبد له فإن استبد له حينئذ يحنث ؛ لأن قبل الاستبدال لم يوجد أخذ جميع الحق متفرقا ، وإنما الموجود أخذ بعض حقه وليس ذلك شرط حنثه فأما بعد الاستبدال ، فقد أخذ جميع الحق متفرقا ، وهذا ؛ لأن الستوق ليس من جنس الدراهم وبقبضه لا يصير قابضا ، ولهذا لا يجوز به الصرف والسلم لم يجز فحين استبدله ، فقد وجد الآن قبض ما بقي من حقه ، وقد كان قبض بعضه في الابتداء فعرفنا أنه وجد أخذ جميع الحق متفرقا حتى لو وجد الكل ستوقا فاستبدله لم يحنث ؛ لأنه ما أخذ حقه متفرقا. وإن حلف لا يتقاضى فلانا فلزمه فلم يتقاضاه لم يحنث ؛ لأن الملازمة غير التقاضي فالتقاضي يكون باللسان والملازمة تكون بالبدن والملازمة غير التقاضي في عرف الناس ومبنى الأيمان على العرف. ولو حلف المطلوب ليعطيه حقه درهما دون درهم فأعطاه بعض حقه لم يحنث ؛ لأن الشرط إعطاء جميع حقه متفرقا ، فإن قوله درهما دون درهم عبارة عن التفرق عادة ، وهو بإعطاء بعض الحق إنما أعطاه حقه متفرقا ولو حلف الطالب لا يفارقه حتى يستوفي ما له عليه فنام الطالب أو غفل فهرب المطلوب لم يحنث في يمينه ؛ لأنه عقد يمينه على فعل نفسه ، وهو ما فارق المطلوب إنما المطلوب فارقه حين هرب منه ، ولو حلف لا يفارقه فأمره السلطان أن لا يتعرض له وحال بينه وبين لزومه فذهب المطلوب ، ولم يقدر الطالب على إمساكه لم يحنث ؛ لأن الطالب ما فارقه إنما المطلوب هو الذي هرب منه وفعل غيره لا يكون فعلا له ولكونه بأمر السلطان عجز عن إمساكه وبهذا لا يصير مفارقا له ولو قال كل شيء أبايع به فلانا ، فهو صدقة ثم بايعه لم يلزمه شيء ؛ لأن البيع يزيل ملكه ، فإنما أضاف النذر بالصدقة إلى حال زوال ملكه عما بايع غيره به والمضاف إلى وقت كالمنشأ في ذلك الوقت وبعد ما زال ملكه بالبيع عن العين لو قال : لله تعالى علي أن أتصدق بهذا العين لم يصح نذره فإن قيل : لماذا لم يجعل هذا اللفظ التزاما للتصدق بيمينه قلنا ؛ لأنه قال ، فهو صدقة ، ولم يقل قيمته صدقة والملتزم للتصدق بالعين لا يكون ملتزما للتصدق بالثمن ولو حلف المطلوب أن لا يعطي الطالب شيئا ثم أمر المطلوب رجلا فأعطاه حنث في يمينه ؛ لأن الحالف هو المعطي ، فإن الدافع رسول من جهته بالتسليم إلى فلان فيصير المعطي فلانا . ( ألا ترى ) أنه لو دفع صدقته إلى إنسان ليفرقها على المساكين ثم إن الدافع لم يحضر النية عند التصدق جاز إذا وجدت النية ممن أمره بالصدقة وجعل كأنه هو المعطي فهذا مثله فإن حلف أن يعطيه من يده إلى يده يحنث ؛ لأنه جعل شرط حنثه إعطاء مقيدا بصفة ، وهو أن يكون بالمناولة ، وهذا ؛ لأن الإعطاء من يده إنما يكون من المعطي ، وهو المباشر للإعطاء فيه حقيقة وحكما ، وإذا صرح في يمينه بالإعطاء على أتم الوجوه لا يحنث بما دونه ، وإذا أطلق اللفظ يعتبر ما هو المقصود ، وذلك حاصل سواء أعطاه بيده أو أمر غيره فأعطاه. وإن حلف أن لا يعطيه ما عليه درهما فما فوقه فأعطاه حقه كله دنانير ، وإنما عنى الدراهم لم يحنث ؛ لأنه صرح في يمينه بالدراهم ، ولا بد من اعتبار ما صرح به خصوصا إذا تأيد ذلك بنيته ، ولأن الإنسان قد يمتنع من إعطاء الدراهم ، ولا يمتنع من إعطاء الدنانير لماله من المقصود في الصرف والتقييد إذا كان فيه غرض صحيح يجب اعتباره. ولو قال لرجل : إن أكلت عندك طعاما أبدا ، فهو كله حرام ينوي بذلك العين فأكله عنده لم يحنث ؛ لأنه يجعل الحرام ما أكله وبعدما أكله لا يتصور أن يجعله حراما ، وهذا ؛ لأن وصف الشيء بأنه حرام بطريق أنه محل لإيقاع الفعل الحرام فيه ، وذلك لا يتحقق بعد الأكل وتحريم الحلال إنما يكون يمينا إذا صادف محله فأما إذا لم يصادف محله كان لغوا ، ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول إنه بعدما أكله حرام . ( ألا ترى ) أنه على أي وجه انفصل عنه كان حراما ؟ فيقول هو صادف محله في كلامه ، ولكن هذا ليس بصحيح ؛ لأنه كما أن تحريم الحلال يمين فتحريم الحرام يمين حتى إذا قال : هذا الخمر علي حرام ونوى به اليمين كان يمينا فعرفنا أن الطريق هو الأول ، وهو أن هذا التحريم لم يصادف محله أصلا. ولو حلف لا يذوق طعاما لفلان فأكل طعاما له ولآخر حنث ؛ لأنه قد ذاق طعام فلان والطعام المشترك بين اثنين لكل واحد منهما جزء منه والذوق يتم بذلك الجزء كالأكل يتم به. ولو حلف لا يأكل طعام فلان فأكل طعاما له ولآخر كان حانثا في يمينه بخلاف ما لو حلف لا يلبس ثوب فلان فلبس ثوبا بينه وبين آخر أو لا يركب دابة فلان فركب دابة بينه وبين آخر ؛ لأن الجزء الذي هو مملوك لفلان لا يسمى ثوبا ، ولا دابة وعلى هذا لو حلف لا يأكل لقمة لفلان فأكل طعاما بينه وبين آخر لم يحنث ؛ لأن كل لقمة مشتركة بينه وبين فلان ، وإنما جعل شرط حنثه أكل لقمة فلان خاصة ، ولم يوجد ذلك. ولو حلف لا يشرب الشراب ، ولا نية له بهذا غير الخمر فإن شرب غيرها لم يحنث يعني غيرها مما لا يسكر فأما ما يشرب للسكر والتلهي به إذا شرب شيئا منه كان حانثا ؛ لأن الشراب في الناس إذا أطلق يراد به المسكر والإنسان إنما يمنع من ذلك بيمينه للتحرز عن السكر فيتناول مطلق لفظه ما يسكر ويسقط اعتبار حقيقة لفظه بالاتفاق حتى لا يحنث بشرب الماء أو اللبن ، وهو شراب فالشراب حقيقة ما يشرب. ولو حلف لا يزايل حراما فشرب خمرا لم يحنث إلا أن ينويه ؛ لأن المراد بهذا اللفظ الفجور عند الإطلاق فينصرف يمينه إليه إلا أن ينوي غيره فالحاصل أن دليل العرف يغلب على حقيقة اللفظ في باب الأيمان ، ولهذا لو حلف لا يشتري بنفسجا ينصرف إلى دهن البنفسج دون الورق والبنفسج للورق حقيقة فعرفنا أن العرف يعتبر في باب الأيمان ، وإن مطلق اللفظ يتقيد بمقصود الحالف. ولو قال لامرأته : إن أمسيت قبل أن أطعم فأنت طالق ، ولا نية له قال إن غربت الشمس ، ولم يطعم حنث ؛ لأن المراد بهذا اللفظ دخول الليل ، وذلك بعد غروب الشمس ، فإن الإمساء قبل الإصباح ، فإنما يقول الرجل لآخر كيف أصبحت في أول النهار وكيف أمسيت في آخر النهار عند غروب الشمس . ( ألا ترى ) أن الصائم يحرم عليه الطعام والشراب من الصباح إلى المساء وينتهي ذلك بغروب الشمس ؟ فإذا غربت الشمس ، ولم يطعم ، فقد أمسى قبل أن يطعم فيحنث في يمينه. ولو حلف لا يأكل هذا الجمل فكبر حتى صار مسنا فأكله حنث ، وقد بينا في الأيمان من الجامع وغيره أن في الحيوان العين لا تتبدل بتبدل الوصف ، ولهذا لو حلف لا يكلم هذا الصبي وكلمه بعد ما شب أو لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ حنث بخلاف ما لو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعد ما صار ثمرا لم يحنث فهذه المسألة تنبني على ذلك الأصل والله أعلم بالصواب.

باب في البيع والشراء ( قال رحمه الله ) امرأة حامل تريد أن تهب مهرها لزوجها على أنها إن ماتت في نفاسها كان الزوج بريئا من المهر ، وإن سلمت عاد المهر على زوجها ، فإنه ينبغي لها أن تشتري من الزوج ثوبا لم تره بأن كان في منديل فتشتريه بجميع مهرها أو نصفه فإن ماتت في نفاسها برئ الزوج ، وإن سلمت من علتها ردت الثوب بخيار الرؤية وعاد المهر على زوجها ، وهذا يستقيم إذا بقي الثوب على حاله ؛ لأن الرد بخيار الرؤية غير مؤقت وبه ينفسخ العقد من الأصل فيعود المهر عليه ، كما كان ، ولكن الثوب قد يتعيب عندها أو يهلك فيتعذر رده فالسبيل أن تشتري الثوب وتشهد على ذلك من غير أن تقبضه من الزوج حتى لا يتعذر عليها الرد إذا سلمت بوجه من الوجوه رجل أمر رجلا أن يشتري دارا بألف درهم وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر منه بألف ومائة فخاف المأمور إن اشتراها أن لا يرغب الآمر في شرائها قال : يشتري الدار على أنه بالخيار ثلاثة أيام فيها ويقبضها ثم يأتيه الآمر فيقول له قد أخذتها منك بألف ومائة فيقول المأمور هي لك بذلك ، ولا بد له أن يقبضها على أصل محمد رحمه الله فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا حاجة إلى هذا الشرط لجواز التصرف في العقار قبل القبض عندهما والمشتري بشرط الخيار يتمكن من التصرف في المشترى بالاتفاق ، وإن اختلفوا أنه هل يملكه مع شرط الخيار أم لا ؟ فإنما قال الآمر : يبدأ ليتمكن من التصرف في المشترى فيقول : أخذت منك بألف ومائة ؛ لأن المأمور له لو بدأ قال : بعتها منك ربما لا يرغب الآمر في شرائها ويسقط خيار المأمور بذلك فكان الاحتياط في أن يبدأ الآمر حتى إذا قال المأمور : هي لك بذلك ، ثم البيع بينهما ، وإن لم يرغب الآمر في شرائها يمكن المأمور من ردها بشرط الخيار فيندفع الضرر عنه بذلك. رجل حلف يعتق كل مملوك يملكه إلى ثلاثين سنة وعليه كفارة ظهار فأراد أن يعتق ويجوز عن ظهاره قال يقول الرجل أعتق عبدك عني على ألف درهم ، فإذا فعل ذلك عتق ؛ لأن الملك هنا ، وإن كان يثبت للآمر ، فإنما يثبت ذلك في حكم تصحيح العتق عنه ؛ لأنه ثابت بطريق الإضمار والمقصود بالإضمار تصحيح الكلام ففيما يرجع إلى تصحيح الكلام يظهر حكم المضمر ، ولا يظهر فيما وراء ذلك فلا يصير شرط الحنث في اليمين الأولى موجودا بهذا اللفظ فيقع العتق عن الظهار ، كما أوجبه بالكلام الثاني وهذه المسألة تصير رواية في فصل ، وهو من قال لعبد الغير : ملكتك فأنت حر ثم قال : إن ملكتك فأنت حر عن ظهاري ثم اشتراه لا يجزئه عن الظهار ؛ لأن عتقه عند دخوله في ملكه صار مستحقا بالكلام الأول على وجه لا يملك إبطاله ، ولا يملك إبداله بغيره فعند دخوله في ملكه إنما يعتق بالكلام الأول ، ولم يقترن به نية الظهار ، ألا ترى أنه تكلف في هذا الفصل فقال : يقول الرجل : أعتق عبدك عني على كذا ، ولو كان هو يمكنه إعتاقه عن ظهاره لقال : إنه يقول لهذا المملوك : إن ملكتك فأنت حر عن ظهاري ثم يشتريه فلما لم يذكر هكذا عرفنا أن الصحيح في تلك المسألة أن يعتق عند دخوله في ملكه بالإيجاب الأول خاصة امرأة طلقها زوجها ولها عليه دين بغير بينة فحلف ما لها عليه حق فأرادت أن تأخذ منه وأنكرت أن تكون عدتها قد انقضت تريد بذلك أن تأخذ منه نفقة بقدر دينها قال يسعها ذلك ؛ لأنها لو ظفرت بجنس حقها كان لها أن تأخذه بغير علمه فكذلك إن تمكنت من الأخذ بهذا الطريق ، وهذا ؛ لأن هذا الزوج ، وإن كان يعطيها بطريق نفقة العدة فهي إنما تستوفي بحساب دينها ولها حق استيفاء مال الزوج بحساب دينها على أي وجه كان منه فإن حلفها القاضي على انقضاء عدتها فحلفت تعني به شيئا غير ذلك وسعها ، وقد بينا أنها متى كانت مظلومة تعتبر نيتها ، فإذا حلفت ما انقضت عدتي تعني به عدة عمرها وسعها ذلك ولو أن رجلا أراد أن يدفع مالا مضاربة إلى رجل وأراد أن يكون المضارب ضامنا له فالحيلة في ذلك أن يقرضه رب المال المال إلا درهما ثم يشاركه بذلك الدرهم فيما أقرضه على أن يعملا فما رزقهما الله تعالى في ذلك من شيء ، فهو بينهما على كذا ، وهذا صحيح ؛ لأن المستقرض بالقبض يصير ضامنا للمستقرض متملكا ثم الشركة بينهما مع التفاوت في رأس المال صحيح فالربح بينهما على الشرط على ما قال علي رضي الله عنه الربح على ما اشترطا والوضيعة على المال ويستوي إن عملا جميعا أو عمل به أحدهما فربح ، فإن الربح يكون بينهما على هذا الشرط ، وإن شاء أقرض المال كله للمضارب ثم يدفعه المستقرض إلى المقرض مضاربة بالنصف ثم يدفعه المقرض إلى المستقرض بضاعة فيجوز ذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأن دفعه إلى صاحب المال بضاعة كدفعه إلى أجنبي آخر ، وفي قول محمد رحمه الله الربح كله للعامل هنا ؛ لأن العامل صاحب المال ، وهو في عمله في ملكه لا يصلح أن يكون نائبا عن غيره ، وقد تقدم بيان هذه المسألة في كتاب المضاربة فهذه الحيلة على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله خاصة فالمال كله صار مضمونا عليه بالقبض على جهة القرض ثم هو العامل في المال ، والربح على شرط المضاربة فأما عند محمد رحمه الله الحيلة هي الأولى قال : وسألت أبا يوسف رحمه الله عن الرجل يشتري دارا بألف درهم فخاف أن يأخذها جارها بالشفعة فاشتراها بألفي درهم من صاحبها ثم أعطاه بألف دينار أو ألف درهم قال : هو جائز ؛ لأن هذه مصادقة بالثمن قبل القبض ، وذلك جائز لحديث { ابن عمر رضي الله عنه قال : ألا يا رسول الله أعلي بأس أني أبيع الإبل بالبقيع وربما أبيعها بالدراهم وآخذ مكانها دنانير ؟ فقال عليه السلام : لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما عمل } فإن حلفه القاضي ما دالست ولا دلست فحلف كان صادقا ؛ لأن هذه عبارة عن الغرور والخيانة ، ولم يفعل شيئا من ذلك ، وإن أحب أن لا يكون عليه يمين اشتراها كذلك لولده الصغير فلا يكون عليه يمين في ذلك ؛ لأن الاستحلاف لرجاء النكول أو الإقرار ، وهو لو أقر بذلك لم يصح إقراره في حق الصغير فإن لم يكن له ولد صغير فالسبيل أن يأمر بعض أصدقائه أن يشتريها له كذلك ويشهد على الوكالة ويجعله جائز الأمر في ذلك فإن اشتراها لم يكن بين الشفيع والمشتري في ذلك خصومة في قول محمد رحمه الله ، وفي قول أبي يوسف ما دامت في يده ، فهو خصم للشفيع إلا أن يشهد على تسليمها للآمر ثم يودعها الآمر منه أو يعيرها . رجل أحب أن يشتري دارا بعشرين ألف درهم فإن أخذها الشفيع أخذها بعشرين ألف ، ولو استحق الدار لم يرجع على البائع إلا بعشرة آلاف قال يشتريها بعشرين ألف درهم وينقده تسعة آلاف

[ 240 ] وتسعين درهما ودينارا ، فإنما بقي من الثمن فإن رغب فيها الشفيع أخذها بعشرين ألف ، وإن استحقت يرجع على البائع بما دفع إليه ؛ لأنها لما استحقت بطل عقد الصرف لوجود الافتراق قبل قبض أحد البدلين ، ولا يرجع إلا بما أدى وقبل الاستحقاق الصرف صحيح فلا يأخذ الشفيع الدار إلا بعشرين ألف ، ولو أعطاه بالباقي مكان الدينار ثوبا أو متاعا رجع عند الاستحقاق بعشرين ألف ؛ لأن استحقاق الدار لا يبطل البيع في الثوب والمتاع فيكون قابضا منه عشرين ألف فيلزمه رد ذلك عند استحقاق الدار فأما عقد الصرف يبطل باستحقاق الدار فلا يلزمه إلا رد المقبوض ، فلو لم يستحق ووجد بالدار عيبا ردها بعشرين ألف في جميع ذلك ؛ لأنه بالرد بالعيب لا يتبين أن الثمن لم يكن واجبا قبل القبض ، وقد بينا في كتاب الشفعة وجوه الحيل لإبطال الشفعة أو لتقليل رغبة الشفيع في الأخذ ، وذلك لا بأس به قبل وجوب الشفعة عند أبي يوسف رحمه الله ، وعند محمد رحمه الله هو مكروه أشد الكراهة ؛ لأن الشفعة مشروعة لدفع الضرر عن الشفيع فالذي يحتال لإسقاطها بمنزلة القاصد إلى الإضرار بالغير ، وذلك مكروه وأبو يوسف رحمه الله يقول : إنه يمتنع من التزام هذا الحق مخافة أن لا يمكنه الخروج منه إذا التزمه ، وذلك لا يكون مكروها كمن امتنع من جميع المال كيف يلزمه نفقة الأقارب والحج ؟ فهذا دفع الضرر عن نفسه لا الإضرار بالغير ؛ لأن في الحجر عليه عن التصرف أو تملك الدار عليه بغير رضاه إضرار به ، وهو إنما قصد دفع هذا الضرر وعلى هذا الخلاف الحيلة لمنع وجوب الزكاة واستدل أبو يوسف رحمه الله على ذلك في الأمالي قال : أرأيت لو كان لرجل مائتا درهم فلما كان قبل الحول بيوم تصدق بدرهم منها كان هذا مكروها ، وإنما تصدق بالدرهم حتى يتم الحول وليس في ملكه نصاب فلا يلزمه الزكاة ، ولا أحد يقول بأن هذا يكون مكروها أو يكون هو فيه آثما قال وإذا اشترى الرجل دارا لغيره وكتب في الصك ونقد فلان فلانا الثمن كله من مال فلان الآمر فللبائع أن لا يرضى بهذا لما فيه من الضرر عليه فربما يجيء الآمر فيقول : قد أخذت مالي وأقررت بذلك حين أشهدت على الصك ، ولم آمر فلانا بالشراء لي فيسترد ماله ، ولا يقدر هو على المشتري ليطالبه بثمن الدار ، وإن لم يكتب هذا ففيه نوع ضرر على الآمر ، وهو أن يأخذ المشتري الآمر بالمال ويقول نقدت الثمن من مالي فالحيلة أن يكتب : وقد نقد فلان فلانا الثمن . ولا يكتب من مال من هو ، فإذا ختم الشهود كانت شهادتهم على البيع وقبض الثمن فقط ثم يقر المشتري بعد ذلك أن ما نقده من

[ 241 ] الثمن إنما هو من مال الآمر فيكون إقراره حجة عليه للآمر فيندفع الضرر عنهما والله أعلم بالصواب باب الاستحلاف

( قال رحمه الله ) وإذا أراد الرجل أن يغيب فقالت له امرأته : كل جارية تشتريها فهي حرة حتى ترجع إلى الكوفة ، ومن رأيه أن يشتري جارية كيف يصنع ؟ قال : إذا حلف بهذه الصفة يقول : نعم فيريها بهذه الكلمة أنه حلف على الوجه الذي طلبت ، وهو يعني بني تغلب أو غيره من أحياء العرب أو ينوي بقلبه واحد الأنعام ، فإنه يقال نعم والأنعام هي الإبل والبقر والغنم قال الله تعالى { والأنعام خلقها لكم } الآية ، فإذا عنى هذا لم يكن حالفا فإن أبت إلا أن الزوج هو الذي يقول : كل جارية أشتريها فهي حرة ، قال : فليفعل ذلك وليعن بذلك كل سفينة جارية قال الله تعالى { وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام } والمراد السفن ، فإذا عنى ذلك عمل بنيته ؛ لأنها ظالمة له في هذا الاستحلاف ونية المظلوم فيما يحلف عليه معتبرة ، وإن حلفته بطلاق كل امرأة يتزوجها عليها فليقل : كل امرأة أتزوجها عليك فهي طالق ، وهو ينوي بذلك كل امرأة أتزوجها على رقبتك فيعمل بنيته في ذلك ؛ لأنه نوى حقيقة كلامه فلا يحنث إذا تزوج على غير رقبتها فإن كان إنما عنى أن لا أتزوج على إطلاقك فهذه النية تعمل فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يحنث إذا تزوج امرأة أخرى ، وكذلك إن عنى بقوله فهي طالق من الوثاق فنيته صحيحة فيما بينه وبين الله تعالى ، وإن قال : كل امرأة أتزوجها فأطؤها فهي طالق وعنى الوطء بقدمه ، فهو يدين فيما بينه وبين ربه ؛ لأن المنوي من محتملات لفظه ، وقال بعض مشايخنا رحمهم الله : ينبغي أن يدين في هذا الموضع في القضاء ؛ لأنه نوى حقيقة كلامه فالوطء يكون بالقدم حقيقة إلا أنا نقول الوطء متى أضيف إلى النساء ، فهو حقيقة في الجماع دون الوطء بالقدم ، وإنما يراد الوطء بالقدم إذا ذكر مطلقا غير مضاف إلى النساء ، فلهذا لا يدين هنا في القضاء ، وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى

رجل اتهم جارية أنها سرقت له مالا فقال : أنت حرة إن لم تصدقيني وخاف المولى أن لا تصدقه فتعتق فما الحيلة فيه قال : تقول الجارية : قد سرقته ثم تقول بعد ذلك : لم أسرقه فيتيقن أنها صدقته في إحدى الكلامين ، ولا تعتق ، وإن قال لامرأته : أنت طالق إن بدأتك بالكلام وقالت له المرأة بعد ذلك : وإن ابتدأتك بالكلام فجاريتي حرة فالحيلة فيه أن يبدأ الزوج بالكلام ؛ لأن المرأة قد كلمته بعد كلامه حين خاطبته بيمينها فلا يكون الزوج مبتدئا لها بالكلام بعد يمينه ، وإن كانت اليمين منهما جميعا فالحيلة فيه أن يكلم كل واحد منهما صاحبه معا على ما ذكره في الجامع إذا حلف رجلان فقال كل واحد منهما لصاحبه إن ابتدأتك بالكلام فالتقيا وسلم كل واحد منهما على صاحبه معا لم يحنث كل واحد منهما في يمينه ؛ لأن المبتدئ بالشيء من يسبق غيره بذلك الشيء ، فإذا اقترن كلامه بكلام صاحبه لم يكن مبتدئا رجل قال : والله أما أنا لا أجلس فما أقوم حتى أقام يعني حتى يقويني الله على ذلك فيقيمني ، فإنه لا يحنث ، وهو صادق في يمينه ؛ لأن المذهب عند أهل السنة والجماعة أن أفعال العباد مخلوقة الله تعالى ، قال الله تعالى { والله خلقكم وما تعملون } فلا يقوم أحد ما لم يقمه الله تعالى وقيل في قوله عز وجل { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } أن المراد هذا ، وهو أن العبد لا يستغني في شيء من أقواله وحركاته عن الله تعالى ، وهو نظير ما قال في كتاب الأيمان في الجامع الصغير إذا حلف ليأتينه غدا إلا أن لا يستطيع ، وهو يعني بذلك القضاء والقدر ، فإنه تعمل نيته ، ولا يكون حانثا في يمينه بحال. ولو قال لأمته : أنت حرة إن ذقت طعاما حتى أضربك فأنفت الأمة فالحيلة أن يهبها لولده الصغير ثم يتناول الطعام فلا يحنث في يمينه ؛ لأنه صار قابضا لولده بنفس الهبة ، فإنما يوجد الشرط وهي ليست في ملكه فلا يتحقق قال : وسئل أبو حنيفة رحمه الله عن امرأة قالت لزوجها : اخلعني فقال : أنت طالق ثلاثا إن سألتني الخلع إن لم أخلعك فقالت المرأة : جاريتي حرة إن لم أسألك قبل الليل وجاء إلى أبي حنيفة رحمه الله قال أبو حنيفة رحمه الله : سليه الخلع فقالت لزوجها : أسألك أن تخلعني فقال أبو حنيفة رحمه الله لزوجها : قل قد خلعتك على ألف درهم تعطيها لي فقال لها الزوج ذلك فقال أبو حنيفة رحمه الله لها قولي لا أقبله فقالت ، فقال أبو حنيفة رحمه الله قوما ، فقد بر كل واحد منكما في يمينه ؛ لأن شرط برها في اليمين أن تسأله الخلع ، وقد سألته وشرط بر الزوج أن يخلعها بعد سؤالها ، وقد فعل ، فإنما عقد يمينه على فعل نفسه خاصة ، وقد وجد ذلك منه فلم يقع عليها شيء حين ردت الخلع وهذه المسألة تصير رواية فيما إذا قالت المرأة لزوجها : اخلعني فقال الزوج خلعتك على كذا أنه لا يقع الفرقة ما لم تقل المرأة قبلت بخلاف ما إذا قالت : اخلعني على كذا فقال : قد فعلت ، فإنه لا تقع الفرقة ؛ لأنها إذا لم تذكر البدل كان كلامها سؤالا للخلع لا أحد شطري العقد إلا أن في النكاح لا فرق بين أن يذكر البدل وبين أن لا يذكر ، فإن وجوب المهر يستغني عن التسمية هناك ، ولا يعتمد الرضى ووجوب البدل في الخلع لا يكون إلا باعتبار التسمية وباعتبار تمام الرضا ، فلهذا فرقنا بين ما إذا ذكر البدل وبين ما إذا لم يذكره وذكر الخصاف رحمه الله في كتاب الحيل نظير هذه الحكاية فقال : إن بعض من كان يتأذى منه أبو حنيفة رحمه الله جرى بينه وبين زوجته كلام فامتنعت من جوابه فقال : إن لم تكلميني الليلة فأنت طالق فسكتت وامتنعت من كلامه فخاف أن يقع الطلاق إذا طلع الفجر فطاف على العلماء رحمهم الله في الليل فلم يجد عندهم في ذلك حيلة فجاء إلى أبي حنيفة رحمه الله وذكر له ذلك فقال : هل أتيت أستاذك فجعل يعتذر إليه ويقول لا فرج لي إلا من قبلك فذكر أنه قال له : اذهب فقل للذين حولها من أقاربها ادعوها فماذا أصنع بكلامها ، فإنها أهون علي من التراب وأسمعها من هذا بما تقدر فجاء وقال ذلك حتى ضجرت وقالت بل أنت كذا وكذا فصارت مكلمة له قبل طلوع الفجر وخرج من يمينه وهذه الحكاية أوردها في مناقب أبي حنيفة رحمه الله وقال إنه قال للرجل ارجع إلى بيتك حتى آتيك فأتشفع لك فرجع الرجل إلى بيته وجاء أبو حنيفة رحمه الله في أثره فصعد مئذنة محلته وأذن فظنت المرأة أن الفجر قد طلع فقالت : الحمد لله الذي نجاني منك فجاء أبو حنيفة رحمه الله إلى الباب وقال قد برت يمينك وأنا الذي أذنت أذان بلال رضي الله عنه في نصف الليل قال وسئل أبو حنيفة رحمه الله عن أخوين تزوجا أختين فزفت امرأة كل واحد منهما إلى زوج أختها فلم يعلموا بذلك حتى أصبحوا فذكر ذلك لأبي حنيفة رحمه الله وقال : ليطلق كل واحد منهما امرأته تطليقة ثم يتزوج كل واحد منهما المرأة التي دخل بها ، وفي مناقب أبي حنيفة رحمه الله ذكر لهذه المسألة حكاية أنها وقعت لبعض الأشراف بالكوفة وكان قد جمع العلماء رحمهم الله لوليمته ، وفيهم أبو حنيفة رحمه الله وكان في عداد الشباب يومئذ فكانوا جالسين على المائدة إذ سمعوا ولولة النساء فقيل : ماذا أصابهن فذكروا أنهم غلطوا فأدخلوا امرأة كل واحد منهما على صاحبه ودخل كل واحد منهما بالتي أدخلت عليه وقالوا : إن العلماء على مائدتكم فسلوهم عن ذلك فسألوا فقال سفيان الثوري رحمه الله فيها قضى علي رضي الله عنه على كل واحد من الزوجين المهر وعلى كل واحدة منهما العدة ، فإذا انقضت عدتها دخل بها زوجها وأبو حنيفة رحمه الله ينكث بأصبعه على طرف المائدة كالمتفكر في شيء فقال له من إلى جانبه أبرز ما عندك هل عندك شيء آخر فغضب سفيان الثوري رحمه الله فقال هل : يكون عنده بعد قضاء علي رضي الله عنه يعني في الوطء بالشبهة فقال أبو حنيفة رحمه الله : علي بالزوجين فأتى بهما فسار كل واحد منهما إنه هل تعجبك المرأة التي دخلت بها ؟ قال : نعم ثم قال لكل واحد منهما : طلق امرأتك تطليقة فطلقها ثم زوج من كل واحد منهما المرأة التي دخل بها وقال قوما إلى أهلكما على بركة الله تعالى فقال سفيان رحمه الله ما هذا الذي صنعت ؟ فقال : أحسن الوجوه وأقربها إلى الألفة وأبعدها عن العداوة أرأيت لو صبر على كل واحد منهما حتى انقضت العدة أما كان يبقى في قلب كل واحد منهما شيء بدخول أخيه بزوجته ؟ ولكني أمرت كل واحد منهما حتى يطلق زوجته ، ولم يكن بينه وبين زوجته دخول ، ولا خلوة ، ولا عدة عليها من الطلاق ثم تزوجت كل امرأة ممن وطئها وهي معتدة منه وعدته لا تمنع نكاحه وقام كل واحد منهما مع زوجته وليس في قلب كل واحد منهما شيء فعجبوا من فطنة أبي حنيفة وحسن تأمله ، وفي هذه الحكاية بيان فقه هذه المسألة التي ختم بها الكتاب والله أعلم بالصواب . كتاب الكسب ( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله ) وإذ قد أجبتكم إلى ما سألتموني من إملاء شرح المختصر على حسب الطاقة ، وقدر الفاقة بالآثار المشهورة والإشارات المذكورة في تصنيفات محمد بن الحسن رحمه الله لإظهار وجه التأثير وبيان طريق التقدير رأيت أن ألحق به إملاء شرح كتاب الكسب الذي يرويه محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن رحمه الله ، وهو من جملة تصنيفاته إلا أنه لم يشتهر ؛ لأنه لم يسمع منه ذلك أبو حفص ، ولا أبو سليمان رحمهما الله ، ولهذا لم يذكره الحاكم رحمه الله في المختصر ، وفيه من العلوم ما لا يسع جهلها ، ولا التخلف عن عملها ، ولو لم يكن فيها إلا حث المفلسين على مشاركة المكتسبين في الكسب لأنفسهم والتناول من كد يدهم لكان يحق على كل واحد إظهار هذا النوع من العلماء . وقد كان شيخنا الإمام رحمه الله بين بعض ذلك على طريق الإيثار فيه فنذكر ما ذكره تبركا بالمسموع منه ونلحق به ما تكلم فيه أهل الأصول رحمهم الله ، وما يجود به الخاطر من المعاني والإشارات فنقول الاكتساب في عرف اللسان تحصيل المال بما حل من الأسباب واللفظ في الحقيقة يستعمل في كل باب ، وقد قال الله تعالى { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } وقال تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } أي بجنايتكم على أنفسكم ، وقد سمى جناية المرء على نفسه كسبا وقال جل وعلا في آية السرقة { جزاء بما كسبا } أي باشرا بارتكاب المحظور فعرفنا أن اللفظ مستعمل في كل باب ولكن عند الإطلاق يفهم منه اكتساب المال ثم بدأ محمد رحمه الله الكتاب بقوله طلب الكسب فريضة على كل مسلم ، وفي رواية وقال : طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة الفريضة بعد الفريضة وقال عليه السلام { طلب الحلال كمقارعة الأبطال ، ومن مات دائبا في طلب الحلال مات مغفورا } وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد فيقول لأن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض ابتغى من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله ؛ لأن الله تعالى قدم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } الآية ، وفي الحديث { أن رسول الله صافح سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فإذا يداه قد اكتبتا فسأله النبي عن ذلك فقال : أضرب بالمر والمسحاة لأنفق على عيالي فقبل رسول الله يده وقال كفان يحبهما الله تعالى } . وفي هذا بيان أن المرء باكتساب ما لا بد له منه ينال من الدرجات أعلاها ، وإنما ينال ذلك بإقامة الفريضة ، ولأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به فحينئذ كان فرضا بمنزلة الطهارة لأداء الصلاة وبيانه من وجوه : أحدها ، أن يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه ، وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة ، ولتحصيل القوت طرق الاكتساب أو التغالب بالانتهاب والانتهاب يستوجب العقاب ، وفي التغالب فساد والله تعالى لا يحب الفساد فعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت فقال عليه السلام { نفس المؤمن بطنته فليحسن إليها } يعني الإحسان بأن لا يمنعها قدر الكفاية ، وإنما لا يتوصل إلى ذلك إلا بالكسب ، كما لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بالطهارة ، ولا بد لذلك من كوز يستقي به الماء أو دلو أو رشا ينزح به الماء من البئر ، وكذلك لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بستر العورة ، وإنما يكون ذلك بثوب ، ولا يحصل له ذلك إلا بالاكتساب عادة وما لا يتأتى إقامة الفرض إلا به يكون فرضا في نفسه ثم الكسب طريق المرسلين صلوات الله عليهم ، وقد أمرنا بالتمسك بهداهم قال الله تعالى { فبهداهم اقتده } وبيانه أن أول من اكتسب أبونا آدم عليه السلام قال الله تعالى { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } أي تتعب في طلب الرزق وقال مجاهد في تفسيره لا تأكل خبزا بزيت حتى تعمل عملا إلى الموت وفي الآثار { أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بالحنطة وأمره أن يزرعها فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها وخبزها فلما فرغ من هذه الأعمال حان وقت العصر أتاه جبريل عليه السلام وقال : إن ربك يقرئك السلام ويقول : إن صمت بقية اليوم غفرت لك خطيئتك وشفعتك في أولادك فصام وكان حريصا على تناول ذلك الطعام لينظر يجد له من الطعم ما كان يجد لطعام الجنة } فمن ثمة حرص الصائمون بعد العصر على تناول الطعام . ، وكذا نوح عليه السلام كان نجارا يأكل من كسبه وإدريس عليه السلام كان خياطا وإبراهيم عليه السلام كان بزارا على ما روي عن النبي قال { عليكم بالبزر ، فإن أباكم كان بزارا } يعني الخليل عليه السلام { وداود عليه السلام كان يأكل من كسبه } على ما روي { أنه كان يخرج متنكرا فيسأل عن سيرة أهل مملكته حتى استقبله جبريل عليه السلام يوما على صورة شاب فقال له كيف تعرف داود أيها الفتى فقال نعم العبد داود إلا أن فيه خصلة قال : وما هي ؟ قال : إنه يأكل من بيت المال ، وإن خير الناس من يأكل من كسبه فرجع داود عليه السلام إلى محرابه باكيا متضرعا يسأل الله تعالى ويقول : اللهم علمني كسبا تغنيني به عن بيت المال فعلمه الله تعالى صنعة الدرع ولين له الحديد حتى كان الحديد في يده كالعجين في يد غيره قال الله تعالى { وألنا له الحديد } وقال عز وجل { وعلمناه صنعة لبوس لكم } فكان يصنع الدرع ويبيع كل درع باثني عشر ألفا فكان يأكل من ذلك ويتصدق } ، وسليمان صلوات الله عليه يصنع المكاييل من الخوص فيأكل من ذلك ، وزكريا عليه السلام كان نجارا ، وعيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه وربما كان يلتقط السنبلة فيأكل من ذلك ، وهو نوع اكتساب . ونبينا كان يرعى في بعض الأوقات على ما روي { أنه عليه السلام قال لأصحابه رضي الله عنهم يوما كنت راعيا لعقبة بن معيط وما بعث الله نبيا إلا وكان راعيا } ، وفي حديث { السائب بن شريك عن أبيه رضي الله عنه قال كان رسول الله شريكي وكان خير شريك لا يداري ولا يماري } أي : لا يلاحي ، ولا يخاصم فقيل : فبماذا كانت الشركة بينكما فقال : في الأدم وازدرع رسول الله بمكة على ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب المزارعة ليعلم أن الكسب طريق المرسلين عليهم السلام . ثم الكسب نوعان : كسب من المرء لنفسه وكسب منه على نفسه فالكاسب لنفسه هو الطالب لما لا بد له من المباح والكاسب على نفسه هو الباغي لما عليه فيه جناح نحو ما يكون من السارق والنوع الثاني منه حرام بالاتفاق قال الله تعالى { ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه } وقال عز وجل { ومن يكسب خطيئة أو إثما } الآية ، والمذهب عند الفقهاء من السلف والخلف رحمهم الله أن النوع الأول من الكسب مباح على الإطلاق بل هو فرض عند الحاجة وقال قوم من جهال أهل التقشف وحماقى أهل التصوف : إن الكسب حرام لا يحل إلا عند الضرورة بمنزلة تناول الميتة وقالوا : إن الكسب ينفي التوكل على الله تعالى أو ينقص منه ، وقد أمرنا بالتوكل قال الله تعالى { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } فما يتضمن نفي ما أمرنا به من التوكل يكون حراما ، والدليل على أنه ينفي التوكل قوله عليه السلام { لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقتم ، كما يرزق الطير يغدو خماصا ويروح بطانا } وقال تعالى { وفي السماء رزقكم وما توعدون } ، وفي هذا حث على ترك الاشتغال بالكسب وبيان أن ما قدر له من الموعود يأتيه لا محالة . وقال عز وجل { وأمر أهلك بالصلاة } الآية ، والخطاب وإن كان لرسول الله فالمراد أمته ، فقد أمروا بالصبر والصلاة وترك الاشتغال بالكسب لطلب الرزق لقوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، وفي الاشتغال بالكسب ترك ما خلق المرء لأجله وأمر به من عبادة ربه وإليه أشار النبي في قوله { ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من المتاجرين ، وإنما أوحي إلي { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } الآية } وما في القرآن من ذكر البيع والشراء في بعض الآيات ليس المراد به التصرف في المال والكسب بل المراد تجارة العبد مع ربه عز وجل ببذل النفس في طاعته والاشتغال بعبادته فذلك يسمى تجارة وقال الله تعالى { هل أدلكم على تجارة } الآية ، وقال عز وجل { إن الله اشترى من المؤمنين } الآية ، والمراد هذا النوع ، وهو بذل النفس لنيل الثواب بالجهاد وأنواع الطاعة . وكذا قد سمى الله تعالى آخذ المال لارتكاب ما لا يحل له في الدين بائعا نفسه قال الله تعالى { ولبئس ما شروا به أنفسهم } وقال عز وجل { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } وإلى ذلك أشار النبي بقوله { الناس غاديان بائع نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها } ، وإن الصحابة رضي الله عنهم لم يشتغلوا بالكسب فالقول مع أصحاب الصفة رضي الله عنهم كانوا يلزمون المسجد فلا يشتغلون بالكسب ومدحوا على ذلك ، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أعلى الصحابة رضي الله عنهم لم يشتغلوا بالكسب وهم الأئمة السادة والقدوة القادة وحجتنا في ذلك قوله تعالى { وأحل الله البيع } وقال جل وعلا { إذا تداينتم بدين } الآية ، وقال عز وجل { إلا أن تكون تجارة عن تراض } وقال جل وعلا { إلا أن تكون تجارة حاضرة } الآية ففي بعض هذه الآيات تنصيص على الحل ، وفي بعضها ندب إلى الاشتغال بالتجارة فمن يقول بحرمتها إنما يخاطبنا بما يفهمه ولفظ البيع والشراء حقيقة للتصرف في المال بطريق الاكتساب والكلام محمول على حقيقة لا يجوز تركها إلى نوع من المجاز إلا عند قيام الدليل ، كما فيما استشهدوا به من قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } ، فقد قام الدليل على أن المراد به المجاز ، ولما لم يوجد مثل ذلك هنا فكان محمولا على حقيقته وقال الله تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } والمراد التجارة وقال الله تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } يعني التجارة في طريق الحج ، وقال النبي { إن أطيب ما أكلتم من كسب أيديكم ، وإن أخي داود كان يأكل من كسب يده } والمراد الإشارة إلى قوله تعالى { كلوا من طيبات ما رزقناكم } . وأقوى ما تعتمده أن الاكتساب طريق المرسلين صلوات الله عليهم ، وقد قررنا ذلك ، ولا معنى لمعارضتهم إيانا في ذلك بيحيى وعيسى عليهما السلام ، فقد بينا أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه رضي الله عنها ثم يقول إن الأنبياء عليهم السلام في هذا ليس كغيرهم ، فقد بعثوا لدعوة الناس إلى دين الحق وإظهار ذلك لهم فكانوا مشغولين بما بعثوا لأجله ، ولم يشتغلوا عامة أوقاتهم بالكسب لهذا ، وقد اكتسبوا في بعض الأوقات ليبينوا للناس أن ذلك مما ينبغي أن يشتغل به المرء وأنه لا ينفي التوكل على الله تعالى ، كما ظنه هؤلاء الجهال ، وقد بين هذا عمر رضي الله عنه في حديثه حيث مر بقوم من القراء فرآهم جلوسا قد نكسوا رءوسهم فقال : من هؤلاء ؟ فقال : هم المتوكلون فقال : كلا ، ولكنهم المتآكلون يأكلون أموال الناس ، ألا أنبئكم من المتوكلون ؟ فقيل : نعم ، فقال : هو الذي يلقي الحب في الأرض ثم يتوكل على ربه عز وجل وفي رواية أخرى عنه قال : يا معشر القراء ارفعوا رءوسكم واكتسبوا لأنفسكم . ودعواهم أن الكبار من الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يكتسبون دعوى باطل ، فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان بزارا وعمر رضي الله عنه كان يعمل في الأدم وعثمان كان تاجرا يجلب إليه الطعام فيبيعه وعلي رضي الله عنه كان يكسب على ما روي أنه أجر نفسه غير مرة حتى أجر نفسه من يهودي { وقال للوازن : زن وارجح ، فإن معاشر الأنبياء هكذا نزن } ، { وباع رسول الله قعبا وحلسا من يزيد } . { واشترى ناقة من أعرابي وأوفاه ثمنها ثم جحد الأعرابي وقال : هلم شاهد قال عليه السلام : من يشهد لي ؟ فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه : أنا أشهد لك بأنك أوفيت الأعرابي ثمن الناقة فقال عليه السلام : كيف تشهد لي ولم تكن حاضرا ؟ فقال يا رسول الله : إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبر به من إيفاء ثمن الناقة ، فقال عليه السلام من شهد له خزيمة فحسبه } ، ولا حجة لهم في قوله تعالى { وفي السماء رزقكم وما توعدون } فالمراد المطر الذي ينزل من السماء فيحصل به النبات ، فإن ذلك يسمى رزقا على ما نقل عن بعض السلف يا ابن آدم إن الله تعالى يرزقك ويرزق رزقك ويرزق رزق رزقك يعني ينزل المطر من السماء رزقا للنبات ثم النبات رزق الأنعام والأنعام رزق لبني آدم ، ولئن حملنا الآية على ظاهرها فنقول : في السماء رزقنا ، كما أخبر الله تعالى ولكن أمر باكتساب السبب ليأتينا ذلك الرزق عند الاكتساب . بيانه في قوله عليه السلام فيما يؤثر عن ربه عز وجل : { عبدي حرك يدك أنزل عليك الرزق } ، وقد أمر الله تعالى مريم بهز النخلة كما قال الله تعالى { وهزي إليك } الآية ، وهو قادر على أن يرزقها من غير هز منها ، كما كان يرزقها في المحراب فقال عز وجل { كلما دخل عليها زكريا المحراب } الآية ، وإنما أمرها بذلك ليكون بيانا للعباد أنه ينبغي لهم أن لا يدعوا اكتساب السبب ، وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى هو الرزاق ، وهذا نظير الخلق ، فإن الله تعالى هو الخالق لا من سبب ، ولا في سبب كما خلق آدم صلوات الله عليه ، وقد يخلق لا من سبب ، ولا في سبب كما خلق عيسى عليه السلام ، وقد يخلق من سبب في سبب كما قال الله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر } الآية ، ثم الاشتغال بالنكاح وطلب الولد لا ينفي يقين العبد بأن الخالق هو الله تعالى فكذا أمر الرزق ليعلم أن من يزعم أن حقيقة التوكل في تركه الكسب ، فهو مخالف للشريعة وإليه أشار رسول الله في { قوله للسائل الذي قال : أرسل ناقتي وأتوكل فقال عليه السلام لا بل اعقلها وتوكل } . ونظير هذا الدعاء ، فقد أمرنا به قال الله تعالى { واسألوا الله من فضله } ومعلوم أن كل ما قدر لأحد ، فهو يأتيه لا محالة ثم أحد لا يتطرق بهذا إلى ترك السؤال والدعاء من الله تعالى والأنبياء عليهم السلام كانوا يسألون الجنة مع علمهم أن الله تعالى يدخلهم الجنة ، وقد وعدهم ذلك ، وهو لا يخلف الميعاد وكانوا يأمنون العاقبة ثم كانوا يسألون الله تعالى ذلك في دعائهم وكذا أمر الشفاء فالشافي هو الله ، وقد أمرنا بالمداواة قال عليه السلام { تداووا عباد الله ، فإن الله ما خلق داء إلا وخلق له دواء إلا السام أو قال الهرم } ، وقد { فعل ذلك رسول الله يوم أحد حين داوى ما أصابه من الجراحة في وجهه } ثم اكتساب السبب بالمداواة لا ينفي التيقن بأن الله هو الشافي فكذا اكتساب سبب الرزق بالتحرك لا ينفي التيقن بأن الله تعالى هو الرازق والعجب من الصوفية أنهم لا يمتنعون من تناول طعام من أطعمهم من كسب يده وربح تجارته مع علمهم بذلك ، فلو كان الاكتساب حراما لكان المال الحاصل به حرام التناول ؛ لأن ما يتطرق إليه بارتكاب الحرام يكون حراما . ( ألا ترى ) أن بيع الخمر للمسلم لما كان حراما كان تناول ثمنها حراما وحيث لم يمتنع أحد منهم من التناول عرفنا أن قولهم من نتيجة الجهل والكسل ثم المذهب عند جمهور الفقهاء من أهل السنة والجماعة رحمهم الله أن الكسب بقدر ما لا بد منه فريضة وقالت الكرامية بل هو مباح بطريق الرخصة ؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون فرضا في كل وقت أو في وقت مخصوص والأول باطل ؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يتفرغ أحد عن أداء هذه الفريضة ليشتغل بغيرها من الفرائض والواجبات والثاني باطل ؛ لأن ما يكون فرضا في وقت مخصوص شرعا يكون مضافا إلى ذلك الوقت كالصلاة والصوم ، ولم يرد الشرع بإضافة الكسب إلى وقت مخصوص ثم لا يخلوا إما أن يكون فرضا لرغبة الناس إليه أو للضرورة والأول باطل ، فإن الرغبة ثابتة في جميع ما في الدنيا من الأموال وأحد لا يقول يفترض على كل واحد تحصيل جميع ذلك والثاني باطل أيضا ، فإن ما يفترض للضرورة إنما يفترض عند تحقق الضرورة وبعد تحقق الضرورة يعجز عن الكسب فكيف تتأخر فريضته إلى حال عجزه ؟ ولا يخلو إما أن يفترض جميع أنواعه أو نوع مخصوص منه والأول باطل ، فإن الأنبياء عليهم السلام ما اشتغلوا بالكسب في عامة أوقاتهم وكذا أعلام الصحابة ، ومن بعدهم من الأخيار ، ولا يظن بهم أنهم اجتمعوا على ترك ما هو فرض عليهم والثاني باطل ؛ لأنه ليس بعض الناس بتخصيصه بهذا الفريضة بأولى من البعض فتبين أن الكسب ليس بفرض أصلا والدليل عليه أنه لو كان أصله فرضا لكان الاستكثار منه مندوبا إليه وكان بمنزلة العبادات والاستكثار منه مذموم ، كما قال الله تعالى { أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } إلى قوله { عذاب شديد } وبهذا الحرف يقع الفرق بينه وبين طلب أهل العلم ، فإن أصله لما كان فرضا كان الاستكثار منه مندوبا إليه وحجتنا في ذلك قوله تعالى { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } والأمر حقيقة للوجوب ، ولا يتصور الإنفاق من المكسوب إلا بعد الكسب وما لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به يكون فرضا وقال تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا } الآية يعني الكسب والأمر حقيقة للوجوب فإن قيل : قد روي عن مجاهد ومكحول رحمهما الله أنهما قالا المراد طلب العلم قلنا ما ذكرنا من التفسير مروي عن رسول الله ، فإنه قال { طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة هي الفريضة بعد الفريضة وتلا قوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة } } فلا يترك ذلك بقول مكحول ومجاهد رحمهما الله والظاهر يؤيد ما ذكرنا بدليل ما ذكر بعده { وإذا رأوا تجارة } الآية وكانوا انفضوا بذلك في حال خطبته فنهوا عن ذلك وأمروا به بعد الفراغ من الصلاة . فإن قيل : الأمر بعد النهي يفيد الإباحة . قلنا : الأمر حقيقة للإيجاب ، ولو كان المراد هو الإباحة والرخصة لقال : فلا جناح عليكم أن تبتغوا من فضل الله ، كما قال في باب طريق الحج { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } والدليل عليه أن الله تعالى أمر بالإنفاق على العيال من الزوجات والأولاد والمعتدات ، ولا يتمكن من الإنفاق عليهم إلا بتحصيل المال بالكسب وما يتوصل به إلى أداء الواجب يكون واجبا والمعقول يشهد له ، فإن في الكسب نظام العالم والله تعالى حكم ببقاء العالم إلى حين فنائه وجعل سبب البقاء والنظام كسب العباد ، وفي تركه تخريب نظامه ، وذلك ممنوع منه فإن قيل : فبقاء هذا النظام يتعلق التسافد بين الحيوان وأحد لا يقول : بفرضية ذلك . قلنا : نعم إن الله تعالى علق البقاء بتسافد الحيوانات وركب الشهوة في طباعهم وتلك الشهوة تحملهم على مباشرة ذلك الفعل فلا تقع الحاجة إلى أن يجعل ذلك فرضا عليهم لكي لا يمتنعوا من ذلك ، فإن الطبع داع إلى اقتضاء الشهوة . فأما الاكتساب في الابتداء فكد وتعب ، وقد تعلق به بقاء نظام العالم ، فلو لم يجعل أصله فرضا لاجتمع الناس عن آخرهم على تركه ؛ لأنه ليس في طبعهم ما يدعوا إلى الكد والتعب فجعل الشرع أصله فرضا لكي لا يجتمعوا على تركه فيحصل ما هو المقصود وجميع ما ذكروا من التقسيمات يبطل بما أشار إليه محمد رحمه الله في قوله طلب الكسب فريضة ، كما أن طلب العلم فريضة . فإن هذه التقسيمات تأتي في العلم ومع ذلك كان أصله فرضا بالاتفاق فكذلك طلب الكسب وكان معنى الفريضة ما بينا من بقاء نظام العالم به ، ولا يوجد ذلك في الاستكثار منه على قصد التكاثر والتفاخر ، وإنما ذم الله تعالى الاستكثار إذا كان بهذه الصفة فقال عز وجل { وتفاخر بينكم وتكاثر } ثم ينبني على هذه المسألة مسألة أخرى وهي أنه بعد ما اكتسب ما لا بد منه هل الاشتغال بالاكتساب أفضل أم التفرغ للعبادة ؟ قال بعض الفقهاء رحمهم الله : الاشتغال بالكسب أفضل ، وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن التفرغ للعبادة أفضل ، وجه القول الأول أن منفعة الاكتساب أعم ، فإن ما يكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادة ، والذي يشتغل بالعبادة إنما ينفع نفسه ؛ لأنه بفعله يحصل النجاة لنفسه ويحصل الثواب لجسمه وما كان أعم نفعا . ، فهو أفضل لقوله عليه السلام { خير الناس من ينفع الناس } ، ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرغ للعبادة ؛ لأن منفعة ذلك أعم ، ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلي للعبادة ، كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم ؛ لأن ذلك أعم نفعا وإلى هذا المعنى أشار النبي في قوله { العبادة عشرة أجزاء } وقوله عليه السلام { الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال للإنفاق على العيال } والدليل عليه أنه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحج والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانب ، وفي التفرغ للعبادة لا يتمكن إلا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة . وجه القول الآخر ، وهو الأصح أن الأنبياء والرسل ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات ، ولا يخفى على أحد أن اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثر من اشتغالهم بالكسب ومعلوم أنهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات ، ولا شك أن أعلى مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام وكذا الناس في العادة إذا أحرجهم أمر يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم يشتغلون بالعبادات لا بالكسب والناس إنما يتقربون إلى العباد دون المكتسبين والدليل عليه أن الاكتساب يصح من الكافر والمسلم جميعا فكيف يستقيم القول بتقديمه على ما لا يصح إلا من المؤمنين خاصة وهي العبادة ، والدليل عليه أن { النبي لما سئل عن أفضل الأعمال قال أحمزها } أي أشقها على البدن ، وإنما أشار بهذا إلى أن المرء ينال أعلى الدرجات بمنع النفس هواها قال الله تعالى { ونهى النفس عن الهوى } الآية والاشتغال بهذه الصفة في الانتهاء والدوام في العبادات فأما الكسب ففيه بعض التعب في الابتداء ، ولكنه فيه قضاء الشهوة في الانتهاء وتحصيل مراد النفس فلا بد من القول بأن ما يكون بخلاف هوى النفس ابتداء وانتهاء ، فهو أفضل ، ولا يدخل في شيء مما ذكرنا النكاح ، فإن الاشتغال بالنكاح أفضل عندنا من التخلي لعبادة الله تعالى ، وهذا المعنى موجود فيه ؛ لأنه إنما كان ذلك أفضل لما فيه من تكثير عباد الله تعالى وأمة رسوله عليه السلام وتحقيق مباهاة رسول الله بهم ، وذلك لا يوجد هنا فكان التفرغ للعبادة أفضل من الاشتغال بالكسب بعد ما يحصل ما لا بد منه ، وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء رحمهم الله وهي أن صفة الفقر أعلى أم صفة الغنى والمذهب عندنا أن صفة الفقر أعلى وقال بعض الفقهاء : صفة الغنى أعلى ، وقد أشار محمد رحمه الله في كتاب الكسب في موضعين إلى ما بينا من مذهبنا فقال في أحد الموضعين ولو أن الناس قنعوا بما يكفيهم وعمدوا إلى الفضول فوجهوها لأمر آخرتهم لكان خيرا لهم وقال في الموضع الآخر وما زاد على ما لا بد منه يحاسب عليه المرء ، ولا يحاسب أحد على الفقر ، ولا شك أن ما لا يحاسب المرء عليه يكون أفضل مما يحاسب المرء عليه ، وأما من فضل الغنى فاحتج وقال : الغنى نعمة والفقر بؤس ونقمة ومحنة ، ولا يخفى على عاقل أن النعمة أفضل من النقمة والمحنة والدليل عليه أن الله تعالى سمى المال فضلا فقال عز وجل { وابتغوا من فضل الله } وقال تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وما هو فضل الله ، فهو أعلى الدرجات وسمي المال خيرا فقال عز وجل { إن ترك خيرا الوصية للوالدين } ، وهذا اللفظ يدل على أنه خير من عنده . وقال تعالى { ولقد آتينا داود منا فضلا } يعني الملك والمال حتى روي أنه كانت له مائة سرية فتمنى من الله تعالى الزيادة على ذلك فقال { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } ، ولا يظن بأحد من الرسل عليهم السلام أنه سأل من الله تعالى الدرجة الدنيا دون الدرجة العليا والدليل عليه أن النبي قال { الأيدي ثلاثة يد الله ثم اليد المعطية ثم اليد المعطاة وهي السفلى إلى يوم القيامة } ، وفي حديث آخر قال عليه السلام { اليد العليا خير من اليد السفلى } واليد العليا هي اليد المعطية وقال عليه السلام لسعد بن أبي وقاص { رضي الله عنه إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس } وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها في مرضه إن أحب الناس إلي غنى أنت وأعزهم علي فقرا أنت فهذا يدل على أن صفة الغنى أعلى من صفة الفقر قال عليه السلام { كاد الفقر أن يكون كفرا } وقال عليه السلام { اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك } وقال عليه السلام { اللهم إني أعوذ بك من البؤس والتباؤس } البؤس : الفقر والتباؤس : التمسكن ولا يظن بالنبي أنه يتعوذ بالله من أعلى الدرجات وحجتنا في ذلك أن الفقر أسلم للعباد وأعلى الدرجات للعبد ما يكون أسلم له وبيان ذلك أنه يسلم بالفقر من طغيان الغنى قال الله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى } الآية ، وقال عز وجل { الذين طغوا في البلاد } الآية ، وإنما حملهم على ذلك الطغيان الأغنياء يعني الذين ادعوا ما لا ينبغي لأحد من البشر ، فإنه لم ينقل أن أحدا من الفقراء وقع في ذلك فدل أن الفقر أسلم ثم صفة الغنى مما تميل إليه النفس ويدعو إليه الطبع ويتوصل به إلى اقتضاء الشهوات ، ولا يتوصل بالفقر إلى شيء من ذلك وأعلى الدرجات ما يكون أبعد من اقتضاء الشهوات وقال تعالى { واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقال جل وعلا { زين للناس } الآية والدليل عليه قوله عليه السلام { حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات } وقال عليه السلام { الفقر أزين بالمؤمن من العداء الجيد على جيد الفرس } وقال عليه السلام { إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم ، وهو خمسمائة عام } ، وفي الآثار { إن آخر الأنبياء عليهم السلام دخولا الجنة سليمان عليه السلام لملكه } { وقال عليه السلام يوما لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ما أبطأك عني يا عبد الرحمن قال : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : إنك آخر أصحابي لحوقا بي يوم القيامة فأقول ما حبسك عني فتقول : المال ، كنت محاسبا محبوسا حتى الآن } وكان هو من العشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة ، وقد قاسم الله ماله أربع مرات فتصدق بالنصف وأمسك النصف في المرة الأولى وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق بأربعة آلاف ، وفي المرة الثانية كان ثمانية آلاف دينار فتصدق بنصفها ، وفي المرة الثالثة كان ستة عشر ألف دينار فتصدق بنصفها ، وفي المرة الرابعة كان اثنين وثلاثين ألف دينار فتصدق بنصفها ومع ذلك كله قال عليه السلام في حقه ما قال فتبين به أن صفة الفقر أفضل . وقال عليه السلام { عرض علي مفاتيح خزائن الأرض فاستفتيت أخي جبريل عليه السلام بذلك فأشار إلي بالتواضع فقلت : أكون عبدا أجوع يوما وأشبع يوما ، فإذا جعت صبرت ، وإذا شبعت شكرت } وكان النبي يقول { اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين } ، ولا شك أن النبي سأل لنفسه أعلى الدرجات وأن الأفضل لنا ما سأله رسول الله لنفسه ، فقد قال النبي { أنا حظكم من الأنبياء وأنتم حظي من الأمم } ففي هذا إشارة إلى أن الواجب علينا التمسك بهذا . ويتبين بما ذكرنا أن النبي ما تعوذ من الفقر المطلق ، وإنما تعوذ من الفقر المنسي على ما روي في بعض الروايات أنه عليه السلام قال { اللهم إني أعوذ بك من فقر منس ، ومن غنى يطغي } إلا أنه قيد السؤال في بعض الأحوال ومراده ذلك أيضا ولكن من سمع اللفظ مطلقا نقله ، كما سمع وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء ، وهو أن الشكر على الغنى أفضل أم الصبر على الفقر واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على أربعة أقاويل فمنهم من توقف في جوابها لتعارض الآثار وقال إن أبا حنيفة رحمه الله توقف في أطفال المشركين لتعارض الآثار فيهم وقال إذا فيقتدى به ويتوقف في هذا الفصل لتعارض الآثار أيضا ، ومنهم من قال هما سواء واستدلوا بقوله عليه السلام { الطاعم الشاكر كالجائع الصابر } ، ولأن الله تعالى أثنى في كتابه على عبدين وأثنى على كل واحد منهما بنعم العبد أحدهما أنعم عليه فشكر ، وهو داود قال الله { ووهبنا لداود } الآية والآخر ابتلي فصبر ، وهو أيوب عليه السلام قال الله تعالى { إنا وجدناه صابرا } الآية فعرفنا أنهما سواء ، ومنهم من قال : الشكر على الغنى أفضل لقوله عليه السلام { الحمد لله على كل نعمة } وقال عليه السلام { لو أن جميع الدنيا صارت لقمة فتناولها عبد وقال الحمد لله رب العالمين كان بما أتى به خيرا مما أوتي } يعني لما في هذه الكلمة من الثناء على الله تعالى . وتبين بالحديث الأول أن الشكر يكون بالثناء على الله تعالى فكان أفضل من الصبر والدليل عليه قوله تعالى { اعملوا آل داود شكرا } ، وهذا يعم جميع الطاعات ، ولا شك أن ما يعم جميع الطاعات ، فهو أعلى الدرجات ، وذلك لا يوجد في الصبر على الفقر والمذهب عندنا أن الصبر على الفقر أفضل قال عليه السلام { الصبر نصف الإيمان } وقال عليه السلام { الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد } ، ولأن في الفقر معنى الابتلاء والصبر على الابتلاء يكون أفضل من الشكر على النعمة ، يعتبر هذا بسائر أنواع الابتلاء ، فإن الصبر على ألم المرض يكون أعظم في الثواب من الشكر على صحة البدن ، وكذلك الصبر على العمى أفضل من الشكر على البصر { قال عليه السلام فيما يؤثر عن ربه عز وجل من أخذت كريمته وصبر على ذلك فلا جزاء له عندي إلا الجنة أو قال الجنة والرؤية } ، وهذا الفقه ، وهو أن للمؤمن ثوابا في نفس المصيبة قال عليه السلام { يؤجر المؤمن في كل شيء حتى الشوكة تشاكه في رجله } والدليل عليه { أن ماعزا رضي الله عنه حين أصابه حر الحجارة هرب وكان ذلك منه نوع اضطراب ثم مع ذلك قال فيه رسول الله : لقد تاب توبة لو قسمت توبته على جميع أهل الأرض لوسعتهم } فعرفنا أن نفس المصيبة للمؤمن ثواب ، وفي الصبر عليها ثواب أيضا فأما نفس الغنى فلا ثواب فيه ، وإنما الثواب في الشكر على الغنى وما ينال به الثواب من الوجهين يكون أعلى مما ينال فيه الثواب من وجه واحد ، وكما أن في الشكر على الغنى ثناء على الله تعالى ففي الصبر على المصيبة كذا لقوله تعالى { الذين إذا أصابتهم مصيبة } الآية . وحكي أن غنيا وفقيرا تناظرا في هذه المسألة فقال الغني الشاكر : أنا أفضل ، فإن الله تعالى استقرض من الأغنياء فقال عز وجل { من ذا الذي يقرض الله } الآية وقال الفقير إن الله تعالى إنما استقرض من الأغنياء للفقراء ، وقد يستقرض من الخبيث وغير الخبيث ، ولا يستقرض إلا الأجل يوضحه أن الغني يحتاج إلى الفقير ، ولا يحتاج الفقير إلى الغني ؛ لأن الغني يلزمه أداء حق المال ، فلو اجتمع الفقراء عن آخرهم على أن لا يأخذوا شيئا من ذلك لم يجبروا على الأخذ ويحمدون شرعا على الامتناع من الأخذ فلا يتمكن الأغنياء من إسقاط الواجب عن أنفسهم والله تعالى يوصل الفقراء كفايتهم على حسب ما ضمن لهم فبهذا تبين أن الأغنياء هم الذين يحتاجون إلى الفقراء والفقراء لا يحتاجون إليهم بخلاف ما ظنه من يعتبر الظاهر ولا يتأمل في المعنى ، ويتضح بما قررنا أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر ، وفي كل خير ثم الكسب على مراتب فمقدار ما لا بد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه غنيا أو فقيرا ؛ لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به وما يتوصل به إلى إقامة الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك ، فهو في سعة من ذلك لقوله عليه السلام { من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه ، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها } { وقال عليه السلام لابن خنيس رضي الله عنه فيما يعظه لقمة تسد بها جوعتك وخرقة تواري بها سوأتك فإن كان لك كن يكنك فحسن ، وإن كان لك دابة تركبها بخ بخ } وهذا إذا لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضي به دينه فرض عليه ؛ لأن قضاء الدين مستحق عليه إن كان غنيا قال عليه السلام { الدين مقضي وبالاكتساب يتوصل إليه } وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد صغار ، فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم غنيا ؛ لأن الإنفاق على زوجته مستحق عليه قال الله تعالى { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } معناه فأنفقوا عليهن من وجدكم وهكذا في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وقال جل وعلا { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } الآية ، وقال عز وجل { ومن قدر عليه رزقه فلينفق } الآية . وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب وقال { كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون } فالتحرز عن ارتكاب المآثم فرض ، وقال عليه السلام { إن لنفسك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه } ، ولكن هذا في الفرضية دون الأول لقوله عليه السلام { ثم من تعول } فإن اكتسب زيادة على ذلك ما يدخره لنفسه وعياله ، فهو في سعة من ذلك لما روي { أن النبي ادخر قوت عياله لسنة بعد ما كان منهيا عن ذلك } على ما روي { أنه قال لبلال رضي الله عنه أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا } والمتأخر يكون ناسخا للمتقدم فإن كان له أبوان كبيران معسران ، فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهما ؛ لأن نفقتهما مستحقة عليه بعد عسرته إذا كان متمكنا من الكسب { قال عليه السلام للرجل الذي أتاه وقال أريد الجهاد معك ألك أبوان قال نعم قال عليه السلام ارجع ففيهما فجاهد } يعني اكتسب وأنفق عليهما ، وقال تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } وليس من المصاحبة بالمعروف تركهما يموتان جوعا مع قدرته على الكسب ، ولكن هذا دون ما سبق في الفرضية لما روي { أن رجلا قال لرسول الله معي دينار فقال عليه السلام أنفقه على نفسك فقال معي آخر فقال عليه السلام أنفقه على عيالك قال معي آخر قال عليه السلام أنفقه على والديك } الحديث فأما غير الوالدين من ذوي الرحم المحرم فلا يفترض على المرء الكسب للإنفاق عليهم ؛ لأنه لا تستحق نفقتهم عليه إلا باعتبار صفة اليسار ، ولكنه يندب إلى الكسب والإنفاق عليهم لما فيه من صلة الرحم ، وهو مندوب إليه في الشرع قال عليه السلام لا خير فيمن لا يحب المال فيصل به رحمه ويكرم به ضيفه ويبر به صديقه { وقال عليه السلام لعمرو بن العاص رضي الله عنه وأرغب لك رغبة من المال } . . . الحديث ، إلى أن قال : { نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحمه } وقطيعة الرحم حرام لقوله عليه السلام { ثلاث معلقات بالعرش النعمة والأمانة والرحم تقول النعمة : كفرت ولم أشكر ، وتقول الأمانة : ضيعت ولم أؤد ، وتقول الرحم : قطعت ولم أوصل } وقال عليه الصلاة والسلام { صلة الرحم تزيد في العمر وقطيعة الرحم ترفع البركة من العمر } { قال عليه السلام فيما يؤثر عن ربه عز وجل أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته } ، وفي ترك الإنفاق عليهم ما يؤدي إلى قطيعة الرحم فيندب إلى الاكتساب للإنفاق عليهم وبعد ذلك الأمر موسع عليه فإن شاء اكتسب وجمع المال ، وإن شاء أبى . ؛ لأن السلف رحمهم الله منهم من جمع المال ومنهم من لم يفعل فعرفنا أن كلا الفريقين مباح أما الجمع فلما روي عن النبي { من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر ، ومن طلبها مفاخرا مكاثرا لقي الله تعالى ، وهو عليه غضبان } فدل أن جمع المال على طريق التعفف مباح وكان عليه السلام يقول في دعائه { اللهم اجعل أوسع رزقي عند كبر سني وانقضاء عمري } وكان كذا ، فقد اجتمع له أربعون شاة حلوبة وفدك وسهم بخيبر في آخر عمره . وأما الامتناع من جمع المال فطريق مباح أيضا لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي قال { لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب } وقيل هذا كان مما يتلى في القرآن في سورة يونس من الركوع الثاني أو الثالث ثم انتسخت تلاوته وبقيت روايته وقال عليه السلام { تبا للمال } ، وفي رواية لصاحب الذهب والفضة وقال { هلك المكثرون إلا من قال بماله هكذا وهكذا } يعني يتصدق من كل جانب وقال عليه السلام { يقول الشيطان : لن ينجو مني صاحب المال من إحدى ثلاث : إما أن أزينه في عينه فيجمعه من غير حله ، وإما أن أحقره في عينه فيعطي في غير حله ، وإما أن أحببه إليه فيمنع حق الله تعالى منه } ففي هذا بيان أن الامتناع من الجمع أسلم ، ولا عيب على من اختار طريق السلامة ثم بين محمد رحمه الله أن الكسب فيه معنى المعاونة على القرب والطاعات أي كسب كان حتى قال : إن كسب فتال الحبال ومتخذ الكيزان والجرار وكسب الحركة فيه معاونة على الطاعات والقرب ، فإنه لا يتمكن من أداء الصلاة إلا بالطهارة ويحتاج ذلك إلى كوز يستقى به الماء وإلى دلو ورشاء ينزح به الماء ويحتاج إلى ستر العورة لأداء الصلاة ، وإنما يتمكن من ذلك بعمل الحركة فعرفنا أن ذلك كله من أسباب التعاون على إقامة الطاعة وإليه أشار علي رضي الله عنه في قوله لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة ، وقال أبو ذر رضي الله عنه حين سأله رجل عن أفضل الأعمال بعد الإيمان فقال : الصلاة وأكل الخبز فنظر إليه الرجل كالمتعجب فقال : لولا الخبز ما عبد الله تعالى يعني بأكل الخبز يقيم صلبه فيتمكن من إقامة الطاعة . ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله أن المكاسب كلها في الإباحة سواء ، وقال بعض المتقشفة ما يرجع إلى الدناءة من المكاسب في عرف الناس لا يسع الإقدام عليه إلا عند الضرورة لقوله عليه السلام { ليس للمؤمن أن يذل نفسه } وقال عليه السلام { إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها } والسفساف ما يدني المرء ويبخسه وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام { إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصوم ، ولا الصلاة قيل : فما يكفرها يا رسول الله قال الهموم في طلب المعيشة } وقال عليه السلام { طلب الحلال كمقارعة الأبطال ، ومن بات وانيا من طلب الحلال مات مغفورا له } وقال عليه السلام { أفضل الأعمال الاكتساب للإنفاق على العيال } من غير تفصيل بين أنواع الكسب ، ولو لم يكن فيه سوى التعفف والاستغناء عن السؤال لكان مندوبا إليه ، فإن النبي قال { السؤال آخر كسب العبد } أي يبقى في ذله إلى يوم القيامة { وقال عليه السلام لحكيم بن حزام رضي الله عنه أو لغيره مكسبة فيها نقص المرتبة خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك } ثم المذمة في عرف الناس ليست للكسب بل للخيانة وخلف الوعد واليمين الكاذبة ومعنى البخل ثم المكاسب أربعة الإجارة والتجارة والزراعة والصناعة وكل ذلك في الإباحة سواء عند جمهور الفقهاء رحمهم الله وقال بعضهم : الزراعة مذمومة لما روي { أن النبي رأى شيئا من آلات الحرابة في دار قوم فقال ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا } { ، وسئل النبي عن قوله عز وجل { إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم } أهو التعرب ؟ قال : لا لكنه الزراعة } ، والتعرب سكنى البادية وترك الهجرة وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : إذا تبايعتم بالعين واتبعتم أذناب البقر ذللتم حتى يطمع فيكم وحجتنا في ذلك ما روي { أن النبي ازدرع بالجرف } وقال عليه السلام { اطلبوا الرزق تحت خبايا الأرض } يعني الزراعة وقال عليه السلام { الزارع يتاجر ربه } ، وقد كان له فدك وسهم بخيبر فكان قوته في آخر العمر من ذلك وعمر رضي الله عنه كان له أرض بخيبر يدعى ثمغ ، وقد كان لابن مسعود والحسن بن علي وأبي هريرة رضي الله عنهم مزارع بالسواد يزرعونها ويؤدون خراجها ، وكان لابن عباس رضي الله عنهما أيضا مزارع بالسواد وغيرهما وتأويل الآثار المروية فيما إذا اشتغل الناس كلهم بالزراعة وأعرضوا عن الجهاد حتى يطمع فيهم عدوهم ، وذلك مروي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال وقعدتم عن الجهاد وذللتم حتى يطمع فيكم فيما إذا اشتغل بعضهم بالجهاد وبعضهم بالزراعة ففي عمل المزارع معاونة للمجاهد ، وفي عمل المجاهد دفع عن الزارع ، وقال { المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا } ثم اختلف مشايخنا رحمهم الله في التجارة والزراعة فقال بعضهم التجارة أفضل لقوله تعالى { وآخرون يضربون في الأرض } الآية ، والمراد بالضرب في الأرض التجارة فقدمه في الذكر على الجهاد الذي هو سنام الدين وسنة المرسلين ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله وقال عليه السلام { التاجر الأمين مع الكرام البررة يوم القيامة } . وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن الزراعة أفضل من التجارة ؛ لأنها أعم نفعا فبعمل الزراعة تحصيل ما يقيم به المرء صلبه ويتقوى به على الطاعة وبالتجارة لا يحصل ذلك ولكن ينمو المال وقال عليه السلام { خير الناس من هو أنفع للناس } فالاشتغال بما يكون نفعه أعم يكون أفضل ، ولأن الصدقة في الزراعة أطهر فلا بد أن يتناول مما يكتسبه الزارع الناس والدواب والطيور وكل ذلك صدقة له قال عليه السلام { ما غرس مسلم شجرة فتناول منها إنسان أو دابة أو طير إلا كانت له صدقة } ، وفي رواية { وما أكلت العافية منها فهي له صدقة } والعافية هي الطيور الطالبة لأرزاقها الراجعة إلى أوكارها ، وإذا كان في عادة الناس ذم الكسب الذي ينعدم فيه التصديق كعمل الحياكة مع أنه من التعاون على إقامة الصلاة عرفنا أن ما يكون التصديق فيه أكثر من الكسب ، فهو أفضل فأما تأويل ما تعلقوا به ، فقد روى مكحول ومجاهد رحمهما الله قالا : المراد الضرب في الأرض لطلب العلم وبه نقول إن ذلك أفضل فقد أشار محمد رحمه الله إلى ذلك في قوله طلب الكسب فريضة ، كما أن طلب العلم فريضة فتشبيه هذا بذاك دليل على أن طلب العلم أعلى درجة من غيره وبيان فرضية طلب العلم في قوله عليه السلام { طلب العلم فريضة على كل مسلم } والمراد علم الحلال على ما قيل : أفضل العلم علم الحلال وأفضل العمل حفظ الحال وبيان هذا أن ما يحتاج المرء في الحال لأداء ما لزمه يفترض عليه عينا علمه كالطهارة لأداء الصلاة فإن أراد التجارة يفترض عليه تعلم ما يتحرز به عن الربا والعقود الفاسدة ، وإن كان له مال يفترض عليه تعلم زكاة جنس ماله ليتمكن به من الأداء ، وإن لزمه الحج يفترض عليه تعلم ما يؤدي به الحج هذا معنى علم الحال وهذا علم ؛ لأن الله تعالى حكم ببقاء الشريعة إلى يوم القيامة والبقاء بين الناس يكون بالتعلم والتعليم فيفترض التعليم والتعلم جميعا ، وقد قررنا هذا المعنى في بيان فريضة الكسب والدليل عليه ما روي أن النبي لعن الذين لا يعلمون ، ولا يتعلمون ليرتفع العلم بهم وقال { إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من القلوب ولكن بقبض العلماء } ، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ، والذي يؤيد هذا كله قوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك } الآية ، وفي هذا إشارة إلى أنه يفترض تعليم الكافر إذا طلب ذلك فتعليم المؤمن أولى وبيان قولنا أنه من آكد الفرائض أن الإنسان لو شغل جميع عمره بالتعلم والتعليم كان مفترضا في الكل ، ولو شغل جميع عمره بالصوم والصلاة كان مشتغلا في البعض ، ولا شك أن إقامة الفرض أعلى درجة من أداء النفل قال ، وكما أن طلب العلم فريضة فأداء العلم إلى الناس فريضة ؛ لأن اشتغال صاحب العلم بالعمل معروف والعمل بخلافه منكر فالتعليم يكون أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، وهو فرض على هذه الأمة قال الله تعالى { كنتم خير أمة } الآية ، ويختلفون في فصل وهو أن من يعلم حكما أو حكمين هل يفترض عليه أن يبين ذلك لمن لا يعلمه أم لا ؟ فعلى قول بعض مشايخنا رحمهم الله يلزمه ذلك وأكثرهم على أنه لا يلزمه ذلك ، وإنما يجب ذلك على الذين اشتهروا بالعلم ممن يعتمد الناس قولهم ، وقد أشار في هذا الكتاب إلى القولين واللفظ المذكور هنا يوجب التعميم وقال بعد هذه فعلى البصراء من العلماء أن يبينوا للناس طريق الفقه فهذا يدل على أن الفرضية على الذين اشتهروا بالعلم خاصة وجه القول الأول قوله تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } وقوله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } الآية ، فتبين بالآيتين أن الكتمان حرام وأن ضده ، وهو الإظهار لازم فيتناول ذلك كل من بلغه علم ، فإنه يتصور منه الكتمان فيما بلغه فيفترض عليه الإظهار وقال { إذا رأيتم آخر هذه الأمة طعن على أولها فمن كان عنده علم فليظهره ، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد } ، ولأن تعليم العلم بمنزلة أداء الزكاة وعلى كل أداء الزكاة من نصابه وصاحب النصاب وصاحب المنصب في ذلك سواء وجه القول الآخر أن العلماء في كل زمان خلفاء الرسل عليهم السلام كما قال { العلماء هم ورثة الأنبياء } ومعلوم أن في زمن الرسول كان هو المبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ، فإن الله تعالى وصفه بذلك وقال { لتبين للناس ما نزل إليهم } ، ولا يجب على أحد سواه شيء من ذلك بحضرته فكذا في كل حين ومكان إنما يفترض الأداء على المشهورين بالعلم دون غيرهم ؛ لأن الناس في العادة إنما يعتمدون قول من اشتهر بالعلم وقلما يعتمدون قول غيرهم وربما يستخف بعضهم بما يسمعه ممن لم يشتهر بالعلم ، فلهذا كان البيان على المشهورين خاصة ، وقد نقل عن الحسن رضي الله عنه أدركت سبعين بدريا كلهم قد انزووا ، ولم يشتغلوا بتعليم الناس ؛ لأنه كان لا يحتاج إليهم ، وكذا علماء التابعين رحمهم الله فمنهم من تصدى للفتوى والتعليم ، ومنهم من امتنع من ذلك وانزوى لعلمه أنه لا يتمكن الخلل بامتناعه وأن المقصود حاصل بغيره ، وهذا ؛ لأن للعلم ثمرتين العمل به والتعليم ، ومنهم من لا يتمكن منهما جميعا فيكتفي بثمرة العمل به فعرفنا أن ذلك واسع وأن المقصود بالمشهورين من أهل العلم حاصل . ( قال : ولو لم يكن طلب العلم فريضة لم يكن للناس مخرج من الإثم ) يعني أن التحرز عن ارتكاب الإثم فرض قال الله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش } الآية ، ولا يتوصل إلى هذا التحرز إلا بالعلم قال ، ولو ترك الناس العلم لما تميز الحق من الباطل والصواب من الخطأ والبين من الخفي يعني أن التمييز بين الحق والباطل أصل الدين ، ولا يتوصل إليه إلا بالعلم قال الله تعالى { ويمح الله الباطل ويحق الحق } وقال في آية أخرى { ليحق الحق ويبطل الباطل } ولا شك أنه يفترض على كل مخاطب التمييز بين ما أحقه الله تعالى وبين ما محاه الله من الباطل وكذا يجب على كل أحد التمسك بما هو صواب والتحرز عن الخطأ بجهده وطريق التوصل إلى ذلك العلم ( قال فعلى العلماء إذا ما وصل إليهم ممن قبلهم فيه منفعة للناس ) يعني أن بيان المسموع من الآثار واجب على العلماء ، فإن النبي قال { نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها ، كما سمعها ثم أداها إلى من سمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه } وقال { تسمعون ويسمع منكم ويسمع من لم يسمع منكم } وقال { ألا فليبلغ الشاهد الغائب } ثم إنما يفترض بيان ما فيه منفعة الناس ، وهو الناسخ من الآثار الصحيحة المشهورة فأما المنسوخ فيجب روايته وكذا الشاذ فيما تعم به البلوى ، فإنه ليس في روايته للناس وربما يؤدي إلى الفتنة والتحرز عن الفتنة أولى والأصل فيه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه لو حدثتكم بكل ما سمعت لرميتموني بالحجارة وأن معاذا رضي الله عنه كان عنده حديث في الشهادة وكان لا يرويه إلى أن احتضر ثم قال لأصحابه سمعته من رسول الله لولا ما حضرني من أمر الله ما رويته لكم سمعت رسول الله يقول { ، من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة } فكان يمتنع من روايته في صحته لكي لا يتكل الناس ثم لما خاف الفوت بموته رواه لأصحابه فهذا أصل لما بينا . ( قال : ألا ترى أنه لو لم يفترض الأداء علينا لم يفترض على من قبلنا ؟ حتى ينتهي ذلك إلى الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ) يعني أن الناس في نقل العلم سواء قال { ينقل هذا الدين عن كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين } فلو جوزنا للمتأخرين ترك النقل لجوزنا مثل ذلك للمتقدمين فيؤدي هذا إلى القول بما ذهب إليه الروافض أن الله تعالى أنزل آيات في شأن علي رضي الله عنه وذكر رسول الله أحاديث في فضله والتنصيص على إمامته غير أن الصحابة رضي الله عنهم كتموا ذلك حسدا منهم له ، وعند أهل السنة رحمهم الله هذا كذب وزور لا يجوز أن يظن بأحد من الصحابة رضي الله عنهم فكيف بجماعتهم ولو كان شيئا من ذلك لاشتهر ولكن ما يذهب إليه الروافض مبني على الكذب والبهتان فمحمد رضي الله عنه بهذا الاستشهاد أشار إلى أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ما تركوا نقل شيء من أمور الدين فعلى من بعدهم الاقتداء بهم في ذلك ثم الفرض نوعان فرض عين وفرض كفاية ففرض العين على كل أحد إقامته نحو أركان الدين وفرض الكفاية ما إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وإن اجتمع الناس على تركه كانوا مشتركين في المأثم كالجهاد ، فإن المقصود به إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز الدين ، فإذا حصل هذا المقصود من بعض المسلمين سقط عن الباقين ، وإذا قعد الكل عن الجهاد حتى استولى الكفار على بعض الثغور اشترك المسلمون في المأثم بذلك وكذا غسل الميت والصلاة عليه والدفن كل ذلك فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وإن امتنعوا من ذلك حتى ضاع ميت بين قوم مع علمهم بحاله كانوا مشتركين في المأثم فأداء العلم إلى الناس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود ، وهو إحياء الشريعة وكون العلم محفوظا بين الناس بأداء البعض ، وإن امتنعوا من ذلك حتى اندرس شيء بسبب ذلك كانوا مشتركين في المأثم ( قال وما رغب فيه رسول الله من الفضائل فأداؤه إلى الناس فريضة ) ومعنى هذا الكلام أن مباشرة فعل التطوعات وما ندب إليه رسول الله ليس بفرض ، ولا إثم على من امتنع من ذلك ، ولكن أداء ذلك إلى الناس فريضة حتى إذا اجتمع أهل زمان على ترك نفل كانوا تاركين لفريضة مشتركين في المأثم ؛ لأن بترك النفل يندرس شيء من الشريعة وليس في ترك الأداء معنى الاندراس ونظير هذا أن من امتنع من صلاة التطوع فلا إثم عليه في ذلك ، ولو صلى التطوع بغير طهارة كان آثما معاتبا ؛ لأن في الأداء بغير طهارة تغيير حكم الشرع وليس في ترك الأداء تغيير حكم الشرع ، فإن المقصود بالتطوعات أحد شيئين قطع طمع الشيطان عن وسوسته بأن يقول إذا كان هذا العبد يؤدي ما ليس عليه كيف يترك أداء ما هو عليه فينقطع طمعه عن وسوسته بهذا ، وهو جبر لنقصان الفرائض على ما قال { إذا تمكن في فريضة العبد نقصان يقول الله تعالى لملائكته اجعلوا نوافل عبدي جبرا لنقصان فريضته } ، وإذا كان في التطوع هذا المقصود فلا يجوز ترك البيان فيه حتى يندرس فيفوت هذا المقصود أصلا فعرفنا أن أداءه إلى الناس فريضة ، وإن لم يكن مباشرة فعله فريضة ( قال وليس يجب على الفقيه أن يحدث بكل ما سمع إلا لغائب حضر خروجه ممن يعلم أنه لم يشتهر في أهل مصره ) يعني بهذا أن أصل البيان واجب ، ولكن الوقت موسع ، وإنما يتضيق عند خوف الفوت كما بينا في حديث معاذ رضي الله عنه والذي أتاه كان قصده أن يتعلم منه ما لم يشتهر في مصره مما فيه منفعة للناس حتى يفتيهم بذلك إذا رجع إليهم قال الله تعالى { فلولا نفر من كل فرقة } الآية فما لم يعزم على الرجوع كان الوقت في التعليم واسعا على المعلم ، وإذا عزم على الخروج ، فقد تضيق الوقت فلا يسعه تأخير البيان بعد ذلك بمنزلة الصلاة بعد دخول الوقت فرض ، ولكن الوقت واسع ، فإذا بلغ آخر الوقت تضيق فلا يسعه التأخير بعد ذلك ، وهذا فيما لم يشتهر في أهل مصر فأما فيما اشتهر فيهم فلا حاجة ولا ضرورة ؛ لأن الراجع يتمكن من تحصيل ذلك لنفسه من علماء أهل مصر ، وأهل مصر يتوصلون إلى ذلك من جهة علمائهم دون هذا الراجع إليهم والمؤمنون كنفس واحدة يعني إذا تألم بعض الجسد تألم الكل ، وإذا نال الراحة بعض الجسد اشترك في ذلك الأعضاء ، فإذا كان مشهورا في أهل مصر لا يندرس بامتناع هذا العالم من البيان له ، وإذا لم يكن مشهورا فيهم فترك البيان يؤدي إلى الاندراس في حقهم فكما لا يحل له أن يترك البيان لأهل مصر حتى يندرس فكذا لا يحل ترك البيان للذي ارتحل إليه من موضع آخر لهذا المقصود ، وهو غير مشهور في أهل مصر ثم إن الله تعالى خلق أولاد آدم عليه السلام خلقا لا تقوم أبدانهم إلا بأربعة أشياء الطعام والشراب واللباس والكن ، أما الطعام فقال الله تعالى { وما جعلناهم جسدا } الآية وقال عز وجل { كلوا من طيبات ما رزقناكم } ، وأما الشراب فقال الله تعالى { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وقال جل وعلا { وكلوا واشربوا } ، وأما اللباس فقال الله تعالى { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا } وقال الله تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد } الآية ، وأما الكن فلأنهم خلقوا خلقا لا تطيق أبدانهم معه أذى الحر والبرد ، ولا تبقى على شدتهما قال الله تعالى { وخلق الإنسان ضعيفا } فيحتاج إلى دفع أذى الحر والبرد عن نفسه لتبقى نفسه فيؤدي بها ما تحمل من أمانة الله تعالى ، ولا يتمكن من ذلك إلا بكن فصار الكن لهذا بمعنى الطعام والشراب ( قال : وقد دلهم المعاش بأسباب فيها حكمة بالغة ) يعني أن كل أحد لا يتمكن من تعلم جميع ما يحتاج إليه في عمره ، فلو اشتغل بذلك فني عمره قبل أن يتعلم وما لم يتعلم لا يمكنه أنه يحصل لنفسه ، وقد تعلقت به مصالح المعيشة فيسر الله تعالى على كل واحد منهم تعلم نوع من ذلك حتى يتوصل إلى ما يحتاج إليه من ذلك النوع بعلمه فيتوصل غيره إلى ما يحتاج إليه من ذلك بعلمه أيضا وإليه أشار رسول الله في قوله { المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا } وبيان هذا في قوله تعالى { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } الآية ، يعني أن الفقير محتاج إلى مال الغني والغني يحتاج إلى عمل الفقير فهنا أيضا الزارع يحتاج إلى عمل النساج ليحصل اللباس لنفسه والنساج يحتاج إلى عمل الزارع ليحصل الطعام والقطن الذي يكون منه اللباس لنفسه ثم كل واحد منهما فيما يقيم من العمل يكون معينا لغيره فيما هو قربة وطاعة ، فإن التمكن من إقامة القربة بهذا يحصل فيدخل تحت قوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى } وقال { إن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم } وسواء أقام ذلك العمل بعوض شرطه عليه أو بغير عوض ، فإذا كان قصده ما بينا كان في عمله معنى الطاعة لقوله { إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى } ، فإذا نوى العامل بعمله التمكن من إقامة الطاعة أو تمكين أخيه من ذلك كان مثابا على عمله باعتبار نيته بمنزلة المتناكحين إذا قصدا بفعلهما ابتغاء الولد وتكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول كان لهما الثواب على عملهما ، وإن كان ذلك الفعل لقضاء الشهوة في الأصل ولكن بالنية يصير معنى القربة أصلا ويصير قضاء الشهوة تبعا فهذا مثله ( قال : فإن تركوا الأكل والشرب ، فقد عصوا ؛ لأن فيه تلفا ) يعني أن النفس لما كانت لا تبقى عادة بدون الأكل والشرب فالممتنع من ذلك قاتل نفسه قال الله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } ، وهو معرض نفسه للهلاك وقال الله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وبعد التناول ، فقدر ما يسد به رمقه يندب إلى أن يتناول مقدار ما يتقوى به على الطاعة ؛ لأنه إن لم يتناول يضعف وربما يعجز عن الطاعة وقال { المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير } ، ولأن اكتساب ما يتقوى به على الطاعة يكون طاعة ، وهو مندوب إلى الإتيان بما هو طاعة وإليه أشار أبو ذر رضي الله عنه حين سئل عن أفضل الأعمال فقال : الصلوات وأكل الخبز قال : وقد نقل عن مسروق رضي الله عنه وغيره أن من اضطر فلم يأكل فمات دخل النار والمراد تناول الميتة ؛ لأن عند الضرورة الحرمة تنكشف فيلحق بالمباح ، وإذا كان الحكم في الميتة هذا مع حرمتها في غير حالة الضرورة فما ظنك في الطعام الحلال ( قال وستر العورة فريضة لقوله تعالى { خذوا زينتكم } الآية ) والمراد ستر العورة لأجل الصلاة ، ألا ترى أنه خص المساجد بالذكر والناس في الأسواق أكثر منهم في المساجد ؟ فلا فائدة لتخصيص المساجد بالذكر سوى أن يكون المراد ستر العورة لأجل الصلاة فهذا يدل على أنه من شرائط الصلاة فيكون فرضا ، ولئن كان المراد ستر العورة لأجل الصلاة فالأمر حقيقة للوجوب فإن كان خاليا في بيته ، فهو مندوب إلى الستر لما روي { أن النبي لما ذكروا عنده كشف العورة قيل له : أرأيت لو كان أحدنا خاليا فقال الله أحق أن يستحى منه } ( قال وعلى الناس اتخاذ الأوعية لنقل الماء إلى النساء ) ؛ لأن المرأة تحتاج إلى الماء للوضوء والشرب ، وإن تيممت للوضوء احتاجت إلى الماء لتشرب ، ولا يمكنها أن تخرج تستقي الماء من الأنهار والآبار والحياض ، فإنها أمرت بالقرار في بيتها قال الله تعالى { وقرن في بيوتكن } فعلى الرجل أن يأتيها بذلك ؛ لأن الشرع ألزمه حاجتها كالنفقة ، ولا يمكنه أن يأتيها بكفه فلا بد أن يتخذ وعاء لذلك ؛ لأن ما لا يتأتى إقامة المستحق إلا به يكون مستحقا ( قال ومن فعل شيئا مما ذكرنا ، فهو مأمور بإتمامه لقوله تعالى { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها } الآية ) وهذا مثل ذكره الله تعالى لمن ابتدأ طاعة ثم لم يتمها فيكون كالمرأة التي تغزل ثم تنقض فلا تكون ذات غزل ، ولا ذات قطن ، ومن امتنع من الأكل والشرب والاستكنان حتى مات أوجب على نفسه دخول النار ؛ لأنه قتل نفسه قصدا فكأنه قتلها بحديدة وقال { من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجيء بها نفسه في نار جهنم } ثم تأويل اللفظ الذي ذكره من وجهين : أحدهما ، أنه ذكره على سبيل التهديد وأضمر في كلامه معنى صحيحا ، وهو أنه أراد الدخول الذي هو تحلة القسم قال الله تعالى { وإن منكم إلا واردها } الآية ، والمراد داخلها عند أهل السنة والجماعة ، والثاني : أن المراد بيان جزاء فعله يعني أن جزاء فعله دخول النار ، ولكنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه بفضله ، وإن شاء أدخله النار بعدله ، وهذا نظير ما قيل في بيان قول الله تعالى { فجزاؤه جهنم خالدا فيها } أن هذا جزاؤه إن جازاه الله به ، ولكنه عفو كريم يتفضل بالعفو ، ولا يخلد أحدا من المؤمنين في نار جهنم ( قال وكل أحد منهي عن إفساد الطعام ، ومن الإفساد الإسراف ) وهذا لما روي { أن النبي نهى عن القيل والقال وعن كثرة السؤال وعن إضاعة المال } ، وفي الإفساد إضاعة المال ثم الحاصل أنه يحرم على المرء فيما اكتسبه من الحلال الإفساد والسرف والخيلاء والتفاخر والتكاثر ، أما الإفساد فحرام لقوله تعالى { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } الآية ، وأما السرف فحرام لقوله تعالى { ولا تسرفوا } الآية وقال جل وعلا { والذين إذا أنفقوا } الآية فذلك دليل على أن الإسراف والتقتير حرام وأن المندوب إليه ما بينهما ، وفي الإسراف تبذير وقال الله تعالى { ولا تبذر تبذيرا } ثم السرف في الطعام أنواع فمن ذلك الأكل فوق الشبع لقوله { ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس } وقال { يكفي ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ولا يلام على كفاف } ، ولأنه إنما يأكل لمنفعة نفسه ، ولا منفعة في الأكل فوق الشبع بل فيه مضرة فيكون ذلك بمنزلة إلقاء الطعام في مزبلة أو شر منها ، ولأن ما يزيد على مقدار حاجته من الطعام فيه حق غيره ، فإنه يسد به جوعته إذا أوصله إليه بعوض أو بغير عوض ، فهو في تناوله جان على حق الغير ، وذلك حرام ، ولأن الأكل فوق الشبع ربما يمرضه فيكون ذلك كجراحته نفسه . والأصل فيه ما روي { أن رجلا تجشأ في مجلس رسول الله فغضب رسول الله وقال نح عنا جشاءك أما علمت أن أطول الناس عذابا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا } { ، ولما مرض ابن عمر رضي الله عنهما سأل النبي عن سبب مرضه فقيل : إنه أتخم ، قال : ومم ذاك ؟ فقيل : من كثرة الأكل فقال أما إنه لو مات لم أشهد جنازته ولم أصل عليه } ، ولما قيل لعمر رضي الله عنه : ألا تتخذ لك جوارشا ؟ قال : وما يكون الجوارش ؟ قيل : هو صنف يهضم الطعام ، فقال : سبحان الله أو يأكل المسلم فوق الشبع ؟ إلا أن بعض المتأخرين رحمهم الله استثنى من ذلك حالة ، وهو أنه إذا كان له غرض صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذ لا بأس بذلك بأن يأتيه ضيف بعد تناوله مقدار حاجته فيأكل مع ضيفه لئلا يخجل وكذا إذا أراد أن يصوم في الغد فلا بأس بأن يتناول بالليل فوق الشبع ليقوى على الصوم بالنهار ، ومن الإسراف في الطعام الاستكثار من المباحات والألوان ، فإن النبي عد ذلك من أشراط الساعة فقال { تدار القصاع على موائدهم واللعنة تنزل عليهم } { وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت في ضيافة فأتيت بقصعة بعد قصعة فقامت وجعلت تقول : ألم تكن الأولى مأكولة ، وإن كانت فما هذه الثانية ؟ وفي الأولى ما يكفينا قد كان رسول الله نهى عن مثل هذا } إلا أن يكون ذلك عند الحاجة بأن يمل من ناحية واحدة فيستكثر من المباحات ليستوفي من كل نوع شيئا فيجتمع له مقدار ما يتقوى به على الطاعة على ما حكي أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يشكو إليه ثلاثا : العجز عن الأكل وعن الاستمتاع والعي في الكلام ، فكتب إليه أن استكثر من ألوان الطعام وجدد السراري في كل وقت وانظر إلى أخريات الناس في خطبتك ، ومن الإسراف أن تضع على المائدة من ألوان الطعام فوق ما يحتاج إليه الآكل . وقد بينا أن الزيادة على مقدار حاجته فيه كان حق غيره إلا أن يكون من قصده أن يدعو الأضياف قوما بعد قوم إلى أن يأتوا على آخر الطعام فحينئذ لا بأس بذلك ؛ لأنه غير مفسد ، ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه أو يأكل ما انتفخ من الخبز كما يفعله بعض الجهال يزعمون أن ذلك ألذ ، ولكن هذا إذا كان غيره لا يتناول ما ترك هو من حواشيه ، أما إذا كان غيره يتناول ذلك فلا بأس كأن يختار لتناوله رغيفا دون رغيف ، ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يمسح به ؛ لأن غيره يتقذر ذلك فلا يأكله فأما إذا كان هو يأكل ما يمسح به فلا بأس بذلك ، ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها بل ينبغي له أن يبدأ بتلك اللقمة فيأكلها ؛ لأن في ترك ذلك استخفافا بالطعام ، وفي التناول إكراما ، وقد أمرنا بإكرام الخبز قال { أكرموا الخبز ، فإنه من بركات السماء والأرض } ، ومن إكرام الخبز أن لا ينتظر الإدام إذا حضر الخبز ولكن يأخذ في الأكل قبل أن يؤتى بالإدام ، وهذا ؛ لأن الإنسان مندوب إلى شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة ، وفي ترك اللقمة التي سقطت معنى كفران النعمة ، وفي المبادرة إلى تناول الخبز قبل أن يؤتى بالإدام إظهار شكر النعمة ، وإذا كان جائعا ففي الامتناع إلى أن يؤتى بالإدام نوع مماطلة فينبغي أن يتحرز عن ذلك وفيه حكاية ، فإن أبا حنيفة رحمة الله عليه لقي بهلولا المجنون يوما ، وهو جالس على الطريق يأكل الطعام فقال : أما تستحي من نفسك أن تأكل بالطريق ، قال : يا أبا حنيفة أنت تقول في هذا ونفسي غريمي والخبز في حجري ، وقد قال النبي { مطل الغني ظلم } فكيف أمنعها حقها إلى أن أدخل البيت والمخيلة حرام لما روي { أن النبي قال للمقداد رضي الله عنه في ثوب لبسه إياك والمخيلة ولا تلام على كفاف } ، والتفاخر والتكاثر حرام لقوله تعالى { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } الآية ، وإنما ذكر هذا على وجه الإلزام لذلك قال الله تعالى { ولا تمنن تستكثر } الآية وقال عز وجل { أن كان ذا مال وبنين } وقال جل وعلا { ألهاكم التكاثر } فعرفنا أن التفاخر والتكاثر حرام ( قال وأمر اللباس نظير الأكل في جميع ما ذكرنا ) يعني أنه كما نهى عن الإسراف والتكثير من الطعام فكذلك نهى عن ذلك في اللباس والأصل فيه ما روي { أن النبي نهى عن الثوبين } والمراد أن لا يلبس نهاية ما يكون من الحسن والجودة في الثياب على وجه يشار إليه بالأصابع أو يلبس نهاية ما يكون من الثياب الخلق على وجه يشار إليه بالأصابع ، فإن أحدهما يرجع إلى الإسراف والآخر يرجع إلى التقتير وخير الأمور أوسطها فينبغي أن يلبس في عامة الأوقات الغسيل من الثياب ، ولا يكلف الجديد الحسن عملا بقوله { البذاذة من الإيمان } إلا أنه لا بأس بأن يلبس أحسن ما يجد من الثياب في بعض الأعياد والأوقات والجمع لما روي { عن النبي أن كان له جبة أهداها إليه المقوقس فكان يلبسها في الأعياد والجمع وللوفود ينزلون إليه } وروي أنه { كان لرسول الله قباء مكفوف بالحرير وكان يلبس ذلك في الأعياد والجمع } ، ولأن في لبس ذلك في بعض الأوقات إظهار النعمة قال { إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثرها عليه } ، وفي التكلف لذلك في جميع الأوقات معنى الصلف وربما يغيظ ذلك المحتاجين والتحرز عن ذلك أولى وكذا في زمان الشتاء لا ينبغي أن يظاهر بين جبتين أو ثلاثة إذا كان يكفيه لدفع البرد جبة واحدة ، فإن ذلك يغيظ المحتاجين ، وهو منهي عن اكتساب سبب يؤذي غيره ومقصوده يحصل بما دون ذلك والأولى له أن يختار الخشن من الثياب للبس على ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يلبس إلا الخشن من الثياب فإن لبس الخشن في زمان الشتاء واللين في زمان الصيف فلا بأس بذلك ، الخشن يدفع من البرد ما لا يدفعه اللين ، فهو محتاج إلى ذلك في زمان الشتاء واللين منشف من العرق ما لا ينشفه الخشن ، فهو محتاج إلى ذلك في زمان الصيف ، وإن لبس اللين في الشتاء والصيف فذلك واسع له أيضا إذا كان اكتسبه من حله لقوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الآية . وكما يندب إلى ما بينا في طعام نفسه وكسوته فكذلك في طعام عياله وكسوتهم ؛ لأنه مأمور بالإنفاق عليهم بالمعروف والمعروف ما يكون دون السرف وفوق التقتير حتى قالوا لا ينبغي أن يكلف تحصيل جميع شهوات عياله ، ولا أن يمنعها جميع شهواتها ، ولكن إنفاقه بين ذلك فإن خير الأمور أوساطها ، وكذلك لا ينبغي أن يستديم الشبع من الطعام ، فإن الأول ما اختاره رسول الله وبينه في قوله { أجوع يوما وأشبع يوما } { وكانت عائشة رضي الله عنها تبكي رسول الله حين قبض وتقول يا من لم يلبس الحرير ، ولم يشبع من خبز الشعير } { وكانت عائشة رضي الله عنها تقول ربما يأتي علينا الشهر أو أكثر لا نوقد في بيوتنا نارا ، وإنما هو الأسودان الماء والتمر } ، وقد روينا أن النبي قال { أطول الناس جوعا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا } ، فلهذا كان التحرز عن استدامة الشبع في جميع الأوقات أولى ( قال وليس على الرجل أن يدع الأكل حتى يصير بحيث لا ينتفع بنفسه ) يعني حتى ينتهي به الجوع إلى حال تضره وتفسد معدته بأن تحترق فلا ينتفع بالأكل بعد ذلك ؛ لأن التهاون عند الحاجة حق قبله قال لبعض أصحابه { نفسك مطيتك فارفق بها ، ولا تجعها } وقال لآخر { إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولله عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه } { وقال للمقدام بن معدي كرب كل واشرب والبس عن غير مخيلة } والأمر للإيجاب حقيقة ، ولأن في الامتناع من الأكل إلى هذه الغاية تعريض النفس للهلاك ، وهو حرام ، وفيه اكتساب سبب تفويت العبادات ، ولا يتوصل إلى أداء العبادات إلا بنفسه ، وكما أن تفويت العبادات المستحقة حرام فاكتساب سبب التفويت حرام فأما تجويع النفس على وجه لا يعجز معه عن أداء العبادات وينتفع بالأكل بعده ، فهو مباح ؛ لأنه إنما يمنع من الأكل لإتمام العبادة إذا كان صائما أو ليكون الطعام ألذ عنده إذا تناوله فكلما كان المتناول أجوع كانت لذته في التناول من الأكل فوق الشبع ، وهو حرام عليه إلا عند غرض صحيح له في ذلك فليس له بالامتناع إلى أن يصير بحيث لا ينتفع بالأكل غرض صحيح بل فيه إتلاف النفس وحرمة نفسه عليه فوق حرمة نفس أخرى ، فإذا كان يحق عليه إحياء نفس أخرى بما يقدر عليه ، ولا يحل له اكتساب سبب إتلافها ففي نفسه أولى ، وقد قال بعض المتقشفة لو امتنع من الأكل حتى مات لم يكن آثما ؛ لأن النفس أمارة بالسوء ، كما وصفها الله تعالى به وهي عدو المرء قال ما معناه { أعدى عدو المرء بين جنبيه } يعني نفسه وللمرء أن لا يرى عدوه فكيف يصير آثما بالامتناع من تربيته وقال { أفضل الجهاد جهاد النفس } وتجويع النفس مجاهدة لها فلا يجوز أن نجهل ذلك ولكن نقول : إن مجاهدة النفس في حملها على الطاعات ، وفي التجويع إلى هذه الحالة تفويت العبادة لا حمل النفس على أداء العبادة . وقد بينا أن النفس محتملة لأمانات الله تعالى ، فإن الله تعالى خلقها معصومة لتؤدي الأمانة التي تحملتها ، ولا تتوصل لذلك إلا بالأكل عند الحاجة وما لا يتوصل إلى إقامة المستحق إلا به يكون مستحقا فأما الشاب الذي يخاف على نفسه من الشبق والوقوع في العيب فلا بأس أن يمتنع من الأكل ويكسر شهوته فتجويع النفس على وجه لا يعجز عن أداء العبادات مندوب إليه لقوله { يا معشر الشباب عليكم بالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء } ، ولأنه منتفع بالامتناع من الأكل هنا من حيث إنه يمنع به نفسه عن ارتكاب المعاصي على ما يحكى عن أبي بكر الوراق رحمه الله قال : في تجويع النفس إشباعها ، وفي إشباعها تجويعها ثم فسر ذلك فقال : إذا جاعت واحتاجت إلى الطعام شبعت عن جميع المعاصي ، وإذا شبعت عن الطعام جاعت ورغبت في جميع المعاصي ، وإذا كان التحرز عن ارتكاب المعصية فرضا ، وإنما يتوصل إليه بهذا النوع من التجويع كان ذلك فرضا ( قال ويفترض على الناس إطعام المحتاج في الوقت الذي يعجز فيه عن الخروج والطلب ) وهذه المسألة تشتمل على فصول : أحدها : أن المحتاج إذا عجز عن الخروج يفترض على من يعلم أنه يطعمه مقدار ما يتقوى به على الخروج وأداء العبادات إذا كان قادرا على ذلك لقوله من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو حتى إذا مات ، ولم يطعمه أحد ممن يعلم بحاله اشتركوا جميعا في المأثم لقوله { أيما رجل مات جوعا بين قوم أغنياء ، فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله } ، فإذا لم يكن عند من يعلم بحاله ما يعطيه ، ولكنه قادر على الخروج إلى الناس فيخبر بحاله ليواسوه ويفترض عليه ذلك ؛ لأن عليه أن يدفع ما يزيل ضعفه بحسب الإمكان والطاعة بحسب الطاقة فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في المأثم ، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وهو نظير الأسير ، فإن من وقع أسيرا في يد أهل الحرب من المؤمنين وقصدوا قتله يفترض على كل مسلم يعلم بحاله أن يفديه بماله إن قدر على ذلك وإلا أخبر به غيره ممن يقدر عليه ، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين بحصول المقصود ، ولا فرق بينهما في المعنى ، فإن الجوع الذي هاج من طبعه عدو يخاف الهلاك منه بمنزلة العدو من المشركين . فأما إذا كان المحتاج يتمكن من الخروج ولكن لا يقدر على الكسب فعليه أن يخرج ليعلم بحاله ، ومن علم بحاله إذا كان عليه شيء من الواجبات فليؤده إليه ؛ لأنه قد وجد لما استحق عليه مصرفا ومستحقا فينبغي له أن يسقط الفرض عن نفسه بالصرف إليه حتما ؛ لأنه أدنى إليه من غيره ، وهو يندب إلى الإحسان إليه إن كان قد أدى ما عليه من الفرائض لقوله تعالى { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } وقال الله تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } ولما { ، سئل رسول الله عن أفضل الأعمال قال إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام } فإن كان المحتاج بحيث يقدر على الكسب فعليه أن يكتسب ، ولا يحل له أن يسأل لما روي عن النبي أنه قال { من سأل الناس وهو غني عما يسأل كانت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجهه } وروي { أن النبي كان يفرق الصدقات فأتاه رجلان يسألانه من ذلك فرفع بصره إليهما فرآهما جلدين قال : أما أنه لا حق لكما فيه ، وإن شئتما أعطيتكما } معناه لا حق لهما في السؤال وقال { لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي } يعني لا يحل السؤال للقوي القادر على التكسب وقال { السؤال آخر كسب العبد } ، ولكنه لو سأل فأعطي حل له أن يتناول لقوله { ، وإن شئتما أعطيتكما } ، فلو كان لا يحل التناول لما قال لهما ذلك ، وقد قال الله تعالى { إنما الصدقات للفقراء } الآية والقادر على الكسب فقير ، وإذا كان عاجزا عن الكسب ، ولكنه قادر على أن يخرج فيطوف على الأبواب ويسأل ، فإنه يفترض عليه ذلك ، وإذا لم يفعل ذلك حتى هلك كان آثما عند أهل الفقه رحمهم الله وقال بعض المتقشفة : السؤال مباح له بطريق الرخصة فإن تركه حتى مات لم يكن آثما بل هو متمسك بالعزيمة ، وهذا قريب مما نقل عن الحسن بن زياد رضي الله عنه أن من كان في السفر ومع رفيق له ماء وليس عنده ثمنه أنه لا يلزمه أن يسأل رفيقه ، ولو تيمم وصلى من غير أن يسأله الماء جازت صلاته عنده ، ولم تجز عندنا . وجه قوله أن في السؤال ذلا وللمؤمن أن يصون نفسه عن الذل ، وبيانه فيما نقل عن علي رضي الله عنه لنقل الصخر من قلل الجبال أحب إلي من منن الرجال يقول الناس لي في الكسب عار فقلت العار في ذل السؤال ولأن ما يلحقه من الذل بالسؤال تعين وما يصل إليه من المنفعة موهوم وربما يعطى ما يسأل وربما لا يعطى فكان السؤال رخصة له من غير أن يكون مستحقا عليه إذ الموهوم لا يعارض المتحقق وحجتنا في ذلك أن السؤال يوصله إلى ما تقوم به نفسه ويتقوى به على الطاعة فيكون مستحقا عليه كالكسب سواء في حق من هو قادر على الكسب ومعنى الذل في السؤال في هذه الحالة ممنوع . ( ألا ترى ) أن الله تعالى أخبر عن موسى ومعلمه عليهما السلام أنهما سألا عن الحاجة ؟ فقال عز وجل { استطعما أهلها } والاستطعام طلب الطعام وما كان ذلك منهما بطريق الأجرة . ( ألا ترى ) أنه قال { لو شئت لاتخذت عليه أجرا } فعرفنا أنه كان بطريق البر على سبيل الهدية أو الصدقة على ما اختلفوا أن الصدقة كانت تحل للأنبياء سوى نبينا عليه وعليهم السلام على ما بين وكذا رسول الله { وقال لقوم : هل عندكم ما يلت في السمن وإلا اكترعنا من الوادي كرعا } { وسأل رجلا ذراع شاة وقال ناولني الذراع } في حديث فيه طول ، فلو كان في السؤال عند الحاجة ذلا لما فعل الأنبياء عليهم السلام ذلك ، فقد كانوا أبعد الناس عن اكتساب سبب الذل ، ولأن ما يسد به رمقه حق مستحق له في سؤال الناس فليس في المطالبة بحق مستحق له من معنى الذل شيء فعليه أن يسأل فأما إذا كان قادرا على الكسب فليس ذلك بحق مستحق له ، وإنما حقه في كسبه فعليه أن يكتسب ، ولا يسأل أحدا من الناس ولكن له أن يسأل ربه ، كما فعل موسى عليه السلام فقال { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } ، وقد أمرنا بذلك قال الله تعالى { واسألوا الله من فضله } وقاله { سلوا الله حوائجكم حتى الملح لقدوركم والشسع لنعالكم } ( قال : والمعطي أفضل من الآخذ ، وإن كان الآخذ يقيم بالأخذ فرضا عليه ) وهذه المسألة تشتمل على ثلاث فصول : أحدها : أن يكون المعطي مؤديا للواجب والآخذ قادرا على الكسب ، ولكنه محتاج فهنا المعطي أفضل من الآخذ بالاتفاق ؛ لأنه في الإعطاء يؤدي للفرض والآخذ في الأخذ متبرع ، فإن له أن يأخذ ويكتسب ودرجة أداء الفرض أعلى من درجة المتبرع كسائر العبادات ، فإن الثواب في أداء المكتوبات أعظم منه في النوافل والدليل عليه أن المفترض عامل لنفسه والمتبرع عامل لغيره وعمل المرء لنفسه أفضل لقوله { ابدأ بنفسك } معنى هذا أنه بنفس الأداء يفرغ ذمة نفسه فكان عاملا لنفسه والآخذ بنفس الأخذ لا ينفع نفسه بل بالتناول بعد الأخذ ، ولا يدري أيبقى إلى أن يتناول أو لا يبقى ، ولهذا لا منة للغني على الفقير في أخذ الصدقة ؛ لأن ما يحصل به للغني فوق ما يحصل للفقير من حيث إنه يحمل للغني ما لا يحتاج إليه للحال ليصل إليه عند حاجته إلى ذلك والغني محتاج إلى ذلك ليحصل به مقصوده للحال ، ولو اجتمع الفقراء على ترك الأخذ لم يلحقهم في ذلك مأثم بل يحمدون عليه بخلاف ما إذا اجتمع الأغنياء على الامتناع من أداء الواجب فعرفنا أن المنة للفقراء على الأغنياء والفصل الثاني أن يكون المعطي والآخذ كل واحد منهما متبرع إن كان المعطي متبرعا والآخذ قادرا على الكسب فالمعطي هنا أفضل أيضا ؛ لأنه بما يعطي سلخ عن الغنى ويتماثل إلى الفقير والآخذ يتماثل إلى الغنى وبينا أن درجة الفقير أعلى من درجة الغني فمن يتماثل إلى الفقير بعمله كان أعلى من درجة الغني ، ومن يتماثل إلى الفقير لعمله كان أعلى درجة ؛ لأن العبادات مشروعة بطريق الابتلاء قال الله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ومعنى الابتلاء بالإعطاء أظهر منه بالأخذ ؛ لأن الابتلاء في العمل الذي تميل إليه النفس ، وفي نفس كل أحد داعية إلى الأخذ دون الإعطاء ، ولهذا قال { إن المسلم يحتاج في تصدقه بدرهم إلى أن يكسر شهوات سبعين شيطانا } ، وإذا كان معنى الابتلاء في الإعطاء أظهر كان أفضل لما روي { أن النبي سئل عن أفضل الأعمال قال أحمزها } أي أشقها على البدن { وسئل عن أفضل الصدقة قال : جهد المقل } والآخذ يحصل لنفسه ما يتوصل به إلى اقتضاء الشهوات والمعطي يخرج من ملكه ما كان يتمكن به من اقتضاء الشهوات وأعلى الدرجات منع النفس عن اقتضاء الشهوات والفصل الثالث إذا كان المعطي متبرعا والآخذ مقترضا بأن كان عاجزا عن الكسب محتاجا إلى ما يسد به رمقه فعند أهل الفقه رحمهم الله المعطي أفضل أيضا وقال أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه رحمهم الله الآخذ أفضل هنا ؛ لأنه بالأخذ مقيم به فرضا عليه والمعطي متنفل ، وقد بينا أن إقامة الفرض أعلى درجة من التنفل ، ولأن الآخذ لو امتنع من الأخذ هنا كان آثما والمعطي لو امتنع من الإعطاء لم يكن آثما إذا كان هناك غيره ممن يعطيه ما هو فرض عليه والثواب مقابل بالعقوبة . ( ألا ترى ) أن الله تعالى هدد نساء رسوله بضعف ما هدد به غيرهن من النساء فقال عز وجل { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة } الآية ثم جعل لهن الثواب على الطاعات ضعف ما لغيرهن لقوله تعالى { نؤتها أجرها مرتين } ، فإذا كان الإثم في حق الآخذ دون المعطي فكذلك الثواب للآخذ أكثر مما للمعطي ، ولكن هذا كله مشكل برد السلام ، فإن السلام سنة ورد السلام فريضة ومع ذلك كانت البداءة بالسلام أفضل من الرد على ما قال { للبادئ بالسلام عشرون حسنة وللراد عشر حسنات } وربما يقولون الآخذ يسعى في إحياء النفس والمعطي يسعى في تحصين النفس أو في إنماء المال وإحياء النفس أعلى درجة من إنماء المال وحجتنا في ذلك ما روي عن النبي أنه قال { اليد العليا خير من اليد السفلى } من غير تفضيل بين السفلى بالأداء وبين إقامة الفرض فإن قيل : المراد باليد العليا يد الفقير ؛ لأنها نائبة عن يد الشرع ، فإن المتصدق يجعل ماله لله خالصا بأن يخرجه من ملكه ثم يدفعه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى والفقير ينوب عن الشرع في الأخذ من العين وبيان هذا في قوله تعالى { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } الآية ، وقال { إن الصدقة تقع في يد الرحمن فيربيها ، كما يربي أحدكم فلوه حتى يصير مثل أحد } فبهذا تبين أن اليد العليا في المعنى يد الفقير ، قلنا : هذا التأويل بعيد ، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال { الأيدي ثلاثة : يد الله ، ثم اليد المعطية ، ثم اليد المعطاة فهي السفلى إلى يوم القيامة } ، وفي رواية { ثم اليد المعطية ثم اليد المعطاة فهي السفلى إلى يوم القيامة } فبهذا بين أن المراد باليد العليا يد المعطي ، ولأن المعطي يتطهر من الدنس بالإعطاء والآخذ يتلوث وبيان ذلك أن الله تعالى قال { خذ من أموالهم صدقة } الآية فعرفنا أن في أداء الصدقة معنى التطهير والتنزيه ، وفي الأخذ تلويث ، وقد سمى رسول الله الصدقة أوساخ الناس وسماها غسالة فقال { يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس } يعني الصدقة ويدل أن رسول الله كان يباشر الإعطاء بنفسه وكان أخذ الصدقة لنفسه حراما عليه ، كما قال { لا تحل الصدقة لمحمد ولآل محمد } وتكلم الناس في حق سائر الأنبياء عليهم السلام فمنهم من يقول : ما كان يحل أخذ الصدقة لسائر الأنبياء عليهم السلام ولكنها كانت تحل لقرابتهم ثم إن الله أكرم نبينا بأن حرم الصدقة على قرابته إظهارا لفضله لتكون درجتهم في هذا الحكم كدرجة الأنبياء عليهم السلام وقيل بل كانت الصدقة تحل لسائر الأنبياء وهذه خصوصية لنبينا فكيفما كان يجوز أن يقال في تحريم الصدقة عليه أعلى الدرجات معنى الكرامة والخصوصية له ، فلو كان الأخذ أفضل من الإعطاء بحال لما كان في تحريم الأخذ عليه وعلى أهل بيته معنى الخصوصية والكرامة . والدليل عليه أن الشرع ندب كل أحد إلى التصدق وندب كل أحد إلى التحرز عن السؤال { قال لثوبان رضي الله عنه لا تسأل الناس شيئا أعطوك أو منعوك } ، { وقال لحكيم بن حزام رضي الله عنه إياك أن تسأل أحدا شيئا أعطاك أو منعك فكان بعد ما سمع هذه المقالة لا يسأل أحدا شيئا ، ولا يأخذ من أحد شيئا حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض عليه نصيبه مما يعطي فكان لا يأخذ ويقول لست آخذ من أحد شيئا بعد ما قال لي رسول الله عليه السلام ما قال وكان عمر رضي الله عنه يشهد عليه ويقول يا أيها الناس قد أشهدتكم عليه أني عرضت عليه حقه ، وهو يأبى } وبهذا تبين أن الإعطاء أفضل من الأخذ وقال الله تعالى { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } الآية يعني من التعفف عن السؤال والأخذ وقال { من استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن فتح على نفسه بابا من الفقر فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر } ، فإذا كان التعفف في الامتناع من الأخذ كان في الإقدام على الأخذ ترك التعفف من حيث الصورة ، فلهذا كان المعطي أفضل من الآخذ ، وفي كل خير ( قال وكل ما كان الأكل فيه فرضا عليه ، فإنه يكون مثابا على الآكل ؛ لأنه تمثل به الأمر فيتوصل به إلى أداء الفرائض من الصوم والصلاة ) فيقول للذي له السعي لأداء الجمعة والطهارة لأداء الصلاة والأصل فيه قوله { يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في مباضعته أهله فقيل إنه يقضي شهوته أفيؤجر على ذلك ؟ قال : أرأيت لو وضعها في غير حله أما كان يعاقب على ذلك } وبمثله نستدل هنا فنقول لو ترك الأكل في موضع كان فرضا عليه كان معاقبا عليه وعلى ذلك فإذا أكل كان مثابا عليه ، وقال { أفضل دينار المرء دينار ينفقه على نفسه } ، فإذا كان هو مثابا فيما ينفقه على غيره ففيما ينفقه على نفسه أولى قال ، ولا يكون محسنا ، ولا مسيئا في ذلك ، ولا معاتبا ، ولا معاقبا ؛ لأنه مثاب على ذلك ، كما هو مثاب على إقامة العبادات فكيف يكون معاتبا عليه أو محاسبا ؟ والأصل فيه حديثان أحدهما حديث { أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث سأل رسول الله فقال أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من لحم وخبز شعير هو من النعم التي نسأل عنها يوم القيامة وتلا قوله تعالى { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } فقال  : يا أبا بكر إنما ذلك للكفار أما علمت أن المؤمن لا يسأل عن ثلاث قال : وما هي يا رسول الله قال  : ما يواري سوأته وما يقيم به صلبه وما يكن من الحر والبرد ثم هو مسئول بعد ذلك عن كل نعمة } . والثاني حديث { عمر رضي الله عنه ، فإنه كان مع رسول الله في ضيافة رجل فأتي بعذق فيه تمر وبسر ورطب فقال رسول الله لتسألن عن هذا يوم القيامة فأخذ عمر رضي الله عنه العذق وجعل ينفضه حتى تناثر على الأرض ويقول : أونسأل عن هذا : قال إي والله لتسألن عن كل نعمة حتى الشربة من الماء البارد إلا عن ثلاث كسرة تقيم بها صلبك أو خرقة تواري بها سوأتك أو كن يكنك من الحر } قال في الكتاب ، وهذا قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أن المرء لا يحاسب على هذا المقدار وكفى بإجماعهم حجة فمن زجى عمره بهذا وكان قانعا راضيا دخل الجنة بغير حساب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال { من هدي بالإسلام وقنع بما آتاه الله تعالى دخل الجنة بغير حساب } وقيل في تأويل قوله تعالى { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } أن المصلح الذي يصير على هذا المقدار الذي لا بد منه ثم بعده التناول إلى مقدار الشبع مباح على الإطلاق لقوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الآية فعرفنا أن ذلك القدر ليس بمحرم ، فإذا لم يكن محرما ، فهو مباح على الإطلاق ، وكذلك أكل الخبيص والفواكه وأنواع الحلاوات من السكر وغير ذلك مباح ، ولكنه دون ما تقدم حتى إن الامتناع منه والاكتفاء بما دونه أفضل له فكان تناول هذه النعم رخصة والامتناع منها عزيمة فذلك أفضل لحديثين رويا في الباب أحدهما حديث الصديق رضي الله عنه فإنه أتي يوما بقدح تندت بعسل وبرد له فقربه إلى فيه ثم رده وأمر بالتصدق به على الفقراء وقال أرجو أن لا أكون من الذين يقال لهم { أذهبتم طيباتكم } الآية ففي هذا دليل أن تناول ذلك مباح ؛ لأنه قربه إلى فيه ، وفيه دليل أن الامتناع منه أفضل والثاني حديث عمر رضي الله عنه فإنه اشترى جارية وأمر بها فزينت له وأدخلت عليه فلما رآها بكى وقال : أرجو أن لا أكون من الذين يتوصلون إلى جميع شهواتهم في الدنيا ثم دعا شابا من الأنصار لم يكن تحته امرأة فأهداها له وتلا قوله تعالى { ويؤثرون على أنفسهم } الآية ، ولأن أفضل مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام ، وقد كان طريقهم الاكتفاء بما دون هذا في عامة الأوقات . وكذا نبينا عليه السلام ربما أصاب في بعض الأوقات من ذلك على ما روي أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم { ليت لنا ملتوتا نأكله فجاء به عثمان رضي الله عنه في قصعة فقيل : إنه أصاب منه ، وقيل لم يصب وأمر بالتصدق به } ثم فيما تقدم من تناول الخبز إلى الشبع لا حساب عليه سوى العرض على ما روي { عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله عن قوله تعالى { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } قال ذاك العرض يا بنت أبي بكر أما علمت أن من نوقش الحساب عذب } ومعنى العرض بيان المنة وتذكير النعمة والسؤال أنه هل قام بشكرها ؟ وقيل في تأويل قوله تعالى { فأما من أوتي كتابه بيمينه } الآية أنه العرض بمثل هذا ، وأما في اقتضاء الشهوات من الحلال وتناول اللذات ، فهو محاسب على ذلك غير معاقب عليه ، وهو معنى قوله في صفة الدنيا { حلالها حساب وحرامها عقاب } والدليل على أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل حديث { الضحاك رضي الله عنه ، فإنه جاء إلى رسول الله وافدا من قومه وكان متنعما فيهم قال ما طعامك يا ضحاك قال اللحم والعسل والزيت ولب الخبز قال ثم تصير إلى ماذا فقال أصير إلى ما يعلمه رسول الله فقال رسول الله إن الله تعالى ضرب للدنيا مثلا بما يخرج من ابن آدم ثم قال له إياك أن تأكل فوق الشبع } ، فقد بين له النبي أن طعامه ، وإن كان لذيذا طيبا في الابتداء ، فإنه يصير إلى الخبث والنتن في الانتهاء ، فهو مثل الدنيا ، وفي هذا بيان أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل ، وفي حديث { الأحنف بن قيس رضي الله عنه أنه كان عند عمر رضي الله عنه فأتي بقصعة فيها خبز شعير وزيت فجعل عمر رضي الله عنه يأكل من ذلك ويدعو الأحنف إلى أكله وكان لا يسعه ذلك فذكر الأحنف ذلك لحفصة وقال : إن الله تعالى وسع الدنيا على أمير المؤمنين ، فلو وسع على نفسه وجعل طعامه طيبا فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه فبكى وقال أرأيت لو أن ثلاثة اصطلحوا فتقدم أحدهم في الطريق والثاني بعده ثم خالفهم الثالث في الطريق أكان يدركهم ؟ فقالت : لا ، قال : فقد تقدم رسول الله ، ولم يصب من شهوات الدنيا شيئا وأبو بكر رضي الله عنه بعده كذلك ، فلو اشتغل عمر بقضاء الشهوات في الدنيا متى يدركهم } ففي هذا بيان أن الاكتفاء بما دون ذلك أفضل ، وفي الحاصل المسألة صارت على أربعة أوجه ففي مقدار ما يسد به رمقه ويتقوى على الطاعة هو مثاب غير معاقب ، وفيما زاد على ذلك إلى حد الشبع هو مباح له محاسب على ذلك حسابا يسيرا بالعرض . وفي قضاء الشهوات ونيل اللذات من الحلال هو مرخص له فيه محاسب على ذلك مطالب بشكر النعمة وحق الجائعين ، وفيما زاد على الشبع هو معاقب عليه ، فإن الأكل فوق الشبع حرام ، وقد بينا هذا ، وفي الكتاب قال أكرهه ومراده التحريم على ما روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه قيل له : إذا قلت في شيء أكرهه ما رأيك فيه قال إلى الحرمة أقرب والدليل عليه ما روينا أن رسول الله قال { إذا تجشأ أحدكم فليقل اللهم لا تفتنا } والجشأ من الأكل فوق الشبع ففي هذا بيان أن الأكل فوق الشبع من أسباب الموت وتسبب الموت ارتكاب الحرام ، وهذا كله فيما اكتسبه من حله فأما ما اكتسبه من غير حله ، فهو معاقب على التناول منه ففي غير حالة الضرورة القليل والكثير منه سواء لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله قال { كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به } ، وقال { ما اكتسب المرء درهما من غير حله ينفقه على أهله ويبارك له فيه أو يتصدق به فيقبل منه أو يخلفه وراء ظهره إلا كان ذلك زاده إلى النار } وقال { من اكتسب من حيث شاء ولا يبالي أدخله الله تعالى النار من أي باب كان ولا يبالي } { ، وقال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه طيب طعمتك أو قال أكلتك تستجب دعوتك } . وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي قال في بيان حال الناس بعده يصبح أحدهم أشعث أغبر يقول يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له } { وقال في أشراط الساعة الدرهم الحلال فيهم أعز من أخ في الله والأخ في الله أعز فيهم من درهم حلال } قال في الكتاب ، وكذلك أمر اللباس يعني أنه مأجور فيما يواري به سوأته ويدفع أذى الحر والبرد عنه ويتمكن من إقامة الصلوات وما زاد على ذلك مباح له وترك الأجود من الثياب والاكتفاء بما دون ذلك أفضل ، كما في الطعام لما روي عن { النبي أنه لبس يوما ثوبا معلما ثم نزعه وقال شغلني علمه عن صلاتي كلما وقع بصري عليه } ، وعن عمر رضي الله عنه أنه رفع ثوبه إلى عامله ليرقعه فزاد عليه ثوبا آخر وجاءه بالثوبين فأخذ عمر رضي الله عنه ثوبه ورد الآخر وقال ثوبك أجود وألين ، ولكن ثوبي أنشف للعرق ، وعن علي رضي الله عنه أنه كان يكره التزيي بالزي الحسن ويقول أنا ألبس من الثياب ما يكفيني لعبادة ربي فيه فعرفنا أن الاكتفاء بما دون الأجود أفضل له ، وإن كان يرخص له في لبس ذلك ثم حول الكلام إلى فصل آخر حاصله دار على فصل ، وهو أن مساعي أهل التكليف ثلاثة أنواع : نوع منها للمرء كالعبادات ، ونوع منها عليه كالمعاصي ، ونوع منها بينهما لا له ولا عليه ، وذلك المباحات في الأقوال والأفعال كقولك : أكلت أو شربت أو قمت أو قعدت وما أشبه ذلك هذا مذهب أهل الفقه رحمهم الله وقالت الكرامية مساعي أهل التكليف نوعان لهم وعليهم وليس شيء من مساعيهم في حد الإهمال لقوله تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } ، فقد قسم الأشياء قسمين لا فاصل بينهما إما الحق ، وهو ما يكون للمرء أو الضلال ، وهو ما على المرء وقال الله تعالى { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وما للتعميم فتبين بهذا أن جميع ما يكتسبه المرء له أو عليه وقال الله تعالى { من عمل صالحا فلنفسه } الآية فتبين بهذا أن عمله لا ينفك عن أحد هذين إما صالح أو سيئ ، وفي كتاب الله تعالى بيان أن جميع ما يتلفظ به المرء مكتوب قال الله تعالى { ما يلفظ من قول } الآية . وفيه بيان أن جميع ما يفعله المرء مكتوب قال الله تعالى { وكل شيء فعلوه في الزبر } ، وفيه دليل أنه يحضر جميع ما عمله في ميزانه عند الحساب قال الله تعالى { ووجدوا ما عملوا حاضرا } وما للتعميم فدل أنه ليس شيء من ذلك هملا والمعنى فيه من وجهين : أحدهما : أن مواثيق الله على عباده لازمة له في كل حال يعني من قوله تعالى { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } وقال عز وجل { وما خلقت الجن والإنس } الآية فإما أن يكون هو موقنا بهذا العهد والميثاق فيكون ذلك له أو تاركا فيكون عليه إذ لا تصور لشيء سوى هذا والدليل عليه أن المباح الذي تصورونه إما أن يكون من جنس ماله بأن يكون مقربا له مما يحل ويكون هو مأمورا به أو مبعدا له مما لا يحل فيكون ذلك له أو يكون مقربا له مما لا يحل أو مبعدا له مما يحل ويؤمر به فيكون ذلك عليه فعرفنا أن جميع مساعيه غير خارجة من أن تكون له أو عليه وحجتنا في ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم ، ومن بعدهم من التابعين والعلماء رحمهم الله اتفقوا على أن من أفعال العباد ما هو مأمور به أو مندوب إليه ، وذلك عبادة لهم ، ومنه ما هو منهي عنه ، وذلك عليهم ، ومنه ما هو مباح وما كان مباحا ، فهو غير موصوف بأنه مأمور به أو مندوب إليه أو منهي عنه فعرفنا أن هنا قسما ثالثا ثابتا بطريق الإجماع وليس ذلك للمرء ، ولا على المرء وما كان هذا بين القسمين الآخرين إلا لحكمة وهي أن يكون مهملا لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه ؛ لأن ما يكون له ، فهو مثاب عليه قال الله تعالى { ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون } الآية وقال الله تعالى { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } وما يكون عليه ، فهو معاقب على ذلك قال الله تعالى { وإن أسأتم فلها } أي فعليها وإذا كان في أفعاله وأقواله ما لا يثاب عليه ولا يعاقب عرفنا أنه مهمل والدليل عليه أن الله تعالى قال { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } . فالتنصيص على نفي المؤاخذة في يمين اللغو يكون تنصيصا على أنه لا يثاب عليه ، وإذا ثبت بالنص أنه لا يثاب عليه ولا يعاقب عرفنا أنه مهمل وقال الله تعالى { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } ، ولا إشكال أنه لا يثاب على ما أخطأ به ، وقد انتفت المؤاخذة بالنص فعرفنا أنه مهمل وقال { رفع عن أمتي ثلاث الخطأ والنسيان } الحديث معناه أن الإثم مرفوع عنهم ولا شك أنهم لا يثابون على ذلك ، فإذا ثبت بهذه النصوص أن ما لا ينال به المرء الثواب ، ولا يكون معاقبا عليه ، فإنه يكون مهملا لا يوصف بأنه يكون للمرء أو عليه ؛ لأن ما له خاص بما لا ينتفع به في الآخرة وما عليه خاص فيما يضره تجاه الآخرة ، وفي أفعاله وأقواله ما لا ينفعه ، ولا يضره في الآخرة فكان ذلك مهملا ثم اختلف الفقهاء رحمهم الله أن ما يكون مهملا من الأفعال والأقوال هل يكون مكتوبا على العبد أم لا قال بعضهم : إنه لا يكتب عليه ؛ لأن الكتابة لا تكون من غير فائدة والفائدة منفعته بذلك في الآخرة أو المعاقبة معه على ذلك فما يكون خارجا عن هذين الوجهين فلا فائدة في كتابته عليه وأكثر الفقهاء رحمهم الله على أن ذلك كله مكتوب عليه قال الله تعالى { ونكتب ما قدموا وآثارهم } الآية إلا أنهم قالوا بعد ما يكتب جميع ذلك عليه يبقى في ديوانه ما فيه جزاء خير أو شر ويمحى من ديوانه ما هو مهمل وبيانه في قوله تعالى { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال { إذا صعد الملكان بكتاب العبد فإن كان أوله وآخره حسنة يمحى ما بين ذلك من السيئات ، وإن لم يكن ذلك في أوله وآخره يبقى جميع ذلك عليه } ، والذين قالوا يمحى المهمل من الكتاب اختلفوا فيه قال بعضهم : إنما يمحى ذلك في الأثانين والأخمسة ، وهو الذي وقع عند الناس أنه تعرض الأعمال في هذين اليومين أي يمحى من الديوان فيهما ما هو مهمل ليس فيه جزاء وأكثرهم على أنه إنما يمحى ذلك يوم القيامة والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها ، وقد ذكره محمد رحمه الله في الكتاب أن النبي قال { الدواوين عند الله ثلاثة ديوان لا يعبأ به ، وهو ما ليس فيه جزاء خير أو شر وديوان مظالم العباد فلا بد فيه من الإنصاف والانتصاف ، والديوان الثالث ما فيه جزاء من خير أو شر } ، وهذا حديث صحيح مقبول عند أهل السنة والجماعة رحمهم الله ، ولكنهم اختلفوا في الديوان الذي لا يعبأ به قيل : هو المهمل الذي قلنا أنه ليس فيه جزاء خير ولا شر ، وقيل هو ما بين العبد وبين ربه مما ليس فيه حق العباد ، فإن الله تعالى عفو كريم قال الله تعالى { ما يفعل الله بعذابكم } الآية وقيل بل هو الصغائر ، فإنها مغفورة لمن اجتنب الكبائر قال الله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية ، فهو الديوان الذي لا يعبأ به وقيل المراد بأعمال الكبائر ما هو في صورة الطاعة ، فإنه لا يعبأ به إذا لم يؤمنوا أي لا ينفعهم ذلك لا الشرك غير مغفور لهم قال الله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ولا قيمة لأعمالهم مع الشرك قال الله تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا } الآية والأظهر هو القول الأول إن الذي لا يعبأ به . القسم الثالث الذي بينا أنه مباح ليس للمرء ، ولا عليه هذا الذي لا يعبأ به ، فإنه فسر ذلك بقوله ، وهو ما ليس فيه جزاء خير ، ولا شر وذكر في الكتاب عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { يمحو الله ما يشاء ويثبت } أن المراد محو بعض الأسماء من ديوان الأشقياء والإثبات في ديوان السعداء ، ومحو بعض الأسماء من ديوان السعداء والإثبات في ديوان الأشقياء وأهل التفسير رحمهم الله إنما يروون هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه ، كما روي عن وائل رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول في دعائه : اللهم إن كنت كتبت أسماءنا في ديوان الأشقياء فامحها من ديوان الأشقياء وأثبتها في ديوان السعداء ، فإنك قلت في كتابك وقولك الحق { يمحو الله ما يشاء ويثبت } الآية فأما ابن عباس رضي الله عنهما فالرواية الظاهرة عنه المحو والإثبات في كل شيء إلا في السعادة والشقاوة والحياة والموت ، ومن الفقهاء رحمهم الله من أخذ بالرواية الأولى وقال إنا نرى الكافر يسلم والمسلم يرتد والصحيح يمرض والمريض يبرأ ، وكذا نقول يجوز أن يشقى السعيد ويسعد الشقي من غير أن يتغير علم الله في كل أحد ولله الأمر من قبل ، ومن بعد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وعلى ذلك حملوا قوله تعالى { فمنهم شقي وسعيد } وأكثرهم على أن الصحيح الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنه أقرب إلى موافقة الحديث المشهور { السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه } وتأويل قوله تعالى { يمحو الله ما يشاء ويثبت } محوه لا يعبأ به من ديوان العبد مما ليس فيه جزاء خير ، ولا شر وإثبات ما فيه الخير على ما بينا من حديث عائشة رضي الله عنها { الدواوين عند الله ثلاثة } ولأجله أورد محمد رضي الله عنه هذا الحديث على أثر ذلك الحديث وقيل المراد محو المعرفة من قلب البعض وإثباتها في قلب البعض فيكون هذا نظير قوله تعالى { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } أو المراد المحو والإثبات في المقسوم لكل عبد من الرزق والسلامة والبلاء والمرض وما أشبه ذلك ثم روى حديث { الصديق رضي الله عنه حيث سأل رسول الله قال أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان } ، وقد روينا الحديث بتمامه زاد في آخر الحديث { فأما المؤمن فشكره إذا وضع الطعام بين يديه أن يقول بسم الله ، وإذا فرغ يقول الحمد لله } وهذه الزيادة لم يذكرها أهل الحديث في كتبهم ومحمد رضي الله عنه موثوق به فيما يروي ويحتمل أن يكون هذا من كلام محمد رضي الله عنه ذكره بعد رواية الحديث . وقد روي في معنى هذا عن رسول الله أنه قال { إذا وضع الطعام بين يدي المؤمن فقال بسم الله ، وإذا فرغ قال الحمد لله تحاتت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر كما يتحات ورق الشجر } وقال { الحمد لله على كل نعمة } وقال { لو جعلت الدنيا كلها لقمة فابتلعها مؤمن فقال الحمد لله كان ما أتى به خيرا مما أوتي } ، وهو كذلك ، فإن الله تعالى وصف الدنيا بالقلة والحقارة قال الله تعالى { قل متاع الدنيا قليل } وذكر الله تعالى أعلى وأطيب ، وفي قوله الحمد لله ذكر الله تعالى بطريق التعظيم والشكر فيكون خيرا من جميع الدنيا ( ثم قال ويكره للرجال لبس الحرير في غير حالة الحرب ) وهذه المسألة ليست من مسائل هذا الباب وهي مذكورة في مواضع من الكتب إلا أنها تليق بما تقدم ذكره من المسائل في هذا الكتاب ، فإنه صنف هذا الكتاب في الزهد على ما حكي أنه لما فرغ من تصنيف الكتب قيل له ، ألا صنفت في الزهد والورع شيئا فقال صنفت كتاب البيوع ثم أخذ في تصنيف هذا الكتاب فاعترض له داء فخف دماغه ، ولم يتم مراده ويحكى أنه قيل له فهرس لنا ما كنت تريد أن تصنف ففهرس لهم ألف باب كان يريد أن يصنفها في الزهد والورع ، ولهذا قال بعض المتأخرين رحمهم الله موت محمد رضي الله عنه واشتغال أبي يوسف بالقضاء قضى على أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه ، فإنه لولا ذلك لصنفا ما أتعب المتبعين ، وهذا الكتاب أو تصانيفه في الزهد والورع فذكر في آخره بعض المسائل التي تليق بذلك في مثل لبس الحرير والأصل فيه ما روي { أن النبي خرج ذات يوم والذهب بيمينه والحرير بشماله وقال هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها } ولبس الحرير للرجال في غير حالة الحرب مكروه ، وفي حالة الحرب كذلك في قول أبي حنيفة ، وفي قولهما إذا كان ثخينا يدفع بمثله السلاح فلا بأس بلبسه في حالة الحرب ، وأما ما يكون سداه غير حرير ولحمته حرير فلا يحل للرجال لبسه في غير حالة الحرب نحو القباء وما أشبه ذلك ، وقد تقدم بيان هذه الفصول في الكتب ( قال ، ولا بأس بأن يتخذ الرجل في بيته سريرا من ذهب أو فضة وعليه الفراش من الديباج يتجمل بذلك للناس من غير أن يقعد أو ينام عليه ، فإن ذلك منقول عن السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين ) روي أن الحسن أو الحسين رضي الله عنهما من تزوج منهما شاه بانوا على حسب ما اختلف فيه الرواة زينت بيته بالفرش من الديباج والأواني المتخذة من الذهب والفضة فدخل عليه بعض من بقي من أصحاب رسول الله ورضي عنهم فقال ما هذا في بيتك يا ابن رسول الله فقال : هذه امرأة تزوجتها فأتت بمثل هذه الأشياء ، ولم أستحسن منعها من ذلك وعن محمد بن الحنفية رضي الله عنه أنه زين داره ذلك هذا فعاتبه في ذلك بعض الصحابة رضي الله عنهم فقال إنما أتجمل للناس بهذه ولست أستعمله ، وإنما أفعل ذلك لكي لا يشتغل قلب أحد ، ولا ينظر إلى غير حماك فعرفنا أن هذا إذا اتخذه المرء على هذا القصد لم يكن به بأس ، وإن كان الاكتفاء بما دونه أفضل ويدخل هذا في معنى قوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الآية ، والذي قال لا يقعد عليه ، ولا ينام قول محمد أيضا فأما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه فلا بأس بالجلوس والنوم عليه ، وإنما المكروه اللبس والملبوس يصير تبعا للابس فأما ما يجلس أو ينام عليه فلا يصير تبعا له فلا بأس به ( قال ، ولا بأس أن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب ) قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام رضي الله عنه يقول : تحت اللفظ إشارة إلى أنه لا يثاب على ذلك ، فإنه قال لا بأس ، وهذا اللفظ لرفع الحرج لا لإيجاب الثواب معناه يكفيه أن ينجو من هذا رأسا برأس ، وهو المذهب عند الفقهاء رحمهم الله وأصحاب الظواهر يكرهون ذلك ويؤنبون من فعله قالوا ؛ لأن فيه مخالفة رسول الله فيما أخبر من الطريقة ، فإنه { لما قيل له : ألا نهد مسجدك ثم نبنيه فقال : لا عرش كعرش موسى أو قال عرش كعرش موسى وكان سقف مسجد رسول الله من جريد فكان ينكشف إذا مطروا حتى كانوا يسجدون في الماء والطين } وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمسجد مزين مزخرف فجعل يقول : لمن هذه البيع ؟ ، وإنما قال ذلك لكراهيته هذا الصنع في المساجد ، ولما بعث الوليد بن عبد الملك أربعين ألف دينار ليزين بها مسجد رسول الله فمر بها على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال المساكين أحوج إلى هذا المال من الأساطين والأصل فيه ما روي عن رسول الله أنه قال { من أشراط الساعة أن تزخرف المساجد وتعلى المنارات وقلوبهم خاوية من الإيمان } ، ولكنا نقول لا بأس بذلك لما فيه من تكثير الجماعة وتحريض الناس على الاعتكاف في المسجد والجلوس فيه لانتظار الصلاة ، وفي كل ذلك قربة وطاعة والأعمال بالنيات ثم الدليل على أنه لا بأس بذلك ما روي أن أول من بنى مسجد بيت المقدس داود عليه السلام ثم أتمه سليمان عليه السلام بعده وزينه حتى نصب على رأس القبة الكبريت الأحمر وكان أعز وأنفس شيء وجد في ذلك الوقت فكان يضيء من ميل وكن الغزالات يبصرن ضوءه بالليالي من مسافة ميل والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أول من زين المسجد الحرام بعد رسول الله وعمر بن الخطاب رضي الله عنه زين مسجد رسول الله وزاد فيه . وكذلك عثمان رضي الله عنه بعده بنى المسجد بماله وزاد فيه وبالغ في تزيينه فدل أن ذلك لا بأس به ، وأن تأويل ما روي بخلاف هذا ما أشار إليه في آخر الحديث { وقلوبهم خاوية من الإيمان } أي يزينون المساجد ، ولا يداومون على إقامة الصلاة فيها بالجماعة والمراد التزين بما ليس بطيب من الأموال أو على قصد الرياء والسمعة فعلى بعض ذلك يحمل ليكون جمعا بين الآثار ، وهذا كله إذا فعل المرء هذا بمال نفسه مما اكتسب من حله فأما إذا فعله بمال المسجد ، فهو آثم في ذلك ، وإنما يفعل بمال المسجد ما يكون فيه أحكام البناء فأما التزين فليس من أحكام البناء في شيء حتى قال مشايخنا رحمهم الله للمتولي أن يجصص الحائط بمال المسجد وليس له أن ينقش الجص بمال المسجد ، ولو فعله كان ضامنا ؛ لأن في التجصيص أحكام البناء ، وفي النقش على الجص تزيين البناء لا إحكامه فيضمن المتولي ما ينفق على ذلك من مال المسجد . ( قال : ألا ترى أن الرجل قد يبني لنفسه دارا وينقش سقفها بماء الذهب فلا يكون آثما في ذلك ؟ ) يريد به أن فيما ينفق على ذلك للتزين يقصد به منفعة نفسه خاصة ، وفيما ينفق على المسجد للتزين منفعته ، ومنفعة غيره ، فإذا جاز له أن يصرف ماله إلى منفعة نفسه بهذا الطريق فلأن يجوز صرفه إلى منفعته ومنفعة غيره كان أولى ، وقد أمرنا في المساجد بالتعظيم ، ولا شك أن معنى التعظيم يزداد بالتزيين في قلوب بعض الناس من العوام فيمكن أن يقال بهذا الطريق يؤجر هو على ما فعله ، وفي الحديث أن النبي قال { يثاب المؤمن على إنفاق ماله في كل شيء إلا في البنيان } زاد في بعض الروايات ما خلا المساجد فإن ثبتت هذه الزيادة ، فهو دليل على أنه يثاب فيما ينفق في بناء المسجد وتزيينه وعلى هذا أمر اللباس ، فإنه لا بأس للرجل أن يتجمل بلبس أحسن الثياب وأجودها ، فقد { كان لرسول الله جبة فنك علمها من الحرير فكان يلبسها في الأعياد وللوفود } إلا أن الأولى أن يكتفى بما دون ذلك في المعتاد منه لبسه على ما روي { أن ثوب مهنة رسول الله كان كأنه ثوب دهان } ، وكذلك لا بأس بأن يتسرى بجارية حسناء فإنه { مع ما كان عنده من الحرائر تسرى حتى استولد مارية أم إبراهيم رضي الله عنهما } وعلي رضي الله عنه مع ما كان عنده من الحرائر كان تسرى حتى استولد أم محمد بن الحنفية رضي الله عنه فعرفنا أنه لا بأس بذلك والأصل فيه قوله تعالى { قل من حرم زينة الله } الآية وقال : ولو أن الناس قنعوا بما دون ذلك وعمدوا إلى الفضول فقدموها لآخرتهم كان خيرا لهم والأصل فيه حديث أبي ذر رضي الله عنه : فإنه كان يتعلق بأستار الكعبة في أيام الموسم وينادي بأعلى صوته ، ألا من قد عرفني ، فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر جندب بن جنادة صاحب رسول الله وإن أحدكم إذا أراد سفرا استعد لسفره فما لكم لا تستعدون لسفر الآخرة وأنتم تتيقنون أنه لا بد لكم منه ، ألا ومن أراد سفرا في الدنيا فإن بدا له أن يرجع تمكن وإن طلب القرض وجد ، وإن استوهب ربما يوهب له ، ولا يوجد شيء من ذلك في سفر الآخرة وسئل يحيى بن معاذ رضي الله عنه ما لنا نتيقن بالموت ولا نحبه ؟ فقال : إنكم أحببتم الدنيا فكرهتم أن تجعلوها خلفكم ، ولو قدمتم محبوبكم لأحببتم اللحوق به فعرفنا أن الأفضل أن يكتفي من الدنيا بما لا بد له منه ويقدم لآخرته ما هو زيادة على ذلك مما اكتسبه ، ولكنه لو استمتع بشيء من ذلك في الدنيا بعد ما اكتسبه من حله لم يكن به بأس والقول بتأثيم من ينفق على نفسه وعياله مما اكتسبه من حله وأدى حق الله تعالى منه غير سديد إلا أن أفضل الطريق طريق المرسلين عليهم السلام وقد بينا أنهم اكتفوا من الدنيا بما لا بد لهم منه خصوصا نبينا فإنه { لما عرض عليه خزائن مفاتيح الأرض ردها وقال : أكون عبدا نبيا أجوع يوما وأشبع يوما ، فإذا جعت صبرت ، وإذا شبعت شكرت } ولكن مع هذا في بعض الأوقات قد كان يتناول بعض الطيبات حتى روي أنه قال يوما { ليت لنا خبز بر قد لت بسمن وعسل فنأكله فصنع ذلك عثمان رضي الله عنه وجاء به في قصعة فقيل : إنه ما تناول من ذلك والصحيح أنه تناول بعضه ثم أمر بالتصدق بما بقي منه } { ، وقد أهدي له جدي سمين مشوي فأكل منه مع أصحابه رضي الله عنهم } { وقد تناول مما أتى به من الشاة المسمومة } { وحين قدم بين يديه الجدي المشوي قال لبعضهم : ناولني الذراع } فبهذه الآثار تبين أنه كان يتناول في بعض الأوقات لبيان أن ذلك لا بأس به لنا وكان يكتفي بما دون ذلك في عامة الأوقات لبيان الأفضل على ما روي { أن عائشة رضي الله عنها كانت تبكي رسول الله وتقول يا من لم يلبس الحرير ولم يشبع من خبز الشعير } فصار الحاصل أن الاقتصار على أدنى ما يكفيه عزيمة . وما زاد على ذلك من النعم والنيل من اللذات رخصة وقال { إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، كما يحب أن تؤتى عزائمه } وقال { بعثت بالحنيفية السمحة ، ولم أبعث بالرهبانية الصعبة } فعرفنا أنه إن ترخص بالإصابة من النعم فليس لأحد أن يؤثمه في ذلك ، وإن ذم نفسه وكسر شهوته فذلك أفضل له ويكون من الذين يدخلون الجنة بغير حساب على ما روي أن رسول الله قال { إن الله تعالى وعدني أن يدخل سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب فقيل من هم يا رسول الله قال هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون } ، وفي رواية { ثم زادني معهم سبعين ألفا } ، وفي رواية { ثم أضعف لي مع الفريق الأول والآخر سبعين ألفا } ، وفي الحديث المعروف أن النبي قال { لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وإلى أي محل صرفه } ، فإذا صرف المال إلى ما فيه ابتغاء مرضاة الله تعالى كان الحساب والسؤال أهون عليه منه إذا صرفه إلى شهوات بدنه ( قال : والذي على المرء أن يتمسك به من الخصال التي يحمد عليها أشياء ) منها التحرز عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ومنها المحافظة على الفرائض والمداومة على ذلك في أوقاتها ، ومنها التحرز عن السحت واكتساب المال من غير حله ، ومنها التحرز عن ظلم كل أحد من مسلم أو معاهد فأما فيما وراء ذلك ، فقد وسع الله تعالى الأمر علينا فلا نضيق على أنفسنا ، ولا على أحد من المؤمنين ، قال محمد بن سماعة رضي الله عنه قال محمد بن الحسن رضي الله عنه وهذا الذي ثبت لك في الكتاب قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وغيرهم من أصحاب رسول الله ورضي عنهم أجمعين ، وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومن بعدهم من الفقهاء رحمهم الله وبذلك كله نأخذ والله تعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل . كتاب الرضاع قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء يوم الخميس الثاني عشر من جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وأربعمائة اختلف الناس في كتاب الرضاع هل هو من تصنيف محمد رحمه الله أم لا ؟ قال بعضهم : هو ليس من تصنيف محمد رحمه الله وإنما صنفه بعض أصحابه ونسبه إليه ليروج به ، وفي ألفاظه ما يدل على ذلك ، فقد ذكر في حرمة المصاهرة سبب الوطء الحرام قال : والتنزه عنه أفضل إن شاء الله تعالى ومحمد رحمه الله ما كان يصحح الجواب في مصنفاته في الأحكام خصوصا فيما فيه نص من الكتاب والسنة فعرفنا أنه ليس من تصنيفاته ، ولهذا لم يذكره الحاكم الجليل في المختصر وقال أكثرهم : وهو من تصنيفاته ، ولكنه من أوائل تصنيفاته ولكل داخل دهشة . وقد بينا فيما سبق أنه كان صنف الكتب مرة ثم أعادها إلا قليلا منها فهذا الكتاب من ذلك ؛ لأنه حين أعاد اكتفى في أحكام الرضاع بما أورد في كتاب النكاح واكتفى الحاكم رضي الله عنه أيضا بذلك فلم يفرد هذا الكتاب في مختصره قال رضي الله عنه : ولكني لما فرغت من إملاء شرح المختصر بحسب الإمكان والطاقة عند تحقق الحاجة والفاقة وأتبعته بإملاء كتاب الكسب رأيت الصواب اتباع ذلك بإملاء شرح هذا الكتاب ففيه بعض ما لا بد من معرفته وما يحتاج فيه إلى شرح وبيان ثم إنه بدأ الكتاب ببيان المحرمات من النساء فقال أسباب حرمة النساء ثلاثة النسب والصهر والرضاع والمحرمات بالنسب سبعة ، وذلك يتلى في قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } إلى قوله تعالى { وبنات الأخت } والمصاهرة كالنسب في ثبوت الحرمة المؤبدة بها بطريق الإكرام ، فإن الله تعالى جمع بينهما قال { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا } والمحرمات بالمصاهرة أربع ، وذلك يتلى في القرآن قال الله تعالى { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } وقال تعالى { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } وقال عز وجل { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } ثم حرم بالرضاع مثل هذا العدد الذي حرم بالنسب والصهر وثبوت الحرمة بسبب الرضاع منصوص في قوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } وبين رسول الله ذلك بقوله { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } وزعم بعض العلماء رحمهم الله أن طريق معرفة هذه المحرمات النص خاصة ، ولو خلينا والقياس لم نقل بشيء من هذه المحرمات ، فإن الإناث خلقن للذكور ، وهذا محل النكاح باعتبار أنهن مكان حرث للولد وأن التناسل بين الذكور والإناث وبهذه الأسباب لا يختل هذا المعنى والأصح أن نقول هذه المحرمات ثابتة بالنص وهي مستحسنة في عقول العقلاء أيضا عند رفض العادات السيئة والعاقل يحرص على حماية أمه وابنته وأخته ودفع العار والشنار عنهما ، كما يحرص على دفع ذلك عن نفسه ، والمقصود بالنكاح الاستعراض للوطء والعاقل يأنف من ذلك الفعل في أمه وابنته كما يأنف من ذلك في نفسه . ( ألا ترى ) أن الله تعالى أشار إلى ذلك في الأخبار عن الذين لم يعرفوا الشريعة وكانوا عقلاء فقال جل وعلا { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } إلى قوله تعالى { أيمسكه على هون أم يدسه في التراب } ، فإذا كان يأنف من ذلك كيف يستجيز من نفسه أن يباشر فعله وكذا يأنف من ذلك في حق امرأة أبيه التي ربته وهي بمنزلة أمه باعتبار التربية ، وفي حق امرأة ابنه التي هي له بمنزلة الولد ، والمتولد منها يكون ولدا له ، وكذلك يأنف من ذلك باعتبار الرضاع الذي هو أحد سببي الكون ، فإن النشر والتسوية يحصل به ، ولهذا كانوا في الجاهلية يعظمون أمر الرضاع ، كما يعظمون أمر النسب ثم بسبب النسب تتمكن بينهما العصبية أو شبه العصبية وإليه أشار رسول الله في قوله { أولادنا أكبادنا } وقال { إن فاطمة بضعة مني إلا ما كان لآدم صلوات الله عليه } ، وقد كان ذلك بطريق الكرامة لكون الأصل الأول واحدا كما قال تعالى { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } ثم شبهة العصبية تعتبر بحقيقة العصبية ، وفي المصاهرة شبهة العصبية باعتبار الواسطة ، وفي الرضاعة شبهة العصبية باعتبار البنوة وإليه أشار في قوله { الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم } ثم بين نوعا آخر من الحرمة فقال ، ومن ذلك ما حرم بالكفر قال الله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ، وهذا في المعنى ليس نظير ما تقدم فتلك حرمة مؤبدة وهذه حرمة مؤقتة إلى غاية هي الإسلام ، وهذا النوع من الحرمة سبعة أيضا : أحدهما : إذا كان تحت الرجل امرأة فأختها محرمة عليه إلى غاية وهي أن يفارقها ، وكذلك ما في معنى الأخت كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت ثبت ذلك بقوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } وبقوله { لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا على خالتها ، ولا على ابنة أختها ، ولا على ابنة أخيها } . والثانية : إذا كان تحته أربعة نسوة فالخامسة محرمة عليه إلى أن يفارق إحدى الأربع ثبت ذلك بقوله تعالى { مثنى وثلاث ورباع } وبإجماع الجمهور من علماء المسلمين رحمهم الله على حرمة الجمع بين أكثر من أربع نسوة . والثالثة : إذا كان تحته حرة فالأمة محرمة عليه إلى غاية وهي أن يفارق الحرة ثبت ذلك بقوله { لا تنكح الأمة على الحرة } وهي حرمة ثابتة شرعا عندنا لا لحق المرأة حتى إنها وإن رضيت لم تحل إلا على قول مالك رضي الله عنه ، فإنه يقول إذا رضيت الحرة جاز وذكر في الكتاب هذا القول منسوبا إلى بعض العلماء ومراده مالك رضي الله عنه . والرابعة : إذا وطئ امرأة بشبهة فأختها محرمة عليه إلى غاية وهي انقضاء عدة هذه باعتبار أن العدة حق من حقوق النكاح كأصل النكاح في إيجاب الحرمة كما يجعل الرضاع بمنزلة النسب في إيجاب الحرمة . والخامسة : منكوحة الغير أو معتدة الغير ، فإنها محرمة عليه إلى غاية وهي انقضاء العدة ثبت ذلك بقوله تعالى { والمحصنات من النساء } أي أخوات الأزواج وبقوله عز وجل { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } . والسادسة : مكاتبة الرجل ، فإنها محرمة عليه لا يطؤها بالملك إلى أن تعتق بالأداء فينكحها أو تعجز فيطأها بالملك . والسابعة : المشركة فهي محرمة على المؤمن . وزعم مالك رضي الله عنه أن نكاح المشركة لا يجوز لمشرك ولا للمسلم فكان يقول ببطلان أنكحة المشركين أهل الشرك منهم ، وهو باطل عندنا ، فإن الله تعالى قال { وامرأته حمالة الحطب } ، فلو لم يكن بينهما نكاح لما سماها امرأته وقال { ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح } ، ولم يفرق رسول الله بين أحد ممن أسلم وبين زوجته حين أسلمت معه ، ولم يأمرهما بتجديد العقد بل أقرهما على النكاح فعرفنا أن للأنكحة فيما بينهم حكم الصحة ، وإن نكاح المشركة حرام على المسلم خاصة لخبثها وكرامة المسلم ففيه معنى الصيانة له عن فراش الخبيثة وبالنكاح ثبت الازدواج ، وإنما يتحقق ذلك بين المتساويين أو متقاربي الحال ، ولا مساواة بين المشركة والمسلم فكانت محرمة عليه إلى أن يؤمن . ( قال ثم إن الله تعالى أحل نساء أهل الكتاب في قوله عز وجل { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ) فأحل نساء أهل الكتاب من جملة أهل الكفر وترك باقي أهل الكفر على التحريم في قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ، ومن الناس من قال هذا الكلام مختل ، فإن اسم المشركة لا يتناول الكتابية حتى يقال إنها خرجت من هذه الحرمة بالنص . ( ألا ترى ) أن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب ؟ فقال عز وجل { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } ، وإنما يعطف الشيء على غيره ، ولكنا نقول ما ذكره الكتاب صحيح ، فإن أهل الكتاب في الحقيقة مشركون وإن كانوا يدعون التوحيد ، قال الله تعالى { وقالت اليهود عزير ابن الله } إلى قوله عز وجل { سبحانه عما يشركون } وعطف المشركين على أهل الكتاب لا يدل على أنهم غير مشركين قال الله تعالى { والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } فقد عطف أهل الشرك على المجوس والمجوس مشركون تتناولهم الجهة الثابتة في قوله عز وجل { ولا تنكحوا المشركات } فعرفنا أن أهل الكتاب خصوا من هذه الحرمة بالنص وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يخص أهل الكتاب من هذه الحرمة وكان يقول معنى قوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } اللاتي أسلمن من أهل الكتاب ولسنا نأخذ بهذا فعلى هذا التأويل لا يبقى للآية فائدة ؛ لأن نكاح المسلمة حلال للمسلم سواء كانت كتابية وأسلمت أو لم تكن ، وإنما المراد بقوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } العفائف منهن أو الحرائر منهن والله أعلم بالصواب . باب تفسير التحريم بالنسب وهو ما نصه الله تعالى في كتابه وما حرمته السنة وأجمع عليه المسلمون فأما ما نص الله تعالى في كتابه فتحريم الأم وحرمت السنة والإجماع أم الأم وأم الأب ، وإن بعدت من قبل الأمهات كانت أو من قبل الآباء وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله أن ثبوت حرمة الجدات بالنص أيضا فاسم الأم يتناول الجدات قال الله تعالى { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } فدل على أن الجدة أم ، وإن الجواب ما ذكره في الكتاب وهو أصح ، فإن اسم الأم يتناول الجدة مجازا حتى ينفي عنها هذا الاسم بإثبات غيره فيقال : إنها جدة وليست بأم ، ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز من أداتي لفظ واحد فإن قيل : لا كذلك فمن أصول علمائنا رحمهم الله الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد حتى إذا حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها حافيا أو منتعلا ماشيا أو راكبا كان حانثا في يمينه ، وهذا اللفظ للنهار حقيقة ويتناول الليل مجازا وقال في السير الكبير إذا استأمن الحربي على بنيه دخل في الأمان بنو بنيه مع بنيه لصلبه والاسم لبنيه حقيقة ولبني بنيه مجاز قلنا : لا كذلك فالحقيقة استعمال الشيء في موضعه والمجاز استعارة الشيء واستعماله في غير ما وضع له ولا يتصور أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في موضعه ومستعارا كما لا يتصور أن يكون الثوب على اللابس ملكا له وعارية في يده في حالة واحدة فأما إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان فذلك عبارة عن الدخول علم ذلك بالعرف ثم يحنث في الوجوه كلها ؛ لأنه دخول لا لاعتبار الحقيقة والمجاز ، وكذلك اليوم فيما لا يمتد عبارة عن الوقت الذي هو ظرف له فيحنث في الوجهين لوجود وقت القدوم لا للحقيقة والمجاز ، فلهذا قلنا إن فيما يمتد يحمل ذكر اليوم على بياض النهار ليكون معيارا له ، وفي مسألة الأمان روايتان كلاهما في السير . وفي القياس لا يدخل بنو الابن ، وإنما أدخلهم استحسانا ؛ لأن أمر الأمان مبني على التوسع وأدنى الشبه يكفي لإثباته والسبب الداعي له إلى طلب هذا الأمان شفقته عليهم وشفقته على بنيهم كشفقته على بنيه ، فلهذا أدخلهم في إحدى الروايتين ، فإذا ثبت أنه لا يراد باللفظ الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عرفنا أن حرمة الجدات ثبتت بالسنة والإجماع ، كما أشار إليه وعلى هذا حرمة الابنة ثابتة بالنص وحرمة ابنة البنت وابنة الابن ثابتة بالإجماع والسنة قال وحرم الله تعالى الأخوات وبنات الأخت وبنات الأخ بالنسب وحرمت السنة أسفل من ذلك من ولد الأخت والأخ إلى أسفل الدرجة وحرم الله تعالى العمة بالنسب وحرمت السنة والإجماع أم العمة ، وإن كانت أمها أم الأب أو غير أم الأب ؛ لأن العمة إن كانت لأب وأم أو لأم ، فإن العمة أمها أم الأب وهي محرمة عليه ، وإن كانت العمة لأب فأمها امرأة أب الأب وهي محرمة بقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وأقامت السنة امرأة الجد مقام امرأة الأب ، وعمة العمة حرام إذا كانت العمة لأب وأم أو لأب ؛ لأنها أخت أبي الأب ؛ لأن العمة بمنزلة الأم ، كما أن العم بمنزلة الأب قال الله تعالى { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل } ، وهو كان عما وقال { لا تؤذوني في بقية آبائي } يعني العباس رضي الله عنه ، فإذا كانت العمة بمنزلة الأم أو الأب فعمة العمة بمنزلة عمة الأب ، فإذا كانت العمة أخت الأب لأم فعمة عمتها ليست بمحرمة ؛ لأن أباها رجل أجنبي ليس بذي رحم محرم ، وحرم الله تعالى الخالة وحرمت السنة والإجماع أم الخالة ؛ لأن أم الخالة هي الجدة أم الأم ، وإن كانت لأب فأم الخالة امرأة أب الأم والجدة بالسنة قائمة مقام الأب فامرأة الجد أبي الأم كامرأة الأب في الحرمة وخالة الخالة محرمة عليه إذا كانت الخالة لأب وأم أو لأب ، كما بينا في عمة العمة فإن كانت لأب الخالة فخالتها تكون أجنبية عنها على نحو ما ذكرنا في عمة العمة فأما ابنة العم وابنة العمة وابنة الخالة وابنة الخال فمن جملة المحللات ، وذلك يتلى في سورة الأحزاب قال الله تعالى { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك } ويتلى في سورة النساء أيضا ، فإن الله تعالى بين المحرمات ثم قال { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فما تناوله نص التحريم تناوله هذا النص وقوله تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم } . ومنكوحة الأب من جملة المحرمات على الابن وعلى ابن الابن ، وإن سفل باعتبار السنة والإجماع ويستوي إن دخل بها أو لم يدخل بها ؛ لأنها مبهمة في كتاب الله وقال ابن عباس رضي الله عنهما أبهموا ما أبهمه الله تعالى ، وكذلك أمهات النساء فأما الربائب فلا يحرمن إلا بالدخول بالأم قال الله تعالى { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } والحجر ليس بشرط ، وذلك ثابت في قوله تعالى { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } وذكر الحجر في قوله { وربائبكم اللاتي في حجوركم } بطريق العادة لا أن يكون الحجر مؤثرا في هذه الحرمة . ( ألا ترى ) أن الإنسان قد يكون في بيته امرأة لها ولد يعولها وينفق عليها ثم يتزوج الابنة إذا كبرت فيجوز ذلك ؛ لأن أمها لم تكن في نكاحه ، وإن كانت هي في حجره فعرفنا أنه لا تأثير للحجر وأنه مذكور على طريق العادة بمنزلة قوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } والمباشرة حرام على المعتكف في المسجد كان أو في غير المسجد ، وذكر المساجد للعادة إذ الاعتكاف في العادة يكون في المساجد . وحليلة الابن من النسب حرام بالنص وزعم بعض أهل العلم أن حليلة الابن من الرضاعة لا تكون حراما للقيد المذكور في قوله تعالى { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } ولكن نقول حليلة الابن من الرضاعة كحليلة الابن من النسب ثبت بقوله { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } والمراد بقوله عز وجل من أصلابكم يعني حرمة حليلة الابن من التبني ، فقد كان التبني معروفا فيما بين أهل الجاهلية وكان مشروعا في الابتداء ثم نسخه الله تعالى بقوله { ادعوهم لآبائهم } ، { وتبنى رسول الله زيد بن حارثة ثم تزوج زينب امرأة زيد بعد ما فارقها } ، وفيه نزل قوله تعالى { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله } فالمراد بالتقييد نفي حرمة حليلة الابن من التبني ثم تحريم حليلة ابن الابن ، وإن سفل بالسنة والإجماع فإن قيل : كيف ثبت ذلك مع قوله عز وجل { الذين من أصلابكم } ، فإن ابن ابنه ليس من صلبه ؟ قلنا لا كذلك بل يتناوله هذا الاسم باعتبار أن أصله من صلبه قال الله تعالى { هو الذي خلقكم من تراب } والمخلوق من التراب هو الأصل والله أعلم وما سوى هذا من المسائل المذكورة إلى تفسير لبن الفحل قد تقدم بيانه في كتاب النكاح وبعض هذه الفصول قد تقدم بيانه هناك أيضا ، فلهذا لم تستقص هنا والله أعلم بالصواب

. باب تفسير لبن الفحل ( قال رحمه الله ) ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرجل يكون له امرأتان أو أمتان قد ولدتا منه فترضع إحداهما صبيا والأخرى صبية قال ابن عباس رضي الله عنهما اللقاح واحد وبه نأخذ فنقول تحرم المناكحة بين هذين الصبيين بسبب الأخوة لأب من الرضاع ، ومن العلماء من يقول لا تثبت فقالوا حرمة الرضاع إنما تثبت من جانب الآباء فما لم يجتمع صغيران على ثدي واحد لا تثبت بينهما الأخوة من الرضاعة ، وهذا ؛ لأن السبب هو الإرضاع ، وإنما يتحقق ذلك من جهة النساء دون الرجال وثبوت الحرمة بسبب البعضية تشبه حرمة اللبن لقرب بعضها إلى بعض ولو باشر الرجل الإرضاع بأن نزل اللبن في ثندوته فأرضع صبيين لا تثبت الأخوة بينهما فبإرضاع غيره كيف تثبت الأخوة في جانبه وحجتنا في ذلك حديث عروة { عن عائشة رضي الله عنها أن أفلح بن أبي قعيس استأذن عليها فسألت رسول الله عن ذلك فقال ليلج أفلح ، فإنه عمك من الرضاعة فقالت إنما أرضعتني المرأة دون الرجل فقال ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة } ، وفي حديث آخر { عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان في بيتها فسمعت صوت رجل يستأذن على حفصة رضي الله عنها فقالت يا رسول الله هذا رجل يستأذن على حفصة فقال ما أحسبه إلا بداح عمها من الرضاعة فقالت : أرأيت لو كان فلان عمي من الرضاعة حيا أكان يدخل علي فقال نعم } ، ولأن النبي شبه الرضاعة بالنسب والحرمة بالنسب تثبت من الجانبين فكذلك سبب الإرضاع ؛ لأن وطء الزوج ، كما كان سببا لولادتها كان سببا لنزول اللبن لها وما ينزل من ثندوة الرجل ليس بلبن على الحقيقة ؛ لأن اللبن إنما يتصور ممن تتصور منه الولادة وعلى هذا نقول في الأخوين إذا أرضعت امرأة أحدهما صبية فليس للأخ الآخر أن يتزوجها ؛ لأنها ابنة أخيه والأصل فيه ما روي { أن عليا رضي الله عنه لما عرض ابنة حمزة على رسول الله قال إنها ابنة أخي من الرضاعة } ولو أرضعت امرأتا أخوين كل واحدة منهما رضيعا أحدهما صبي والأخرى صبية تجوز المناكحة بينهما ؛ لأن الصغيرة ابنة عم الصغير من الرضاعة وابنة العم من النسب حلال فكذلك من الرضاعة ولو أرضعت امرأة صغيرتين فكبرا ثم إن أحدهما تزوج ابنة صاحبه لم يجز ؛ لأنها ابنة أخيه من الرضاعة والأصل فيه أنه { لما عرض على رسول الله زينب بنت أبي سلمة قال لو لم تكن ربيبتي في حجري كانت تحل لي أرضعتني وإياها ثويبة } قال : ولو أن رجلا له ابن وابنة فجاءت امرأة أخيه فأرضعت الابن والابنة جميعا لم يكن للابن الذي أرضعته المرأة أن يتزوج أحدا من ولد تلك المرأة قبل الرضاع أو بعده من بنات العم كن أو من غيره وامرأة الأخ والأجنبية في هذا سواء ، فإنهما لما اجتمعا على ثدي واحد ثبتت الأخوة بين هذا الابن والابنة وبين جميع أولاد الرجل ما كان من هذه المرأة أو من غيرها من النساء أو السراري كان قبل الرضاع أو بعده بخلاف ما وقع عند الجهال أن الحرمة إنما تثبت بينهما وبين الأولاد الذين يحدثون بعد ذلك دون ما انفصلوا قبل الإرضاع ، وهذا ؛ لأن ثبوت هذه الحرمة تثبت الأخوة وهو يجمع الكل ، ولم يكن لأحد من ولد الرجل ، ولا من ولد المرأة من يتزوج تلك الجارية ، ولا ولد ولدها ، ولا لولد ولد العم أن يتزوجوا تلك الجارية ، فإنهم أخوة أولاد أخوة وأخوات فإن كان للجارية المرضعة ولد وللغلام المرضع ولد ولأولاد المرضعة التي أرضعتها أولاد ولأولاد زوجها أولاد جازت المناكحة فيما بينهم ؛ لأن الأنثى منهم ابنة عم للذكر من الرضاعة قال : ولو أن رجلا له ابن فأرضعت امرأة ذلك الولد لم يكن للولد أن يتزوج أحدا من ولد تلك المرأة ولا من ولد خاله ما كان قبل الرضاع أو بعده إذا كان اللبن من الخال فإن كان من غيره حرم ولد المرأة عليه ، ولم يحرم ولد الخال من غيرها لانعدام سبب الحرمة بينه وبينها ولو أن رجلا له امرأتان فأرضعت إحداهما صبية والأخرى صبيا لم يكن لأخي ذلك الرجل لأب وأم أو لأب أو لأم أن يتزوج تلك الصبية ؛ لأنها ابنة أخيه ، ولا لعمه أن يتزوجها ؛ لأنها ابنة ابن أخيه ، ولا لابن ذلك الرجل ، ولا لابن ابنه ، وإن سفل أن يتزوجها ؛ لأنها عمته من الرضاعة ، وكذلك لا يجوز لخال ذلك الرجل أن يتزوجها ؛ لأنها بنت ابن أخته ، ولا يجوز لهذا الصبي المرضع أن يتزوج أم المرضعة ولا جدتها ولا أختها ولا خالتها ولا عمتها اعتبارا للرضاع بالنسب وإذا أرضعت امرأة صبية لم يكن لابنها ولا لابن ابنها ولا لابن ابنتها أن يتزوجها ؛ لأنها أخته وعمته ولو أن امرأة أرضعت صبيا فكبر ذلك الصبي وتزوج امرأة ثم فارقها قبل الدخول أو بعده لم يكن لزوج المرضعة أن يتزوج تلك المرأة ؛ لأنها حليلة ابنه من الرضاعة ، وقد بينا أنه يحرم حليلة الابن من الرضاعة كما يحرم من النسب ، وقد قال بعض أهل العلم : إنها لم تحرم ؛ لأن النبي قال { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } قال وليس بينه وبين امرأة ابنه نسب ، وإنما حرمت على الأب بسبب النسب وليس في الحديث يحرم من الرضاع ما يحرم بسبب النسب ولكن نقول معنى الحديث أن الحرمة بسبب الرضاع تعتبر بحرمة النسب وهذه الحرمة تثبت بالنسب فكذلك بالرضاع قال وأكثر أهل العلم على هذا والتنزه عنها أفضل وبمثل هذا الكلام يستدل على أن الكتاب ليس من تصنيف محمد رضي الله عنه قال : وإذا نزل للبكر لبن فأرضعت صبيا ، فإنها تكون أمه من الرضاعة ؛ لأن السبب وهو الإرضاع قد تحقق ، فإن قيل : كيف يتصور أن تكون أما وهي بكر ؟ وكما لا تتصور الأمية من حيث النسب مع بقاء صفة البكارة فكذلك لا تتصور الأمية من الرضاعة مع بقاء صفة البكارة قلنا هذا تلبيس ، فإن الحكم مبني على السبب والأمية من النسب سببية الولادة ، ولا تتصور الولادة مع بقاء صفة البكارة وتتصور الأمية من الرضاع مع بقاء صفة البكارة وثبوت الحكم يتقرر بسببه ولو أن امرأة طلقها زوجها أو مات عنها فأرضعت صبيا بعد انقضاء عدتها ، فإنها تثبت حرمة الرضاع بين هذا الصبي وبين زوجها بمنزلة ما لو كان الإرضاع في حال قيام النكاح بينهما ؛ لأن سبب نزول اللبن لها كان وطء ذلك الزوج فما بقي ذلك اللبن يكون مضافا إلى ذلك السبب فإن تزوجت بعد ذلك ثم أرضعت صبيا فكذلك الجواب ما لم تحبل من الثاني ؛ لأن التزوج ليس سببا لنزول اللبن لها فوجوده كعدمه فإن حبلت من الثاني ثم أرضعت صبيا فكذلك الجواب عند أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تثبت الحرمة بين الصبي والزوج الأول ما لم تلد من الثاني فإن ولدت من الثاني ثم أرضعت فحينئذ يكون حكم الرضاع للثاني ، وعند أبي يوسف رضي الله عنه إذا ازداد لبنها بسبب الحبل ، فهو وما لو ولدت سواء في أنه تثبت الحرمة من الثاني وينقطع حكم الأول ، وعند محمد رضي الله عنه تثبت الحرمة منهما جميعا استحسانا ؛ لأن الاحتياط في باب الحرمة واجب ، وقد علمنا أن أصل الابن من الأول وازداد سبب الحبل من الثاني فيجعل بمنزلة ما لو خلط امرأتان اللبن بأن حلبتا لبنهما وأوجرتا صبيا وأبو يوسف رحمه الله يقول : لما حبلت من الثاني ونزل لها اللبن كان هذا ناسخا للسبب الذي كان من الزوج الأول ؛ لأنه اعترض عليه ما هو مثله أو أقوى منه وأبو حنيفة رحمه الله يقول : نزول اللبن في العادة إنما يكون بعد الولادة فما لم تلد من الثاني لا ينسخ السبب الأول ، وهذا ؛ لأن كون اللبن من الأول متيقن به وهذه الزيادة يحتمل أن تكون بسبب الحبل من الثاني ويحتمل أن تكون بقوة طبعها واليقين لا يزول بالشك ولو أخذ لبن امرأة في قارورة ثم ماتت المرأة فأوجر بعد موتها صبيا تثبت الحرمة بين هذا الصبي وبينها عندنا ، وللشافعي قول : أن حرمة الرضاع لا تثبت بالإيجار أصلا ، وهذا باطل فإن ثبوت الحرمة بشبهة البعضية ، وفي هذا لا فرق بين الإيجار وبين الارتضاع من الثدي وعلى القول الظاهر إذا حلب لبنها وهي حية في قارورة ثبت حرمة الرضاع بإيجار هذا اللبن صبيا سواء أوجر قبل موتها أو بعد موتها ، فأما إذا ماتت المرأة وفي ثديها لبن فارتضع صبي منها أو حلب اللبن بعد موتها فأوجر به صبي عندنا ثبتت الحرمة أيضا ، وعنده لا تثبت لأصلين له : أحدهما : أن اللبن يتنجس بالموت عنده ؛ لأن فيه حياة فيحيله الموت والثاني : أن الحرام عنده لا يحرم الحلال وعندنا لا حياة في اللبن . ( ألا ترى ) أنه يحلب من الحي فلا يتنجس به وما فيه حياة إذا بان من الحي ، فهو ميت والثاني أن الحرمة لا تمنع حكم الرضاع بمنزلة لبن وقع فيه قطرة خمر فأوجره صبي ، وهذا ؛ لأن الحرمة باعتبار شبهة البعضية وبالموت لا تنعدم ؛ لأن اللبن وإن تنجس بالموت ، فهو غذاء يحصل به إنبات اللحم وانتشار العظم ، كما أن اللحم بالموت لا يخرج من أن يكون غذاء ، وإن تنجس والسعوط والوجور موجب للحرمة بمنزلة الارتضاع من الثدي عندنا خلافا للشافعي ، وهذا بناء على الأصل الذي بينا في كتاب النكاح أن عنده يعتبر العدد في الرضعات ليحصل به إنبات اللحم وانتشار العظم ، وهذا بالسعوط والوجور لا يحصل ، وعندنا لا يعتبر العدد وإنما يعتبر وصول اللبن إلى باطنه على وجه تحصل به التربية ، وذلك بالسعوط والوجور يحصل ، فإنه يصل إلى الدماغ والدماغ أحد الجوفين ولو صب اللبن في أذن صبي أو صبية ، فإنه لا تثبت به الحرمة وكذلك لو احتقن صبي بلبن امرأة عند محمد رحمه الله أنه تثبت الحرمة في الموضعين جميعا ؛ لأنه يصل اللبن إلى أحد الجوفين . ( ألا ترى ) أن الصوم يفسد بهذا ، وفي ظاهر الرواية يقول : معنى إنبات اللحم إنما يصل بما يصل إلى جوفه من الجانب الأعلى لا من الجانب الأسفل وثبوت الحرمة باعتبار هذا المعنى ثم ذكر ما إذا جعل لبن امرأة في دواء أو طعام وما يكون من الإرضاع بعد مضي الحولين ، وقد بينا هذه الفصول في كتاب النكاح ولو أن صبيين شربا من لبن شاة أو بقرة لم تثبت به حرمة الرضاع ؛ لأن الرضاع معتبر بالنسب ، وكما لا يتحقق النسب بين آدمي وبين البهائم فكذلك لا تثبت حرمة الرضاع بشرب لبن البهائم وكان محمد بن إسماعيل البخاري صاحب التاريخ رضي الله عنه يقول تثبت الحرمة وهذه المسألة كانت سبب إخراجه من بخارى ، فإنه قدم بخارى في زمن أبي حفص الكبير رحمه الله وجعل يفتي فنهاه أبو حفص رحمه الله وقال لست بأهل له فلم ينته حتى سئل عن هذه المسألة فأفتى بالحرمة فاجتمع الناس وأخرجوه ( قال : والرضاع في دار الإسلام ودار الحرب سواء في ثبوت الحرمة على قياس النسب ، فإن الأنساب تثبت في دار الحرب فكذلك حكم الرضاع ) ولو أن رجلا تزوج صبية فأرضعت الصبية أم الرجل من النسب أو من الرضاع أو أخته فهذه المسألة تشتمل على أحكام أربعة : حكم الحرمة وحكم وجوب الصداق وثبوت الرجوع على المرضعة ، وحرمة التزوج ، أما حرمة الفرقة فنقول : وقعت الفرقة بينهما بسبب الرضاع ؛ لأنها صارت أخت الزوج ، وإذا ثبتت له أختيته يغرم لها نصف الصداق " ؛ لأن فعل الصبي غير معتبر شرعا في بناء الحكم عليه ، وإنما وقعت الفرقة من جهتها قبل الدخول فيكون لها نصف الصداق ويرجع به على التي أرضعتها إن كانت تعمدت الفساد ، وإن لم تتعمد الفساد فلا شيء عليها إلا في رواية عند محمد أنه يرجع عليها على كل حال ؛ لأنها تسببت في تقرير نصف الصداق عليه وكان بعرض السقوط فكأنها ألزمته ذلك ومجرد التسبب عند محمد سبب لوجوب الضمان ، كما قال فيمن فتح باب القفص فطار الطير ، وعندنا التسبب إنما يكون موجبا للضمان إذا كان المسبب متعديا في التسبب ، ولم يطرأ عليه مباشرة فأما إذا لم يكن متعديا أو طرأ عليه مباشرة من مختار لم يكن موجبا للضمان وهنا إذا تعمدت الفساد فهي غير متعدية في التسبب ؛ لأنه إذا كان يخاف الهلاك على الرضيع فإرضاعه مندوب إليه أو مأمور فلا يكون تعديا ، ولا طريق لمعرفة تعمدها الفساد إلا بالرجوع إليها فيقبل قولها في ذلك ؛ لأن ما يكون في باطن المرء لا يوقف عليه إلا من جهته فيقبل قوله في ذلك فإن قالت تعمدت الفساد ضمنت وإلا فلا شيء عليها ثم لا يحل له أن يتزوجها أبدا ؛ لأنها صارت أخته أو ابنة أخته ، ولو كانت أرضعت هذه الصبية خالة الرجل أو عمته لم يحرم عليها ؛ لأنها صارت ابنة خالته أو ابنة عمته وابتداء المناكحة بينهما يجوز فالبقاء أولى ، وإن أرضعتها امرأة أبيه فإن كان لبنها من أبيه حرمت عليه ؛ لأنها صارت أخته لأبيه ، وإن كان لبنها من غير أبيه لم تحرم عليه ، وكذلك لو أرضعتها امرأة أخيه أو امرأة ابنه ( قال ، ولو أن رجلا له امرأتان صغيرة وكبيرة فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة بانتا جميعا ؛ لأنهما صارتا أختين من الرضاعة ثم يكون للكبيرة جميع الصداق إن كان دخل بها ، وإن كان لم يدخل بها فلها نصف الصداق ) ؛ لأن الفرقة وقعت لا بسبب من جهتها وللصغيرة أيضا نصف الصداق لما بينا ويرجع بما غرم لها قبل الدخول على المرضعة إن تعمدت الفساد ، وإن لم تتعمد لم يرجع عليها بشيء كما في الفصل الأول ، وإن كان قد دخل بالكبيرة لم يرجع عليها بشيء من مهرها على كل حال ، ثم إن كان لم يدخل بالكبيرة فله أن يتزوج من ساعته أيتهما شاء ولا يجمع بينهما وليس له أن يتزوج المرضعة ؛ لأنها أم امرأته ، وإن كان قد دخل بالكبيرة فليس له أن يتزوج الصغيرة ما لم تنقض عدة الكبيرة ؛ لأنها أخت معتدته وله أن يتزوج الكبيرة ؛ لأن الصغيرة ليست في عدته والكبيرة تعتد منه وعدته لا تمنع نكاحه وبعد انقضاء عدة الكبيرة له أن يتزوج أيتهما شاء وليس له أن يتزوج أم الكبيرة ولا واحدة من حذائها من قبل الأم أو من قبل الأب ، وإن كانت ابنة الكبيرة أرضعت الصغيرة فإن كان قد دخل بالكبيرة ، فقد حرمتا عليه ؛ لأن الصغيرة صارت ابنة بنت الكبيرة والجمع بين الجدة والنافلة في النكاح حرام ثم بمجرد العقد على الصغيرة تحرم جدتها عليه على التأبيد ، كما تحرم أمها والدخول بالجدة يحرم ابنة الابنة عليه على التأبيد فليس له أن يتزوج واحدة منهما قط ، ولا للمرضعة أيضا ؛ لأنها من وجه أم امرأته ، ومن وجه ابنة المرأة التي دخل بها ، ولو لم يكن دخل بالكبيرة ، فإن المرضعة لا تحل له قط ؛ لأنها أم امرأته ، ولا تحل له الكبيرة قط ؛ لأنها أم أم امرأته وتحل له الصغيرة ؛ لأنها ابنة ابنة امرأته ، ولم يدخل بها ، وكما أن ابنة المرأة لا تحرم إلا بالدخول فكذلك ابنة الابنة فإن كانت أرضعتها أخت الكبيرة بانتا أيضا ؛ لأن الكبيرة صارت خالة للصغيرة والجمع بين الخالة وابنة الأخت حرام كالجمع بين الأختين فإن كان لم يدخل بالكبيرة فله أن يتزوج أيتهما شاء والحكم في هذا كالحكم في الأختين ، ولو أرضعتها خالة الكبيرة أو عمتها لم تحرم عليه ؛ لأن الجمع بين المرأة وابنة عمتها وابنة خالتها حلال ولو كان له امرأتان صغيرتان فجاءت أم إحداهما فأرضعت الأخرى بانتا جميعا ؛ لأنهما صارتا أختين ولكل واحدة منهما نصف الصداق وحكم الرجوع كما بينا ، ولو جاءت أختيه فأرضعتهما معا أو إحداهما بعد الأخرى بانتا جميعا ؛ لأن الأختية إنما تثبت بينهما بعد إرضاعهما فلا فرق بين أن ترضعهما معا أو على التعاقب وحكم الصداق والرجوع والحرمة كما بينا ، وكذلك لو جاءت الصبيتان إلى امرأة وهي نائمة فشربتا من لبنها ؛ لأن فعل الصغيرة لا يعتبر في بناء الحكم عليه فيكون لكل واحدة منهما نصف الصداق ولكن لا رجوع على المرأة بشيء هنا ؛ لأنه لم يوجد منها جناية تسبيبا ولا مباشرة ولو كانت امرأتان صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة بانتا جميعا ؛ لأنهما صارتا أما وبنتا ، وللصغيرة نصف الصداق ولا شيء للكبيرة إن لم يدخل بها تعمدت الفساد أو لم تتعمد ؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها والفرقة من جهتها قبل الدخول تسقط جميع الصداق على كل حال سواء كانت متعدية في التسبيب أو لم تكن متعدية كالمعتقة إذا اختارت نفسها إلا أن الزوج يرجع عليها بما غرم للصغيرة إن كانت تعمدت الفساد لكونها متعدية في التسبيب وله أن يتزوج الصغيرة إذا لم يدخل بالكبيرة وليس له أن يتزوج الكبيرة ؛ لأن بمجرد العقد على الابنة تحرم الأم على التأبيد والعقد على الأم لا يحرم الابنة قبل الدخول ، وإن كان قد دخل بالكبيرة لم يتزوج واحدة منهما قط لوجود العقد الصحيح على الابنة والدخول بالأم ولو كان تحته صغيرتان وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرتين واحدة بعد أخرى ، ولم يكن دخل بالكبيرة ، فإنما تبين الكبيرة والصغيرة التي أرضعتها أولا ؛ لأنهما صارتا أما وابنتين ، ولا تبين التي أرضعتها أخيرا ؛ لأنه حين أرضعتها لم يكن في نكاحه غيرها ، وإنما وجد مجرد العقد على أمها ، ولو كانت أرضعتهما معا بن جميعا منه ؛ لأنها صارت أما وبنتين له أن يتزوج الكبيرة وله أن يتزوج إحدى الصغيرتين شاء . ومن العلماء من يقول في هذه الفصول له أن يتزوج الكبيرة أيضا إن شاء ؛ لأنه حين عقد على الصغيرتين لم تكن الكبيرة أما لها والنص إنما أوجب حرمة أمهات النساء وبعد ثبوت الأمية بالرضاع لم يبق النكاح على واحدة من الصغيرتين ، ولكنا نقول هذه الحرمة تثبت بسببين النكاح والأمية ، ولا فرق بين أن تثبت الأمية أولا ثم النكاح أو النكاح ثم الأمية ؛ لأن الحكم الثابت بعلة ذات وصفين إنما ثبتت عند ثبوت الوصفين جميعا ، وقد وجدا سواء تقدم النكاح أو الأمية ولو كان دخل بالكبيرة والمسألة بحالها بن جميعا منه سواء أرضعتهما معا أو على التعاقب ، أما إذا أرضعتهما معا فغير مشكل ، وكذلك إن أرضعتهما على التعاقب ؛ لأنه حين أرضعت الثانية ، فقد صارت ابنة للمرضعة ، وقد دخل هو بها ولو كان تحته ثلاث نسوة صغيرتان وكبيرة لم يدخل بها فأرضعت الكبيرة الصغيرتين على التعاقب ، فإنما تقع الفرقة بينه وبين الكبيرة والصغيرة الأولى والتي أرضعتها آخرا لا تبين منه ؛ لأنه ليس في نكاحه أختها ، فإن الصغيرة الأخرى لم ترضعها الكبيرة أولا والأولى قد بانت ، فلهذا لا تقع الفرقة بينه وبين التي أرضعت آخرا ، وإن كانت أرضعتهما معا بن جميعا ، ولا تبين التي لم ترضع ؛ لأنه لم يوجد في حقها سبب يوجب الفرقة . وحكم الصداق والرجوع والحرمة على قياس ما بينا فيما سبق من الفرق بينهما إذا كان دخل بالكبيرة أو لم يدخل ، وإن كانت أرضعت الثلاث على التعاقب ، ولم يدخل بالكبيرة بن جميعا ؛ لأنها حين أرضعت الأولى ، فقد صارتا أما وبنتا ثم بإرضاع الثانية لا تقع الفرقة بينه وبينها ولكن حين أرضعت الثالثة صارتا أختين فتقع الفرقة بينه وبينها أيضا وحكم الصداق والرجوع ، كما بينا ، ولو كانت أرضعت اثنتين معا ثم الثالثة بانت الكبيرة والتي أرضعتها معا ، ولا تبين الثالثة ؛ لأنه حين أرضعتها لم يكن في نكاحه غيرها ومجرد العقد على الأم لا يحرمها قبل الدخول ، ولو أرضعت إحدى الصغار على الانفراد ثم الأخرتين معا ، فقد صارتا أختين ولو كان تحته صغيرة وثلاث نسوة كبار ، ولم يدخل بهن فأرضعت إحدى الكبار الصغيرة بانتا ؛ لأنهما صارتا أما وبنتا والباقيتان تحته على حالهما فإن أرضعتهما إحدى الباقيتين أيضا بانت هي منه ؛ لأنها صارت أم الصغيرة ، وقد كانت الصغيرة في نكاحه ومجرد العقد على الابنة يحرم الأم على التأبيد فإن أرضعتها الكبيرة الثالثة بانت هي أيضا لما بينا وله أن يتزوج الصغيرة وليس له أن يتزوج واحدة من المرضعات بحال ، ولو كان دخل بالكبار لم يكن له أن يتزوج الصغيرة أيضا لوجود الدخول بالأم ولو كان تحته صغيرة وكبيرة وطلق الكبيرة قبل الدخول ثم جاءت فأرضعت الصغيرة فنكاح الصغيرة على حاله ؛ لأنهما حين صارتا أما وبنتا فليست الأم في نكاحه ومجرد العقد عليها لا يوجب حرمة الابنة ، ولو كان دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة سواء أرضعتها قبل انقضاء العدة أو بعده لوجود الدخول بالأم ، ولو كان طلق الصغيرة دون الكبيرة ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة بانت الكبيرة دخل بها أو لم يدخل بها ؛ لأن الصغيرة قد كانت في نكاحه والعقد على الابنة يحرم الأم ، ولو كان طلقهما جميعا ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة فإن كان دخل بالكبيرة فليس له أن يتزوج واحدة منها بحال ، وإن كان لم يدخل بها فله أن يتزوج الصغيرة وليس له أن يتزوج الكبيرة ؛ لأن مجرد العقد على الأم لا يحرم الابنة ولو أن امرأة جاءت إلى رجل فأرضعت ولده الصغير كان له أن يتزوجها ؛ لأنها أم ولده وأم ولده ليست من المحرمات عليه ، وكذلك لو أرضعت خالته الصغيرة أو عمته الصغيرة أو ابنة ابنه وهي صغيرة فالجواب في الكل سواء لما بينا ولو أرضعت أمه جارية لها إخوة وأخوات كان له أن يتزوج أخوات تلك الجارية ؛ لأن التي أرضعتها الأم أخته من الرضاعة ، ولا سبب بينه وبين أخواتها ، وإذا كان يجوز للرجل أن يتزوج أخت أخيه من النسب فكذلك أخت أخته من الرضاع ، وبيانه أنه إذا كان للرجل أخ لأب وأخت لأم يجوز لأخيه لأبيه أن يتزوج أخت أخيه لأمه ولو أن امرأتين لإحداهما بنون وللأخرى بنات فأرضعت التي لها البنات ابنا من بني الأخرى ، فإنما تحرم بناتها على ذلك الابن بعينه ؛ لأنه صار أخا لهن من الرضاعة ، ولا يحرم أحد من بناتها على سائر بني المرأة الأخرى ؛ لأنه لم يوجد بينهم الأخوة من الرضاعة حيث لم يجتمعوا على ثدي واحد ، ولو كانت المرأة التي لها البنون أرضعت إحدى بنات الأخرى حرمت تلك الابنة على بني المرضعة وغيرها من بناتها يحل على المرضعة ، ولو كانت أم البنات أرضعت أحد البنين وأم البنين أرضعت إحدى البنات لم يكن للابن المرتضع من أم البنات أن يتزوج واحدة منهن وكان لإخوته أن يتزوجوا بنات الأخرى إلا الابنة التي أرضعتها أمهم وحدها ؛ لأنها أختهم من الرضاعة قال : ولو أن رجلا اشترى ثلاث أخوات متفرقات كان له أن يطأ الأخت من الأب والأخت من الأم ؛ لأن كل واحدة من هاتين أجنبية من الأخرى فإن كان وطئ الأخت من الأب ولأم لم يكن له أن يطأ واحدة من هاتين ؛ لأنه يصير جامعا بين الأختين وطئا بملك اليمين ، وذلك لا يحل ، وإن وطئ الأخت من الأب أولا والأخت من الأم لم يكن له أن يطأ الأخت من الأب والأم ؛ لأنه يصير جامعا بين الأختين وطئا وكان له أن يطأ الأخرى ؛ لأنها أجنبية من التي وطئها ، ولو كان كل واحدة منهن ابنة لاشترى البنات دون الأمهات ، فإن له أن يطأهن جميعا ؛ لأن الجمع بين هؤلاء نكاحا حلال فكذلك الجمع بينهن وطئا بملك اليمين ولو اشترى البنات والأمهات كلهن كان له أن يطأ البنات وحدهن إن شاء فإن شاء أن يطأ من الأمهات الأخت من الأب والأخت من الأم ، وإن شاء الأخت من الأب والأم وحدها دون الأخرتين ، وإن أراد أن يطأ بعض الأمهات فله أن يطأ الأخت من الأب والأخت من الأم وله أن يجمع بين الأخت من الأب وابنة الأخت من الأم وبين الأخت من الأم وابنة الأخت من الأب على قياس الجمع بينهما نكاحا ، ولو وطئ الأخت من الأب والأم لم يكن له أن يطأ بعده واحدة من الأخرتين ، ولا واحدة من البنات ؛ لأنه إن وطئ واحدة من البنات ، فقد صار جامعا بين الأم والابنة أو بين المرأة وابنة الأخت وطئا بملك اليمين ، وذلك حرام ، فإذا أخرج الأخت من الأب والأم من ملكه ببيع أو نكاح أو هبة كان له أن يطأ الأختين من الأم والأخت من الأب ، وإن شاء ابنة الأخت من الأب وابنة الأخت من الأم وليس له أن يطأ ابنة الأخت من الأب والأم ؛ لأنه قد وطئ أمها فحرمت هي على التأبيد ، وإن كان وطئ من البنات ابنة الأخت من الأب والأم لم يكن له أن يطأ واحدة من الأمهات قبل أن يحرم المواطأة على نفسه وكان له أن يطأ ابنة الأخت من الأب وابنة الأخت من الأم ؛ لأن الجمع بينهن نكاحا حلال فكذلك الجمع بينهن وطئا بملك اليمين وإذا تزوج امرأة فشهدت امرأة أنها أرضعتهما فهذه المسألة على أربعة أوجه إما أن يصدقها الزوجان أو يكذبانها أو يصدقها الزوج دون المرأة أو المرأة دون الزوج فإن صدقاها وقعت الفرقة بينهما لا بشهادتها بل بتصادق الزوجين على بطلان النكاح بينهما فإن كان ذلك قبل الدخول بها فلا مهر لها ، ولا عدة عليها ، وإن كان بعد الدخول فلها مقدار مهر مثلها من المسمى ؛ لأنهما تصادقا على أنه دخل بما يشبه النكاح من غير عقد صحيح فبحسب الأقل من المسمى ، ومن مهر المثل وعليها العدة ، وإن كذباها في ذلك فهي امرأته على حالها ، وقد بينا هذا الاستحسان والنكاح ، وإن شهادة المرأة الواحدة على الرضاع لا تتم حجة الفرقة عندنا إلا أنه يستحب له من طريق التنزه أن يفارقها إذا وقع في قلبه أنها صادقة لقوله { كيف ، وقد قيل } فإن كان قبل الدخول طلقها وأعطاها نصف المهر ، وإن كان بعد الدخول أعطاها كمال المسمى والأولى أن لا تأخذ منه شيئا قبل الدخول وبعد الدخول لا تأخذ الزيادة على مهر مثلها بل تبرئ الزوج من ذلك ، وإن صدقها الزوج وكذبتها المرأة ، فإنه تقع الفرقة بينهما بإقرار الزوج ؛ لأنها أقرت بحرمتها على نفسه ، وهو يملك أن يحرمها على نفسه وعليه نصف المهر إن كان قبل الدخول وجميع المسمى إن كان بعد الدخول ، وإن صدقتها المرأة دون الزوج فهي امرأته على حالها ؛ لأنها أقرت بالحرمة وليس في يدها من ذلك شيء إلا أنها إذا علمت صدقها في ذلك ، فإنه ينبغي لها أن لا تمكنه من نفسها ولكن تفدي نفسها بمال فتختلع منه ، وإن شهد رجلان أو رجل وامرأتان بالرضاع لم يسعهما أن يقيما على النكاح بعد ذلك ؛ لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي فرق بينهما ، وكذلك إذا شهدا به عند النكاح ، ولا فرق في الفصلين بين أن تكون الشهادة بعد عقد النكاح أو قبله قال ، ولو أن رجلا له امرأة كبيرة وامرأة صغيرة ولابنه امرأة كبيرة وامرأة صغيرة فأرضعت امرأة الأب امرأة الابن وأرضعت امرأة الابن امرأة الأب واللبن منهما ، فقد بانت الصغيرتان من زوجيهما ، ولا تحل واحدة منهما للأب وللابن ؛ لأن امرأة الأب لما أرضعت امرأة الابن بلبن الأب ، فقد صارت امرأة الابن أخته لأبيه ، ولما أرضعت امرأة الابن بلبنه امرأة الأب ، فقد صارت ابنة ابنه من الرضاعة ولكل واحدة من الصغيرتين نصف المهر على زوجها ويرجع بذلك على المرضعة إن كانت تعمدت الفساد ، ونكاح الكبيرتين ثابت على حاله ؛ لأن بهذا الإرضاع لم يوجد سبب الحرمة بين الكبيرتين وبين زوجيهما ، وإن كان مكان الابن والأب أخوان فكذلك الجواب ؛ لأن كل واحدة من الرضيعتين صارت بنت أخ زوجها ، ولو كان رجل وعمه مكان الأخوين بانت امرأة العم الصغيرة من زوجها ؛ لأنها صارت ابنة ابن أخيه ونكاح امرأة ابن الأخ ثابت على حاله ؛ لأنها صارت ابنة عمه من الرضاعة ولو كانا رجلين غريبين لم تبن كل واحدة منهما من زوجها ؛ لأن كل واحدة منهما صارت ابنة الزوج الآخر من الرضاع وليس بين الزوجين قرابة ، ولو كان اللبن الذي أرضع به من النساء ليس من الأزواج لم تثبت الحرمة في شيء من الفصول لما بينا والله أعلم بالصواب .

باب نكاح الشبهة . ( قال ) ولو أن أخوين تزوجا أختين فأدخلت امرأة كل واحد منهما على أخيه فوطئها فعلى كل واحد من الواطئين مهر مثل الموطوءة وعليها العدة ، ولا يطأ واحد منهما امرأته حتى تحيض عنده ثلاث حيض ؛ لأن كل واحد منهما وطئ امرأة أخيه بشبهة وقضى علي رضي الله عنه في الوطء بالشبهة بسقوط الحد ووجوب مهر المثل على الواطئ والعدة على الموطوءة ثم العدة من الوطء بشبهة وأضعف من النكاح الصحيح فلا تكون له رافعة فترد كل واحدة على زوجها ولكن لا يطؤها لمعنيين : أحدهما : أنها معتدة من غيره والثاني أن أختها في عدته فإن حاضت إحداهما ثلاث حيض دون الأخرى فليس لزوجها أن يطأها أيضا ؛ لأن أختها في عدته ، ولو ولدت كل واحدة منهما ولدا ، فإن الولد يلزم الذي وطئ إذا جاءت به لستة أشهر أو أكثر ما بينها وبين أربع سنين ما لم تقر بانقضاء العدة ، وهذا الجواب بناء على قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله فأما عند أبي حنيفة فيثبت نسب ولدها من الزوج ؛ لأن فراشه صحيح وفراش الواطئ فاسد وأصل المسألة في كتاب الدعوة إذا نعي إلى المرأة زوجها فتزوجت بزوج آخر وولدت منه ثم رجع الزوج الأول حيا ، ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر ، وقد وطئها لم يثبت النسب من الواطئ بالاتفاق ؛ لأن هذا العلوق سبق وطأه ، وإنما يثبت النسب من الزوج ؛ لأنها علقت به على فراشه ولو أن أحد الأخوين دخل بامرأة أخيه فوطئها والآخر أدخلت عليه فلم يطأها ، فإن الواطئ يغرم مهر مثل الموطوءة وترد على زوجها ولكن لا يطؤها زوجها حتى تنقضي عدتها من الواطئ ، ولا مهر على الآخر التي أدخلت عليه ؛ لأنه ليس بينه وبينها نكاح وبمجرد الخلوة بالأجنبية لا يلزمه المهر ؛ لأن الخلوة إنما تقام مقام الوطء بعد صحة النكاح لضرورة وجوب التسليم فترد على زوجها ولكن لا يدخل بها زوجها حتى تنقضي عدة الأخرى ؛ لأن أختها في عدته ، وكذلك لو كان وطئها فيما دون الفرج لم يجب عليه المهر ؛ لأن الوطء فيما دون الفرج لا توجب الحد إذا تعرى عن التسمية ، ولا يوجب المهر ، ولا العدة عند تمكن الشبهة أيضا قال ، وقد استحسن بعض العلماء إذا كان كل واحد منهما قد وطئ المرأة التي أدخلت عليه أن يطلق امرأته التي لم يدخل بها ويغرم لها نصف المهر ويتزوج كل واحد منهما الموطوءة فيغرم لها مهر مثلها بالدخول الأول والمهر بالنكاح ، وهذا الفصل منقول عن أبي حنيفة رضي الله عنه ، وقد بينا حكاية هذه المسألة في كتاب الحيل فبهذا استدلوا على أن الكتاب ليس من تصنيف محمد رضي الله عنه ، فإنه في تصنيفاته لا يستر قول أبي حنيفة رضي الله عنه ، وقد ستره هنا بقوله : وقد استحسن بعض العلماء ، ولو كان هذان الأخوان تزوجا أجنبيتين فأدخلت كل واحدة منهما على زوج صاحبتها فهذا وما تقدم سواء إلا في خصلة واحدة إذا حاضت إحداهما ثلاث حيض دون الأخرى كان للزوج الذي حاضت امرأته أن يطأها ؛ لأن في المسألة الأولى إنما كان لا يطؤها في هذا الفصل ؛ لأن أختها في عدتها وهنا التي في عدته أجنبية من زوجته فيكون له أن يطأ زوجته إذا انقضت عدتها من غيره ولو أن أجنبيين تزوجا أختين فأدخلت كل واحدة منهما على زوج أختها كان الجواب فيها مثل ابنة وأمها أدخلت كل واحدة منهما على غير زوجها ودخل بها ، فإن الذي دخل بالابنة بانت منه امرأته ؛ لأنه وطئ ابنة امرأته ، وذلك يحرم أمها عليه على التأبيد وعليه للابنة مهر مثلها بدخوله بها شبهة وللأم نصف المهر ؛ لأنها بانت منه قبل أن يدخل بها ، وأما الذي وطئ الأم ، فقد بانت منه امرأته أيضا ؛ لأنه وطئ أم امرأته ، وذلك يحرمها عليه على التأبيد فيغرم للابنة نصف المهر لوقوع الفرقة بينهما قبل الدخول من جهته ويغرم للأم مهر مثلها لوطئه إياها شبهة وليس للذي وطئ الأم أن يتزوج واحدة منهما قط ؛ لأن الابنة كانت في نكاحه بعقد صحيح ، وذلك يحرم الأم عليه ، وقد وطئ الأم ، وذلك يحرم ابنتها عليه ، وأما الذي وطئ الابنة فله أن يتزوج الابنة ؛ لأن الأم كانت في نكاحه ولكن فارقها قبل الدخول ومجرد العقد على الأم لا يوجب حرمة الابنة ولو أن رجلا وابنه تزوجا امرأتين أجنبيتين فأدخلت كل واحدة منهما على زوج صاحبتها فإن كان الابن هو الذي دخل بامرأة أبيه أولا ، فإنه يغرم لها مهر المثل بدخوله بها وتبين من الأب ، ولا يغرم لها الأب شيئا ؛ لأن وطء الابن إياها يحرمها على الأب على التأبيد ، وإنما جاءت الفرقة من جهتها قبل الدخول حين طاوعت ابن زوجها ، فلهذا لا يكون لها على الأب شيء ثم الأب يغرم لامرأة ابنه التي دخل بها مهرا بدخوله بها وتبين من الابن ؛ لأن أباه قد وطئها ، وذلك يحرمها عليه ، ولا يغرم الابن لامرأته شيئا ؛ لأن الفرقة جاءت بسبب من قبلها حين طاوعت أب الزوج وليس لواحد منهما أن يتزوج واحدة من المرأتين بحال ؛ لأن إحداهما موطوءة الأب والأخرى موطوءة الابن ، ولو كان الابن وطئ امرأة أبيه ، ولم يمس الأب امرأة ابنه ، فإن الابن يغرم للتي وطئها المهر بالدخول وترد عليه امرأته على النكاح الأول ؛ لأن أباه لم يمسها إنما خلا بها ومجرد الخلوة لا يوجب حرمة المصاهرة ، وأما التي وطئها الابن فقد بانت من الأب ، ولا مهر لها على الأب وليس للواحد منهما أن يتزوجها ؛ لأنها كانت في نكاح الأب فلا تحل للابن بحال وهي موطوءة الابن فلا تحل للأب بحال ، ولو كان الأب هو الذي وطئ امرأة الابن ، ولم يطأ الابن امرأة الأب فالتي وطئ الأب يغرم لها مهر مثلها وتبين من الابن ، ولا يغرم لها الابن شيئا ، ولا يكون لواحد منهما أن يتزوجها ؛ لأنها كانت في نكاح الابن فلا يتزوجها الأب ، وقد وطئها الأب فلا يتزوجها الابن ويرد امرأة الأب إليه بالنكاح الأول ؛ لأن ابنه خلا بها فقط ، وذلك لا يوجب حرمة المصاهرة قال : ولو أن رجلا تزوج امرأة وتزوج ابنه ابنتها فأدخلت امرأة الأب على الابن وامرأة الابن على الأب فهذه المسألة على ثلاثة أوجه إما أن يكون الابن هو الذي وطئ أولا أو الأب أو كان الوطء منهما معا فإن كان الابن هو الذي وطئ أولا فعليه للتي وطئها مهر مثلها وتبين امرأته ولها عليه نصف المهر ؛ لأن الابن وطئ أم امرأته ، وذلك يوجب الفرقة وتبين امرأته بسبب من جهته فيكون لها عليه نصف المهر ثم يكون على الأب للتي وطئها مهر مثلها ، ولا يغرم لامرأته شيئا ؛ لأنها قد بانت منه حين طاوعت الابن حتى وطئها ، فإنما بانت بسبب من جهتها ، فإن كان الأب هو الذي وطئها أولا ، فإنه يغرم للتي وطئها مهرها وتبين منه امرأته ؛ لأنه وطئ ابنة امرأته ولها نصف المهر ؛ لأن الفرقة كانت بسبب من جهته قبل الدخول ثم الابن يغرم للتي وطئها مهر مثلها ، ولا يغرم لامرأته شيئا ؛ لأنها بانت منه حين طاوعت الأب حتى وطئها ، فإنما جاءت الفرقة بسبب من جهتها قبل الدخول ، ولو كان الوطء منهما جميعا معا أو كان لا يعلم أيهما أول ، فهو بمنزلة ما لو وطئا معا ؛ لأن كلا الأمرين ظهر ، ولا يعرف التاريخ بينهما فيجعلا كأنهما وقعا معا ثم يغرم كل واحد منهما للتي وطئها مهر مثلها ، ولا يكون لواحدة منهما على زوجها شيء ، فإن السبب المسقط لصداق كل واحدة منهما قد ظهر ، وهو مطاوعتها أب الزوج أو ابنه ويوضحه أن المسقط والموجب إذا اقترنا ترجح المسقط باعتبار أن المسقط يرد على الموجب ، ولا يرد على المسقط ، ولأن وقوع الفرقة قبل الدخول مسقط لجميع الصداق في الأصل ، وإنما تركنا هذا الأصل فيما إذا كانت الفرقة من جهة الزوج بالنص إذ تعارض السببين يمنع إضافة الفرقة إلى الزوج على الإطلاق فيجب التمسك فيه بما هو الأصل ، ولا يكون لواحد منهما أن يتزوج واحدة من المرأتين ؛ لأن إحداهما موطوءة الأب والأخرى موطوءة الابن ولو أن رجلين بينهما جارية جاءت بولد فادعياه ، فهو ابنهما يرثهما ويرثانه ، ولا يكون لواحد منهما أن يطأ الجارية ؛ لأنها بقيت مشتركة بينهما وصارت أم ولديهما ، ولا يحل لواحد من الشريكين وطء الجارية المشتركة ، ولا يغرم واحد منهما لصاحبه شيئا ؛ لأن كل واحد منهما ألزم نصف العقر لصاحبه فيكون أحدهما قصاصا بالآخر فإن مات أحدهما عتقت الجارية وسعت في نصف قيمتها ؛ لأنها أم ولد الآخر ، وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فأم الولد لا تسعى لمولاها في شيء ، وقد بينا هذا في العتاق ، ولو كان ادعى أحدهما الولد دون صاحبه ، فإنه يثبت نسبه منه وتكون أم ولد له ويغرم لشريكه نصف عقرها ونصف قيمتها ، وهذا ظاهر ثم ذكر وطء الأب جارية ابنه ووطء الابن جارية أبيه ووطء الرجل جارية أخيه وغير ذلك من الأقارب ، فقد قدمنا هذه الفصول في كتاب النكاح والدعوى ولو أن رجلا له أم ولد فزوجها من صبي ثم أعتقها فخيرت فاختارت نفسها ثم تزوجت زوجا آخر فأولدها فجاءت إلى الصبي الذي كان زوجها فأرضعته ، فإنها تبين من زوجها ؛ لأنها حين أرضعت الصبي صار ابنها من الرضاعة وابن زوجها أيضا ؛ لأن لبنها منه ، وقد كانت امرأة هذا الرضيع وامرأة الابن حراما على الأب على التأبيد ، وقد قررنا أنه لا فرق بين أن تعترض البنوة على النكاح وبين أن يعترض النكاح على البنوة فتبين من زوجها ، ولا تحل للغلام ؛ لأنها صارت أمه من الرضاعة ويجوز لمولاها أن يتزوجها ؛ لأن الابن لم يكن من مولاها ، ولو لم يكن من زوجها الثاني ، ولكنها أرضعته من ابن مولاها الذي كان أعتقها ، فإنها لا تحرم على زوجها ، ولا يحل لمولاها أن يتزوج بها قط ؛ لأن الرضيع قد صار ابن المولى من الرضاعة ، وقد كانت هي في نكاحه مرة ، ولم يصر ابن الزوج من الرضاعة حين لم يكن اللبن منه قال : ولو أن رجلا له امرأتان إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة وللكبيرة لبن من غيره ، ولم يدخل بها فأرضعت الكبيرة الصغيرة بانتا منه بغير طلاق ؛ لأنهما صارتا أما وبنتا ، وذلك ينافي النكاح ابتداء وبقاء والفرقة بمثل هذا السبب تكون بغير طلاق فإن تزوج بعد ذلك الصغيرة كانت عنده على ثلاث تطليقات وله أن يتزوجها ؛ لأن مجرد العقد على الأم لا يحرم الابنة من النسب فكيف يحرم الابنة من الرضاعة ، وهذا اللبن ليس منه ؛ لأنه لم يدخل بها ، ولا تصير الصغيرة ابنته من الرضاعة وليس للكبيرة عليه من الصداق شيء ؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها حين أرضعت الصغيرة وللصغيرة نصف الصداق ؛ لأن الفرقة لم تكن من قبلها ، فإن فعلها الارتضاع ، وذلك لا يصلح لبناء الحكم عليه ، وفي إسقاط جميع الصداق إذا جاءت الفرقة من قبلها معنى العقوبة من وجه فلا يثبت ذلك بفعل الصغيرة ، كما لا يثبت حرمان الميراث بقتل الصغيرة ويستوي إذا كانت الكبيرة تعلم أن الصغيرة امرأة زوجها أو لا تعلم ذلك فيما بينا من الحكم إلا أنها إذا كانت تعلم ، وقد تعمدت الفساد ، فإنه يرجع الزوج عليها بنصف مهر الصغيرة ، وهذا إذا أقرت أنها تعمدت الفساد ، وإن لم تتعمد الفساد أو لم تعلم أنها امرأته فلا شيء عليها ، وفيها قول آخر أنه يرجع عليها بنصف الصداق سواء تعمدت الفساد أو لم تتعمده ، وقد بينا أن هذه رواية عن محمد ، وهو قول أبي يوسف وأحد قولي الشافعي رحمه الله ؛ لأن السبب قد تقرر ، وإن لم يعلم به إلا أنا نقول : المسبب إذا لم يكن متعديا في التسبب لا يكون ضامنا كحافر البئر في ملك نفسه ، وإن اختلفا فقال الزوج : تعمدت الفساد وقالت المرأة : ما تعمدت ذلك فالقول قولها ؛ لأن الزوج يدعي عليها الضمان وهي منكرة ، ولو كانت الكبيرة مصابة فأرضعت الصغيرة في جنونها بانتا منه ولكل واحدة منهما نصف الصداق ؛ لأنه ، كما لا يعتبر فعل الصغيرة فيما فيه معنى العقوبة لا يعتبر فعل المجنونة ، ولا يرجع الزوج على الكبيرة ؛ لأنها غير متعدية في السبب لكونها مصابة ، وكذلك لو جاءت الصغيرة إلى الكبيرة وهي نائمة فارتضعت من ثديها كان لكل واحدة منهما نصف الصداق ؛ لأنه لم يوجد من الكبيرة فعل في الفرقة ، ولا معتبر بفعل الصغيرة ولو أن رجلا جاء وأخذ من لبن الكبيرة في مسعط فأوجر به الصغيرة ، ولا تعلم الكبيرة أي شيء يريد ، فإنهما يبينان منه وعلى الزوج نصف الصداق لكل واحدة منهما فإن أقر الرجل أنه أراد الفساد رجع الزوج بجميع ما غرم لهما لكونه متعديا في التسبب ، وإن قال لم : أتعمد الفساد فالقول قوله ، ولا يرجع عليه الزوج بشيء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، وفي القول الآخر يرجع ، وهذا يبين لك أن القول الآخر قول محمد رحمه الله وإن كان الزوج هو الذي فعل ذلك يعني الإيجار بانتا " منه وعليه نصف الصداق لكل واحدة منهما ، ولا رجوع له على أحد ؛ لأن الفرقة إنما وقعت بسبب من جهته قبل الدخول ولو أن رجلا تحته امرأة تصاب في بعض الأيام فتجن وتفيق فدعت ابن زوجها إلى أن يفجر بها في حال جنونها ففعل بانت من زوجها وكان عليه نصف الصداق ؛ لأن تمكينها في حال جنونها غير معتبر في إسقاط الصداق ، وكذلك لو تزوج امرأة لم تبلغ ومثلها يجامع فدعت ابن زوجها إلى أن يأتيها ففعل بانت وكان عليه نصف الصداق ؛ لأن فعل الصغيرة غير معتبر فيما فيه معنى العقوبة قال فإن أقر الابن الذي أمر أنه أراد الفساد يرجع الزوج عليه بنصف الصداق الذي يلزم للصغيرة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، وفي قوله الآخر يرجع به عليه أراد الفساد أو لم يرد ، ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا التقسيم في الإرضاع صحيح ، فإن المرضعة قد تكون محسنة في الإرضاع بأن تخاف على الصبي الهلاك فأما في الزنا لا يتحقق هذا التقسيم ، فإن الزنا فساد كله ليس فيه من معنى الصلاح شيء حتى يقال أراد الزاني الفساد أو لم يرد ، ولكنا نقول ما ذكره صحيح ؛ لأن الزنا فساد من حيث إنه كبيرة ولكن قد يكون مفسد للنكاح ، وقد لا يكون ، فإنما أراد بهذا أنه إذا تعمد فساد النكاح يرجع الزوج عليه بنصف الصداق ، وإذا لم يتعمد ذلك بأن لم يعلم أنها امرأة أبيه لم يرجع الأب عليه بشيء ، وهذا ، كما يقال أن من زنى في رمضان ناسيا لصومه ، فهو مرتكب للكبيرة مستوجب للعقوبة ولكن لا يفسد به صومه ؛ لأنه لم يكن عالما بالصوم ، ولا قاصدا إلى الجناية عليه ، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله في الأمالي أن الابن إذا زنى بامرأة أبيه قبل الدخول ، وقد تعمد الفساد بأن أكرهها على ذلك لم يرجع الأب على الابن بما يغرم لها من نصف الصداق ، وإذا قبلها وهي نائمة أو مكرهة رجع الأب عليه بما غرم من نصف الصداق ؛ لأنه إذا زنى بها فعليه الحد والحد والمهر لا يجتمعان فلا يغرم شيئا من المهر ، وإذا قبلها لم يلزمه الحد فيكون للأب أن يرجع عليه بنصف المهر ، ولكن هذا ضعيف ، فإن المهر لا يجب لها مع وجوب الحد على الواطئ وهنا نصف المهر على الواطئ إنما يجب للأب ومثل هذا يجتمع مع الحد لفقه ، وهو أن المهر لها لا يجب إلا بالوطء ، وقد وجب الحد بالوطء فلا يجب المهر ، وأما حق الرجوع للأب على الواطئ فيثبت بالتقبيل والمس من غير وطء فهناك أن الحد وجب عليه بالوطء فيمكن إثبات الرجوع له عليه باعتبار فعل آخر ، وهو التقبيل أو المس فاستقام الجمع بينهما والله أعلم بالصواب

خاتمة الكتاب نحمدك يا من جعلت الشريعة الغراء كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ونصلي ونسلم على نهاية خلاصة الأصفياء وذخيرة نخبة العظماء من الأنبياء سيدنا محمد الصادق الأمين القائل { من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين } . وعلى آله وأصحابه الذين نجموا في جبهة الدنيا بدور هدى وكانوا رضوان الله عليهم خير قدوة لمن اقتدى وعلى التابعين من الأئمة المرشدين القائمين بعهده الراشدين برشده وبعد ، فإن من المقرر عند ذوي البصائر أن ظهور الإنسان بمظهر الشرف في الدارين ونيله درجات الكمال في الكونين إنما هو بتحلية الظاهر بالأعمال الصالحة الدينية بعد تزكية الباطن بالعقائد اليقينية . فالعلم المتكفل من بين العلوم ببيان الأولى لا ريب يكون بالاشتغال أولى ، وهو علم الفقه الذي اعتنى بشأنه في كل عصر عصابة هم أهل الإصابة . فبينوا المعقول فيه والمنقول واستخرجوا أغصان الفروع من شعب الأصول وإبراز حقائقه بعد أن أحرزوا دقائقه وقنصوا شواره ونظموا قلائده وذللوا مصاعبه وقربوا مطالبه وألفوا فأجادوا وصنفوا فأفادوا ، وأسنى ما ألف فيه وأبدعه وأعذبه موردا وأحكمه وأجمعه ( كتاب المبسوط ) في فقه مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان أنزل الله عليه غيث الرحمة وشآبيب الرضوان ، تصنيف العلم النحرير ذي الإتقان والتحرير والحجة لمن بعده والبرهان الذي يوقف عنده شمس الأئمة وحبر الأمة أبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله وجعل دار النعيم مثواه كتاب يعلم الله أنه جمع فأوعى . وأحاط بالنوادر والأشباه والنظائر جنسا ونوعا . واستخرج من بحار كتب ظاهر الرواية درها وقرب للمجتني أزهارها وأثمارها وأبرز دقائقها وكنوزها وحل غوامضها ورموزها ونظمها في سموط أبواب كتابه أبدع نظام وأدرجها في أدراج فصوله مع حسن انسجام وبالجملة فهذا هو الكتاب الذي بظهوره في عالم المطبوعات سدت فرجة واسعة في مؤلفات فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، فإن جميع الكتب المؤلفة في مذهبه هي منه بمنزلة الفروع ، وهو الأصل والأبعاض ، وهو الكل والجداول ، وهو البحر الزاخر ، وذلك أن هاتيك الكتب إذا وردت فيها مسائل تستعصي على الفهم . وتختلف فيها أقوال العلماء وآراء الفقهاء أحالوا الحكم فيها على كتاب ( المبسوط ) على أن الحصول كان عليه عسيرا . وكم طرق فقهاء هذا المذهب أبواب المكاتب . وطالما نقبوا عنه في أدراج الكتبخانات فما عثروا عليه ، ولا اهتدوا إليه . وما أحوج علماء الفقه إلى كتب تجمع أقوال الأئمة الكبار يكون الرجوع إليها والاعتماد عليها . وكتاب ( المبسوط ) جمع كل المسائل التي دونها الإمام الأعظم ومحمد وأبو يوسف وزفر والإمام الحسن البصري وأعلام المذهب الذين يعبأ بكلامهم فلله در هذا الكتاب ولله براعة عباراته ولطافة إشارته وتنبيهاته النافعة وتنويراته الساطعة . الشاهد له بعلو درجته . وزيادة مزيته . ولمؤلفه بسعة اطلاعه وطول باعه . وطالما تشوق العلماء . إلى بزوغ بدره . وتشوف الفقهاء إلى ترشيف ثغره . وبقيت النفوس متطلعة إلى طلعة بدره الكاملة . والأنظار متوجهة إلى تخلصه من حجبه الحائلة حتى وفق الله له صاحب الأعمال المشكورة . والهمة العلية المشهورة ( حضرة المحترم الحاج محمد أفندي السياسي المغربي ) فأخذ حفظه الله في أسباب تسهيله باذلا همته في طبعه لعموم نفعه وقسمه إلى ثلاثين جزءا وكلها بحمد الله تمت طبعا مع كمال التصحيح والتحرير والتنقيح بمباشرة عصابة أولي نجابة وبراعة وإصابة ، فبذل كل منهم جهده بقدر ما لديه . هذا وكان طبعه الناضر ووضعه الباهر بمطبعة السعادة ، الثابت مركزها بجوار محافظة مصر إدارة مهذب الطبع ذي القدر الجليل حضرة المحترم محمد أفندي إسماعيل منحه الله من الثواب الجزيل . وكان لطبعه الختام ولبسه وشاح التمام في شعبان من عام 1331 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام آمين .