مجلة البيان للبرقوقي/العدد 38/كتاب العصر

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 38/كتّاب العصر

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1918



أحمد لطفي بك

شخصيته - اطلاعه - مبادئه - أسلوبه - مستقبله

(2)

كل رجل عظيم أرادت به الطبيعة غرضاً سامياً من أغراضها الكبرى في الأرض يحمل في فؤاده شيئاً من عظمة الطبيعة نفسها التي أرسلته وهو لا يزال يعيش بروح الجندي، وإن لم يحمل سيفاً، لأنه خلق للقيادة والأمر، فهو يهبط على الناس بذهنه، فيقتادهم إلى الطريق التي يهتدي إلى سننها، طائعين أو كارهين، ولقد سيقت شعوب كثيرة إلى ما كانت تكره، لأنها لم تستطع أن تفلت من مغناطيسية القائد العظيم.

ولعل العظيم في صورة الكاتب أكثر وسيلة إلى القلوب، وأقرب مدخلاً إلى الأرواح، لأن الناس يرون أمام أعينهم الزائغة القلقة الخائفة، رأساً عظيماً جباراً، وقلماً بديعاً ساحراً جذاباً، فإذا حاولوا الإفلات من ناحية، أمسكتهم الأخرى، وإذا سكن القلم يوماً، انطلق الرأس أياماً، وكم من كتاب في الدنيا سادوا على الأفئدة سيادة الملوك على مرافق الأمم، وإن لم يحملوا سيفاً، ولم يكن لهم سلطان من مال، أو سلطان من جاه أو دهاء أو خدعة مكر.

والطبيعة تخلق في العصر الواحد كتّاباً كثيرين على الألوان المتعددة التي يصلحون لها، ولكنها لا تريد لهم القيادة، ولا تمنحهم الزعامة، بل تحبس كل هذا فتخص به رجلاً عظيماً واحداً، وتدع الباقين رسلاً له وحاشية وبلاطاً، أو أعداء وبغضاء ومنافسين، لتتم لها من أي واحدة منهما الغاية التي تطلبها، وقد يلذها أن يكون هؤلاء أعداء له، لأنها ستقف على مشهد من العراك العنيف بين القطة العظيمة والجرذان الصغار.

وقد تضن أحياناً على أهل عصر من العصور بالكاتب القائد وتأبى إلا أن يعيش العصر أخرس صامتاً تلعب به قوالب صغيرة من الكتاب لا تملك اللولب النفسي الذي يسمو بالقواد والعظماء، وقد نرسل إليه نصف قائد، لأنها تكون إذ ذاك في شغل بإعداد القائد التام، فتخرج الأول ليكون مندوباً عن الثاني فقط، حتى يثب من أحشاء الزمن فيأخذ مكانه الذي هيئ له.

وقد كان ذلك هو الحال في مصر، فنحن نعلم أننا مقفرون في العصر الأخير من القواد الكتّاب، ولسنا نجري في سبيل من التفكير محدودة، ولا نجد وجهة في الحياة معينة، بل لا نزال نضطرب في أودية متشعبة، وراء كتّاب مجيدين، ولكنهم كما قلنا لم يؤتوا الأداة الرافعة التي تسمو بالقواد والأبطال، فنحن نصفق لمطلع كتاب حلو الأسلوب كما نهلل لمقال رائع الديباجة، ولكن كتاباً حلوة بأساليبه لا يغني شيئاً عن ظمأ النفوس إلى قائد مفكر، ولا يرد حاجة الشعب إلى أن يكون مقوداً، وقد يخرج ألف كتاب ممتع، فلا يكون منها إلا أن تزيد الناس حيرة في أمر حياتهم، وتضليلاً عن الطريق القويم، ولسنا نحتاج إلى كتب قدر احتياجنا إلى ذلك القائد، وإن لم يضع في حياته كتاباً، فقد كان قاسم أمين قائداً كاتباً مفكراً، فاستطاع بكتابين صغيرين أن يهتاج الأذهان ويثير التفكير ويفتح مغاليق الحياة الصحيحة الواجبة.

هذا وقد كان لنا في أحمد لطفي بك السيد نصف قائد، لأنه لم يرتفع إلى مصاف القيادة الكاملة، وكانت الطبيعة نصبته لتنوير الأذهان ارتقاباً لمطلع الرجل العظيم الذي تهيئه للأجيال القادمة، فمنحته أشياء، وأمسكت عنه أشياء، فظل معلقاً ترتفع به مواهبه حيناً، وتكاد تسقط به المزايا التي تنقصه حيناً آخر، فهو لم يؤت تلك العظمة النفسية التي لا بد للقواد منها، ولم يصب من يد القوة الإلهية تلك الشخصية الكبيرة التي تحرك الناس كما تحرك اليد لعباً من الخشب، ولم يملك الإرادة الصلبة التي تصرع الأحداث وتخرج من صراعها أقوى منها إذ بدأته، بل لقد اضطرب في مواقف كثيرة كان يستطيع أي رجل من أقوياء الإرادة أن يثبت أمامها، ووضع فكرة في يومه، ثم جاء فنسخها في غده، وهذه جميعاً ليست من شأن القواد، لأن الإرادة العظيمة لا يختلجها خالجة من الترددات أو الوساوس أو التقلبات، لأنها تنبع دليلين قويين الذهن الخصيب والنفس المطمئنة.

وقد كان قاسم أمين عظيماً في نفسه وكان فتحي زغلول كذلك، ولكن لطفي بك السيد دونهما في هذه العظمة، لأنه يعيش بروح رجل متوسط، وذهن رجل ذكي متوقد، ومن هذه المناقضة الغريبة في التركيب كثيراً ما يصطدم ذكاء ذهنه بعادية روحه، فيغلب الذهن يوماً، وقد تهزم الروح الذكاء حيناً، لأنها أعمق أثراً في الإنسان من ذهنه.

ويلوح لنا أن أحمد بك لطفي السيد لم يقرأ كثيراً ولم يتوغل في الاطلاع، واكتفى بقراءة القديم، ولم يبعد في البحث عن الآراء الجديدة، ولم يقف هنيهة ليلقي نظرة طويلة إلى الأفكار المتعددة المناحي التي تسوق الحياة اليوم، ولعله أخذ أكثر العلم عن مونتان ومنه استمد روح التفكير المنطقي، والنزعة السفسطائية، فقد كان مونتان نبي السفسطائية، وكان غريب المنطق والتدليل.

وقد يذهب بخاطرك أن الرجل ذا الذهن الخصب القوي التربة قد يلقي جميع كتب الدنيا جانباً، ويكتفي بأن يظهر إلى الناس الصور الجميلة التي تلوح في مخيلته، إن حاجته إلى قراءة أذهان غيره تذوب ضئيلة أمام القوة التي لا تنفك تخرج من ذهنه في كل حين أثراً مبتكراً جديداً، ولكن الطبيعة تخشى أن تجعل لكل مفكر ذهناً إلهياً على غراره، يعيش بنفسه، ولا يستمد أكثر قوته من غيره، لئلا يضطرب نظام التفكير في الكون، ولا يسمع العظيم صوت العظيم، بل أرادت أن يكون العلم والفكر في الحياة متسلسلاً وأن يكون الذهن وليد الذهن، والفكر مبعث الفكر، وبذلك نما الذهن الإنساني فكان من نمائه ما نرى اليوم من ألوف النظريات والفلسفات ولو لم يقرأ هربرت سبنسر برليوز ورابليه وروسو قبل أن يتصدى لكتابه في التربية، لخرج الكتاب ناقصاً غير ممتع، وإن كان لا يزال يحتوي عظمة سبنسر وذكاءه.

ولعل هذا هو السبب الذي جعل تفكير لطفي بك وخواطره لا تزال تبدو عليها مظاهر البساطة الأولى التي تكون للماس إذ يخرج من أحافير الأرض، فلا يزال يتطلب الصقل والتهذيب واللمعة الزجاجية الشفافية.

وليس للطفي بك مبادئ فلسفية معينة وقواعد فكرية معروفة، فقد مر بجميع المذاهب العصرية السارية في أذهان أكبر رجال الفكر فلم تستوقفه أحدها، ولم يعج على شيء منها، ولم يقصر ذهنه على إشاعة مذهب واحد في بلاده، ولم يقف جهده وحياته للنضح عن فكرة فلسفية جديدة، بل كل ما نعلمه عنه أنه ذهب في حياته العمومية الماضية إلى جملة من المذاهب الخاصة، التي أخلق بها أن تسمى مبادئ سياسية، من أن نطلق عليها مبادئ فكرية، لأنها لم تحتج إلى شيء كثير من الفكر، ككل المبادئ السياسية اليومية التي تخطر في خلد الكاتب الصحفي، ثم لا ينى الزمن يثبت بعضها ويمحو بعضاً، فإن المصرية في اللغة ووزارة معارف أهلية، والاستقلال والانفراد عن العصبية الدينية، والعض بالنواجذ على العصبية الجنسية، وما إلى هذه المبادئ التي أكثر لطفي بك من الكلام عنها، وخابت كلها، لم تكن في شيء من الروعة، وليست من العمق وبعد الغور وثقوب النظر إلى ما يرفعها إلى صف المبادئ الفكرية الجليلة، فلم تلبث أن نسيت وعفى الزمن عفاءه عليها، ولعل لطفي بك نفسه قد نسيها مع الناسين.

وهذا ما يبعثنا على أن نقول أن لطفي بك ليس إلا كاتب رسالات أنيقة، عذبة، متعددة الموضوعات، مختلفة الألوان، وأنه كان يكتب كلما عنت فكرة، أو خطر موضوع أو وقع في الصحف جدل، أو مر في قراءته بخطأ رأي ويريد أن يصلحه، ولكن هذا ولا ريب ليس دأب الكاتب المتولي زعامة الفكر المشرف على عالمه الصغير من الكتاب.

ولنقف الآن عند أسلوبه، فإن فضيلته كلها في هذا الأسلوب، وجميع شخصيته وعوارض نفسه ومنازع روحه متجلية في تلك المناحي، وهو يغلب عليه الشاعرية، وتمازجه روح فاتنة تستهوي الأفئدة، وإن كان خلاء من أساليب البلاغة، والمحسنات البديعية، إذ كان لطفي بك قليل المحفوظ منها، صغير الجعبة، ولكنه لو حفظ الكثير منها لأضربت به، لأنها تبدو إذ ذاك نابية بروحه، مبتردة الأثر في طي نفسه المتدفقة في قلمه، ولأضحى في أسلوبه رجلان، ومشي في ديباجته شخصان، كل منهما يعارض صاحبه، ويأخذ منه فضيلته، ليشوه من فضيلته، على أننا لا نزال نقول إن أسلوبه يعتريه الروح الخطابية، وتخالط لهجته الدفاع القضائي، فكأن كل موضوع أدبي لديه قضية في ساحة المحكمة، إذ يأخذ في شرح دعواها وتفصيل وجوهها، والخروج منها بالتفكير المنطقي إلى الغاية التي يتوخاها، وذلك يجعل أسلوبه متفككاً، مضطرباً ضعيف الأعصاب، مريض الشرايين، ولكنه لا يستطيع أن يغالب ذلك أو يحول دونه، لأن صناعته التي عاش الدهر الطويل عليها، ومهنته التي وضع يوماً روحه فيها وبذلت له أياماً روحها، تأبى عليه إلا أن يحتفظ بمادتها في أسلوبه ومناحي كتابته، وتصر على أن يظل بلفظة المحامي في تفكيره.

ولعل هناك باعثاً غير الصناعة، ونعني بها العادة، وهي شديدة الأثر، كبيرة السلطان على الروح، فنحن نعلم أن لطفي بك السيد اعتاد أن يكتب وهو في محضر كبير من الزوار، ويرسل القلم يجري فوق الورق على أحاديث الندى وهم صافون من حوله ذاهبون في سبل طولي من الثرثرة والجدل والمناظرة، حتى لقد ترى المقال الواحد من مقاله يحوي صوراً عدة من الضوضاء التي كانت حوله عندما كان مسترسلاً في كتابته، فلا تكاد تطالعك قطعة خاصبة فرحة بهيجة، تشعرك أنها إنما قد كتبت على صوت ضحكة فرحة أطلقها زائر من الزوار، أو ملحة أرسلها في المجلس ظريف من الظرفاء، حتى تهجم عليك قطعة أخرى صامتة حزينة قفراء، تدلك على أن سكوناً أليماً كان قد نزل إذ ذاك بالمجلس، أو تهويماً اختلج العيون، أو ثقيلاً غليظ القلب، مشوه الروح، عرض للندوة، فهربوا من غلظته بالصمت الأليم.

والآن وقد طوى أحمد لطفي بك السيد الماضي وأصبح ذهنه البديع مجلداً كذلك في طي مجموعات الجريدة في دار الكتب، والآن وقد أمسك عن الكتابة، ورضي بالعيش في ظل الإدارة، وترك الحياة البديعة التي كان يعيشها، مع الشعب، في جناب الأدباء، حبيباً إلى النفوس، مقروءاً في كل حين، فهل ترون المستقبل كفيلاً بأن يعيد إلينا نشاطه الأول الذي كان في ماضيه، ويغني عنا ما فقدناه من فترة حاضرة، وهل تظنونه واضعاً بعد اليوم كتاباً مخلداً بعده، أو مخرجاً أثره يبقي آخر الحياة فخماً مهذباً سامياً على أثره.

إننا نعيش تحت جو حار يذبل عاجلاً فيه الذهن، وتخمد بسرعة القريحة، ولا يكاد الكاتب المبدع يجتاز الخمسين حتى يحس ذهنه متبلداً، ورأسه أشيب ناصعاً وخواطره قرة باردة، لا تلذ إلا في جلسات العجائز، حول الموقدة، فإذا لم يعن المفكر بنفسه ويتخذ الحذر لقريحته، ويسارع في وضع ما يعن له من تواليفه، ويستبق الخطى إلى الخلود قبل أن نعجله شيخوخته، فلا يلبث أن يرى الزمن يفر مسرعاً من بين راحته، ويمضي الحياة بلا تراث ذهني يذكره الناس به.

وكذلك نخشى على لطفي بك فتوره الوقتي اليوم، ونخاف تبلده وسكونه، ونشفق من أن يمضي عن الحياة مدير دار الكتب لا غير. . . . . .