مجلة البيان للبرقوقي/العدد 5/تاريخ الإسلام

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 5/تاريخ الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 2 - 1912


(المقدمة الثانية)

في الأديان تابع

هذه كلمة مجملة تمهيدية للكلام على تاريخ الأديان التي كانت موجودة قبل الإسلام ولاسيما في جزيرة العرب وما جاورها وليس علينا في هذا المقام أن نفيض القول في الدين وفي مذاهب العلماء والفلاسفة وأرباب الأديان فيه مما هو خارج عن دائرة المؤرخ وإن لذلك لموضعاً قد نطرق هذا المبحث فيه إن شاء الله.

الأديان التي كانت موجودة قبل الإسلام

ليس من السهل على المؤرخ أن يستقصى الديانات كلها دقيقها وجليلها فإن ذلك مما يخطئه العد والإحصاء وإنما الذي تناله الاستطاعة هو معرفة الديانات المشهورة التي عرفها التاريخ ولها أتباع معروفون ولذلك سيكون كلامنا في هذه المقدمة على الصابئة والمجوسية والبوذية والبرهمية واليهودية والنصرانية وعبدة الأصنام (المشركين) وبيان ما كان من هذه الديانات في جزيرة العرب وكل ذلك باخصر ما يمكن من القول إن شاء الله.

الصائبة

من الديانات القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب ديانة الصابئين أو المندائين الذين أرسل إليهم في القديم أخوهم إبراهيم الخليل وجرى بينهم وبينه ما هو معروف ومشهور.

ومهد هذه الديانة هي بلاد بابل وآشور أو مهد الإنسان الأول كما يقولون ولذلك أرسل إليهم في القديم أخوهم إبراهيم الخليل وجرى بينهم وبينه ما هو معروف ومشهور.

ومهد هذه الديانة هي بلاد بابل وآشور أو مهد الإنسان الأول كما يقولون ولذلك كانت البقية الباقية إلى الآن من أهل هذه الديانة محصورة في بعض البلدان الواقعة على ضفاف الفرات ودجلة قرب مصبهما.

وقد اختلف العلماء في أصل هذه الكلمة (صابئة) فذهب علماؤنا إلى أن الصابئة مأخوذة من صبأ عن الشيء إذا مال عنه وانحرف والصابئون قد انحرفوا عن سنن الحق في نبوة الأنبياء إلى عبادة الكواكب أو عدلوا عن التقيد بجملة كل دين وتفصيله إلى محاسن الديانات ومارأوه منها حقاً وكانت قريش تسمي النبي صابئاً والصحابة الصبأة لأنهم مالوا علما ألفته قريش وعن وثنيتهم إلى الإسلام - هذا مجمل ما قاله علماء اللغة والمفسرون وهو قد يكون صحيحاً في تأويل ما ورد من هذه المادة في القرآن ومعناها كما يريده الكتاب الكريم وفي تبيين معنى هذه اللفظة في اللغة العربية الحيلة وما يريده العرب الفصاح منها أما إذا قصدنا إلى سر تسمية هذه الطائفة بهذا الاسم عند نفسها إن كانت تسمي نفسها كذلك أو إلى معنى هذه اللفظة في أصلها الوضعى فربما كان أقرب إلى المعقول أن يكون اشتقاقها على ما قاله بعض الباحثين في علم اللغات من صبأوت العبرية ومعناها جند السماء دلالة على أنهم يعبدون الكواكب والعربية أخت العبرية وإن كان لا يعرف أيتهما السابقة أو ما هي أمهما - وقد تطورت هذه الديانة تبعاً لتطور أصحابها في أحوالهم الاجتماعية على أطوار شتى وذلك أنها كانت في الأول مبنية على تقديس الكواكب والأجرام السماوية في حين أنها عنوان عظمة الله وجلال خالقها أي أن تقديسها لم يكن إلا تقديساً لله جل شأنه كما هو الشأن في أصل غريزة الدين كما أسلفنا ثم وقفت بعد ذلك عند عبادة الكواكب ولم تعدها إلى ما وراءها أي أن أهلها صاروا يرون الكواكب آلهة. وعبروا على ذلك حيناً من الدهر حتى إذا رأوا الكواكب تختفي بالنهار وفي بعض أوقات الليل رأى فريق منهم أن يجعلوا لها أصناماً وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا أصناماً وتماثيل بعدد الكواكب المشهورة وسموها بأسمائها وفي هذا الطور أرسل إليهم إبراهيم الخليل الذي نشأ في أور الكلدانيين قبل ميلاد السيد المسيح حسبما جاء في التوراة بنحوٍ من ألفي عام وجرى بينهم وبينه ما هو مذكور في القرآن الكريم وقد بينه الشهرستاني صاحب الملل والنحل أحسن تبيين وقد سمي العرب والكتاب دين إبراهيم - الذي خالف به قومه الصابئة - الحنيف حتى صار اللفظتان (صابى وحنيف) من الألفاظ المتقابلة: وقد اضطربت كلمة اللغويين والمفسرين في معنى هذه الكلمة (حنيف) ونحن نورد هنا ما جاء في اللسان بخصوصها قال: وحنف عن الشيء وتحنف مال والحنيف المسلم الذي يتحنف أي يميل إلى الحق وقيل الذي يستقبل قبلة البيت على ملة إبراهيم وقيل هو المخلص وقيل من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيء فهو حنيف وقال أبو زيد الحنيف المستقيم.

تعلم أن سيهديكم إلينا ... طريق لا يجوز بكم حنيف

وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل: {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً} قال من كان على دين إبراهيم فهو حنيف عند العرب وقال الأخفش الحنيف المسلم وكان في الجاهلية يقال من اختتن وحج البيت حنيف لأن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت فكل من اختتن وحج قيل له حنيف فلما جاء الإسلام تمادت الحنيفية فالحنيف المسلم.

وقال الزجاح نصب (حنيفاً) في هذه الآية على الحال والمعنى بل نتبع ملة إبراهيم في حل حنيفيته ومعنى الحنيفية في اللغة الميل أي أن إبراهيم حنف إلى دين الله ودين الإسلام (والمراد بالإسلام هنا معناه الأصلي كما قدمنا في أول هذه الكلمة) وإنما أخذ الحنف من قولهم رجل أحنف ورجل حنفاء وهو الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها بأصابعها وقال الجوهري الحنيف المسلم وقد سمي المستقيم بذلك كما سمي الغراب أعور وتحنف الرجل أي عمل عمل الحنيفية ويقال اختتن ويقال اعتزل الأصنام وتعبد قال جران العود:

ولم رأينا الصبح بادرن ضوءه ... رسيم قطا البطحاء أوهن أقطف

وأدركن أعجازاً من الليل بعدما ... أقام الصلاة العابد المتحنف

إلى آخر ما جاء هناك مما لا يكاد يغاير ما أثبتناه هنا - وكل ما قاله اللغويون في ذلك على أن ظاهره الخلاف فإنه مجمع على أن الحنف الميل فإما ميل عن الشيء وهو أصل معناه وأما ميل إليه وقد تكلفوه من تسمية دين إبراهيم به أما الحنيفية فكالإسلام كلتاهما من الألفاظ التي انتقلت من وضعها الأصلي إلى معنى اصطلاحي لمكان المناسبة بينهما فدين إبراهيم حنيفاً لأنه مال عن دين الصابئة دين الأصنام وعبادة غير الله إلى دين يخلص إلى الله التوحيد والعبادة ويشتمل من أنواع العبادة وضروب الفطرة على الحج إلى بيت الله والاختتان وما إليهما فهذا مثار ما ترى من ذلك الغبار - قلنا إن الصابئة لما رأت الكواكب تختفي بالنهار وفي بعض أوقات الليل تخذت لها أصناماً وتماثيل على مثل الكواكب والنيرات فكان ذلك دليلاً على أنهم ما كانوا في الأصل ليعبدوا الأصنام لذاتها وإنما لتقربهم إلى الله أو إلى الكواكب وتقوم مقامهم - قال شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية في كتابة (إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان) الصابئة هم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه وهو مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى فمنهم عباد الشمس. زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها وهي عندهم ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والدعاء. . ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنماً بيده جوهر على لون النار وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث مرات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعونه ويستشفون به وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها وإذا غربت وإذا توسطت الفلك. . وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنماً وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه. تدبير هذا العالم السفلي ومن شريعة عبادته أنهم اتخذوا له صنماً على شكل عجل أو نحوه من ذوات الأربع وبيد الضم جوهرة يعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياماً معلومة من كل شهر ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات بين يديه. . ومنهم من يعبد أصناماً اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم. وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وعبادة تخصه - وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام فإنهم لا تستمر لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه. ومن ههنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناماً زعموا أنها على صورتها فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعل الصنم على شكله وهيئته وصورته ليكون نائباً منابه وقائماً مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلاً لا ينحت خشبه أو حجراً بيده ثم يعتقد أنه الهه ومعبوده انتهى كلام ابن قيم.

وهذا الذي قاله ابن قيم منذ ستة قرون هو الذي أطال في شرحه كارليل في كتابه الأبطال وجملته أن عبادة الأصنام في الأصل كانت لأن الصنم يمثل الإله وإن الإله كائن وفيه بشكل ما وكذلك فكل عبادة أية كانت هي عبادة بالرموز أو بالأشياء المنظورة وسواء تمثل الإله للعين الخارجية في صورة منظورة أو للعين الداخلية أعني للذهول أو للخيال فإنما هو فرق عرضي لا جوهري إذ لا تزال تبقى هذه الحقيقة وهي أن هناك شيئاً ينظر - بالعين أو بالذهن - دليلاً على الأدلة أعنى وثنا. وليس يخلو أورع الناسكين وأولع المتصوفين من الممثلات الذهنية للأشياء المقربة وبها يعبد الله ولولاها ما وجد للعبادة سبيلاً -.