مجلة الرسالة/العدد 139/حوادث الشرق الأقصى

مجلة الرسالة/العدد 139/حوادث الشرق الأقصى

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 03 - 1936



الصراع بين اليابان وأوربا حول سيادة الصين وآسيا

بقلم باحث دبلوماسي كبير

يضطرم الشرق الأقصى كما تضطرم أوربا ويضرم شرق أفريقية بحوادث خطيرة سياسة وعسكرية؛ وتتخذ هذه الحوادث لأول وهلة صبغة محلية، وتبدو متفرقة لا تربطها رابطة عامة؛ ولكن هذه النظرة السطحية لا تعبر عن الحقيقة المستترة؛ ذلك أن هذه الحوادث الخطيرة التي تجوزها القارات الثلاث تربطها جميعاً عوامل وظروف مشتركة: فالحرب الإيطالية في شرق أفريقية هي نتيجة لتطورات السياسة الاستعمارية الأوربية، وتوغل اليابان في الأراضي الصينية هو نفثة من نفثات الصراع بين الجنس الأصفر والاستعمار الغربي، ونتيجة لتطورات السياسة الأوربية العامة، وانشغال أوربا بمعاركها السياسية الداخلية، بل إن هذه الحوادث التي تقع في أماكن وأقطار متباعدة تكون في الواقع وحدة متماسكة الاطراف، فهي جميعاً ثمرة تلك الثورة العميقة الجامعة التي تجيش بها السياسة الدولية منذ بضعة أعوام، والتي تسفر عن نتائجها الخطيرة تباعاً في سلسلة من الحوادث متصلة الحلقات برغم تباعدها وتباينها

وفي الشرق الأقصى في سهول الصين الشاسعة، تضطرم بين أوربا وآسيا معركة هائلة، ربما كانت حاسمة في مصاير الجنس الأصفر والاستعمار الأوربي؛ فاليابان التي هي اليوم زعيمة الجنس الأصفر بلا منازع، تتوغل في أقطار الصين الشاسعة تباعاً غير مكترثة بأية مقاومة محلية أو خارجية؛ وقد كانت الصين قبل الفورة اليابانية الأخيرة تعتبر دائماً ميداناً خصباً للاستعمار الغربي؛ ولا تزال الدول الأوربية الكبرى تبسط نفوذها الاقتصادي على مناطق غنية شاسعة في شرق الصين وجنوبها، وهذه الدول تنظر اليوم إلى مركزها في الصين بعين التوجس والجزع؛ بيد أن المعركة الكبرى تنشب في الحقيقة في شمال الصين الشرقي حيث تلتقي اليابان وروسيا وهما العدوتان الخالدتان اللتان يتمثل في صراعهما اليوم صراع الجنسين الأصفر والأبيض؛ وقد وقعت أخيراً في شمال الصين حوادث ومعارك خطيرة تؤذن بأن هذا الصراع يتخذ اليوم صورة حاسمة؛ فاليابان التي غزت منشوريا واحتلتها منذ سنة 1931، وأقامت فيها إمبراطورية صورية باسم منشوكيو، تتقدم اليوم في الصين صوب الجنوب وصوب الشرق. ونظرة سريعة إلى خريطة الصين ترينا إلى أي حد وصل التوغل الياباني في الصين الوسطى حتى شمل اليوم مقاطعات برمتها في شهيلي وشاهار، وتعدى السور الكبير إلى حدود بكين عاصمة الصين القديمة؛ وقد استطاعت اليابان أخيراً بحركة ضغط عسكرية وسياسية قامت بها أن ترغم الحكومة الوطنية الصينية (حكومة نانكين) على الموافقة على إقامة نظام سياسي وإداري خاص في بعض المناطق الوسطى بحيث تخرج عن نفوذ الحكومة الوطنية وتقع تحت نفوذ السلطات اليابانية؛ بيد أن اليابان لا تلقى أعظم مقاومة في هذه النقطة من الصين، بل يلوح لنا أن الصين ذاتها قد أخذت تذعن أخيراً للأمر الواقع، وترى التقدم الياباني أمراً لا مندوحة عنه ولا سبيل إلى رده؛ وترى الحكومة الوطنية وعلى رأسها الجنرال شانج كاي شك، أن تطور مصاير الصين على هذا النحو خير من بقائها فريسة لمشاريع الاستعمار الغربي؛ أولاً لأن الصين لا تستطيع مقاومة اليابان، وثانياً لأنها تنشد السلام الداخلي، وتطمح إلى إلغاء المعاهدات الأجنبية التي استطاعت الدول بمقتضاها أن تتوغل في شؤونها ومرافقها، وكذلك إلى استعادة سلطانها ونفوذها في منغوليا والتركستان الصينية، حيث يسود النفوذ الروسي، والتبت حيث يسود النفوذ البريطاني، ولا تستطيع الصين أن تطمح إلى تحقيق هذه الآمال ما لم تعتمد على معاونة حليف قوى كاليابان، هذا فضلاً عن أن هناك من الروابط الجنسية والاجتماعية بين اليابان والصين ما يخفف وقع النفوذ الياباني، ويحمل الشعب الصيني على تفضيله على أي نفوذ أجنبي آخر

وإنما يضطرم الصراع الحقيقي في شمال الصين بين اليابان وروسيا. وقد كانت الحرب اليابانية الروسية في سنة 1904 عنواناً للصراع بين الجنس الأصفر والجنس الأبيض، وكانت هزيمة روسيا في تلك الحرب فاتحة النصر الحقيقي للجنس الأصفر ومثاراً لمخاوف أوربا والاستعمار الغربي في آسيا؛ ذلك لأنه لأول مرة في التاريخ تنتصر دولة آسيوية لم تنفض عنها بعد غمر الماضي المظلم على دولة أوربية عظمى، وترغم أوربا على الاعتراف بتفوقها العسكري والسياسي؛ بيد أن روسيا استطاعت رغم هزيمتها أن تحتفظ بمعظم أملاكها ومناطق نفوذها في الصين؛ ومع أن اليابان خرجت من تلك الحرب بمغانم استعمارية كبيرة منها استيلاؤها على بورت أرثر، ونصف جزيرة سخالين، والسكة الحديدية الشرقية، وتوطد نفوذها في كوريا التي غدت فيما بعد مقاطعة يابانية، فإنها لم تفتأ منذ انتصارها تحاول توسيع نفوذها في تلك المنطقة على حساب النفوذ الروسي، وما زالت روسيا من جانبها تقاومها بكل الوسائل، وتعمل على وقف أطماعهما ومشاريعها؛ ولم يحد البلاشفة عن سياسة القياصرة في هذا الشأن، فقد عملت روسيا السوفيتية بكل ما وسعت على توطيد سياستها ونفوذها في الصين، ووقفت تناضل اليابان وجها لوجه، وكادت في الأعوام الأخيرة أن تشتبك معها غير مرة في حرب استعمارية، ومع أنها اضطرت أخيراً أن تبيع لليابان حقوقها في السكة الحديدية الشرقية تجنباً للاصطدامات الخطرة، فان النضال السياسي ما يزال بين الدولتين على أشده، وقد أسفر في الأسابيع الأخيرة عن عدة حوادث ومناوشات دموية دلت على تفاقم خطر الحرب في الشرق الأقصى

ويدور الصراع الآن بين اليابان وروسيا حول منغوليا التي تشغل مساحة شاسعة في شمال الصين والتي تجاور منشوكيو من الغرب؛ وتنقسم منغوليا سياسياً إلى قسمين أحدهما منغوليا الشمالية أو منغوليا الخارجية وهي تجاور سيبيريا وتقع تحت السيادة الروسية، وقد حولها البلاشفة منذ أعوام إلى جمهورية سوفيتية باسم (تشيتا)؛ ومنغوليا الجنوبية أو منغوليا الداخلية، وقد كانت من قبل وحدة سياسية مستقلة داخلياً تحت حماية الصين، ولكمن السياسة البلشفية استطاعت منذ سنة 1924 أن تجذبها إلى حظيرتها وأن تجعل منها جمهورية مستقلة حليفة لموسكو؛ ومن جهة أخرى فان التركستان الصينية تقع تحت النفوذ السوفيتي، وقد وقعت فيها أخيراً حوادث وتطورات أدت إلى انفصالها عن الصين؛ وهكذا تسيطر روسيا على معظم أنحاء الصين الشمالية والغربية، بينما تسيطر اليابان على الأقاليم الشرقية الشمالية وبعض الأقاليم الوسطى؛ ويحتدم النضال بين الدولتين الاستعماريتين الكبيرتين حول السيادة والغلبة في تلك الإمبراطورية الصينية الشاسعة التي تنقسم اليوم إلى وحدات سياسية عديدة تمهد بتنافسها وخصامها المستمر إلى تسرب النفوذ الأجنبي وتوطيده

وتمثل اليابان هذا الصراع الهائل الجنس الأصفر والجامعة الآسيوية، وتستعد لخوضه بجميع قواها السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ وتمثل الروسيا فيه مصالح الجنس الأبيض والاستعمار الغربي في آسيا؛ ومع أن روسيا السوفيتية لا تحظى بكثير من عطف الدول الغربية، فإنها تعتبر مع ذلك حاجزاً منيعاً في سبيل الزحف الياباني نحو الغرب، وتؤيدها الدول الاستعمارية الكبرى في هذا الصراع؛ ذلك أن تقدم اليابان نحو الغرب والجنوب يكون معناه انهيار صرح أوربا الاستعماري في الصين، ويكون نذيراً بتقويض السيادة البريطانية في الهند، والسيادة الفرنسية في الهند الصينية، والسيادة الهولندية في جاوه وسومطره؛ ونذيراً بتقويض سيادة السوفيت في منغوليا والتركستان؛ وتقويض صرح الاستعمار الغربي في هذه البلاد والأقاليم الشاسعة الغنية، معناه تقويض سيادة أوربا الاقتصادية في آسيا وضياع تلك الأسواق الرابحة التي غنمتها في ظل هذه السيادة التي تؤيدها جميع الوسائل والقوى الاستعمارية المادية والمعنوية

وليس من شك في أن اليابان تتقدم في هذا السبيل بخطى واسعة تزعج أوربا وتروعها؛ فالصناعة اليابانية التي تدعمها ظروف محلية مدهشة تتقدم في جميع الميادين بخطى هائلة، وقد غزت التجارة اليابانية الأسواق الآسيوية القديمة بسرعة مدهشة، وتخطى هذا الغزو إلى أوربا وأخذ يحدث الارتباك والذعر في أسواقها، وأخذت أوربا تفكر في مصايرها الاقتصادية التي تدعمها في آسيا وأفريقيا سيادة استعمارية تجوز اليوم في آسيا أمام الغزو الأصفر مأزقاً من أخطر المآزق، والواقع أن اليابان تخوض غمار النضال مع الغرب في ظروف حسنة جداً، فأوربا تشغل اليوم إلى أقصى حد بمشاكلها ومسائلها الخاصة؛ وبينما تشخص الأبصار نحو ألمانيا ونهوضها الحربي، وبينما تشتغل فرنسا بالتحوط لمقاومة ألمانيا وتوطيد تحالفها مع السوفييت، وتشتغل إيطاليا بحلمها الاستعماري، وتشتغل إنكلترا بمقاومة مشاريع إيطاليا الاستعمارية، إذا باليابان تحصر اهتمامها ومشاريعها في الصين، وتنذر أوربا وأمريكا في جرأة وصراحة أن ارفعوا أيديكم عن الصين، وتعلن عزمها على مقاومة أي تدخل أو محاولة استعمارية جديدة من جانب الدول في الصين، على نحو ما يقرره مبدأ مونرو الأمريكي بالنسبة لأمريكا؛ وقد كانت الدول الأوربية تعتمد من قبل على اضطرام المنافسة بين اليابان وأمريكا حول السيادة في المحيط الهادي، واشتغال اليابان بأمر هذه السيادة والتحوط لضمانها وتوطيدها، وكانت السياسة الأمريكية منذ أعوام تتجه فعلا إلى مناوأة اليابان والحد من أطماعها، ولكن أمريكا اليوم ترتد إلى سياستها القديمة، وتنظر إلى مشكلة الباسفيك بعين أخرى، وترى أن تقتصر على تأمين سلامتها البحرية في شرق المحيط، يدل على ذلك أنها تنازلت عن حمايتها على جزائر الفليبين التي كانت ترمى إلى اتخاذها من قبل قاعدة لمقاومة اليابان ومناوأتها؛ وإذاً ففي وسع اليابان اليوم أن تعمل حرة من هذه الناحية مطمئنة إلى موقف أمريكا وحيادها؛ وليس في وسع الدول الأوربية من جهة أخرى أن تقوم في الوقت الحاضر بأية حركة مشتركة لوقف الزحف الياباني نحو الغرب، ولا يقف في وجه اليابان اليوم سوى روسيا السوفيتية التي تشتبك معها كما بينا في عدة ميادين ومصالح خطيرة؛ وروسيا السوفيتية تعمل دائماً لمواجهة الخطر الياباني ورده، لأنه ينصب أولاً على سيادتها الاستعمارية الباذخة في آسيا، وهي من جهة أخرى تمثل قضية الغرب في هذا الصراع الجنسي والاقتصادي الخطير؛ ولكن روسيا تواجه في أوربا أيضاً خطراً أخر هو الخطر الألماني. وهو نفس الخطر الذي تواجهه فرنسا، ومن ثم تحالف الدولتين ضد الخطر المشترك؛ والسياسة البريطانية تشد أزر روسيا في هذا الصراع أيضاً، ولكنها تنظر من جهة أخرى بعين الارتياح إلى اشتغال روسيا بمقومة الخطر الياباني لأنه يحول أنظارها عن العمل لمناوأتها في الهند وأفغانستان

والخلاصة أن خطر الحرب يجثم في الشرق الأقصى، كما يجثم في أوربا، وتطورات الحوادث في الشرق والغرب تسير مرتبطة متفاعلة؛ وقد تضطرم شرارة الحرب الأولى في الشرق الأقصى، كما قد تضطرم في الغرب، ولكنها كفيلة بأن تفضي في أي الحالتين إلى إضرام نار الحرب العالمية الجديدة

(* * *)