مجلة الرسالة/العدد 15/صور من التاريخ الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 15/صور من التاريخ الإسلامي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1933



عمر بن عبد العزيز 62 - 101هـ

للأستاذ عبد الحميد العبادي

3

لم يكن عمر بن عبد العزيز صاحب حق في الخلافة بمقتضى نظام الخلافة الأموية. ولكن ذيوع فضله وسموه الروحي على سائر بني أمية لفت اليه نظر أولي الحل والعقد من صلحاء الشام أمثال رجاء بن حيوة الكندي وابن شهاب الزهري ومكحول الشامي، فلما مرض سليمان بن عبد الملك بدابق مرضه الذي مات فيه ولم يكن له ولد بالغ يعهد اليه، لم يزل به رجاء بن حيوة وأصحابه حتى كتب عهده لعمر بن عبد العزيز، ثم من بعده ليزيد ابن عبد الملك. ثم أمر فأخذت البيعة من بني أمية لمن سمى في عهده دون أن يعينه لهم، فلما قبض سليمان وأعلن الأمر إلى بني أمية جددوا البيعة لعمر على كره منهم (20 صفر سنة99)

شرع عمر في تنفيذ برنامجه الإصلاحي منذ تم له الامر، ولقد كان له من زهده، ومناصرة العلماء له، ومؤاتاة أهل بيته: زوجه فاطمة، وابنه عبد الملك، وأخيه سهل، ومولاه مزاحم، أقوى عون على ما أراد. بدأ عمر بمنصب الخلافة ممثلا فيه فجرده من كل مظاهر الأبهة ورده إلى بساطته القديمة؛ ولا أدل على ذلك من كلام ابن عبد الحكم قال: (ولما دفن سليمان وقام عمر بن عبد العزيز قربت اليه المراكب؛ فقال ما هذه؟ فقالوا مراكب لم تركب قط يركبها الخليفة أول ما يلي. فتركها وخرج يلتمس بغلته؛ وقال يا مزاحم ضم هذه إلى بيت مال المسلمين. ونصبت له سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط كانت تضرب للخلفاء أول ما يلون، فقال ما هذه؟ فقالوا سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط يجلس فيها الخليفة أول ما يلي، قال يا مزاحم ضم هذه إلى أموال المسلمين، ثم ركب بغلته وانصرف إلى الفرش والوطاء الذي لم يجلس عليه أحد قط، يفرش للخلفاء أول ما يلون، فجعل يدفع ذلك برجله حتى يفضي إلى الحصير، ثم قال يا مزاحم ضم هذه لأموال المسلمين.

(وبات عيال سليمان يفرغون الأدهان والطيب من هذه القارورة إلى هذه القارورة، ويلبسون ما لم يلبس من الثياب حتى تتكسر. وكان الخليفة إذا مات فما لبس من الثياب أ مس من الطيب كان لولده، وما لم يمس من الثياب وما لم يمس من الطيب فهو للخليفة بعده. فلما أصبح عمر قال له أهل سليمان هذا لك وهذا لنا، قال: وما هذا، وما هذا؟. . . ما هذا لي ولا لسليمان ولا لكم ولكن يا مزاحم ضم هذا إلى بيت مال المسلمين. ففعل، فتآمر الوزراء فيما بينهم فقالوا: أما المراكب والسرادقات والحجر والشوار والوطار فيه رجاء بعد أن كان منه فيه ما قد علمتم، وبقيت خصلة وهي الجواري نعرضهن، فعسى أن يكون ما تريدون فيهن، فان كان وإلا فلا طمع لكم عنده. فأتى بالجواري فعرضن عليه كأمثال الدمى، فلما نظر إليهن جعل يسألهن واحدة واحدة من أنت؟ ولمن جئت؟ ومن بعثك؟ فتخبره الجارية بأصلها ولمن كانت وكيف أخذت فيأمر بردهن إلى أهلهن ويحملهن إلى بلادهن حتى فرغ منهن. فلما رأوا ذلك أيسوا منه وعلموا أنه سيحمل الناس على الحق)

ثم عمد إلى النظام الإقليمي فأصلحه بأن عزل العمال المتشبعين بروح الحجاج، عزل يزيد بن المهلب وحبسه في مال كان للدولة في ذمته، ونفى نفرا من بني عقيل أسرة الحجاج، وولى عمالا جددا لم يحفل في تخيرهم بعصبياتهم ولا بقدرتهم على جمع الأموال كما كانت الحال من قبل، ولكن بحسن سيرتهم وطهارة ذمتهم، فكان من عماله عدي بن أرطاة الفزاري والي البصرة، وعبد الحميد بن عبد الرحمن القرشي والي الكوفة، وعبد الرحمن بن نعيم القشيري أمير خراسان، وأبو بكر بن حزم أمير المدينة، والسمح بن مالك الخولاني أمير الأندلس. وقد شد أزر الولاة بقضاة عدول، فجعل الحسن البصري على قضاء البصرة، وعامرا الشعبي على قضاء الكوفة كما جعل أبا الزناد كاتبا لأمير الكوفة. ولم يكتف عمر بذلك في إصلاح الإدارة الإقليمية بل تقدم إلى العمال في أمر العقوبات ألا يأمروا بقطع أو صلب قبل مراجعته هو أولاً.

ثم ثنى عمر بالمسائل المالية فرد المظالم، والمراد بالمظالم الأموال التي استولى عليها بنو أمية بغير حق، وقد بدأ في ذلك بنفسه فخرج لبيت المال عن كل مال لم يرض سبب تملكه، حتى لم يبق له الا عقار يسير ببلاد العرب يغل عليه غلة يسيرة فوق عطائه الذي كان يبلغ مائتي دينار في العام، ثم أخذ يتتبع أموال بني أمية يرد منها ما ليس مشروع الملكية إلى مستحقه، وقد هاج ذلك سخط بني أمية عليه، وذهبوا ينعون عليه أخذه أموالهم باسم (المظالم)؛ فلم تلن لغامزهم قناته، وأراهم أنه لا يحجم عن بلوغ الغاية في التنكيل بهم إذا اقتضى الأمر ذلك. يروي ابن عبد الحكم (ان رجلا من أهل حمص أتاه يخاصم روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت بحمص كان أبوه الوليد أقطعه إياها، فقال له عمر أردد عليهم حوانيتهم؛ قال له روح: هذا معي بسجل الوليد، قال وما يغني عنك سجل الوليد والحوانيت حوانيتهم، قد قامت لهم البينة عليها؟ خل لهم حوانيتهم. فقام روح والحمصي منصرفين، فتوعد روح الحمصي، فرجع الحمصي إلى عمر، فقال هو والله متوعدي يا أمير المؤمنين، فقال عمر لكعب بن حامد وهو على حرسه: أخرج إلى روح يا كعب، فان سلم اليه حوانيته فذلك، وان لم يفعل فأتني برأسه! فخرج بعض من سمع ذلك ممن يعنيه أمر روح بن الوليد فذكر له الذي أمر به عمر، فخلع فؤاده. وخرج اليه كعب وقد سل من السيف شبرا، فقال له: قم فخل له حوانيته! قال نعم! نعم! وخلي له حوانيته)

وسار عمر في إصلاح الشئون المالية على الأساس الشرعي، فالأموال ينبغي أن تجبى من وجوهها وتنفق في مصارفها الشرعية، فمن أسلم من أهل الذمة سقطت عنه الجزية، وقد اسقط الجزية فعلا عن كثير من موالي خراسان وأهل مصر، وقال مقالته المشهورة (إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا) ونهى عن أن تصير الأرض الخراجية أرضا عشرية ابتداء من سنة 100 هـ مع عدم التعرض للحقوق التي اكتسبت من قبل، وألغى وظيفة مالية وظفها أخو الحجاج بن يوسف على اليمن فوق الزكاة، ونهى العمال عن اقتضاء أطلاق مالية لم يرد بها الشرع، وقد جمعها في كتابه إلى عامله على الكوفة فقال (ولا تحمل خرابا على عامر، ولا عامرا على خراب، أنظر إلى الخراب فخذ منه ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر الا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن في الخراج. . . أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض)

وقد وسع عدل عمر أهل الذمة من هذه الناحية كما وسع المسلمين، فانه لما شكا اليه أهل نجرانية الكوفة تناقص عددهم إلى العشر مع بقاء جزيتهم على حالها، أمر برد جزيتهم إلى العشر (البلاذري، ص 67) كذلك رد جزية قبرس إلى ما كانت عليه وقت الفتح وألغى ما زاده عليها عبد الملك بن مروان (البلاذري 154) ويروي البلاذري أيضا (ص 422) انه (وفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا اليه، أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب عمر إلى عامله يأمره أن ينصب لهم قاضيا ينظر فيما ذكروا، فان قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم جميع بن حاضر الناجي، فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء. فكره أهل سمرقند الحرب وأقروا المسلمين) وأبلغ من ذلك في الدلالة على تحري عمر العدل المطلق ما رواه البلاذري (ص 124) قال (قال ضمرة عن علي بن أبي حملة، خاصمنا عجم أهل دمشق في كنيسة كان فلان قطعها لبني نصر بدمشق، فأخرجنا عمر منها وردها إلى النصارى) ويروي البلاذري أيضا (ص 125) أن الوليد بن عبد الملك قد أدخل كنيسة يوحنا في مسجد دمشق بغير رضا النصارى (فلما استخلف عمر بن عبد العزيز شكا النصارى اليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم. فكره أهل دمشق ذلك وقالوا نهدم مسجدنا بعد أن أذنا فيه وصلينا ويرد بيعة، وفيهم يومئذ سليمان ابن حبيب المحاربي وغيره من الفقهاء، وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التي أخذت عنوة وصارت في أيدي المسلمين، على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم. فكتب به إلى عمر فسره وأمضاه) ذلك موقف عمر بن عبد العزيز من أهل الذمة. أما ما ينسب اليه في بعض كتب الفقه من تحامل عليهم، وانه كتب إلى عماله بعزلهم عن أعمال الدولة وأخذهم بألوان من الاضطهاد والتضييق عليهم (الخراج لأبي يوسف 73) فغير مؤتلف مع المستيقن من سيرته على فرض صحته، وقد يكون نوعا من العقاب كان يعاقب به ذميو الحدود الإسلامية إذا هموا بمظاهرة العدو على المسلمين.

وكما كان عمر حريصا على جباية الأموال العامة من مصادرها الصحيحة. فقد كان كذلك حريصاً على أن تنفق في مصارفها الشرعية. فمن حيث الفيء، قد فرض لذرية المقاتلة وعيالهم عملاً بسنة عمر بن الخطاب التي ترك بنو أمية العمل بها، وكتب الى عامله في الكوفة (وانظر من أراد من الذرية الحج فعجل له مائة يحج بها). وفرض لعشرين ألفا من الموالي كانوا يغزون بخراسان بغير عطاء. وأظهر استعداده لان يحمل من بيت المال إلى خراسان أموالا إذا كان خراجها لا يفي بعطاء أهلها. ومن حيث أموال الزكاة، فكانت صدقات كل إقليم تقسم على عهده في فقراء أهله، وقد قسم في فقراء البصرة كل إنسان ثلاثة دراهم وأعطى الزمني خمسين خمسين، وفرض للفقيرات من عوانس النساء، وأعتق كثيرا من الرقاب. وقد كتب إلى أحد عماله (ان اعمل خانات في بلادك، فمن مر بك من المسلمين فاقروهم يوما وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين. فان كان منقطعا به فقووه بما يصل به إلى بلده) وأمر عماله بقضاء الديون عن الغارمين فكتب اليه بعضهم (أنا نجد الرجل له المسكن والخادم وله الفرس والأثاث في بيته) فكتب عمر (لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي اليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه) ولما رأى عمر أن ليس للشعراء حق في بيت المال جعل يجزهم من عطائه وماله الخاص على قلته، بالدراهم والدنانير المعدودة، وقد أدرك الشعراء سبب تحرجه هذا فكانوا يقبلون منه العطاء اليسير أو الرد أحيانا بغير عطاء، ولم يقصروا في مدحه وقدره.

على ان أهم ميزة تميز عمر بن عبد العزيز من غيره من خلفاء الإسلام ورؤساء الدول طراً فيما نعلم انما هي رغبته الصادقة في نشر لواء السلم، لا على بلاده وحدها ولكن على العالم بأسره. ولبيان ذلك نقول انه عمد في داخل الدولة الإسلامية إلى الأحزاب التي ناوأت الأمويين منذ قام ملكهم فترضاها وحملها على ما يريد من إيثار السلم والعافية. فالشيعة استجلب مودتهم بان منع سب علي بن أبي طالب على المنابر، وبأن رد على العلويين (فدكا) التي رآها حقا قديما لهم قد غصبوه. والخوارج قد كبح جماحهم من طريق المجادلة بالحسنى والإقناع بالحجة والبرهان. فعندما ظهر شوذب الخارجي بأرض فارس أمر عمر ألا يقاتلوا حتى يسفكوا دما أو يفسدوا في الأرض، وكتب في الوقت نفسه إلى شوذب يطلب اليه المناظرة في دعواه، فأنفذ اليه الخارجي اثنين من فقهاء الخوارج ليناظراه. وقد استطاع عمر أن يهدم كل حجة أورداها الا ما احتجا به من إقراره يزيد بن عبد الملك على ولاية العهد مع ما يعلم من قبح سيرته، وكان من وراء هذه المناظرة الطريفة أن انضم أحد الخارجيين إلى عمر، وأما الآخر فعاد إلى أصحابه وأنهى إليهم على ما يظهر من سيرة الخليفة ما حملهم على السكون طوال عهده. أما الموالي فقد قطع أسباب شكواهم، بأن أسقط الجزية كما رأينا عنهم، وبأن فرض لمقاتلتهم عطاء. وأما العصبية القبلية من يمنية ومضرية وربعية فقد هدأ من حدتها، بأن ردع الشعراء الذين كانوا يذكون نارها، وبأن اختار ولاته بالنظر إلى كفايتهم لا إلى قبائلهم.

أما من حيث العلاقات الخارجية، فقد سلك عمر بن عبد العزيز في الأمر مسلكا بدعا لم يسبق اليه ولم يلحق فيه. ذلك أنه أقفل جميع الجيوش الإسلامية التي كانت تغزو وراء الحدود، أقفل مسلمة ابن عبد الملك وكان مرابطا حول أسوار قسطنطينية وأعانه على القفول بأموال بعث بها اليه. وأقفل الغزاة بما وراء النهر على كره منهم كما أقفل من كانوا يغزون بالسند. على أن عمر لم يقف في هذا الأمر الخطير عند هذا الحد، بل اتبع العدول عن سياسة العنف بالدعوة السلمية إلى الإسلام. يروي البلاذري أنه لما أقفل الجيوش التي كانت تغزو بما وراء النهر كتب إلى ملوك تلك الجبهة من الترك يدعوهم إلى الإسلام فأسلم بعضهم. ولما انتقض ملوك السند كتب إليهم يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، قال البلاذري (وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلم جيشبة والملوك وتسموا بأسماء العرب) كذلك كانت سياسته بازاء بربر المغرب الذين أشجوا الجيوش العربية زهاء ثمانين عاما. يقول البلاذري (ثم لما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز ولى المغرب إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم، فسار أحسن سيرة ودعا البربر إلى الإسلام، وكتب إليهم عمر كتبا يدعوهم بعد إلى ذلك، فقرأها إسماعيل عليهم في النواحي فغلب الإسلام على المغرب. ويذكر المؤرخ اليوناني تيوفان أن عمر كتب أيضا إلى الأمبراطور البيزنطي يدعوه إلى الإسلام.

وكأن عمر بن عبد العزيز قد اطلع بلحظ الغيب على نظمنا الحديثة التي تفرض على الدولة الأشراف على التعليم والعمل على نشره بين أبنائها. فقد أراد تعليم الناس كما يؤخذ من قوله في رواية ابن عبد الحكم (ان للإسلام حدودا وشرائع وسننا. . . . . فان أعش أعلمكموها وأحملكم عليها) بل لقد أخذ في ذلك بالفعل فبعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن محمد الأشعري إلى البادية ليفقها الناس وأجرى عليهما رزقا. ثم هو أول خليفة أمر بجمع أحاديث رسول الله وتدوينها. نقل السيوطي (ان عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر محمد بن خزم أن انظر ما كان من حديث رسول الله (أو سننه فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز انه كتب إلى الآفاق ان أنظروا إلى حديث رسول الله (فاجمعوا) قال في فتح الباري يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي

وبعد، فماذا كان اثر تلك الجهود كلها؟ لقد أدت إلى الغاية التي كان يرمي أليها عمر. فقد طاف بالأمة الإسلامية اذ ذاك طائف الزهد والورع والتدين اقتداء بخليفتها، والناس على دين ملوكهم كما قالوا قديما. يروي الطبري (وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ مصانع وضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانه، فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل، ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وما تصوم من الشهر؟ وأصبح الناس وقد شملتهم نعمتا الرضا واليسر. قال (كثير) يخاطب عمر ويمدحه:

تكلمت بالحق المبين وانما ... تبين آيات الهدى بالتكلم

وصدقت موعود الذي قلت بالذي ... فعلت فأمسى راضيا كل مسلم

وروى ابن عبد الحكم قال (قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات أفريقية فاقتضيتها وطلبت فقراء نعطيها فلم نجد بها فقيرا، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم وولاؤهم للمسلمين)

نعم، لقد أغنى عمر الناس جميعا إلا نفسه وأهله. فلم ير ولي قوم أعف عن مالهم منه، ولم ير أهل بيت أصبر على الطعام الخشن والثوب المرقوع والبيت المتهدم منه ومن أهل بيته. ولقد أراح عمر الناس ولكنه أتعب نفسه، فكان حركة دائمة يعمل ليل نهار حتى ذهبت نضرته واحترق جسمه. وزاده هما فقدانه في آجال متقاربة من عهده القصير أحبابه وأعوانه: ابنه عبد الملك، وأخاه سهلا، ومولاه مزاحما، فلم يقو جسمه على احتمال العمل والألم، فاسلم الروح بخناصرة في 25 رجب سنة 101 ولما يعد التاسعة والثلاثين من عمره. وقد دفن بدير سمعان قريبا من دمشق.

لا ندري ماذا كان عمر صانعا لو مد له في حياته؟ أغلب الظن انه كان يتلافى موضع الضعف من إصلاحه فيقيم هذا الإصلاح على أساس ثابت لا يتزعزع بمجرد موته. ومهما يكن من شيء فقد فاز عمر بن عبد العزيز بتقدير أنصاره وخصومه على السواء. فهو عند أهل السنة مجدد المائة الأولى وآخر الخلفاء الراشدين، وقد رضى عنه العلويون وأهدى إلى روحه في أواخر القرن الرابع شاعرهم الشريف الرضي أبياتا من الشعر حارة جميلة، بل ان العباسيين عندما قامت دولتهم احترموا قبره فلم ينبشوه كما نبشوا قبور غيره من بني أمية، على أن أبلغ من وصفه وابنه رجل كان يحكم الظروف السياسية خصمه العنيد بل عدوه اللدود، ذلك ملك الروم أليون الثالث. أخرج ابن الجوزي عن محمد بن معبد قال (أرسل عمر بن عبد العزيز بأساري من أساري الروم ففادى بهم أساري من المسلمين. قال فدخلت على ملك الروم يوما فإذا هو جالس على الأرض مكتئبا حزينا. فقلت ما شأن الملك؟ فقال أو ما تدري ما حدث؟ قلت ما حدث؟ قال مات الرجل الصالح! قلت من؟ قال عمر بن عبد العزيز، ثم قال ملك الروم: لأحسب انه لو كان أحد يحيى الموتى بعد عيسى بن مريم لأحياهم عمر بن عبد العزيز. ثم قال إني لست أعجب من الراهب أن أغلق بابه ورفض الدنيا وترهب وتعبد، ولكني أعجب ممن كانت الدنيا تحت قدميه فرفضها وترهب)

أما نحن فنلحظ فيه خير نزعاته واشرف عواطفه: نلحظ فيه حبه للسلام وسعيه في توفيره في العالم، فهو بحق داعية السلام في القرن الأول الهجري والثامن الميلادي، وكفى بذلك مفخرة في الدنيا، وقربة في الآخرة.