مجلة الرسالة/العدد 155/دراسات أدبية

مجلة الرسالة/العدد 155/دراسات أدبية

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 06 - 1936



في الأدب الإيطالي الحديث

تتمة

بقلم محمد أمين حسونة

وقد ذكر بابيني أن هذه الرواية هي قصة جيل كامل. والواقع أننا لا نلمس فيها سوى أثر الآلام التي يشكو منها جيل المثقفين من المرضى النورستانيين، الذين تتسلط عليهم الأفكار السوداء، فوقف تقدمهم الفكري دون الخلق والإبداع. وقد حاول بابيني في هذه الرواية أن يطبق أصول الفلسفة العملية (البراجماتزم)، وأن يخلط الجد بالهزل ليخرج لنا الحقائق الفاجعة، والسخريات المرة اللاذعة.

أما كتابه الذي أصدره في غضون الأعوام الأخيرة بعنوان (جوج) ففيه ينقد بقسوة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والدينية ناقماً على الثقافات التي تقود العالم إلى الدمار والخراب ما خلا الثقافة اللاتينية، فهو يزعم أن في استطاعتها وحدها أن تنقذ العالم من الويلات التي يتردى في أعماقها.

والواقع بابيني إنما يستقى فنه من تيار سابق لتفكير بيراندللو. والفرق بينهما أن بيراندللو استطاع أن يتخلص من آثار العقل الخصب، وأن يخلع على أبطاله ظلاً من روح الفكاهة والمرح. أما بابيني فلفرط استغراقه في الفلسفة تراه يطبع رواياته بهذا الطابع الجاف الذي يباعد بينه وبين تفكير الجيل.

وفي الوقت الذي بدأ الناس يميلون إلى الروح الهادئة في الفن القصصي وإلى الشخصيات التي تمثل التضحية أو الإخلاص أو المثل الأعلى، يلجأ بابيني إلى غمر قصصه بالنظريات الفلسفية، تاركاً للقراء حرية تفسيرها في ضوء الحوادث. ولذا نلمح أن معظم أبطاله يعيشون في جو مظلم، ويقاومون أعاصير الحياة عن طريق المذاهب العقلية.

ولعل في حياة بابيني الأدبية عظة بالغة، فهو يحارب الشعراء لأنهم في نظره بلهاء كالأطفال، وقد اتخذ لنفسه منذ نشأته صفة المجادل الذي يحاول مناقشة آراء خصومه عن طريق هدم مجدهم الأدبي تمهيداً لتشييد صرحه فوق أنقاضه، لكنه لم يهدم في النهاية سوى نفسه، حتى إن فلسفته أوشكت أن تموت في أذهان القراء.

المدرسة الإقليمية

وقبل التحدث عن أثر المدرسة الإقليمية في الأدب الإيطالي الحديث يحسن بنا أن نتحدث عن خصائصها ومميزاتها، فهي تلتمس أسلوبها في فن جيوفاني فرجا وتميل بعض الشيء إلى الرواية الهادئة التي تقوم على ذكريات خاصة خالية من روح التكلف، وإلى الحياة الفطرية الساذجة، والعودة إلى أحضان الطبيعة مع إحياء الطابع القومي الخاص في الأدب الإيطالي الحديث.

وإذا اعتبرنا أن المذاهب الأدبية في إيطاليا تقوم على الوجدانيات المبالغ فيها، والخيال الشعري، والوطنية المتأججة، أمكننا أن نوازن بين الفن الروائي القديم وبين الفن الذي ابتدعه فرجا؛ فهو يقوم على الحس والمشاهدة الملموسة مع تصوير العادات والأخلاق والحوادث التاريخية البارزة.

وربما كان فن المدرسة الإقليمية يمت بأقوى الصلات إلى اسكندر ديماس، وأسلوبها الكتابي إلى جورج صاند التي سبق أن قضت فجر شبابها في ربوع إيطاليا، وكان لجو البندقية الشعري أثر بليغ في روحها الغنائية.

لقد نشأ (فرجا) في مدينة كتانيا بجزيرة صقلية، وطوف بأنحاء إيطاليا بقصد التبشير بفنه الجديد، وتكوين جمعيات أدبية في كل من فلورنسا وميلانو. وقد ساعده على ذلك أن عصره كان يسوده الهدوء الطبيعي وفتور القلاقل السياسية. ومن السهل أن نلتمس في روايات فرجا ظل الحياة الصقلية فهي مسرح فنه ومهبط وحيه. وقد رسم لنا في بعض رواياته الفذة (كالإرادة السيئة) طغيان حكومات عهد الإقطاع على صقلية وأساليب جمعية المافيا الإجرامية التي ظلت تبسط سطوتها على الجزيرة زهاء ثمانية قرون. وكان رائده في كل ما يسرده من الوقائع الإخلاص والشعور المرهف. فرواياته من هذه الناحية ليست ذات قيمة أدبية فحسب، بل يمكن اعتبارها من الوجهة التاريخية وثائق مشرفة للحياة الاجتماعية والسياسية وللأخلاق والعادات في الريف الإيطالي.

وعلى الرغم من أن هذه الرواية لا مغزى لها، فإننا نلمح بين سطورها أثار العقلية الإيطالية الخصبة، ووصف الحروب الاستقلالية والمعارك البحرية في الادرياتيك، وأخلاق الطبقة الدنيا، ومواقف غرامية مفجعة، ونظريات أخلاقية ونفسية،

وتحليل دقيق لأفراد أسرة فقيرة تحترف صيد الأسماك، ظلت تكافح في الحياة وتقاوم الحظ السئ الذي لازمها زهاء نصف قرن لقد كان فرجا يردد العواطف الصادقة في فنه والحقائق القاسية، وليس مذهبه في الأدب سوى رد فعل لمدرسة كاردوتشي، وعلى رغم أن هذا الكاتب العظيم كان أميل إلى الصمت وإلى التحفظ في الكلام نراه متدفقاً كالسيل في رواياته حتى كتب نيفا وثلاثين رواية طويلة وعشرات الأقاصيص. وقد وصفه النقادة رويناس بقوله: (كان ينفر من الشهرة، ولكن الشهرة سعت إليه من حيث لا يدري. وكان شعاره دائماً: فني هو مجدي، وكتبي تراثي في نظر الأجيال)

ومن كتاب المدرسة الإقليمية الذين اشتهروا خارج بلادهم عن طريق ترجمة أعمالهم الأدبية إلى اللغات الحية الكاتب الروائي ماريو بوتشي. ففي مؤلفاته نجد الجو الهادئ الحزين، وبالأخص في حياة الريف. وهذه الصبغة التي تعطي رواياته طابعها الخاص تبين عبء الألم واليأس المنبعث منها. وقد حاول بوتشي في بعض رواياته (كالعبريون) أن ينجو من الجو المظلم الذي يخلع على أبطاله ظلاً من الكآبة، ولكن ما اتصف به من الركود والتأثرات النفسية والتعلق بأهداب الخيال وغرامه بتصوير القسس والفلاحين والجنود جعله بمعزل عن كتاب الجيل المعاصر. والواقع أنه ليس في فن هذا الكاتب أي أثر للعنف أو الاندفاع، إنما نحس من الأعماق أننا أمام شخصيات ابتدعها المؤلف في هدوء ودقة، كما كان أهل وطنه يصنعون الدمى الخشبية بمجهود شاق في القرون الوسطى.

وكان توتزي أقوى كتاب هذه المدرسة على الإطلاق، ولكن الموت عاجله وهو في قمة مجده. وإذا حكمنا على تراثه الفني أمكننا أن نقول إنه أخرج أعظم روايات الأدب الحديث. وفي فنه تتجلى روح البساطة والسير بأبطاله في طريقهم الطبيعي، ورسم مظاهر الانحطاط الإنساني بأسلوب مؤثر. ومن أشهر رواياته (الصلبان الثلاثة) وهى قصة ثلاثة أخوة يدرس بعضهم أخلاق بعض، وتتغلب الغريزة والأنانية والجشع على أعمالهم، وينتهون أخيرا إلى موت غير شريف، ولا يبقى من آثارهم سوى صلبان سود ثلاثة في المقبرة.

ولعل شيكونياني هو الكاتب الوحيد الذي يرتفع بفنه فوق مستوى المدرسة الإقليمية مما يذكرنا بالمدرسة التوسكانية التي ظهرت آثارها في القرن التاسع عشر. ويخيل إليك وأنت تطالع الصور الفذة التي يرسمها في قصصه أنك تسير في شوارع فلورنسا. وتعد روايته (فيليا) من أحسن الروايات التي ظهرت بعد الحرب العظمى. فالروح الواقعية التي رسم بها المؤلف شخصية بطلته على أنها فتاة من عامة الشعب محبة لنفسها، مجردة عن الضمير، تجر إلى الهاوية جميع الذين يلتفون حولها، من أروع حالات التصوير الإحساسي والتغلغل في أعماق النفس البشرية.

أما بور جيزي مؤلف رواية (روبي) فهو من المؤلفين الذين توفروا على دراسة النظريات النفسانية الجديدة. وفي هذه الرواية ما يعطينا صورة واضحة من فنه، فهي تحليل دقيق لنفسية رجل أناني مجرد من العواطف الإنسانية، معذب بالشكوك والأوهام، ليس في مكنته مقاومة أعاصير الحياة، فيقذف بنفسه في التيار الذي يبعده شيئاً فشيئاً عن حقيقة الحياة إلى أن تدفعه المصادفة السيئة إلى الانتحار. (فروبي) كما يرسمه المؤلف رجل لا شباب فيه ولا عاطفة؛ وهو لا يعرف الأخلاق، وغير قادر على أن يحب حتى نفسه. وعلى الرغم من تراخيه وكسله يحلم بأن يصل إلى شئ، وأن الصفتين الأساسيتين في خلقه هما ضعف الإرادة ورغبته الدائمة في تحليل عواطفه؛ وهذا التحليل هو الذي يشل روح حركته، ويفقده توازنه، ويقلب في نظره المقاييس الصحيحة للحياة؛ فمرة يحاول أن ينسى نفسه في غمار الحرب ولكن دون حماسة، ومرة يتزوج من امرأة دون أن يشعر بميل إليها؛ وهو معتقد أنه تزوج زواجاً صالحا ً إنما هي المصادفة التي قادته إلى هذه المرأة وجعلته يقترن بها ثم يقتلها. ولكن الواقع أنه تركها تموت كمداً من سوء معاملته؛ وقد صور له الوهم انه قتلها مع أن الشجاعة لا تؤاتيه لقتل حشرة حقيرة.

أدب المستقبل

أسس هذه المدرسة بونتمبلي مؤلف رواية (امرأة أحلامي) وكان الغرض منها مقاومة التحليل المادي في القصة، ومناهضة أساليب المدرسة الإقليمية؛ ويمكن أن نعتبر عصرها عصر النفور من الزخرف اللفظي، وتنمية النزعة الخيالية، والتبشير بالأدب الرمزي. ويعد أمبرتوفراكيا من أدباء هذه المدرسة، وقد كانت وفاته في غضون عام 1930 ضربة أليمة في نفوس الجيل الجديد، إذ كان دائم العطف على أدباء الشباب، باذلاً جهده في تنمية الملكة الأدبية وإظهار المواهب المدفونة فيهم، وبسبب ذلك أنشأ مجلة (سوق الأدب) لنشر رسالتهم والدعوة إلى الالتفاف حول (أدب المستقبل).

ومنذ سنوات قلائل تزعم مارينتي هذه الحركة، وأخذ ينشر أفكاره في مجلته (الشعر)، وتدور دعوته حول التطلع إلى المستقبل، وقطع الروابط الوشيجة التي تربطنا بالماضي؛ فالمتاحف في نظره كدور المرضى، والافتخار بمجد الجدود وآثارهم دليل العجز منا عن مجاراتهم والتفوق عليهم. ولما كان من الصعب أن نحكم على القيمة الفنية لأدب مارينتي، فأن هذا لا يمنعنا من الجهر بأن (أسلوبه التلغرافي) وجد البيئة الصالحة التي ينمو فيها خارج ايطاليا، حيث يقبل الفرنسيون على اعتناق كل فكرة أدبية طريفة.

محمد أمين حسونة