مجلة الرسالة/العدد 175/من ذكريات بغداد

مجلة الرسالة/العدد 175/من ذكريات بغداد

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 11 - 1936


الحلقة. . .

ذلك اسم كان يطلقه الزعيم (ياسين) على ستة من الإخوان جمعهم تشابه الذوق، وألف بينهم تجانس الهوى، فتساهموا الصفاء، وتقاسموا المودة، وخلطوا حياتهم بحياة بعض، فما كانوا يفترقون الصائل الأيام ولا عشايا الليالي. كانوا يتخذون سامرهم كل ليلة في دار أحدهم، فيتحلقون على مائدة الشاي السخية، أو يتقابلون أمام المدفأة الواهجة، ثم يديرون بينهم سقاط الحديث على أروع ما تشققه الأذهان الخصيبة من براعة الفكرة وملاحة النكتة وطلاوة الخبر وسلامة النقد وصحة الحكم، فلا يدعون شأناً من شؤون الحياة، ولا وجهاً من وجوه السياسة، ولا أمراً من أمور البلد، إلا تناولوه باللسان المرهف والفؤاد اليقظ والنظر المستقل؛ فهم معارضون ولا لسان لهم في حزب، ومصلحون ولا يد لهم في زعامة.

كانوا يمثلون نواحي النشاط الفكري في العراق أصل التمثيل؛ ففيهم رجل الجيش، ورجل التعليم، ورجل القانون، ورجل الطب، ورجل الشعب؛ ذلك إلى امتياز كل منهم بسمة من سمات الطبع وصفة من صفات الخلق، فطه الهاشمي عذب الروح، سرى الأخلاق، وقور النفس، مصروف الهم إلى القراءة المنتجة والتأليف المحكم فيما يتصل بالتاريخ والحرب، ولو ترك إلى نفسه لما خرج من مكتبته ولا قام عن مكتبه؛ وناجي الأصيل نبيل العاطفة، حلو الفكاهة، سمح المقادة، أفلاطوني النزعة، يعيش في السماء ويحلم دائماً بالمدينة الفاضلة؛ ويوسف عز الدين متئد اللسان، حصين الصدر، سريع الفطنة، يتبسط في هزل الكلام ويتحوط في جده، وهو لا ينفك لإخوانه موضع السر ومرجع المشورة؛ وكامل الجاردجي متوقد الذكاء، متمرد الطبع، متوثب العزيمة، دائب الحركة، صليب الرأي، يدين بالديمقراطية، ويميل إلى الاشتراكية، ويرفرف بجناحيه على الفلاح والعامل والعاطل؛ وموفق الآلوسي طموح القلب، سريع البادرة، بارز الشخصية، يعتد برأيه إلى حد العناد، ويعتز بنفسه إلى حد المخاطرة؛ وشوكت الزهاوي واسع البال، ضيق الأفق، قد قصر جهده على عمله فلا يكاد يطمح في شيء، ولا يشارك في رأي، ولا يحفل بحادث؛ وأولئك كانوا لما اجتمع لهم من ضروب الثقافة وشتى الخلال صورة مصغرة للأمة، يعيشون منعزلين وهم فيها، ويفكرون مستقلين وهم منها، كأنهم كانوا لآمالها رموزا تتميز تميز العنوان، وتنفرد انفراد العلم. كانوا جميعاً في ربقة الحكومة إلا كاملاً، فكان للجماعة الكلمة الحرة والفكرة الطليقة. وقف على السياسة الصريحة قواه، وأيقظ لأطوارها المختلفة رأيه، فكان يناصر الحزب ما دام معارضا، فإذا قبل الحكم تركه إلى غيره، حتى انفرد ذات يوم بالمعارضة. كان اليد اليمنى لياسين في حزب الإخاء الوطني، وياسين أمل البلاد المرجو وزعيمها المنتظر، فلما رآه يقصد الحكم عن طريق الملاينة والمسايرة خالفه ومعه مقاعد البرلمان ووظائف الديون ومزايا السلطة، وخرج مغاضباً إلى الجهاد بالنفس والمال، فزاول المحاماة، وعالج الصحافة، ولقي في سبيل الله ما يلقى المعارضون المتزمتون من الضيق والعنت.

كان لي في هذه (الحلقة) كرسي وثير دائم، يحيطه الإخوان بالعطف ويخصونه بالكرامة؛ وكنت أجد في نفسي من الأنس بهم والطمأنينة إليهم ما لا أجده لجماعة أخرى، فكنت أناقلهم شجون الحديث فأعلم منهم ما لا أقرأ في الصحف ولا أسمع من الناس ولا أرى في الحكومة. كانوا يحملون في نفوسهم آمال العراق الناشئ، وفي رؤوسهم ثورة الشباب الجديد: سياستهم الجماعة قبل الفرد، والعامة قبل الخاصة، والعراق قبل العروبة. ولكن آراءهم كانت في رأيي أشبه بأحلام الفلاسفة تحت رواق المعبد؛ لأنك إذا استثنيت كاملا لا تجد فيهم من يفكر في انقلاب أو يجهر بمعارضة.

تركت العراق وفيصل ونوري وجعفر قد مكنوا لدولته بالمرونة اللبقة والسياسة التجارية التي تعطى لتأخذ؛ وكان شباب البلاد قد سئموا سياسة الأمر الواقع وبرموا بالإدارة المطلقة، فتمنوا حكومة زعيمهم المحبوب ياسين؛ وتسلم ياسين مقاليد الأمور، وانضوى إليه رفيقاه، وآل إليهم سلطان البلاط بالفعل، ونفوذ (دار الاعتماد) بالقانون؛ وسارت السفينة آمنة - كما يرى البعيد - من الألغام والصخور، ثم تفرقت السبل بعدئذ برجال الحلقة.

طخ! طخ! طخ! ثلاث قنابل ألقتها ثلاث طوائر على سراي الحكومة! فروعت الموظفين وأفزعت الآهلين، فأخلوا السراي وأغلقوا المدينة! ماذا؟ الجيش الثائر يحاصر بغداد ويطلب إلى المليك إقالة الوزارة! وبكر صدقي الفاتك الطماح يقترح للوزارة الجديدة حكمت سليمان! وحكمت سليمان يدخل في وزارته الحلقة ما عدا طرفيها. لقد كان صديق الحلقة، وكان في معارضته من طراز (كامل) لا يحفل الثراء ولا يبالي المنصب، حتى رووا أنه ضاق يوماً براتب سائقه فذهب به إلى قائد الشرطة يرجو منه أن يجد له عملا يعيش عليه!

أحمد حسن الزيات