مجلة الرسالة/العدد 18/عدل السماء

مجلة الرسالة/العدد 18/عدل السماء

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1933



للأستاذ حسن جلال. القاضي بالمحاكم الأهلية

الفرق بين عدل السماء وعدل الأرض هو بعينه فرق ما بين السماء والأرض. .!

فأما أهل الأرض فقد سلك كل منهم طريقا لتحقيق العدل في بلاده. فهذه دولة محاكمها تطبق قوانينها على الناس كما هو الحال في فرنسا وفى مصر. وتلك دولة أخرى تجري محاكمها على سنن الأحكام التي أصدرتها المحاكم من قبلها كما هو الحال في إنجلترا. وهؤلاء قوم لهم عادات مقررة وعرف موروث فتنعقد مجالسهم كلما دعا الحال لتحكيم تلك العادات وذلك العرف بين المتقاضين، وهذا هو شأن العرب المقيمين في مناطق الحدود المصرية. وأولئك قوم غيرهم يلجئون إلى السحرة والكهان للفصل في قضاياهم كما هو الحال عند بعض قبائل أفريقيا الوسطى. . . وكل هذه الهيئات إنما تجرى على النظام الذي اختارته، لأنها تعتقد أنه اكفل الطرق للوصول إلى العدل. وليس من شك في أن كلا من هذه النظم له نقائصه. ولكنه على كل حال آخر ما وصلت إليه الهيئة التي اختارته في سبيل تحقيق العدالة بين أفرادها. والخلاصة أن الإنسان لم يصل بعد إلى درجة الكمال في تشريعه، وانه بحاجة إلى موالاة الجهود في سبيل بلوغ هذا الكمال. والسؤال الذي يجيش بالنفس بعد هذه المقدمة هو: هل يستفاد مما سبق أن الظلم يملأ هذا العالم. وان العدالة فيه مستحيلة التحقيق؟ الواقع غير ذلك! بل أن المشاهد في معظم الأحوال أن العدالة محققة في هذه الدنيا. وان الناس راضون عن طريقة توزيعها بينهم. ومهما يكن من أمر الحالات التي يدل ظاهرها أحيانا على إنها لم تتوفر فيها عناصر العدالة فان (عدل السماء) غلاب. وهو الذي يتولى في هذه الحالات إقامة الميزان بين الناس. وما ربك بظلام للعبيد!

حدثني أحد الزملاء المحامين قال: وقعت جناية قتل في البلدة التي أعمل فيها، واتهم في تلك الجناية شاب من خيرة شبانها. ينتمي إلى أسرة من كبار الأسر فيها. فجاءني عمه يوكلني بالدفاع عنه. وأقسم لي أغلظ الأيمان أن أبن أخيه بريء وان أهل القتيل اتهموه لضغينة قديمة بينهم وبين أسرته، وإن القاتل معروف في البلد. وإن أهل القتيل هم أول من يعرفه. ولكنهم إمعاناً في الانتقام يريدون أن يأخذوا في قتيلهم رجلين. . واحداً يأخذه لهم القضاء بحكمه. وواحداً يقتصون منه بانفسهم كما هي العادة عند معظم أهل الصعيد. و كان القاتل الحقيقي هينا عليهم فإنهم استبقوه لأنفسهم وتركوا أمر هذا الشاب للقضاء. قال صاحبي: فلما وقفت على هذه المعلومات حفزني الأمر إلى مضاعفة العناية بالقضية. فاطلعت على أوراقها بكل دقة ويقظة، فوجدت أدلة الاتهام فيها قوية ناطقة. ورأيت جملة من شهود الإثبات تطابقت أقوالهم في محاضر التحقيق، وقد عجز المحقق عن أن يحدث ثغرة فيهم تدل على تلفيقهم. إذ قرروا جميعاً انهم رأوا المتهم وهو يطلق النار على القتيل. وانهم شاهدوه عقب ذلك وهو يفر. ووصفوا اتجاه سيره أدق وصف، ونوقشوا في ألوان ملابسه وفى نوع سلاحه وفى غير ذلك من التفصيلات فكانت أقوالهم دائما واحدة لا تحريف فيها ولا تبديل! إزاء ذلك استولى اليأس على صاحبنا المحامى، ولم يبق له من القوة على الدفاع ألا قوة يقينه هو بان المتهم بريء بناء على تأكيدات عمه. . وحل موعد المحاكمة فتوجه إلى المحكمة. ونودي على القضية، وسئل المتهم عن تهمته فأنكرها بكل شدة. وسمعت أقوال الشهود فاذا هي نفس أقوالهم في التحقيق. فترافعت النيابة فقالت أن القضية لا تحتاج إلى نور جديد وأن أقوال الشهود قاطعة في الإدانة. ونهض الدفاع وحاول أن يثير ما استطاع من الشكوك حول موقف المتهم، ولكن الحكم صدر في النهاية بمعاقبة المتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة. . . عاد المحامى في ذلك اليوم إلى مكتبه مكتئبا حزينا على ما حل بهذا الفتى التعس. ولقيه هناك عمه فألفاه على هذه الحال. فابتدره المحامى بالسؤال عن كيفية اتفاق الشهود على كل تلك التفصيلات التي شهدوا بها أن صح ما يدعيه هو من انهم ملفقون. فقال له الرجل: أن الشهود قد شاهدوا القاتل الحقيقي فعلا وهو يرتكب جريمته. واتفقوا فيما بينهم لارتباطهم بأسرة القتيل على أن يرووا كل ما شاهدوه ولكن منسوبا إلى المتهم الحالي بدل أن ينسبوه إلى فاعله الأصلي. ومن هنا جاءت أقوالهم كلها متطابقة، لأنهم إنما يقرون من الوقائع ما وقع فعلا تحت سمعهم وبصرهم! وهنا يقول صاحبي أن ثورة عنيفة أدركت نفسه ضد هؤلاء المزورين الذين تمكنوا من مخادعة القضاء إلى هذا الحد، والتوسل به إلى إنزال العقاب الذي يشاءون على من يشاءون. ولكنه آنس شيئاً من الاستسلام غير عادى يغلب على نفس عم المتهم، بينما هو يعانى من ثورة النفس شدتها وغليانها. فلم يكتم صاحبه ما يجول بخاطره. وهنا رفع عم الفتى رأسه وقال: الحق يا أستاذ أن الفتى يستحق العقاب الذي أنزله به القضاء فسأله المحامي في دهشة: وكيف يتفق ذلك مع ما قدرته الآن من أنه لا يد له في هذه الجريمة؟ فقال الرجل: إنه وان كان لا يد له حقيقة في هذه الجريمة ألا انه في الواقع هو الذي قتل (فلانا) من أهل البلدة المجاورة لبلدتنا، ولكنه ظل أمره مجهولا من رجال الحفظ حتى هذه الساعة! فإن كان القضاء قد أدركه اليوم فإنما هو (عدل السماء) قد حققته قدرة الله الذي هو من وراء كل شيء محيط، وبما تخفى كل نفس عليم!