مجلة الرسالة/العدد 2/التجديد في الدين

مجلة الرسالة/العدد 2/التجديد في الدين

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 02 - 1933



للأستاذ أمين الخولي

المدرس بكلية الآداب

مقال لمشروع القرش، وحول مشروع القرش، يحضر النفس ذكر الشباب، والتضامن والاستقلال والحياة والقوة وتجديد مجد مصر. . ثم نحن الآن في رمضان: صوم وزهد وتدين. . فمن تداعى هذه المعاني يأتلف العنوان (التجديد في الدين).

عنوان قد يطلع على البعض جريئا بل ربما كان مزعجا لكثير من المتدينين الذين يتعجلون الحكم على الأشياء قبل اختبارها ويبتدرونها بتلك الأحكام الغاضبة السريعة. فان يفعلوا ذلك قبل الفراغ من المقال فهذا هو الذي يفقد أحكامهم قوتها وحرمتها. وإن يتريثوا حتى يقرءوا فسيرون أنهم كثيرا ما يثورون في وجه من لا يستحق منهم الا التقدير.

عنوان قد يكون نابيا قلقا عند غير المتدينين. لأنهم يرون في الشيوخ صورة المحافظة المسرفة، بل يعتبرونهم حجر عثرة في سبيل التجدد على اختلاف ألوانه. ويحملونهم تبعة الكثير مما أوقف الشرق وأخره. ويرونهم جند الرجعية ومرجعها. ويصدر الكثيرون عليهم أحكاما رهيبة. لكنها سرية قل من يجرؤ على مجاهرتهم بها. فأصحاب تلك الآراء والأحكام قد يعدون هذا العنوان دعابة مازحة ومفارقة فكهة. لكنهم إن يتعجلوا الحكم كذلك قبل أن يقرءوا فهذا بعض تطرفهم الذي يفقد جهادهم قوته ويعوق نجاحه. وان يطمئنوا حتى يقرءوا فسيرون أن كثيرا مما ثاروا فيه على الدين ليس من الدين في شيء وأن الدين غير المنتسبين إلى الدين.

العنوان حقيقة صحيحة صريحة لا فكاهة فيه ولا مروق (إن شاء الله) ففي الدين فكرة واضحة عن التجديد تبين ناموسا كونيا وتنبه إلى سنة اجتماعية مطردة لا تتبدل. إذ ورد في الحديث (أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها) أو ما هذا معناه. وهو حديث صحيح نص على صحته متقدمون منهم البيهقي والحاكم ومتأخر ون منهم ابن حجر والعراقي. . وراجت فكرة التجديد في الإسلام. وعني العلماء ببيان مجددي كل مائة وتعيين أسمائهم وأعمالهم والترجمة لهم. . . ولا أريد هنا وفي هذه الإلمامة الصحفية، أن أعني باستقصاء تاريخ فكرة (التجديد في الدين) بل اكتفي بأن أشير في ذلك إلى مجموعة تنتظم من خير التجديد والمجددين صورة كاملة من الهجرة إلى اليوم، وهي تتألف من منظومة للسيوطي في هذا الموضوع سماها (تحفة المهتدين في بيان أسماء المجددين) ومطلع هذه المنظومة:

لقد أتى في خبر مشتهر ... رواه كل حافظ معتبر

بأنه في رأس كل مائة ... يبعث ربنا لهذه الأمة

منا علينا عالما يجدد ... دين الهندي لأنه مجتهد

وعلى هذه المنظومة شرح للشيخ محمد المراغي المالكي الجرجاوي الذي عاش في القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين وسمى هذا الشرح (بغية المفتدين، ومنحة المجدين، على تحفة المهتدين. . . الخ) شرح فيه منظومة السيوطي ثم اكمل أسماء المجددين نظما إلى عصره وشرح نظمه على طريقة شرحه نظم السيوطي.

وفي بيان الدينيين لمعنى التجديد تراهم يقولون: أنه نفع الأمة، ودفع المكاره عن الناس، ونصرة الحق وأهله، وإحياء ما أندرس من أحكام الشريعة، وما هي من معالم السنن وما خفي من العلوم الدينية ويتحدثون عن تغير الحياة واستحداث أشياء تحتاج إلى تناول جديد وحسبك من قولهم في معنى التجديد ما ورد في المجموعة السابقة من عبارة النظم والشرح ممتزجتين وهي: (وإنما كان مجدداً لأنه أي المبعوث فينا مجتهد وشأن المجتهد التجديد. . . .) ولأن اكتفوا في الأزمنة الأخيرة بالاجتهاد المقيد فبحسبهم أن أناطوا التجديد بالاجتهاد وفسروه به أبعدوه عن التقليد الذي هو آفة العقول وعلة الجمود. وتراهم حين يعدون أسماء المجددين في كل طبقة قد يعددون المجددين ويخصون كل مجدد بفرع من فروع العلم أو العمل. فيوسعون الدائرة توسعة محمودة.

تلك فكرتهم في تجديد الدين: وأنها لفكرة في التجديد متزنة رزينة مقدرة لنظام الحياة وتدرجها معادية للجمود وقاضية عليه قاتلة لأهله. . . . وإذا كان الدين وهو وحي الهي والإسلام وهو رسالة لا رسالة بعدها هو الذي يقرر لأهله أن نظام الحياة العاملة يحوجه إلى التجدد ويهيئ الله له على الزمن من ينفي عنه مظاهر الجمود، وعوامل الوقوف؛ إذا كان هذا حال الدين، وذاك شأن الإسلام، فمرافق الحياة، وظواهر المعيشة التي لا ثبات لها ولا استقرار، والتي هي وليدة الظروف وصنعتها، اشد حاجة إلى التجدد والتغير. . . .

وإذا كانت البعثة الدينية التجديدية منة على المتينين، وفضلا من الله ونعمة، فالمنتسبون إلى الدين حين يقاتلون المبعوثين لهذا التجديد، ويجمدون على ما وجدوا عليه آبائهم، إنما ينكرون نعمة الله، ويصدون عن سبيله ويبغونها عوجا (وما هم ببالغيه) وهم، وبين أيديهم ذلك الأثر، وعليهم ذلك الواجب لا يأثمون بجمودهم إثما واحدا! بل آثاما كثيرة: إثم لأنهم لا يتجددون وإثم لأنهم لا يجددون وإثم لأنهم يعوقون المتجددين المجددين في تعنت أصم لا يميز الخبيث من الطيب مهما تبينا ولا يعرف داعي الله من داعي الشيطان.

مصر والتجديد في الدين

وما ننسى أن الكلمة لمشروع القرش وحول مشروع القرش. فلنعد إلى مصر المتجددة بجهاد شبانها، مصر ذات الحيوية الفياضة وصاحبة الشخصية الخالدة والتي أسدت إلى الإنسانية والحضارة أطهر الأيادي وأشرفها على تطاول السنين وتمادي الأيام. نعود لنقول أن مصر كعادتها في ذلك قد اضطلعت من تجديد الدين بالحظ الأوفر وساهمت فيه بالنصيب الأكبر على سعة الإمبراطورية الإسلامية وترامي أرجائها وانتظامها الواسع الأفيح أقطار الدنيا القديمة. فأنت حين تعرض أسماء أولئك المبعوثين المجددين على رؤوس المئات خلال الثلاثة عشر قرنا من تاريخ الهجرة تراهم يعدون هكذا:

في المائة الأولىعمر بن عبد العزيز

في المائة الثانيةالشافعي

في المائة الثالثةابن سريج العراقي أو أبو الحسن الأشعري

في المائة الرابعة الباقلاني أو الاسفراييني

في المائة الخامسةالغزالي

في المائة السادسة الفخر الرازي

في المائة السابعة ابن دقيق العيد الشافعي

في المائة الثامنة البلقيني أو غيره

في المائة التاسعة السيوطي

في المائة العاشرةالرملي أو غيره

في المائة الحادية عشرة عبد الله ابن سالم البصري في المائة الثانية عشرة الدردير

في المائة الثالثة عشرة احمد الشرقاوي

في المائة الرابعة عشرة. . . . . . . . . . . .؟

وتجيد نظرك في هذه الجريدة من الأسماء فترى (كما لاحظ القدماء أنفسهم) أن الكثرة المطلقة من هؤلاء المجددين مصرية رجال أنجبتهم وآوتهم وعلمتهم مصر ذات الفضل العتيد على المدنية منذ عرفها بنو آدم، فبين هؤلاء الثلاثة عشرة مجددا ثمانية من المصريين هم: عمر بن عبد العزيز وليد مصر الناشئ بها، والشافعي الذي حمته وفيها علم، وابن

دقيق العيد القشيري المنفلوطي، والبلقيني المنسوب إلى بلقينة قرب المحلة، والسيوطي والرملي المنسوب إلى رملة قرب

منية العطار تجاه مسجد الخضر، والدردير العدوي، والشرقاوي الجرجاوي. وان شئت عددت لمصر منهم تسعة فمصر في القرن الرابع عشر الهجري هي قلب الشرق الخافق وعقله المفكر وقد تصدرت في شجاعة ونبل لحمل أعباء تلك القيادة منذ بدأ ذلك الشرق يمسح عن عيونه آثار النوم ويتهيأ ليقظة نشطة باهرة تمدها عزمة قاهرة تكتب له النجاة وترد له حقه في الحياة. . . ولا أريد اليوم أن أُسمي مجدد هذه المائة أو مجدديها من المصريين حتى لا أحابي أحداً، ولا ألقن رأياً وإنما أترك الكلمة في ذلك لشبان الشرق وشبان مصر.

يا شبان الشرق ها أنتم أولاء تطالعكم قوى التجديد من حيث تخشون عناصر الجمود؛ وها هو الإسلام الدين الحي يدفعكم دفعا إلى مسايرة نواميس الكون؛ ومجاراة نظم الجماعات الإنسانية؛ وهذا تاريخكم المجيد يغذي حاضركم الحديث فلا عذر اليوم لكم إذا لم تثبت تلك العزمات لتسمع الدهر صوتا أصغى إليه أزمانا وحدا له فسار؛ ومضى حيث صرفه واحكم فيه.

يا شباب: هاكم ماضيا مجيدا في الصدارة والزعامة، لم يدع ميدانا إلا حله، وها هي ذي مصركم معلمة الدنيا قد أنهت إليكم لواء هذه الزعامة وقد بايعها الشرق وعرف مكانها وعاندها الغرب وجحد حقها. والحياة العاملة اليوم إنما تكتب للأمة الصناع والشعب الدؤب فلا بد أن تتصدر مصركم ما تصدرت من باقي الميادين قديما وسيبني ثبات شبانها بمشروعهم العملي صروحا سامقة من القوة المادية تشهد أن الذين عرف أسلافهم كيف يجمعون الفلسفة ويعينون العلم ويذودون عن الأديان يعرفون هم جيدا كيف يؤصلون الصناعة على أساس أبقى على الدهر من الدهر.