مجلة الرسالة/العدد 205/الطربوش والقبعة

مجلة الرسالة/العدد 205/الطربوش والقبعة

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 06 - 1937


بمناسبة فوزنا الجديد

كان للطربوش امتياز على العمامة أيام كان الأمر للترك والأرناءود، لأنه كان يومئذ تاج السلطان، وشعار الحكم، ولباس الجيش، ورمز البطش، وعلامة الخطر؛ فكان يكفي أن يكون في الحي أو في الناحية (جندي) واحد لتخشع النفوس وتخضع الرءوس ويمحى القانون وتنتفي الحكومة، فلا يمر أحد وهو واقف، ولا يشتجر اثنان وهو موجود، ولا يعرف الناس من وراء بيته شرطة في قسم، ولا قضاة في محكمة

وكان للقبعة امتياز على الطربوش أيام كان الشأن لاحتلال الإنجليز وامتياز الدول؛ لأنها كانت حينئذ شارة الغلبة وبراءة الإجرام وصك الغصب وجواز المرور وإشارة الثراء وأمارة التفوق؛ فكان يكفي أن نرى (الخواجة) لنرى الغانم الذي لا يغرم، والمتصرف الذي لا يحاسب، والضارب الذي لا تقدر أن تغل يديه، والسفيه الذي لا تستطيع أن ترد عليه، والمدير الذي يملك المصارف والمصانع والمتاجر والشركات والبارات والمقاهي والملاهي والفنادق، ومن ورائه (المحكمة المخصوصة)، والمحاكم القنصلية، والمحاكم المختلطة، والتبجح الأشر والدعوى العريضة والبأو السليط. فكان الطربوش عنواناً على ذلك الإنسان الذي أفسدت فيه العبودية والجهالة مزايا الإنسانية فجعلتاه حياً تعافه الحياة، ووطيناً ينكره الوطن، ووريثاً يأنف منه التراث، وخلفاً يعرض عنه التأريخ؛ وكانت القبعة سمة على ذلك الأجنبي المتقحم بقوته على الضعف، وبقدرته على العجز، وبصحوته على الغفلة؛ فالتمايز في واقع الأمر كان بين ناس وناس، لا بين لباس ولباس. فأنك إذا وضعت الطربوش على جبهة الأسد كان مفخرة، وإذا وضعته على رأس القرد أنقلب مسخرة؛ وهل تصنع القبعة في الرأس الذليل إلا أن تجعل منه زنجياً في أمريكا، وحبشياً في أفريقيا، وصعلوكاً في كل قارة؟

أما نحن اليوم فخلق جديد في دنيا جديدة: تنبهت فينا ملكات الجنس فثرنا على الخسف، وتمردنا على الأذى، وزاحمنا الناس بالمناكب العريضة على مكاننا الخالي منذ قرون في صدارة الأمم، فانفتح الطريق البشري من خلفنا على المجد الأول، ومن أمامنا على النصر الأخير، وأصبح في وضع الطربوش على جباهنا مواح من سمو الشمس وشموخ الهرم، وفي حمرته معان من أشعة الشروق، ودماء التضحية، وأوراد الربيع. وأضواء اللهب. فالتبرم به اليوم لا يجد له فيما أظن مساغاً من العقل مادام الرأس الذي يحمله قد أرتفع وامتلأ واتزن.

لا أريد أن أدخل بين الطربوش والقبعة، ولا أن أدعو إلى ذاك أو إلى تلك؛ وإنما أريد أن أقول إن ضعفنا هو الذي ظلم الطربوش كما ظلم اللغة والعلم؛ فإذا سوغ المنطق أن نترك الطربوش لأنه لا يطاول القبعة، سوغ كذلك أن نهجر العربية لأنها لا تنتشر في كل أرض، وأن نخرج على العلم لأنه لا يخفق في كل سماء. ولن تجد أهون على الناحية من رجل يأنس في نفسه الضعة فيحتال على العظمة بارتداء ثوب العظيم

ماذا يضرك الطربوش إذا كان لك طوائر تئز في السحاب، وبواخر تمخر في العباب، ومدافع ترعد في البر، وغازات تسطع في الجو، ومجلس ظاهر في العصبة، وقول نافذ في السياسة، ورأي مسموع في العلم، ومذهب متبوع في الأدب، ووطن يدبره حكمك، ويستثمره علمك، ويستقل بخيره وميره بنوه؟

وماذا تنفعك القبعة إذا قنعت من استقلالك بالإقرار به، ومن وطنك بالقرار فيه؛ ورضيت أن تعيش حميلة على قوة الحليفة، وصنيعة على رحمة الدول؛ واكتفيت بمظاهر التمدن من اللباس والرياش والترف واللهو؛ وظللت على الغرائز الجافية والحس البليد، تكذب لتمزح، وتغش لتربح، وتناقش فيفرط عليك صوتك ولسانك ويدك، وتحضر مجلس السماع فتجعله من التأوه والأنين والصخب والعربدة ماخوراً في مستشفى؛ وتسير في الطريق مرحاً أو ذاهلاً فتصدم المار فيلتفت إليك التفاتة العاتب ترضيه ابتسامة عاذرة، فتهجم أنت عليه بالنظرة الشزراء والكلمة الفاحشة؛ وتصعد الترام فتخطو بنعليك على أقدام الراكبين حتى تبلغ محلك فتنحط فيه كاشر الوجه غير ملتفت، أو ضاحك السن غير مكترث؛ وتمر بك الآنسة الخفرة أو السيدة الحاصن فتخز حسها بالنظر الفاجر، وتؤذي سمعها بالمنطق الخطل، ولا ينبهك ضميرك الأغلف إلى أن للأسرة حرمة وللمجتمع كرامة؟

طهر رأسك يا سيدي من درن هذه الخلال ثم ضع عليه طاقية أو لبدة أو أي غطاء شئت، ترتفع منزلتك في كل عين، وتقر هيبتك في كل صدر؛ فأن قيمة ذلك في الرأس الذي يحمله، والشعب الذي يمثله، لا في أصله ولا في شكله ولا في لونه؛ والثوب كما يقول الفرنسيون لا يصنع الراهب

أي شرف أرفع للرأس، وأي فخر أملأ للفم، من أن تذهب اليوم بشرقيتك ومصريتك وطربوشك فتقول للذين غمطوك بالأمس: أرأيتم إلى الجوهر الحر والمعدن الكريم، كيف طمرته القرون، وصهرته الأحداث، وتناهبته الأطماع، ثم خرج من عرك العبودية ومعركة الحرية، باهر اللون، متميز الشكل، كامل الخصائص، حر الوجود، لا هو ماسة في خاتم ولا درة في تاج!!

أحمد حسن الزيات