مجلة الرسالة/العدد 205/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 205/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 06 - 1937



قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي بك مدير مصلحة الكيمياء

ظل يغدو ويروح بين عماله في هذا البيت فلا يستقر به مكان، وظل يشرف فيهم على تركيب مركبات جديدة رجاء أن تكون أكثر إبداعاً من المركب الذي كان، ودار في كل حجرة وسار إلى كل ركن فلم يستطع أحد حتى قدريت أن يتتبع أثره. وأملى كاتبته الآنسة مرثا مركرت مئات من الكتب اتسعت لكثير من حماسته وحرارته، وقرأ آلافاً من الكتب جاءته من كل ركن من أركان الأرض، واحتفظ بتقرير دقيق عن كل حالة بل عن كل جرعة من الجرعات الخمس والستين ألفاً من السلفرسان التي حقنها الحاقنون في بقاع الدنيا في عام 1910. وكان احتفاظه بها على مثال هذا النظام الغريب الذي تأصل في هذا الرجل: كتبها جميعاً على صحيفة ورق كبيرة دبسها في باطن باب القمطر الذي كان في مكتبه، وغطت الصحيفة باطن هذا الباب من أعلاه إلى أسفله فكان كلما طلب شيئاً في أسفل الصحيفة تقاصر وتقرفص، وكلما طلب شيئاً في أعلاها تطاول على أصابع رجليه وتمدد، وكان في كلتا الحالتين يركز بصره تركيزاً. ويعمله إعمالاً ليقرأ سطورها وهي خطوط دقيقة مهملة معماة.

وتزايدت التقارير فجاءت بأنباء عن حوادث للشفاء غريبة بديعة حبيبة تلذ قراءتها، ولكنها تضمنت كذلك أنباء مسيئة متجهمة تتحدث عن فواق وقيء ثم تصلب في الأرجل وتشنج في الجسم يعقبه الموت. وجاءت الأنباء الفينة بعد الفينة بموت مرضى كان يجب ألا يموتوا، وجاء موتهم عقب حقنهم بالدواء.

ألا ما أشد ما اشتغل إرليش ليفسر هذه الأحداث! ألا ما أشد ما قسى على نفسه ونحل من جسمه ليتجنب هذه الأرزاء، فما كان إرليش بالرجل الجامد الذي لا تهزه مصائب الخلق ولا تؤلمه آلام الناس، فأجرى التجارب العديدة، وكتب الكتب الكثيرة يستفسر عن تلك الرزايا كيف وقعت، وعن المحاقن كيف ضربت، وكان يجلس في الأمساء يلعب الورق وحده، فيغلبه الفكر في تلك الحوادث، فيأخذ يكتب على هوامش الورقات ما يعن له من تفسيرات، أو هو يكتبها على ظاهر مجلات قصصية تحكي عن فظائع وجرائم بوليسية كان يفزع دائماً إلى قراءتها ظناً منه أن فيها دون سواها راحة البال المكدود ورياضة النفس المريضة، ولكنه ما استروح قط ولا استراض، وكيف يفعل وهذه البلايا تتقفى أثره فتذهب بالذي كسبه من مجد عظيم.

وزادت أسارير جبينه تغضناً، وازدادت تعمقاً، واسود ما تحت عينيه الزرقاوين، وبقيت فيهما بقية ما فتئت ترقص من تلك الفكاهة الهادئة المستحية.

فهذا المركب رقم 606 نجى آلافاً من الموت، ونجى آلافاً من الجنون، وخلص آلافاً آخرين مما هو شر من الموت: من قطيعة المجتمع إياهم لما ضرب المكروب في أجسامهم ضرباً، وأكل منها أكلاً، حتى صارت مناظرهم في العين قذى وفي الأنفس تهوّعاً. ولكنه بعد تنجيته المرضى بهذه الآلاف أخذ يقتل منهم بالعشرات، وأخذ إرليش ينهك جسمه الناحل أو ما تبقى له من جسم، حنى أصبح خيالاً، وذلك ليفسر أحجية عز على الحكماء تفسيرها. ولقد مضى الآن على آخر سيجارة دخنها إرليش عشر سنوات، والأحجية ما زالت أحجية. فترى من هذا أن النجاح العظيم الذي كسبه إرليش كان أكبر حجة على بطلان نظرياته. قال: (إن المركب رقم 606 يتحد اتحاداً كيميائياً بالمكروب فيقتله، وهو لا يتحد مع الجسم فهو لا يناله بسوء). هذه نظرية من نظرياته فأين هي مما جرى؟

إن المركب رقم 606 مركب ذو كيمياء معروفة، ولكن تفاعله مع الجسم تفاعل خاف مجهول، وأخفى منه كيمياء هذا الجسم الإنساني العجيب، هذه المكنة الحية الغريبة، هذا الطلّسم الذي لا نفهم إلى اليوم منه وآسفاه كثيراً. ولقد أخطأ إرليش ونال عاقبة خطأه، لأنه لم يدرك إلا بعد فوات الأوان أن رصاصته المسحورة يطلقها آلاف المرات فتصيب غايتها من المكروب آلاف المرات، ولكنها قد تطيش أحياناً فتصيب غير غايتها فتقتل العدو والصديق. على إنه لا تثريب اليوم عليه ولا ملامة، فإن يكن أردى العشرات فقد رد الصحة والسلامة على الألوف. وصادة المكروب العظام ماذا كانوا سوى سادة مقامرين، إذن فلنذكر إرليش بالحمد، ولنذكره بشجاعته وجرأته ومخاطرته، ولنذكره بما دفع من البؤس عن ألوف كثيرين ولنذكر بأنه أنار سبيلاً جديدة سيسلكها صادة المكروب لا محالة من بعده يبحثون فيها مثله عن رصاص جديد يطلقونه على مكروب جديد

وليس هذا بالأمل البعيد أو الأمنية الخائبة. فقد بدت فعلاً تباشير ما نرجوه من بعد إرليش. فإن قوماً بحاثاً من غير ذوي النباهة وذائعي الصيت قاموا في مصانع الأصباغ بمدينة إلبرفلد يترسمون خطى الأستاذ الأكبر، وبعضهم من أعوانه الأقدمين، فكدوا وكدحوا كما كانوا في خدمته يكدون ويكدحون، حتى وقعوا على عقار جديد غريب أبدعوه إبداعاً. وقد احتفظوا بسر تركيبه، وأسموه (باير رقم 205) 205. وهو مسحوق عادي المظهر لا يهولك منه شئ، ولكنه يشفي من مرض النوم الذي ينتهي دائماً بالموت في بلاد روديسيا وبلاد نياسا بأفريقيا. وإن كنت لا تزال تذكر فهو الداء الذي كافحه الرجل الجلد دافيد بروس آخر كفاح في حياته، وارتد عنه مغلوباً. فهذا العقار يفعل في خلايا الجسم وسوائله أفعالاً لو سمعتها لحسبتها خرفاً أو خيالاً. ولكن أحسن ما في الحسن منها أنه يقتل المكروب قتلاً، وأنه يقتله قتلاً دقيقاً جميلاً كاملاً شاملاً لو سمع به إرليش لتحركت أشلاؤه في قبره سروراً واغتباطاً. فإن كان في المكروب ما لا يقتله، فهو على الأقل يحُد من نشاطه ويقلم من أظفاره فيجعله أنيساً مأموناً. على أن حكاية هذا العقار لم تختتم بعد فلندع للأيام ختامها

وإني لواثق وثوقي بطلوع الغد بأن المستقبل كفيل بخلق صادة للمكروب غير من ذكرنا يطلعون على الناس برصاصات غير ما وصفنا، ستكون أكثر سلاماً على الإنسان وأشد حرباً على المكروب وأفتك بكل جرثوم خبيث شديد المراس حكينا حكايته في هذه القصة فلنذكر إرليش بأنه فاتح هذا الباب وأول سالك لهذه الطريق

وقبل أن أختم هذه القصة أجد في صدري سراً لابد من فضحه قبل الختام: ذلك أني أحب صادة المكروب هؤلاء، من لوفن هوك إلى إرليش، ليس على الأخص للكشوفات التي كشفوا، ولا للنعم الجليلة التي بها على البشرية أنعموا، ولكني أحبهم على الأكثر لأتهم رجال أي رجال، أحبهم لرجولة جميلة فيهم سأظل أذكرها لكل فحل منهم ما استطاعت ذاكرتي وعياً

ولهذه الرجولة الجميلة أحببت إرليش. كان إرليش رجلاً مِغراماً ممراحاً يحمل أوسمته معه في صندوق أخلاطاً أملاطاً لا يدري في أي المحافل والمآدب بأيها يزدان. وكان رجلاً قليل التؤدة فزاعاً يخطر له الخاطر فيفزع فجاءة إليه وينسى ما هو فيه. جاءه رجل من إخوانه بحاث المكروب ليخرج به العشية على شراب، وكان إرليش في بيته في حجرة نومه يلبس ويتهيأ للخروج، فما علم بمقدمه حتى خرج في قميصه يحييه

وكان رجلاً صموتاً معتكفاً. قال له بعض عباده يشير إلى المركب رقم 606: (إنه عمل رائع من خلق عقل جبار. إنه كشف من كشوفات العلم الرائعة). فقال له إرليش معيداً: (عمل رائع من خلق عقل جبار، وكشف رائع من كشوفات العلم!؟ لا يا زميلي العزيز، بل هي فلتة واحدة من فلتات الحظ جاءتني بعد سنوات لم أعرف فيها إلا إلى الخيبة سبيلاً)

احمد زكي