مجلة الرسالة/العدد 258/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 258/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 06 - 1938



ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . . . . .

- 15 -

واتخذ دوجلاس للأمر عدته، لم يدع وسيلة أو يغفل عن حيلة، أما ابراهام فلم تكن به حاجة إلى ما يحتال به من أساليب التأثير المتكلفة الخادعة، فما هو إلا أن ينصت له الجمع حتى يبتعث اليقين ما قر في نفسه فيحرك به لسانه فإذا هو كالنهر الحادر يفهق بما لا يفتأ يواتيه به المنبع، ويجيش بهذا الفيض ويهدر، ويتدفق لا يصده عن وجهه شيء. . .

وكان لدوجلاس من بعد الصيت ما جعل اسمه ملء الأسماع في طول البلاد وعرضها؛ وكان في رأي الأمريكيين أقدر رجال حزبه وأكثرهم فطنة وأطولهم في السياسة باعاً وأقواهم بمصاعبها اضطلاعاً، بل لقد كان عند الكثيرين من ذوي الرأي أعظم رجال أمريكا كفاية وأعلاهم كعباً وأعزهم مكانة، وكان يلقب (بالمارد الصغير) أن كان له على صغر جرمه وقصر قامته قوة المارد وسلطان المارد ودهاء المارد، وكانت له حيوية غريبة تنقطع دونها حيوية الرجال، وتتقاصر عنها هممهم. والحق لقد كان دوجلاس يومئذ أنبه الناس شأناً وأعزهم نفراً وهو من عهد قريب لم يكن يسمع به أحد خارج الينواس

لذلك كان للناس عجباً أن يطاوله ابراهام وأن يدعوه إلى نزال. وأخذ من لم يكن يعرفه منهم هذا الفعل من جانبه على أنه ضرب من الغرور أو نوع من الغفلة، ولو أنهم عرفوا دخيلة صاحبهم الذي افتتنوا به وتبينوا ما هجس في نفسه من الخواطر إزاء هذا التحدي الجريء لأيقنوا أن جبروت ماردهم وأساليبه ما كانت لتغني عنه شيئاً من هذا العملاق الذي درج من الغاية ليقف أمامه كأنه السنديانة! وكانت أَتارَا أولى المدن السبع التي اختيرت ميادين لذلك الصراع؛ وقد جاءها الناس ليشهدوا ما لم تقع عليه من قبل أبصارهم أو تتعلق به أوهامهم، وقد أَتَّفِق أن يكون الكلام أول الأمر لدوجلاس فيخطب الجمع ساعة، ثم يعطي من بعده ابراهام ساعة ونصف ساعة؛ ويختتم دوجلاس هذا الدور بعده بحديث يستغرق نصف ساعة

وكان دوجلاس في انتقاله بين المدن في ألينواس يتخذ مركبة فخمة يجرها ستة من كرائم الخيل، وحوله ثلة من الفرسان يتزيد بهم من الهيبة والأبهة؛ وكان إذا دخل مدينة من المدن يقف في مركبته وقد تكلف أكثر ما يطيق من الصرامة فما يكاد يلمحه الناس ويقبلون عليه مصفقين مهللين حتى تنقلب صرامته وسامة فيحيي الجموع بيديه وإيماءاته وابتساماته، ويلتفت لهذا ويهش لذلك كأنه ملك يتدلى من عليائه ليطلع على شعبه، وإذا هو حل بقوم أو سار إليه قوم عرف كيف يوحي إليهم تبجيله والإعجاب به، فهو بين الصلف وخفض الجناح، وبين الاحتشام والتبذل يحيى وجوههم وكبراءهم ويغمرهم بنعمة منه وفضل

أما لنكولن فكان ينتقل بين الناس كأحدهم؛ وكثيراً ما يكون دون بعضهم، فإذا أخذ مكانه في قطار أو في مركبة عامة مزدحمة كان بين ركابها كما كان بين الناس في نيو سالم حين كان يدير الحانوت أو حين كان يوزع البريد يتبسط لهم في القول ويسترسل معهم في شتى الأحاديث، ويقص عليهم من قصصه، وإن له في هذا كله لمتاعاً ولذة لن يحسها إلا من كان له مثل قلبه

والتقى الرجلان في أتاوا؛ واحتشد الناس في الموعد المضروب فضاق بهم مكان الاجتماع؛ وحانت ساعة الكلام، فوثب المارد الصغير إلى موضع مرتفع أطل منه على الناس فتمزقت بالتصفيق أكف أنصاره وتشققت بالهتاف حناجرهم، وهو يرسل نظراته في جنبات المكان ويوزع إيماءاته هناك، وهنا، حتى سكنت ريحهم فبدأ الكلام. . .

وكان يومئذ في الخامسة والأربعين، بادي الفتوة مرموق الشباب يتهلل وجهه لولا كدرة طفيفة هي مما فعلته به ابنة العنقود وسكنى المدن ولكنها كدرة كانت تنقشع حين تلتهب بالحماسة وجنتاه؛ وكان في موقفه بارز الصدر قوي الكتفين تتجه نظرات الإكبار إلى رأسه الضخم فما تلبث أن تلتقي بعينيه الزرقاوين السريعتين فترتد حاسرة كأنما غشيت من ضوء وهاج، وكانت تفتن الأنظار أناقة ملبسه ونظام هندامه، كما كانت تسحرها لفتاته وحركاته كأنما كانت تقع الأبصار منه على ممثل قدير عرف سبيله إلى قلوب محبيه فهو يحرص ألا ينحرف قيد شعرة عما يشيع في نفوسهم السحر من مظهره. . .

وتكلم دوجلاس فكان في كلامه ثبت الجنان زلق اللسان وكانت له في هذا الاجتماع خطة بالغ في إحكامها وتسديد خطاها، ومؤداها أن يرمي لنكولن والمتشيعين له بأنهم من المتطرفين الذين يريدون حل مسألة العبيد بالقوة، ثم يحمل على بقية رجال الحزب الجمهوري فيرميهم بالتذبذب. . . وراح يخطو في سبيل ذلك خطوات؛ فيتحمس ويعلو بصوته ويكثر من الإشارات، ولكنه كان يسمو بعباراته أحياناً فلا ترقى إليها إفهام الكثيرين؛ على أنه كان له من جاهه ونفوذه وهيبته في قلوب الجماهير عوض عن ذلك، فحسبهم أنهم يستمعون إلى ذلك الذي بات يتحدث باسمه كل إنسان، حسبهم أنهم يستمعون إلى دوجلاس السياسي الأشهر ورجل الثورة العزيز الجانب! وإن في كثير من النفوس البشرية لما يميل بها من غرائزها إلى الخضوع للسلطان والانقياد لكل ما يشير به ولو كان مما هو جدير أن يقابل بالعصيان

وجاء دور ابراهام فطلع على الناس بقامته الطويلة فهتف باسمه أنصاره وتحمسوا له، واتجهت إليه الأنظار وإنه ليبدو كأنما أخذته من الموقف ربكة فليس له تطلع دوجلاس وتحفزه! ونظر الناس إلى شعره الأشعث وإلى ملابسه المتهدلة وخاصة إلى سرواله الذي يقصر عن ساقيه فيكشف عن جزء منهما، وقارنوا دون أن يشعروا بين تلك الملابس وبين حلة دوجلاس الأنيقة فبدت أكثر حقارة مما هي عليه! وكانت تستقر الألحاظ برهة على محياه وقد ازدادت مسحة الهم فيه وضوحا، وبدا عليه ما يشبه المسكنة والانكسار. . ولكن الناس على الرغم من ذلك يرتاحون إلى مظهر ذلك المحيا ويشعرون نحوه بالحب!

ويبدأ الخطيب في صوت أجش تتخلله حشرجة ثقيلة؛ ثم ما هي إلا برهة حتى تنطلق تعسه على سجيتها، فإذا ذلك المحيا يتهلل ويشرق وتشكل أساريره بما يهجس في خاطره، وإذا تلك العينان الواسعتان المتسائلتان تنفثان بسحرهما إلى أعماق القلوب، وإذا الرجل يبدو في هيئة يتقاصر عن وصفها لفظ الجمال. وتتفتح مسالك صوته فينطلق رائقاً له رنين يتشكل حسبما يعبر عنه من المعاني، وكان يعلو صوته إذا تحمس فيدوي في أرجاء المكان

وينساب السيل لا يصده عن وجهه شيء ولا تمشي في صفائه كدرة على تدفقه وجيشانه! والناس مفتونون وإن هم لم يفطنوا على وجه التحديد إلى سر فتنتهم، فهم مأخوذون بما يسمعون عن أن يفكروا أو يحللوا؛ وإنهم لفي سكرة أشبه بما يجدون أنفسهم فيه عند إصغائهم إلى لحن من تلك الألحان التي تسحر الأنفس وتملك الألباب

تدافعت إلى ذهنه الألفاظ وتزاحمت عليه المعاني وقد أسفرت عن وجوهها ومشت إلى غايتها في غير تحرج أو التواء؛ ولقد برزت في ذلك اليوم مواهبه على أتمها فكان له ما شاء من سهولة اللفظ من بلاغته ودقة المنطق مع سلامته؛ هذا إلى يقين ينفث في قوله الحرارة؛ وتمكن يذيع فيه الروعة؛ وأمثلة يسوقها من الحياة العادية فتستقر في قلوب سامعيه ومعظمهم من عامة الناس ومن وراء ذلك العبقرية التي تستعصي على التحليل وتسمو على التأويل. . .

ونزل لنكولن وله في قلوب السامعين من أنصاره وخصومه مكانة غير ما كان له قبل من مكانته، فلقد استطاع أن يقنعهم، كما استطاع أن يشعرهم بما هو أقوى من الاقتناع وأبعد أثراً ألا وهو الإعجاب؛ وإنهم ليتهامسون بعضهم إلى بعض قائلين: ليت لسادتنا وكبرائنا قلوباً مثل قلب ذلك الرجل. . . مثل قلب أيب الأمين. . .

وتكلم دوجلاس بعد ذلك مسافة نصف ساعة أعلن بعدها أن الاجتماع الثاني سوف يكون في فريبورت

ولقد ارتكب دوجلاس من الخطأ في هذا الاجتماع الأول ما عد عليه أنه أفحش أخطائه في ذلك الجدال؛ وذلك أنه أبرز مكتوباً موقعاً عليه باسم لنكولن يفهم منه أن إبراهام من زعماء المتطرفين؛ ولكن سرعان ما أقام إبراهام في دوره الدليل على أنه زائف وأنه مما جاء فيه براء. وكانت لطمة قوية استخذى لها دوجلاس في سامي منزلته، وفقد بعدها ثقة الكثيرين. . .

وحل موعد الاجتماع الثاني فتسابق الناس إليه أفواجاً وقد اشتهر أمر ذلك الصراع إذ لم تبق صحيفة إلا وقد أسهبت في الحديث عنه؛ وفي هذا الاجتماع طعن لنكولن خصمه تلك الطعنة التي سلفت الإشارة إليها؛ فلقد أعد له سؤالا يلقيه عليه: أإذا أرادت ولاية أن تلغي نظام العبيد فيها فهل هي مستطيعة أن تفعل ذلك دون أي حرج؟ ولقد أنكر عليه أنصاره هذا السؤال إذ لم يفهموا الغرض الذي يرمي إليه منه، وهو يعلم أن دوجلاس سيجيبه: بلى تستطيع الولاية ذلك. فقال لهم ولكنه بذلك يفقد عطف أنصار مبدأ التمسك بالعبيد من أهل الجنوب فلا يمنحونه أصواتهم إذا هو تطلع للرياسة؛ ولن يضير لنكولن أن يظفر دوجلاس اليوم بمقعد في مجلس الشيوخ

ووجه لنكولن السؤال إلى دوجلاس فأجاب بقوله (نعم تستطيع الولاية أن تفعل ذلك في غير حرج)؛ وفرح لنكولن بتلك الإجابة التي يعلم أنها ستنفر أهل الجنوب منه. ولقد أيدت الأيام رأيه وبرهنت على بعد نظره. ومما قاله لنكولن في ذلك (إن دوجلاس ليتبعه عدد كبير من العميان، وإني أريد أن أجعل بعض هؤلاء يبصرون)

وفي الاجتماعين الثالث والرابع لم يأت كلاهما بشيء جديد؛ وإنما اجتهد لنكولن أن يدفع عن نفسه ما رماه به خصمه من الاتهامات؛ وخرج لنكولن من هذين الاجتماعين وقد أضاف إلى أنصاره أنصاراً جديدين. . .

وفي الخامس من هاتيك الاجتماعات اتخذ لنكولن خطة الهجوم، بعد أن أخذ ينشر خصمه ويطويه في الاجتماعين الماضيين حتى دوَّخه، وكان هجومه تلك المرة شديداً، ضاق به دوجلاس وانخلع عنه مكره؛ عاب عليه إبراهام أنه لا يحفل بالاعتبار الخلقي من مسألة العبيد، مع أن هذا الاعتبار بعد الخروج على اتفاق مسوري، هو السبيل الوحيد الذي يعوَّلُ عليه في منع انتشار العبيد؛ وعلى ذلك يكون دوجلاس داعية إلى أن تصبح مسألة العبيد مسألة قومية عامة لا تحرج منها ولا تأثم فيها. . .

وأحس دوجلاس مهارة الرمية وقوة الإصابة فراح يرد على رمية برمية، وعاد فاتهم لنكولن والحزب الجمهوري أنهم من دعاة الثورة وأنهم يدفعون البلاد إلى الدمار. . .

ولكن لنكولن جعل الاجتماع السادس لتحديد مذهب الحزب الجمهوري فقال في جلاء: إن الجمهوريين هم أولئك الذين يعتبرون نظام العبيد خطأ من النواحي الخلقية والاجتماعية والسياسية؛ ولكنهم يتمسكون بدستور الاتحاد ويسيرون في تحقيق أغراضهم على نهجه؛ أما الذين لا يرون عيباً في نظام العبيد فهم الديمقراطيون؛ وهم ليسوا من الجمهوريين في شيء. . . لذلك ليس من الجمهوريين من لا يعبئون بالدستور في موقفهم من نظام العبيد مهما بلغ من مقتهم لذلك النظام. . .

وحار دوجلاس ماذا يفعل أمام تلك القوة وأمام ذلك الوضوح الذي لا يدع مجالا لمستريب فأخذ يداجي ويعبث وقد تثعلب بعد ما سبق أن استأسد

وضيق لنكولن عليه الخناق فطلب إليه أن يجيب على هذا السؤال البسيط في غير مداجاة (أيعتبر نظام العبيد صواباً أم خطأ)؟ وازدادت حيرة المارد الصغير وأحس أنه على جبروته يتلوى في قبضة ذلك العملاق وكأنه أمامه جذع من تلك الجذوع التي ما كانت تقوى على فأسه مهما بلغ من متانتها يوم كان يضرب بفأسه في الغابة قبل أن يعرف كيف يضرب بقلمه أو بلسانه

وعجب الناس لهذا الرجل الذي لا يرى نظيره في الرجال، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا دهى المارد الصغير؟ وكيف تسنى لابن سبرنجفيلد المتواضع الذي لم يعرف سلطاناً ولا جاهاً أن يأخذ الطريق هكذا على ابن وشنجطون الجبار المدل بماله ومنعته ونفوذه؟

ولكن هاجساً يهجس في ضمائرهم أن للحق سلطاناً دونه كل سلطان، وعزة يستخذى أمامها كل اعتزاز، ومنعة ترتد عنها كل مطاولة؛ وأن الباطل مهما تنمر واستعدى على الحق من أساليب بهتانه وألاعيب مكره، لا يكون منه إلا كما يكون الليل من وجه الصباح. . .

وأدرك الناس أن خير خادم للناس من يدرج من بينهم فيحس إحساسهم، ولا يزال مهما بلغ من سمو منزلته واتساع ثقافته، قادراً أن يشاركهم عواطفهم وألا يضيق بأحلامهم وإن صغرت حتى يتلمس فيها السبيل إلى هديهم وشفاء أنفسهم؛ وأي هذين الرجلين ينطبق ذلك عليه؟ أهو دوجلاس الذي أثرى بغتة بحيلة لم تتطلب منه إلا أن يشتري قطعاً من الأرض بأبخس الأثمان ثم يعمل بنفوذه على أن تتخذ سكة الحديد فيها مجراها فيبيعها بما تمتلئ به خزانته؟ والذي باعد بينه وبين الناس وتكلف مظهراً أرستقراطياً تطرب له نفسه ولا ترتاح إلا له؟ أم هو لنكولن الذي ما برح يأكل من كده والذي ظل في الناس على رجاحة عقله وعلو همته أحد الناس، والذي لا يطيب له العيش إلا إذا استشعرت نفسه آمال الناس وآلامهم، ولا يحلو له السمر إلا حيث يجلس في قوم ارتفعت بينهم وبينه الكلفة وازدادت الألفة مهما يكن من الفوارق العلمية أو الفوارق المدنية؟. . .

تحدث ابراهام مرة يصف دوجلاس فقال: لقد سوته الطبيعة بحيث أن ضربه السوط إذا نزلت على ظهره هو تؤلمه وتؤذيه، بينما هي لا تؤلم ولا تؤذي إذا نزلت على ظهر أي شخص سواه)؛ وما كان ابراهام مسرفاً في قوله؛ وما نحن بمسرفين إذا قلنا إن إبراهام قد سوته الطبيعة بحيث يحس ضربة السوط على ظهره هو إذا نزلت على ظهر أحد سواه من الناس. . .

(يتبع)

الخفيف