مجلة الرسالة/العدد 325/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 325/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1939



دراسات في الفن

خمسة أيام طاهرة

بين الفن والإسكندرية

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

ليتني ما جئت القاهرة. بل أحمد الله لأني جئت. وأستغفرك اللهم إذ تمنيت غير ما كان من إرادتك. فقد رأيت القاهرة لوثتني ونسيت أنها علمتني، وقد حننت إلى الإسكندرية التي دللتني ونسيت أنها خلبتني. وهأنذا أعيش في القاهرة راضياً، وهاأنت ذا يا رحمن تأذن لنا أن نجتمع بين يديك يوماً أو أياماً كلما شئت فلا تحرمني من الإسكندرية يا رب كما يسرتها لأستاذي أحمد الشايب

يا رب!

عجيبة الإسكندرية! ولست أدري إذا كنت أحبها لأنها بلدي، أو أني لأحبها لأنها الإسكندرية. ولكني أشعر وأومن بأنها أقرب إليك. . .

وشتان ما بينها وبين القاهرة.

عندما يريد أهل الإسكندرية أن يسبوا واحداً منهم أو من غيرهم يعيرونه بأنه (صايع) وهو عندهم من لا يعمل عملاً شريفاً يأكل منه

وعندما يريد أهل القاهرة أن يمدحوا واحداً منهم أو من غيرهم ويعظموه، يصفونه بأنه (وجيه) وينعمون عليه برتبة (البيكوية) من عندهم. والوجيه في القاهرة هو من لا يعمل عملاً مطلقاً ويأكل ويشرب من حيث يعلم الله، و (البيك) فيها هو هذا الوجيه نفسه، أو ذاك الموظف في الحكومة الذي ينفق في الخلاعة مرتبه وزيادة تأتيه من حيث يعلم الله

وأهل الإسكندرية لا يصفون إنساناً بأنه (صايع) ويعدلون بهذا الوصف عن الحق إلا إذا تهاجموا، وفي التهاجي عداوة، والعداوة نكد، والنكد ضرر، فالعدول عن الحق في الإسكندرية ضرر فيه شر

وأهل القاهرة قد يصدقون حين يصفون إنساناً بأنه (وجيه أو بيك)، ولكنهم غالباً ما يصفو بهذين الوصفين أناساً ليسوا أهلاً لهما فيعدلون بذلك عن الحق، ويصيبهم من هذا رضاء موصوفيهم، وعندما يرضى الإنسان يجود على الذي أرضاه ووصفه بغير الحق، فالعدول عن الحق في القاهرة نفع فيه خير

والذي يتجول في أحياء الإسكندرية لا في القاهرة المصطافة المتهتكة عند الشاطئ، لا يفتأ يسمع كلمة (صايع) تُردد مع خطاه. فالخلاف على الرزق في الإسكندرية كثير بحكم أنها بلد صيد وبيع وشراء وكفاح، ولكن هذا الخلاف صريح مكشوف لأنه نما وترعرع مع الأجيال، والخلاف لا يمكن أن ينمو وأن يتضخم وأن يظل مع نموه وتضخمه مكتوماً مستوراً، فإذا انكشف لم يكن غير معركة، والناس لا يستطيعون أن يتعاركوا ليلاً ونهاراً، فهم يعدلون عن العراك أحياناً إلى السب والتعبير، فإذا كثر سبهم بوصف من الأوصاف، كان ذلك دليلاً على أن هذا الوصف هو أبلغ السب عندهم، وأبلغ السب يكون بنعت المشتوم بأقبح النعوت في رأي الجمهور وأكره ما يكرهون، (فالصياعة) أذاً هي أكره ما يكره أهل الإسكندرية وضدها هو أحب ما يحبونه، وهو أن يكون الإنسان عاملاً

والعمل في الإسكندرية بطولة. لأن الناس محتاجون إليه فهم يقظون، عيونهم مفتحة، متصارعون عليه في لهفة واستماتة وإجادة، فإنه إذا لم يكن العامل قوياً خر في الميدان. وهذه البطولة لها قيود كان لا بد منها لأمان المجتمع، فإنها لو تحررت يسعى إليها كل إنسان بطريقته هو فاستباح بعض الناس الحرام، وأكلوا جهود غيرهم. وكل مجتمع تكونه الطبيعة يصنع قوانينه وقيوده بنفسه لأنها من أسباب حياته، ويحرص كل الحرص على صيانتها، ويثور كل الثورة على من يهم بخدشها. وقيود البطولة في الإسكندرية هي القوة الصريحة في العمل الجد.

فإذا انحدرنا إلى القاهرة سمعنا رتبة (البيك)، والوصف بالوجاهة ينعم بهما على كل من هب ودب حتى نحن. ومعنى هذا أن أهل القاهرة جميعاً يحبون أن يكونوا (بكوات) ووجهاء هكذا ويأكلون ويشربون من حيث يعلم الله ولا يعلم الناس.

وهم في هذا كما يكره أهل الإسكندرية أن يكون الواحد منهم هكذا

وهذه حال تستلزم أن نتنزع لها من الطبيعة قوانين تصونها، كما أنها تستلزم أن يكافح الجموع من أجلها، وأن يقاوم الخارج عليها الذي يهم بخدشها، والقانون الذي تلتزمه الطبيعة في هذه الحال هو قانون (الستر) ما دام الناس لا يريدون أن يعلم غير الله من أين يأكلون ويشربون. و (الستر)، و (التستر)، و (الستائر) جميعاً تخفي وراءها ما لا يعلمه أيضاً إلا الله. وقد يعلم الناس منه الكذب والغش.

وأهل القاهرة يسترون هذا التلوث الخلقي لأنهم يسترون كل شيء، حتى أنفسهم يسترونها عن عيونهم.

فالكذب إذا حدث في الإسكندرية حاربه أهلها، وإذا كان في القاهرة حاباه أهلها. وهكذا يسري الكذب في القاهرة حتى يتغلغل في حياتها إلى أن يركب الفن. . . الفن العطية من الله. إذا ادعاها في الإسكندرية مدع قتلته الإسكندرية، فإذا ادعاها في القاهرة مدع سترته القاهرة

وقد يصبر أهل الإسكندرية على مدع في غير الفن، ولكن هذا الذي يتلف عليهم الوقت الذي يطلبون فيه متعتهم الروحية التي يشترونها بدمائهم ويكدحون طول النهار لها، هذا المدعي يضربه أهل الإسكندرية ضرباً بالأيدي وبالأرجل وبالكراسي وبالزجاجات الفارغة وهم يصيحون: (هاتوا فلوسنا)!

ومع هذا العنف في طلب الحق فإن في أهل الإسكندرية عيباً عجيباً هو أنهم يلينون لكل ما يجيء من القاهرة سواء أكان فناً أم غير فن، لا يفتحون عيونهم عليه، ولا يحاولون التفرس فيه وانتقاده، لا لشيء إلا أنه من العاصمة وأنهم لا يظنون بالعاصمة إلا خيراً، فلا يمكن أن يتصوروها أقل منهم فراسة وصدق نظر! وإلا فلماذا كانت القاهرة العاصمة؟ ليس من شك في أن الله جزى القاهرة ستراً بستر، إذ خيل لأهل الإسكندرية أنها ما استحقت أن تكون العاصمة إلا لأنها جديرة بأن تكونها. . ولولا هذه العقيدة لزحفت الإسكندرية على القاهرة. . .

صحيح! هذا هو إحساس الإسكندرية وتفكيرها، فهذه الثقة المتعامية بالقاهرة هي وحدها التي تروج بضائعها في الإسكندرية ومنها الفن. فإن لم يكن هذا فكيف ذاق سيد درويش الويل في الإسكندرية حتى اعترفت به، وكيف هللت الإسكندرية وكبرت للأستاذ عبد اللطيف ألبنا عندما استجلبه لها متعهدو الحفلات من القاهرة؟. . . القاهرة العاصمة!

والفن عند أهل الإسكندرية قد يسرع إلى أن يكون حرفة لأنه موهبة، والمواهب عند العاملين رأس مال. ولا يمكن أن يحترف الفن في الإسكندرية إلا الفنان الصادق، ومتى ظهر صدقه في فنه وتمكنه منه، أقبل عليه الناس وشجعوه، ولكن إلى أن يظهر هذا الصدق، ويجوز رضاء أهل الإسكندرية، ثم يكون له بعد ذلك تعصبهم البلدي يذوق فنان الإسكندرية الأمرين من نقدهم القاسي الصريح الذي لا يمكن التغلب عليه إلا بعزم من فولاذ، وأكثر الناس تعرضاً لهذا النقد وهذا التهشيم هم أصحاب الفنون الجميلة، التي لا يأكلها الناس ولا يشربونها، فإذا لم تكن فنونهم إلهاماً من الله يهبط على الجمهور من خلال أرواحهم، فإن كل ما فيه من صنعة يتعرض للنقد، والصنعة ينفسح المجال في نقدها للعالمين والجاهلين، ما دام الأمر في النقد راجعاً إلى المنطق والحجج والبراهين والكلام، وما دام الأمر في هذا كله راجعاً إلى وجهات النظر الفردية. . . على العكس من إلهام الله وهو الحق الذي لا مراء فيه. والفن الملهم هو باعث الحق في الحس، والناس إذا أحسوا الحق لم ينكروه إلا كما ينكر المحروق شيّ النار.

ومع أن الفن الملهم هذا قد يسرع إلى أن يكون حرفة في الإسكندرية لإسراع الناس فيها إلى العمل والإنتاج بحكم الحاجة، فإنه لم يكن إلى اليوم فيها تجارة مثلما أصبح في القاهرة على أيدي إخواننا السوريين الذين تأصلت فيهم طبيعة التجارة منذ كان أجدادهم الفينيقيون يحملون لواءها في العالم القديم ووجدوا في القاهرة المتسترة ميدانهم. . . فأهل الإسكندرية صيادون يبيعون ما يجود الله به عليهم من سمك أو فن، ولكنهم لا يستطيعون تلفيق السمك ولا يستطيعون تلفيق الفن، كما أنهم لا يعرفون الإعلان عما عندهم إلا بعرضه، كما أنهم لا يوقتون مواسمه ولا ينظمونه، فالطبيعة هي التي توقته لهم وتنوعه، فأيام الصفاء لها سمك ولها فن، وأيام النوء لها سمك آخر ولها فن آخر. وما أكثر تقلبات البحر الذي يجود بالسمك! وما أكثر تقلبات الحياة التي تجود بالفن! وما أكثر تلون الصروف التي تجود بما بين السمك والفن. . .

أما القاهرة فكان من نتائج الاتجار بالفن فيها أن أصبح له أسواق منها شارع عماد الدين، كما أن للخردوات فيها أسواقاً منها شارع الموسكي. والأسواقيتسلل إليها السماسرة، ومتى دخل السماسرة دخل الزيف والبهرج اللذان لا صلة لهما بالفن وإن كانت لهما صلة بما هو دونه هذا هو ما يختص بظهور الفن في كل من الإسكندرية والقاهرة. . . فما هي طبيعة فن الإسكندرية، وما هي طبيعة فن القاهرة؟

طبع الفن في الإسكندرية يشبه طبعها، وطبع الفن في القاهرة يشبه طبعها، وأصدق الفن في الإسكندرية ما كان صدقاً، وأصدق الفن في القاهرة ما كان غشاً وكذباً!

الإسكندرية تعاشر البحر في كنف الصحراء. . . وكل منهما مكشوف. وفيها منهما. والقاهرة يحتضنها جبل أغبر ليته ما كان فانطلقت صحراوية خالصة، وانكشف عنها هذا الرجم الثقيل الجاثم على صدرها وعينيها. . . فربما كانت تسمع وترى وتعي!. . .

لقد طبع البحر الإسكندرية وأهلها وفنها. فالأدب فيها نقد عنيف قاس يشبه أن يكون إعصار، فإذا رق فهو إخلاص البحر واستسلامه على جبروته وعظمته، والموسيقى فيها صفاء وصدق ما هدأت أو ثارت. والرسم فيها هو هذه الصور التي تعرض البحر وطيره وسمكه، والصيد ومراكبه ورجاله، وهي التي نرى فيها من نشاط الإسكندرية وتوثبها ما يميزها من غيرها. . .

وفن الإسكندرية فيه من روح أوربا أنقاها لا البراق الباطل منها، وذلك لاختلاط المصريين فيها بالأجانب اختلاطاً لا يشبه اختلاطهم بهم في القاهرة، فالأجانب في القاهرة يكادون يعيشون في أحياء خاصة، فيها بيوتهم ومتاجرهم وملاهيهم، أما في الإسكندرية فهم منبثون في أنحائها جميعاً يتخللون الوطنيين، ويعاشرونهم كأنهم منهم، وقد لا يشعر الأجنبي في الإسكندرية بالغربة، كما أن الوطني لا يشعر فيها بغرابة الأجنبي، وهذا راجع إلى أن الإسكندرية تصبغ سكانها جميعاً بصبغتها، وأنها تعدهم جميعاً لنوع واحد من الحياة يتعاون فيه سكانها. وقد يعجب القارئ إذا قلت له إني سمعت روميا يلعن روميا آخر ويلعن الباخرة التي قذفت به في بر مصر، وهذا لا يمكن أن يصدر إلا من وطني يغار على بلده ولا يريد أن ينهال عليها إلا من هو جدير بالحياة فيها، ولا يحابي في هذا من كان من وطنه الأول أو من كان من أهل البلاد نفسها. والأجانب في الإسكندرية كثيرون، وهم كما يعطونها أرواحهم يعطونها تفكيرهم، وإحساسهم، فيأخذ عنهم الوطنيون ألواناً من أساليب العرض الفني، كما يتعلمون منهم أشياء رقت بهم على المصريين وجودت فنونهم

هذا هو فن الإسكندرية وأما فن القاهرة فأستره إرضاء للقاهرة.

عزيز أحمد فهمي