مجلة الرسالة/العدد 348/عبقرية محمد العسكرية

مجلة الرسالة/العدد 348/عبقرية محمد العسكرية

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940


للأستاذ عباس محمود العقاد

خطر لي أن أجعل موضوع مقالي في هذا العدد الخاص بالعرب والإسلام بحثاً مجملاً عن عبقرية النبي عليه السلام من الوجهة العسكرية لتتم المناسبة بين المقال وبين موضوع العدد كله والوقت الذي يصدر فيه وهو وقت قتال أو تحفز لقتال

ولا محل للمشابهة بين الحرب في عهدنا هذا وبينها في عهد الرسالة الإسلامية، لأن الحرب قد أصبحت منذ ابتداء القرن العشرين حرب مواقع، كالحصون المنيعة من خط ماجينو وخط سيجفريد، أو كالخنادق التي كانت غالبة في الحرب الماضية، ولاسيما في الميادين الغربية

أما في القرن الماضي فقد كانت الحرب (حرب حركة) كما كانت قبل أربعة عشر قرناً أو قبل عشرين قرناً بغير اختلاف كبير في المبادئ والأفكار، وغاية ما هنالك أن الرامية حلت محل القوس والسهم، وأن المدفع حل محل المنجنيق، وأن القذائف حلت محل النار الإغريقية وما إليها

لهذا اخترنا أبرع القادة المحدثين على أسلوب (حرب الحركة) وهو نابليون بونابرت، لنبين السبق في خطط النبي العسكرية، بالمضاهاة بينها وبين خطط هذا القائد العظيم

1 - فنابليون كان يوجه همه الأول إلى القضاء على قوة العدو العسكرية بأسرع ما يستطيع، فلم يكن يعنيه ضرب المدن ولا اقتحام المواقع، وإنما كانت عنايته الكبرى منصرفة إلى مبادرة الجيش الذي يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها أكثر الأحيان، وهو على يقين أن الفوز في هذه الهجمة يغنيه عن المحاولات التي يلجأ إليها جلة القواد

وعنده إنه يستفيد بخطته تلك ثلاثة أمور: أن يختار الموقع الملائم له، وأن يختار الفرصة، وأن يعاجل العدو قبل تمام استعداده

وقد كان النبي عليه السلام سابقاً إلى تلك الخطط في جميع تفصيلاتها

فكان لا يبدأ أحداً بالعدوان، ولكنه إذا علم بعزم الأعداء على قتاله لم يمهلهم حتى يهاجموه جهد ما تواتيه الأحوال، بل ربما وصل إليه الخبر كما حدث في غزوة تبوك والناس مجدبون والقيظ ملتهب والشدة بالغة، فلا يثنيه ذلك عن الخطة التي تعودها، ولا يكف عن التأهب السريع وعن حض المسلمين على جمع الأموال وجمع الرجال، ولا يبالي ما أرجف به المنافقون الذين توقعوا الهزيمة للجيش المحمدي فلم يحدث ما توقعوه

وكان عليه السلام يعمد إلى القوة العسكرية حيث أصابها فيقضي على عزائم أعدائه بالقضاء عليها، ولا يضيع الوقت في انتظار ما يختاره أولئك الأعداء، وإضعاف أنصاره بتركه زمام الحركة في أيدي الهاجمين، إلا أن يكون الهجوم وبالاً على المقدمين عليه، كما حدث في غزوة الخندق

2 - وقد كان نابليون مع اهتمامه بالقضاء على القوة العسكرية لا يغفل القضاء على القوة المالية أو التجارية التي يتناولها اقتداره، فكان يحارب الإنجليز بمنع تجارتهم عن الوصول إلى القارة الأوربية، وتحويل المعاملات عن طريق إنجلترا إلى طريق فرنسا

وهكذا كان النبي عليه السلام يحارب قريشا في تجارتها، ويبعث السرايا في أثر القوافل كلما سمع بقافلة منها

وأنكر بعض المتعصبين من كتاب أوربا هذه السرايا وسموها (قطعاً للطريق) وهي هي سنة المصادرة بعينها التي أقرها القانون الدولي، وعمل بها قادة الجيوش في جميع العصور، ورأينا تطبيقها في الحرب الحاضرة والحرب الماضية، رشيداً تارة وبالغاً مبلغه من الشطط والغلواء تارة أخرى.

3 - وقد أسلفنا أن نابليون كان يوجه همه إلى الجيش ولا يقتحم المدن أو يشغل باله بمحاصرتها لغير ضرورة.

ونرجع إلى غزوات النبي عليه السلام، فلا نرى أنه حاصر محلة إلا أن يكون الحصار هو الوسيلة العاجلة لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج منها قبل استعدادها، أو قبل نجاحها في الغدر والوقيعة، كما حدث في حصار بني قريظة وبني قينقاع، فكان الحصار هنا كمبادرة الجيش بالهجوم في الميدان المختار بغير كبير اختلاف

4 - لم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون.

وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر، لأنهما يذكران قريشاً ولا يذكران أبا سفيان، علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء. وسأل عن عدد القوم، فلما لم يعرفا العدد، سأل عن عدد الجزور التي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه إنما يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله، وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه ودروبه، ويعقد ما يسمى اليوم مجلس الحرب قبل أن يبدأ بالقتال، فيسمع من كل فيما هو خبير به، ولا يأنف من الأخذ بنصيحة صغير أو كبير. . .

5 - واشتهر عن نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة والأقلام، وكان يقول إنه يخشى من أربعة أقلام، ما ليس يخشاه من عشرة آلاف حسام

والنبي عليه السلام كان أعرف الناس بفعل الدعوة في كسب المعارك وتغليب المقاصد، فكان يبلغه عن بعض أفراد أنهم يشهرون بالإسلام أو يثيرون العشائر لقتاله أو يقذعون في هجوه وهجو دينه، فينفذ إليهم من يحاربهم في حصونهم أو يكفل له الخلاص منهم

وعاب هذا بعض المغرضين من الكتاب الأوربيين وشبهوه بما عيب على نابليون من اختطاف الدوق دانجان وما قيل عن محاولته أن يختطف الشاعر الإنجليزي كولردج الذي كان يخوض في ذمه ويستهوي الأسماع بسحر حديثه

ولكن الفارق عظيم بين الحالتين، لأن حروب الإسلام إنما هي حروب دعوة لدعوة أو حروب عقيدة لعقيدة، وإنما هي في مصدرها وغايتها كفاح بين التوحيد والشرك أو بين الإلهية والوثنية، وليس وقوف الجيش أمام الجيش إلا سبيلاً من سبل الصراع بين الدعوتين والغلاب بين العقيدتين

فليس في حالة سلم مع النبي إذن من يحاربه في صميم الدعوة الدينية، ويقصده بالطعن في لباب رسالته الإسلامية، وإنما هو مقاتل في الميدان الأصيل ينتظر من أعدائه ما ينتظره المقاتل من المقاتلين، ولاسيما إذا كانت الحرب قائمة دائمة لا تنقطع فترة إلا ريثما تعود

أما نابليون فالحرب بينه وبين أعدائه حرب جيوش وسلاح، فلا يجوز له أن يقتل أحداً لا يحمل السلاح في وجهه أو لا يدينه القانون بما يستوجب إزهاق حياته. وما نهض نابليون لنشر دين أو تفنيد دين، ولا كان للرسول الإسلامي من غرض لو جاز له أن يقبل المسالمة ممن يحاربونه في دينه وإن لم يشهروا السيف في وجهه، فإن الضرب بالسيف لأهون من المقتل الذي يضربون فيه

تلك مقابلة مجملة بين الخطط التي سبق إليها محمد، وجرى عليها نابليون بعد مئات السنين، ومن الواجب أن نحكم على قيمة القيادة بقيمة الفكرة أو الخطة قبل نحكم عليها بفخامة الجيوش وأنواع السلاح.

ولم يتخذ محمد الحرب صناعة، ولا عمد إليها كما أسلفنا إلا لدفع غارة، واتقاء عداوة، ورائده في ذلك ما جاء به القرآن الكريم: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)

فإذا كان محمد لم يتخذ من الحرب صناعة وكان يتقن منها ما يتولاه مدفوعاً إليه، فله فضل السبق على جبار الحروب الحديثة الذي تعلمها وعاش لها ولم ينقطع عنها منذ ترعرع إلى أن سكن في منفاه، ولم يبلغ من نتائجها بغض ما بلغ القائد الأمي بين رمال الصحراء.

عباس محمود العقاد