مجلة الرسالة/العدد 486/من ملاحق كتاب (رسوم دار الخلافة)

مجلة الرسالة/العدد 486/من ملاحق كتاب (رسوم دار الخلافة)

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 10 - 1942



دَنّيَّةُ القاضي في العصر العباسي

للأستاذ ميخائيل عواد

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

كان ببغداد قاض يعرف بالجذوعي، واسمه محمد بن محمد ابن إسماعيل بن شداد أبو عبد الله الأنصاري (المتوفى سنة 291 هـ) حكى بن الجوزي قصة وقعت للجذوعي هذا مع غلام من متقدمي غلمان الموفق، وكان أميراً يوم ذاك، ومدار القصة دنية الجذوعي القاضي. قال أبو الفرج: (. . . فقال المعتمد من هذا؟ فقيل له الجذوعي البصري، قال وما إليه؟ قالوا ليس إليه شئ؛ فقيل مثل هذا لا ينبغي أن يكون مصروفاً فقلدوه واسطاً؛ فقلده إسماعيل وانحدر، فاحتاج الموفق يوماً إلى مشاورة الحاكم فيما يشاور في مثله، فقال استدعوا القاضي، فحضر وكان قصيراً وله دنية طويلة، فدخل في بعض الممرات ومعه غلام له، فلقيه غلام كان للموفق، وكان شديد التقدم عنده، وكان مخموراً؛ فصادفه في مكان خال من الممر، فوضع دنيته حتى غاص رأسه بها فتركه ومضى، فجلس الجذوعي في مكانه، وأقبل غلامه حتى فتقها وأخرج رأسه منها وثنى رداءه على رأسه وعاد إلى داره. وأحضر الشهود، فأمرهم بتسليم الديوان، ورسل الموفق يترددون، وقد سترت الحال عنه حتى ذكر بعض الشهود لبعض الرسل الخبر، فعاد إلى الموفق فأخبره بذلك؛ فأحضر صاحب الشرطة وأمر بتجريد الغلام وحمله إلى باب دار القاضي وضربه هناك ألف سوط. وكان والد هذا الغلام من جلة القواد، ومحله محل من لو هم بالعصيان لإطاعة أكثر الجيش، فلم يقل شيئاً. وترجل القواد وصاروا إليه وقالوا مرنا بأمرك، فقال إن الأمير الموفق أشفق عليه مني، فمشى القواد بأسرهم مع الغلام إلى باب دار الجذوعي فدخلوا إليه وضرعوا له، فأدخل صاحب الشرطة والغلام وقال له لا تضربه، فقال: لا أقدم على خلاف الموفق. قال: فإني أركب إليه وأزيل ذلك عنه، فركب فتشفع له وصفح عنه)

ومن ظريف الترادف قول بديع الزمان الهمذاني حينما كتب إلى القاضي أبي القاسم علي بن أحمد، يشكو أبا بكر الحيرى (. . . ثم يلبس دنيته، ليخلع دينيته، ويسوى طيلسانه، ليحرف يده ولسانه. . .)

وفي بعض أخبار الظراف والمتماجنين إن سعد بن إبراهيم الكاتب قال يوماً لعبادة المخنث: (يكون مخنث غير بغاء؟ قال: نعم. ولكن لا يكون مليح: يكون مثل قاضي بلا دنية)

ولقد تقاذفها الشعراء في هجوهم. فمن قائل في حث متحكم على إعطاء رشوة إلى قاضٍ:

يا خليّلي يا أبا الغيث درك ... نصب القاضي لكَ اليوم شرك

طلب البرطيل فأبذلهُ لهُ ... يسكت القاضي وإلاّ ذكرك

لا يهولنك دَنِّيَّته ... أعطه من رشوة ما حضرك

وعلى ذكر إعطاء الرشوة للقاضي، وكان أمرها مشتهراً يوم ذاك، قال عمارة اليمني (المتوفى سنة 569 هـ) في ترسلاته: (. . . وقاضي مصرك، قدمتا على الوالي، فأدلى القاضي بالدنيه، وأدليت أنت بالهدية. . .)

وكان أبو الحسين محمد بن محمد بن لنكك البصري مولعاً بهجو كلاب بن حمزة العقيلي أبي الهيذام اللغوي. فمن أهاجيه التي تعرض فيها للدنية قوله:

نفسي تقيك أبا الهيذام كل أذى ... إني بكل الذي ترضاه لي راضي

ما كان أبدى فقيهاً إذ ظفرت به ... فكيف ألبسته دنية القاضي

وهذا شاعر آخر من المائة الرابعة يسخر منها؛ فيذكرها مقرونة بغراب نوح؛ فيقول:

كأنّ دنِّيَّة عليها ... غراب نوح بلا جناح

وقال آخر:

ترى قلانسهم كالرمح طعنّها ... تخفي جراحاتها في جنب مغرور

وقال الصابئ:

وفوقه دنِّيَّة ... تذهب طوراً وتجي

وكانت بعض النساء يفزعن من رؤية القاضي بدنيته ولحيته الطويلتين. فقد ذكر متن نقلاً عن الذهبي أنه: (كان ببغداد في سنة 368 للهجرة، قاض يعرف بأحمد بن سيار، وكانت له هيئة وجثة مهولة (كذا؛ والصواب: هائلة)، ولحية طويلة، فقدم إليه امرأتان ادعت إحداهما على الأخرى. فقال: ما تقولين في دعواها؟ قالت: أفزع؛ أيد الله القاضي. قال: ماذا؟ قالت: لحية طولها ذراع، ووجه طوله ذراع، ودنية طولها ذراع؛ فأخذتني هيبتها. فوضع القاضي دنيته، وغطى بكمه لحيته؛ وقال: قد نقصتك (كذا؛ والصواب: نقصت منك) ذراعين. أجيبيني عن دعوتها)

وقد بالغ الناس في درجة استهزائهم بالدنية واحتقارهم لها. فمن ذلك ما حكي عن أبي الظاهر الذهلي الذي ولي قضاء مصر في شهر ربيع الأول من سنة 348 للهجرة أنه (كان في خلافة المطيع يلبس السواد، ويضع على رأسه دنية طويلة تزيد على الدماغ (كذا؛ والصواب: الذراع)، فتحاكم إليه زوجان؛ فبدر من المرأة في حق زوجها كلام، فقال لها: اسكتي هذا القاضي هو أبو الظاهر؛ متى زدت من هذا المعنى نزع الخف الذي على رأسه وقطعه على دماغك. فقال أبو الظاهر: قم يا كذا إلى لعنة الله! من أين لك أن هذا خف؟. . .)

هذه باقة أخبار في لطائف دنية القاضي تناثرت هنا وهناك، وكانت في جميعها مدعاة والسخرية، فكم جلبت تلك الدنيات من الأذى والألم لكثير من القضاة! وكم جرت عليهم من الويلات! وكم من دنية غاصت برأس صاحبها، وكم منها تعاورتها أيدي الصبيان والرعاع وتقاذفتها أرجلهم، وكم من قاض ترك عمله بسببها

فلا غرو أن هذا الملبوس الدخيل على العرب لم يرق لهم، ولم تستأنس عيونهم برؤيته فوق هام القضاة، فما أنفكوا يعرضون به ويستهجنون شكله حتى خف استعماله شيئاً فشيئاً على مر العصور، ثم زال من الوجود منذ عهد بعيد

(بغداد)

ميخائيل عواد