مجلة الرسالة/العدد 490/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

مجلة الرسالة/العدد 490/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

مجلة الرسالة - العدد 490 المؤلف زكي مبارك
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 11 - 1942


1 - الشوقيات

للدكتور زكي مبارك

تمهيد - تأريخ القصائد - من كل فاكهة زوجان: عواطف

فرنسية وتركية ومصرية ولبنانية وأموية - مصرية شوقي -

حكاية المستر روزفلت أول دكتور من الجامعة المصرية -

قصيدة أنس الوجود - دفاع شوقي عن الوثنية المصرية

تمهيد

المقرر من الشوقيات لهذا العام هو الجزء الثاني، وسنتحدث عنه في مقالين اثنين مراعاة للوقت، فأمامنا مؤلفات ستنتهب المدة التي تسبق ميعاد الامتحان.

من أهم أبواب هذا الجزء باب النسيب، ومن أهم قصائده قصيدة (يا نائح الطلح)، ولن أتكلم عن هذه القصيدة ولا عن ذلك الباب، لأني أكره أن أنشر في مجلة الرسالة بحثاً نشرته من قبل، وأنا تكلمت بالتفصيل عن نونية شوقي في الطبعة الثانية من كتاب (الموازنة بين الشعراء) وتكلمت عن غزليات شوقي بالتفصيل في الطبعة الثانية من كتاب (البدائع)، فليرجع المتسابقون إلى هذين الكتابين في هذين الغرضين

وهذا إعلان عن مؤلفاتي أنشره في (الرسالة) بالمجان!!

تأريخ القصائد

شوقي لم يؤرخ قصائده جميعاً، ولو أنه فعل لأعفى النقد الأدبي من التعب في تعقب أسباب الضعف والقوة في شاعريته العصماء. والظاهر أن وضوح التواريخ أمام عينيه أوهمه أن الناس لن يحتاجوا عند النظر في قصائده إلى تأريخ. والأمر كذلك بالفعل، فقد كنت أعرف المناسبات التي قيلت فيها تلك القصائد، ثم طغت الشواغل فأنستني ما لم أكن أحب أن أنساه. ولعل أبناء شوقي يلاحظون هذا المعنى فيذكروا جميع التواريخ في الطبعة الث أقدم القصائد المؤرخة قصيدة (طابع البريد) في العاشر من سبتمبر سنة 1900، وتليها أبياته في وصف معرض الأزهار والثمار في باريس سنة 1901، ثم وصف المرقص الذي أقيم في قصر عابدين سنة 1903، والمرقص الذي تلاه في سنة 1904

وهذه القصائد لا ترتقي إلى منزلة القصائد التي نظمها بعد أن استحصدت قواه الشعرية، ولكنها مع ذلك تشهد بأن شوقي فُطر منذ البداية على إجادة الغناء.

من كل فاكهة زوجان

في هذا الجزء ترى قصائد فرنسية وقصائد تركية وقصائد مصرية وقصائد سورية ولبنانية، قصائد وصف بها عواطفه الصحاح نحو فرنسا وتركيا ومصر وسورية ولبنان، قصائد تقيم أصح البراهين على أن شوقي أحب جميع ما عرف من البلاد، وأنس إلى أكثر من عرف من الناس

وهنالك ظاهرة يجب النص على تفسيرها الصحيح، وهي إفراط شوقي في أخريات أيامه على الإشادة بمحاسن الشام ولبنان

فما تفسير هذه الظاهرة النفسية؟

كان شوقي لا يحب إلا من يروي شعره، وكان هواه مقصوراً على من يؤمنون بأنه أشعر الناس. وقد وجد في سورية ولبنان جماعات كثيرة تعرف من سرائر شعره أكثر مما يعرف، وتذهب في تمجيده إلى آفاق لا يطيف بها الخيال

وهل أُسرفُ إذا قلت إن تلطف شوقي في الحديث عن المسيحية يرجع إلى مراعاة عشاق شعره من النصارى العرب؟

الإسلام يحكم بكفر من يتطاول على المسيح، ولكنه لا يفرض على المسلم أن يتغنى بمجد المسيح، فكيف جاز لشوقي أن يجعل الثناء على المسيحية من أغراضه الشعرية؟

السبب هو ما أقول، هو أن شوقي وجد في نصارى لبنان رجالا يؤمنون بأدبه الرفيع، فجازاهم وفاءً بوفاء، وقال في المسيح كلاماً يقره أدب القرآن، وهل وصف المسيح بأفضل مما وصفه القرآن؟

كان شوقي ينعطف من لبنان إلى سورية بروحانية قليلة الأمثال:

خلَّفتُ لبنان جنات النعيم وما ... نُبئتُ أن طريق الخلد لبنانُ حتى انحدرتُ إلى فيحاَء وارفةٍ ... فيها الندى وبها (طيٌّ) و (شيبان)

نزلتُ بفتيان جحاجِحةٍ ... آباؤهم في شباب الدهر غسانُ

بِيض الأسرة باقٍ فيهُم صَيَدٌ ... من (عبد شمسٍ) وإن لم تَبق تيجانُ

يا فتية الشام شكراً لا انقضاَء له ... لو أن إحسانكم يجزيه شكرانُ

ما فوق راحاتكم يوم السماح يدٌ ... ولا كأوطانكم في البِشر أوطان

فما هو الكرم الذي أضفاه الشاميون على شوقي، وكان أغنى الناس عن سخاء الأسخياء؟

هو الكرم الذي وصفه في قصيدة ثانية حين قال:

رُواة قصائدي، فأعجَب لشعرٍ ... بكل محلةٍ يرويه خَلقُ

والواضح مما قرأت وما سمعت أن شوقي لم يذق طعم النعيم

إلا في سورية ولبنان، فقد كان في أبناء تلك البلاد الجميلة من يُسمع شوقي آلاف الأبيات من شعره في اليوم الواحد، وكان فيهم من يُسمعه قصائد غابت عن وعيه الدقيق. وكان شوقي يتلقى تلك التحيات بالبكاء. ولبكائه هنالك صورة يتحدث عنها الشاعر أمين نخلة، إن صحت رواية الأستاذ صلاح الأمير

وحب شوقي للشام هو الذي جعل عواطفه أموية:

بنو أمية للأنباء ما فَتَحوا ... وللأحاديث ما سادوا وما دانوا

كانوا ملوكاً سريرُ الشرق تحتهمُ ... فهل سألتَ سرير الغرب ما كانوا

عالين كالشمس في أطراف دولتها ... في كل ناحية مُلكٌ وسلطانُ

يا ويحَ قلبيَ مهما انتاب أرسمهم ... سرَى به الهمُّ أو عادته أشجان

بالأمس قمت على (الزهراء) أندبهم ... واليوم دمعي على (الفيحاء) هتّان

في الأرض منهم سماواتٌ وألويةٌ ... ونِّيراتٌ وأنواءٌ وعِقبان

معادن العزّ قد مال الرَّغام بهم ... لو هان في تُربه الإبريزُ ما هانوا

لولا دمشقٌ لما كانت طُلَيْطلةٌ ... ولا زهت ببني العباس بغدانُ

مررتُ بالمسجد المحزون أسألهُ ... هل في المصلَّى أو المحراب (مروانُ)

تغيَّر المسجد المحزون واختلفت ... على المنابر أحرارٌ وعبدان

فلا الأذان أذانٌ في منارتهِ ... إذا تعالى ولا الآذان آذان ومع هذا لم ينس شوقي حتى العلويين فتحدث عنهم في مواطن كثيرة، أشهرها الموطن الذي اختلقه اختلاقاً في مسرحية (مجنون ليلى)، إن صدقنا افتراض الدكتور طه حسين

وخلاصة القول أن عواطف شوقي منوعة الأصول والفروع فقد سما بنفسه عن الشعوبية، ورأى أن يكون شعره ميراث الشرق على ما فيه من اختلاف النوازع والميول:

كان شعري الغناء في فرح الشر ... ق وكان العزاَء في أحزانه

قد قضى الله أن يؤلفنا الجر ... ح وأن نلتقي على أشجانه

كلما أنَّ بالعراق جريحٌ ... لمس الشرق جنبه في عماته

وعلينا كما عليكم حديدٌ ... تتنزَّى الليوثُ في قضبانه

نحن في الفكر بالديار سواءٌ ... كلنا مشفقٌ على أوطانه

مصرية شوقي

وبرغم هذا التنوع في العواطف كان شوقي شاعر القومية المصرية، ولعله أول شاعر جعل من همه وصف مصر في أحلامها وأهوائها وأمانيها بما هي له أهل، وأول شاعر ذاق ما في مصر من قرارة النعيم والبؤس، وإن كان شفى ما في نفسه حين قال في غمز الحكومة التي سمحت بنفيه في أوائل الحرب الماضية: (وطن توالت عليه حكومات وحكومات، تقول فتجد وتعمل فتهزل، ولا تحسن من ضروب الإصلاح إلا أن تولي وتعزل)

حكاية المستر روزفلت

هو الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، لا رئيسها الحاضر، وكان زار مصر في سنة 1911، أو قريباً من ذلك، فما يتسع وقتي لتحديد التاريخ

والظاهر أن روزفلت السابق فاه عند زيارة السودان بكلام لا يرتضيه المصريون، فرد عليه الشيخ علي يوسف في جريدة المؤيد بمقال كان آية في البيان، ثم اندفع شوقي فحاوره بأسلوب غير ذلك الأسلوب، اندفع فحدثه عن عظمة مصر الممثلة في (قصر أنس الوجود)

أيها المنتحي بأُسوان داراً ... كالثريا تريد أن تنقضَّا

اخلع النعل واخفض الطرف واخشعْ ... لا تُحاولْ من آية الدهر غضَّا

وهي قصيدة نفيسة المعاني، وقد يُسأل عنها الطلبة في الامتحان لأنها من عيون الشرقيات أول دكتور من الجامعة المصرية

هو المستر روزفلت، الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، فقد مُنح الدكتوراه الفخرية، وكان ذلك أول لقب منحته الجامعة المصرية، فاعترض (الغزالي أباظة) على صفحات إحدى الجرائد، وكانت حجته أنه أولى بذلك اللقب، لأنه يستطيع أن يغضب المصريين بأكثر مما يستطيع أن يغضبهم أي مخلوق!

والغزالي أباظة هو الأستاذ دسوقي بك أباظة، الوزير السابق لوزارة الشؤون الاجتماعية، فهل يذكر ذلك التاريخ؟!

قصيدة النيل

هي قافية في 153 بيت، أرسلها إلى المستشرق مرجوليوت مع مقدمة نثرية قلقة الأسجاع، قصيدة يرجع عهدها فيما أفترض إلى أيام حرب البلقان، فهي إذاً من غرر شعره القديم. وليس من العدل أن نجاري الأستاذ المازني في القول بأن شاعرية شوقي لم تتفتح إلا بعد المنفى، فأنا أرى أن قصيدة (الأندلس الجديدة) التي قالها بمناسبة سقوط أدرنة في سنة 1912 لا تقل جودة عن أبرع ما جاد به خاطره في النفي وبعد النفي. . . والحق أن شوقي نضج في وقت مبكر، فقصيدته التي قالها في المؤتمر الشرقي بمدينة جنيف سنة 1894 تعد من القصائد الجياد، وهي الباكورة التي بشرت بأن سيكون له مقام بين شعراء القصص التاريخي

ونرجع إلى قصيدة النيل فنقول:

أراد شوقي بهذه القصيدة تمجيد العنصرية المصرية ممثلة في النيل السعيد، وقد رحب الشاعر بالألفاظ الجارية على ألسنة الفلاحين في أعمال السقي والغرس والحصاد. وطاف به الخيال حول عهود التاريخ، فشرح ما مر بهذه البلاد من عقائد وديانات، شرحها برفق، لأنه لم يرد النقد وإنما أراد التسجيل. ولو شئت لقلت إنه اعتذر عن ظلم الفراعين، فقد عد إرهاقهم للشعب في بناء الهياكل باباً من المجد المرموق

هي من بناء الظُّلم إلا أنهُ ... يبيضُّ وجه الظلم منه ويشرق

لم يرهق الأممَ الملوكُ بمثلها ... مجداً لهم يبقى وذِكراً يَعبَقُ ويرى الشاعر أن الأرض والسماء لا تبيدان إلا برجفة (القيامة)، أما (قيامة) مصر فهي جفاف النيل الذي خاطبه الشاعر فقال:

من أي عهد في القُرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تُغدقُ

ومن السماء نزلت أم فُجرت من ... عُليا الجِنان جداولاًتترقرق

وبأيِّ عينٍ أم بأيَّة مُزنةٍ ... أم أي طوفانٍ تفيض وتفهق

وبأي نَول أنت ناسجُ بردةٍ ... للضَّفتين جديدُها لا يخلق

تسودُّ ديباجاً إذا فارقتها ... فإذا حضرت اخضوضر الإستبرق

في كل آونةٍ تبدِّل صِبغةً ... عجباً وأنت الصابغ المتأِّنقُ

أتت الدهور عليك مهدُك مترعٌ ... وحياضك الشُّرقُ الشهية دُفق

تَسقى وتُطعم لا إناؤك ضائقٌ ... بالواردين ولا خِوانك يَنفَق

والماءُ تسكبه فيسَبك عسجداً ... والأرض تغرقها فيحيا المغرَق

ونظر الشاعر فرأى الوثنية المصرية تأمر بعبادة النيل، فشاء له الأدب أن يوجه تلك العبادة توجيهاً يرفع عنها أصر الشرك بواجب الوجود:

دينُ الأوائل فيك دينُ مُروءةٍ ... لم لا يُؤَّله من يَقوت ويرزُق

لو أن مخلوقاً يُؤَّله لم تكن ... لسواك مرتبة الألوهة تخلَق

جعلوا الهوى لك والوقار عبادة ... إن العبادة خشيةٌ وتعلُّق

ثم نظر الشاعر فرأى أن المصريين القدماء كانوا يهتمون ببناء القبور أضعاف ما يهتمون ببناء البيوت، فاتخذ من ذلك دليلا على حبهم للخلود:

بلغوا الحقيقة من حياة عِلمُها ... حُجُبٌ مكثَّفة وسرٌّ مغلق

وتبينوا معنى الوجود فلم يروا ... دون الخلود سعادةً تتحقَّقُ

يبنون للدنيا كما تبني لهم ... خرباً غرابُ البين فيها ينعق

فقصورهم كوخٌ وبيت بداوةٍ ... وقبورهم صرحٌ أشمُّ وجوسق

ولم يفكر الشاعر في تفنيد خرافة (عروس النيل) وإنما جعلها حقيقة شعرية حين قال:

ونجيبةٍ بين الطفولة والصبا ... عذراء تشربها القلوب وتعلَق

كان الزفاف إليك غاية حظها ... والحظ إن بلغ النهاية موبِقُ لاقيت أعراساً ولاقت مأتماً ... كالشيخ ينعم بالفتاة وتزهق

إلى آخر ما قال في هذا المعنى الدقيق. وقد اعتذر عن أسطورة (أبيس) فجعلها نوعاً من الوفاء للدين:

قومٌ وقارُ الدين في أخلاقهم ... والشعب ما يعتاد أو يتخَلقُ

ولم يفت الشاعر أن يسجل في أبيات كريمة أن مصر التي كانت موئلا للديانة الفرعونية هي مصر التي آوت الديانة الموسوية والديانة العيسوية والديانة المحمدية، ولم يفته أيضاً أن ينص على عدالة عمرو بن العاص الذي ضرب ابنه بالسوط حين سمع إنه أهان أحد الأقباط، وقال في ذلك كلمته التاريخية: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)

ثم ماذا؟

ثم يختم شوقي قصيدة النيل بأبيات تفسر معنى الوطنية، فالناس عنده يحبون الوطن لأنه مصدر سعادتهم، ولأنه المستقر الأمين لأبنائهم:

مما يحمِّلنا الهوى لك أفرُخٌ ... سنطير عنها وهي عندك ترزَقُ

تهفو إليهم في الترابِ قلوُبنا ... وتكاد فيه بغير عرقٍ تخفُق

تُرَجى لهم، والله جلَّ جلاله ... منا ومنك وبهم أبرُّ وأرفق

زكي مبارك