مجلة الرسالة/العدد 638/نظرية كونفوشيوس الدينية

مجلة الرسالة/العدد 638/نظرية كونفوشيوس الدينية

مجلة الرسالة - العدد 638
نظرية كونفوشيوس الدينية
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 09 - 1945



للأستاذ أبو بكر هوغانجين الصيني

1 - هل كونفوشيوس نبي؟

أعتقد الشعب الصيني في ذات كونفوشيوس منذ قدم الزمن اعتقاداً جازماً ما اعتقده اليهود في موسى والمسلمون في نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام وعظموه تعظيما لا يقل عن تعظيم النصارى لذات المسيح والبوذيين لذات بوذا، فأقاموا له الهياكل والمعابد يتقربون إليه في أعياد ميلاده ووفاته، ونصبوا له التماثيل والنصب والأخشاب التي كتب عليها اسمه يقدسونه ويعبدونه، وخصوصاً في الأيام الملوكية. قبل ثلاثين سنة كان الأطفال والتلاميذ الشباب يذهبون إلى المدرسة القديمة الطراز ويركعون له ركعات ويطلبون منه التوفيق والإلهام، كما فعله المتدينون لإلههم المقدس بديع السموات والأرض وما بينهما. ولكن الواقع لم يكن كونفوشيوس نبياً مرسلا بمعنى أنه يوحي إليه بالحق ليبلغه الناس، ولم يدع ذلك بل أنكر أن يكون نبياً وذا مروءة. قال في الفصل السابع من كتاب الحوار:

(أما الأنبياء الحكماء وذوو المروءة، فكيف أجترئ على إدعاء رتبتهم؟ وغاية ما يجوز أن يقال في هي أنني رجل يعمل جهده من غير ملل، ويعلم غيره من غير تعب. فقال كونغ اسى هوا (أحد تلاميذه): وهذا هو الذي لا يمكن أن نتعلمه)

غير أن المسلمين ما داموا اعتقدوا أن هناك أنبياء لم يقصص الله علينا اخبارهم، كما نص القرآن الحكيم، وما داموا اعتقدوا أن لكل أمة نبياً أو أنبياء يرشدونها إلى سواء السبيل، وما داموا اعتقدوا أن الأنبياء يزيدون على مائتين وعشرين ألفاً، فإن كونفوشيوس قد يكون منهم، لأنه يعرف الإله مدبر الكون، وإن لم يتصد لتعليمه الناس، ولأنه يقيم نفسه للحق ينشره بين الناس ليرجعوا إليه في كل معاملاتهم، ولأنه يبين لهم الآداب الفاضلة ليتخلقوا بها، والأعمال الفاسدة الرذيلة ليتجنبوها، فهو مصلح للأمة متدرج من الأفراد والأسر إلى المجتمعات، وليس كالسياسي، يعالج أمراض الأمة الظاهرة من الخارج لا من الأساس، فهو ني من الأنبياء، قد عمل أعمالهم وأدى واجبه كما أدوا، بقطع النظر عن تعظيم الشعب الصيني له وإجلالهم إياه فوق ما يجب

2 - هل الكونفوشيوسية دين؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، فقال فريق: إن التعاليم الكونفوشيوسية هي دين كسائر الأديان في العالم، لأنها لا تخلو عن الإرشادات القيمة التي تحض الإنسان على عمل الخير، وترك الشر، والتي تدعوه إلى الحياة السعيدة الهنيئة بالتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، وهي تأمر الناس بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وهي النصيحة عينها. وهذه الأشياء من خصائص الدين وغايته، فهي دين بلا شك، وهذا الفريق هو الذي يريد أن يجعل الكونفوشيوسية ديناً رسمياً للحكومة الصينية والشعب الصيني

يقول الفريق الآخر: إن التعاليم الكونفوشيوسية إنما هي فلسفة عالية وحكم غالية كسائر الفلسفات في الأخلاق والسياسة وليست ديناً، لأنها لم تبحث عن الإلهيات كوجود الإله وصفاته وأفعاله، ولا المغيبات كالجنة والنار والثواب والعقاب، ولا الصلة بين الله والإنسان ولا بينه وبين الموجودات. يقول تس كونغ أحد تلاميذه النوابغ:

(يمكن أن تسمع أحاديث الأستاذ في الفضائل والآداب، ولا يمكن أن تسمع أحاديثه في النفس الإنسانية والسنة السماوية). الفصل الخامس من كتاب الحوار: (كان الأستاذ قلما يتحدث عن المنفعة والقضاء والقدر والمروءة). التاسع من الكتاب.

(كان الأستاذ لا يتحدث عن العجائب والقوى والاضطرابات والآلهة). السابع منه

فما دام كونفوشيوس لم يتحدث عن هذه الأشياء التي هي من مهمات الدين وميزاته، أو قلما يتحدث عنها، فكانت تعاليمه ليست بدين، بل هي فلسفة بلا شك، وهو فيلسوف كأفلاطون وكانت وغيرهما.

وعلى كل حال، فإن التعاليم الكونفوشيوسية مزيج من الاثنين لا هي بالمبادئ الدينية المحضة، ولا الآراء الفلسفية البحتة، وشأنها شأن الفلسفات القديمة التي تبتدئ بالخرافات والأساطير، ثم تمتزج بالحكم الدينية

3 - دين الصين القديم

إذا كانت التعاليم الكونفوشيوسية مزيجاً من الدين والفلسفة فلابد أن نعرف حقيقة الدين الصيني القديم الذي قبل كونفوشيوس حتى نتبين هل نظريته الدينية كلها نظريات قديمة أو عقائد قديمة أم للفيلسوف كونفوشيوس رأي خاص أو نظرية خاصة غير العقائد التي اعتنقها السواد الأعظم من الشعب الصيني في تلك الأزمان الغابرة؟

يعتقد قدماء الصينيين أن السماء جوهر حي عليم قادر مدبر الكون نافذ الإرادة في النفوس وسائر الكائنات، واعتقدوا القضاء والقدر وقالوا إن العاصفة والطوفان والقحط والزلزال والمجاعة كلها آيات السماء تنذر بها الملوك إذا جاروا على الرعية أو قصروا في حقوقهم وعبادة السماء خاصة للملوك ولا تتعدى غيرهم.

يعتقد قدماء الصينيين أن للكائنات السماوية والأرضية آلهة أو ملائكة أو أرواحا تدبرها وتصرفها كيفما تشاء، فالشمس والقمر والسحاب والمطر والجبال والأنهار وما شاكلها من الكائنات يكون لكل واحد منها إله أو ملك أو روح يعبده الناس، ولكن عبادة آلهة الأرض والجبال والأنهار مخصوصة للأمراء وحدهم.

وكذلك يعتقدون أن في المنزل آلهة للغرف وأرواحاً للأموات، ويزعمون أن روح الإنسان تبقى في الدنيا بعد موته، وتشتاق إلى العودة إلى أسرته والعيش مع أفرادها في الغيب، فهم يعبدونها ويقدسونها ويقدمون إليها القرابين، وهي عبارة عن أنواع الأكل والشرب المشتهيين على مائدة منسقة، وهذه العبادة يشترك فيها الشعب والملك والأمراء لا فرق بينهم إلا بالكثرة والقلة.

والصينيون القدماء لا يعتقدون الجنة والنار، وإنما يعتقدون الجزاء في الدنيا إن خيراً فخيرا وإن شراً فشر. وقد يتعدى جزاء شخص إلى أبنائه أو أحفاده والكل يرجع إلى السعادة والشقاوة في الحياة الدنيا

4 - نظرية كونفوشيوس في الآلهة والأرواح:

قبل أن نتكلم عن نظريته في الآلهة والأرواح يجب أن نبين للقارئ أن المصدر والمرجع فيما يقول منحصر في كتاب الحوار الذي ألفه تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه، لأن الكتب التي صححها الفيلسوف كونفوشيوس، ولخصها ورتبها بنفسه، وإن كانت في نظريات فلسفية قيمة في مبدأ الكون ومصيره والإله وأفعاله، كتب قديمة لا يعتمد عليها فيما إذا بحث عن آرائه الخاصة وأفكاره الشخصية، وأما كتاب الحوار، فانه مشتمل على أقواله وأفعاله واعتقاداته، فإذا بحث عن نظرياته الخاصة يجب الاعتماد عليه

يعترف كونفوشيوس ببقاء الأرواح بعد خروجها من الأجساد ووجوب تقديم القرابين إليها، فلذلك كان (إذا دخل الهيكل العظيم سأل عن كل شيء) الفصل لعاشر من كتاب الحوار

(كلما دخل الأستاذ الهيكل العظيم سأل عن كل شيء. قيل: من ذا الذي يزعم أن ولد الرجل المنسوب إلى بلدة تساو يعلم الآداب؟ كلما دخل الهيكل العظيم سأل عن كل شيء. فلما سمع الأستاذ هذا التهكم قال: هذا من الآداب أيضاً). الثالث من الكتاب.

(كان الأستاذ يقدم القرابين إلى أرواح آبائه وأجداده كأنهم حاضرون، ويقدم القرابين إلى الآلهة كذلك كأنهم حاضرون. قال الأستاذ: إذا قدم القربان أحد غيري نائباً عني فكأنه لم يقدم قط). الثالث من الكتاب

وكان يصوم قبل تقديم القربان

(وكان إذا صام لبس ثياباً من الكتان نظيفة بهية وغير طعامه ومجلسه في الغرفة). العاشر منه

(وكان مما يحتاط فيه الأستاذ الصيام والحرب والمرض). السابع منه.

(البقية في العدد القادم)

أبو بكر هوغانجين الصيني