مجلة الرسالة/العدد 97/رسالة الأزهر للأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

مجلة الرسالة/العدد 97/رسالة الأزهر للأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

مجلة الرسالة - العدد 97
رسالة الأزهر للأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 05 - 1935



الشيخ محمد مصطفى المراغي

. . . قد يسال بعض الناس: ما فائدة الأزهر، أو ما هي رسالة الأزهر كما يقال اليوم؟ فأقول لهؤلاء: رسالة الأزهر هي حمل رسالة الإسلام. ومتى عرفت رسالة الإسلام عرفت رسالة الأزهر

الإسلام دين جاء لتهذيب البشر ورفع مستوى الإنسانية والسمو بالنفوس إلى أرفع درجات العز والكرامة. قد طوح بالوسطاء بين الناس وربهم، وصل بين العبد وبه. ولم يجعل لأحد فضلاً على أحد إلا بالتقوى، وقدس العلم والعلماء، وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات. وما قرره في ذلك هو منتهى ما سمت إليه الحكمة، ووصل إليه العقل. وفرض عبارات كلها ترجع إلى تهذيب النفس، وتلطيف الوجدان، وأبان أصول الأخلاق، وقرر التمتع بالطيبات ولم يحرف إلا الخبائث، ووضع حدوداً تحد من طغيان النفوس ونزوات الشهوات، ووضع أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين: قواعد كلها لخير البشر وسعادة المجتمع الإنساني

هذه صورة مصغرة جداً للدين الإسلامي، ورسالة الأزهر هي بيان الدين الإسلامي، وشرح قواعده وأسراره، ومتى أدى هذه الرسالة على وجهها فقد أدى نصيباً عظيماً من السعادة والخير للجمعية الإنسانية

في القرآن الكريم حث شديد على العلم، وعلى معرفة الله وعلى تدبر ما في الكون، وليس هناك علم يخرج موضعه عن الخالق والمخلوق. فالدين الإسلامي يحث على تعلم جميع المعارف الحق. وليس في المعارف الصحيحة المستقرة شيءٌ ممكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها

نعم قد توجد معارف تناقض بعض ما وضعه العلماء في شرح القرآن والحديث والفقه وغير ذلك، ولكن لا نهتم لهذا. فليس العلم في طريقه، ولنصحح معارف الماضين، لكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني المستقر

ولست أقصد بحديثي هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة، أو كلية للكيمياء أو ما يشابه هذا: ولكني أعني إن هناك علوماً ومعارف لها صلة بالدين وثيقة، تعين على فهمه، وتبرهن على صحته، ويدفع بها عن الشبهات. فهذه العلوم يجب أن يتعلمها العالم الديني ويتعلم منها القدر الضروري لما يوجه إليه

قد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية، وأصبح الإعلان عنها ضرورياً لنشرها وترغيب الناس فيها. ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة الحديثة، فقارنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب النفوس إليها وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر الناس منها. وقد توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفاً وأكثر قيمة وأمتن مادة، ومع ذلك فهي في كساد

وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم، وأحدث العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم، وتنفي عنه الملل والسأم

حدثت هذه الطرق في إلقاء الدروس والمحاضرات، وحدثت في تأليف الكتب أيضاً. وهذا المثل ينطبق علينا. ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر، وفي جميع العلوم التي تدرس في الأزهر، أعلاق نفسية لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة العرض في الدرس والتأليف، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث النظريات عند رجال القانون، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس الآن من غير حرج، وهي تحقق العدالة في أكمل صورها. ولكن هذه النظريات البالغة منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم

على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس، وان ييسر لهم هذه المعارف وأن يعرضها عرضاً حديثاً جذاباً مشوقاً

ومسألة أخرى يجب أن يعنى الأزهر بها: هي تطهير الدين الإسلامي من البدع، وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده. فهناك آراء منثورة في كتب المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها ظناً بكرامة الفقه والدين

ومن الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب الولاة والقضاة للكندي:

(كان في مصر قاضٍ شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي. وكان يتخير لأحكامه ما يرى إنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب. وكان مرضي الأحكام لم يستطيع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه. سأل ذلك القاضي إمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الواقعات فقال الطحاوي: أتسألني عن رأي أو عن رأي أبي حنيفة؟ قال القاضي: ولما هذا السؤال؟ قال الطحاوي: ظننتك تحسبني مقلداً. فقال القاضي: ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟)

فتخير الأحكام نوع من الاجتهاد ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه

إصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم الإسلامية على مختلف أقطارها وأجناسها، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً

وأنا ارجوا الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في النهوض بالأزهر، فإن الإخلاص في ذلك إخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين ولدين الحق الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وجعله هداية عامة لجميع البشر

ونصيحة أقدمها إلى العلماء وطلاب العلم في الأزهر راجياً تدبرها، هي احترام حرية الرأي، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر ولا أطالب بشيء يدعى بدعة. ولا أحدث في الدين حدثاً لهذه النصيحة. فهي موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأئمة رضى الله عنهم. وترونها مبسوطة واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي

وحاصلها - على ما أذكر - أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها كالصلاة والزكاة وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا

أما إنكار أن الإجماع حجة، وخبر الواحد حجة، والقياس حجة، فلا يوجب الكفر، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقاً. على شرط أن يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع على هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه الأئمة، ولم يعرف أن بعضهم أثم بعضا

وعلى الجملة فما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئاً منه، ولا يكذب ما صح عن رسوله بطريق قاطعة فهو مسلم لا يحل لأحد أن يتهمه بالكفر

عرضت لهذه النصيحة لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس، والعمل بها يمكن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة. والعمل على خلافها منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة أسأل إليه أن يهبنا رشداً، وأن يملأ قلوبنا خشية وهيبة من جلال الله، ويملأها عزاً وشفقة ورحمة لعباه

وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم فمن أول واجب على أهله أن يعدو أنفسهم لتعلم اللغات، لغات الأمم الإسلامية وغير الأمم الإسلامية، والله لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم

فليحقق الأزهر القدوة، وليرسل إلى الناس رسلاً يفقهونهم في دينهم بلسانهم: وسأعنى بهذه المسألة كما أعنى بتثقيف إخواننا الذي أسماهم القانون (أغراباً) فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد، وأرجو أن يفكروا طويلاً فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع