محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الثالثة والستون

ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب الوكالة (مسألة 1362 - 1366)


كتاب الوكالة

1362 - مسألة : الوكالة جائزة في القيام على الأموال ، والتذكية ، وطلب الحقوق وإعطائها ، وأخذ القصاص في النفس فما دونها ، وتبليغ الإنكاح ، والبيع ، والشراء ، والإجارة ، والاستئجار - : كل ذلك من الحاضر ، والغائب سواء ، ومن المريض والصحيح سواء ، وطلب الحق كله واجب بغير توكيل ، إلا أن يبرئ صاحب الحق من حقه . برهان ذلك - : { بعثة رسول الله الولاة لإقامة الحدود ، والحقوق على الناس ، ولأخذ الصدقات وتفريقها } . وقد كان بلال على نفقات رسول الله وقد كان له نظار على أرضه بخيبر ، وفدك ؛ وقد روينا في " كتاب الأضاحي " من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني { عن رسول الله أنه أعطاه غنما يقسمها بين أصحابه } . وذكرنا في " الحج " من طريق سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال : أمرني رسول الله أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها ومن طريق أبي داود نا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد نا [ عمي - هو يعقوب بن إبراهيم ] نا أبي - هو إبراهيم بن سعد - عن محمد بن إسحاق عن أبي نعيم وهب بن كيسان : سمعت جابر بن عبد الله يقول : أردت الخروج إلى خيبر فقال لي رسول الله  : { إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته } . وفي هذا الخبر تصديق الرسول إذا علم الوالي بصدقه بغير بينة . ومن طريق مسلم نا سلمة بن شبيب نا الحسن بن أعين نا معقل عن أبي قزعة الباهلي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري فذكر حديث التمر ، وأن رسول الله قال : { بيعوا تمرها واشتروا لنا من هذا } . ومن طريق أبي داود نا حجاج بن أبي يعقوب الثقفي حدثنا معلى بن منصور نا عبد الله بن المبارك حدثنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أم حبيبة أم المؤمنين أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة - وهذا خبر منقول نقل الكافة . { وأمر عليه السلام بأخذ القود ، وبالرجم ، والجلد ، وبالقطع } . ومن طريق أبي داود نا عبيد الله بن عمر بن ميسرة نا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ، ورافع بن خديج { أن محيصة بن مسعود ، وعبد الله بن سهل انطلقا إلى خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه حويصة ومحيصة إلى رسول الله فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال رسول الله  : الكبر الكبر أو قال : ليبدأ الأكبر ؟ فتكلما في أمر صاحبهما } . وقال أبو حنيفة : لا أقبل توكيل حاضر ، ولا من كان غائبا على أقل من مسيرة ثلاث ، إلا أن يكون الحاضر ، أو من ذكرنا مريضا ، إلا برضى الخصم - وهذا خلاف السنة وتحديد بلا برهان وقول لا نعلم أحدا قال قبله . وقال المالكيون : لا نتكلم في الحقوق إلا بتوكيل صاحبها - وهذا باطل لما ذكرنا - ولقول الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } . وقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } فواجب بما ذكرنا إنكار الظلم ، وطلب الحق لحاضر وغائب ، ما لم يترك حقه الحاضر - سواء بتوكيل أو بغير توكيل . وطلب الحق قد وجب ، ولا يمنع من طلبه قول القائل : لعل صاحبه لا يريد طلبه ، ويقال له : قد أمر الله تعالى بطلبه ، فلا يسقط هذا اليقين ما يتوقعه بالظن .

1363 - مسألة : ولا تجوز وكالة على طلاق ، ولا على عتق ، ولا على تدبير ، ولا على رجعة ، ولا على إسلام ، ولا على توبة ، ولا على إقرار ، ولا على إنكار ، ولا على عقد الهبة ، ولا على العفو ، ولا على الإبراء ، ولا على عقد ضمان ، ولا على ردة ، ولا على قذف ، ولا على صلح ، ولا على إنكاح مطاق بغير تسمية المنكحة والناكح ؛ لأن كل ذلك إلزام حكم لم يلزم قط ، وحل عقد ثابت ، ونقل ملك بلفظ . فلا يجوز أن يتكلم أحد عن أحد إلا حيث أوجب ذلك نص ، ولا نص على جواز الوكالة في شيء من هذه الوجوه . والأصل أن لا يجوز قول أحد على غيره ، ولا حكمه على غيره لقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } وكل ما ذكرنا كسب على غيره وحكم بالباطل يمضيه أحد على أحد - وبالله تعالى التوفيق .

1364 - مسألة : ولا يحل للوكيل تعدي ما أمره به موكله فإن فعل لم ينفذ فعله فإن فات ضمن لقول الله تعالى : { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } ولقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فوجب من هذا أن من أمره موكله بأن يبتاع له شيئا بثمن مسمى ، أو يبيعه له بثمن مسمى ، فباعه أو ابتاعه بأكثر أو بأقل - ولو بفلس - فما زاد لم يلزم الموكل ، ولم يكن البيع له أصلا ، ولم ينفذ البيع ؛ لأنه لم يؤمر بذلك . فلو وكله على أن يبيع له أو يبتاع له ، فإن ابتاع له بما يساوي ، أو باع بذلك لزم ، وإلا فهو مردود - وكذلك من ابتاع لآخر ، أو باع له بغير أن يأمره لم يلزم في البيع أصلا ، ولا جاز للآخر إمضاؤه ؛ لأنه إمضاء باطل لا يجوز ، وكان الشراء لازما للوكيل - وما عدا هذا فقول بلا برهان ، وحكم بالباطل . واحتج قوم في إجازة ذلك بحديث عروة البارقي ، وحكيم بن حزام { أن رسول الله أمر كل واحد منهما بأن يبتاع له شاة بدينار فابتاع شاتين فباع أحدهما بدينار وأتى به إلى النبي وبالشاة } وهما خبران منقطعان لا يصحان .

1365 - مسألة : وفعل الوكيل نافذ فيما أمر به الموكل لازم للموكل ما لم يصح عنده أن موكله قد عزله ، فإذا صح ذلك عنده لم ينفذ حكمه من حينئذ ويفسخ ما فعل . وأما كل ما فعل مما أمره به الموكل من حين عزله إلى حين بلوغ الخبر إليه فهو نافذ طالت المدة بين ذلك أو قصرت . وهكذا القول في عزل الإمام للأمير ، وللوالي ، وللقاضي ، وفي عزل هؤلاء لمن جعل إليهم أن يولوه ولا فرق - لأنه عزله بغير أن يعلمه بعد أن ولاه وأطلقه على البيع ، وعلى الابتياع ، وعلى التذكية ، والقصاص ، والإنكاح لمسماة ومسمى - : خديعة وغش ، قال الله تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم } وقال رسول الله  : { من غشنا فليس منا } فعزله له باطل إلا أن يقول ، أو يكتب إليه أو يوصي إليه : إذا بلغك رسولي فقد عزلتك - فهذا صحيح ؛ لأن له أن يتصرف في حقوق نفسه كما يشاء ، فإذا بلغه فقد صح عزله ، وليس للخصم أن يمنع من يخاصمه من عزل وكيله وتولية آخر ؛ لأن التوكيل في ذلك قد صح ، ولا برهان على أن للخصم منعه من عزل من شاء وتولية من شاء . فإن قيل : إن في ذلك ضررا على الخصم ؟ قلنا : لا ضرر عليه في ذلك أصلا ، بل الضرر كله هو المنع من تصرف المرء في طلب حقوقه بغير قرآن أوجب ذلك ، ولا سنة - وهذا هو الشرع الذي لم يأذن الله تعالى به .

1366 - مسألة : والوكالة تبطل بموت الموكل بلغ ذلك إلى الوكيل ، أو لم يبلغ بخلاف موت الإمام ، فإنه إن مات فالولاة كلهم نافذة أحكامهم حتى يعزلهم الإمام الوالي ، وذلك لقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } والمال قد انتقل بموت الموكل إلى ورثته ، فلا يجوز في مالهم حكم من لم يوكلوه ، وليس كذلك الإمام ؛ لأن المسلمين لا بد لهم ممن يقوم بأمرهم ، { وقد قتل أمراء رسول الله ورضي عنهم بمؤتة كلهم فتولى الأمر خالد بن الوليد من غير أن يؤمره رسول الله حتى رجع بالمسلمين وصوب عليه السلام ذلك } وقد مات عليه السلام وولاته باليمن ، ومكة ، والبحرين ، وغيرها ، فنفذت أحكامهم قبل أن يبلغهم موته عليه السلام - ولم يختلف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم - وبالله تعالى التوفيق .