نحن ورومة والفاتيكان (الطبعة الأولى)/تباعد وتراشق وحرب صليبية


تَبَاعُدٌ وتَراشقٌ وَحَرْبٌ صَليبيَّة
وفي السنة ١٠٤٣ رقي السدة المسكونية البطريرك ميخائيل الأول (كيرولاريوس) أشد البطاركة القسطنطينيين شكيمة وأصعبهم مراساً وأوسعهم مطمعاً. فإنه كما سبق وأشرنا، لم يكتف باستقلال السلطتين الزمنية والروحية وتآلفها وتعاونها بل طمع باكثر من هذا فاحتذى الأرجواني لون السلطة والسيادة الزمنيـة وقال إن الكهنوت أشرف من الملك فاستحق تأنيب بسلوس. وعلا السدة الرومانية في السنة ١٠٤٨ لاوون التاسع مرشح الإمبراطور الغربي الطامع في إيطالية هنريكوس الثالث. وكان هذا الإمبراطور قد تجول في جنوب إيطالية في السنة ١٠٤٧ فاعترف بحق شرعي للنورمنديين في الأماكن التي سطوا عليهـا فنهج بذلك نهجاً مضر بمصالح الروم. وهب لاوون لإصلاح الكنيسة واهتم لتثبيت السلطة فيها وعاونه في ذلك رهبان كلوني. وكان هنريكوس يعطف على هؤلاء فلما تسربوا إلى الأبرشيات الإيطالية الخاضعة للكرسي المسكوني ارتاب البطريرك ميخائيل في أمرهم. فكتب في السنة ١٠٥٣ بالاشتراك مع متروبوليت أوخريدة إلى رئيس أساقفة تراني (أوترانتو) ينبهه على حفظ التعاليم الأرثوذكسية ورغب إليه أن يطلع أساقفة الغرب على موضوع هذه الرسالة وفحواها. فلا وصلت الرسالة إلى رئيس أساقفة تراني كان عنده الكردينال هومبرتو. فلما وقف على رسالة البطريرك ترجمها إلى اللاتينية ونقلها إلى البابا لاوون التاسع. فكتب لاوون التاسع إلى القسطنطينية يوضح رغبته في السلام ويطالب بالسلطة على إيطالية وكنائسها وعلى الكنائس الشرقية أيضاً مستنداً في ذلك إلى منحة قسطنطين المزورة. فامتعض البطريرك والإمبراطور ولكن خطر النورمنديين اضطرهما إلى المفاوضة فطلبا إرسال وفد إلى القسطنطينية، فأرسل البابا أحد الكرادلة - هومبرتو ورئيس أساقفة بطرس والكنكيلاريوس فريدريكوس. وحمل هذا الوفد المفاوض رسالتين واحدة

إلى الإمبراطور توجب التعاون لدفع الخطر النورمندي وتطلب أبرشيات بلغارية وإيليرية وإيطالية الجنوبية والاعتراف بسلطة رومة وواحدة إلى البطريرك المسكوني تتهمه بارتقاء الكرسي دون الترقي في كل الدرجات وبالطمع في السيطرة على أنطاكية والإسكندرية وتوبخه على ما كتبه ضد بعض الممارسات الرومانية. وكان ينقص هومبرتو شيء كثير من اللطف والوداعة والكياسة فرفض البطريرك المسكوني مواجهة هذا الكردينال ومنعه من إقامة الخدمة في أبرشيته وافاد أن القضية تستوجب نظر مجمع مسكوني. فحرم الكاردينال باسم البابا لاوون التاسع البطريرك المسكوني وكل من يوافقه (١٦ تموز ١٠٥٤) ووضع الحرم على المائدة المقدسة في كنيسة الحكمة الإلهية في أثناء اقامة القداس الإلهي. فحرم البطريرك المسكوني الحرم الباباوي والذين كتبوه والذين يوافقون عليه. وأيد المجمع القسطنطيني قرار البطريرك بالسيميومة «Semeiouma» أي الحاشية التي اتخذها في الرابع والعشرين من الشهر نفسه وكتب ميخائيل الأول إلى بطرس الثالث بطريرك أنطاكية يعلمه بمـا جری1 ویرجوه الاتصال بالبطريركين الأوروشليمي والإسكندري ليحضها على الدفاع عن استقامة الرأي.

فذكَّر بطرس الثالث بالمحبة ونصح بالتغاطي عن كل شيء ما عدا القول بالانبثاق من الآب والابن فإنه رأى فيه «شراً عظيماً يستحق الأناثيما». وكان بطرس قد قال برئاسة البطريركيات الخمس وصارح رومة بذلك في رسالة الجلوس التي وجهها إلى البابا لاوون التاسع. وأكـد ذلك مرة ثانية في الرد على رسالة وجهها إليه دومينيكوس رئيس أساقفة أكويلة واتخذ فيها هذا لنفسه لقب بطريرك فقال بطرس أن لقب بطريرك هو لقب رئيس كنيسة أنطاكية أما رئيس كنيسة رومة ورئيس كنيسة الإسكندرية فـإن لقبها هو بابا وإن لقب رئيسي كنيستي القسطنطينية وأورشليم هو رئيس أساقفة وأنه لا يجوز أن يكون في الكنيسة أكثر من هؤلاء الخمسة «ما دام الجسد لسيت فيه حاسة سادسة» 2. ووقفت كنيسة أوروشليم موقف شقيقتها كنيسة أنطاكية فشجبت الإضافة إلى دستور الإيمـان والقول بانبثاق من الآب والابن وصنف سمعان الثاني بطريركها رسالة بهذا المعنى3. وقد أوضح العلامة الألماني ميشال أمر هذه الرسالة وأكد أنها من قلم البطريرك سمعان وتعود إلى القرن الحادي عشر4. ولا نعلم شيئاً عن كنيسة الاسكندرية في هذه الفترة ولا يجوز التكهن عند سكوت المصادر!

ويلاحظ هنا أن حرم هومبرتو لم يشمل الكنيسة الأرثودكسية بأسرهـا وإنما أطلق ضد بطريرك واحد وإنه أعلن بعد وفاة لاوون التاسع وإنه لم يصدق على هذا الحرم أحد من الباباوات التابعين5! وأن السيميومة لم تشمل الكنيسة الرومانية بأسرها ولم تذكر أحداً من رؤسائها.

وحرم هومبرتو والسيميومة في نظرنا عرض من أعراض علـة مزمنة كانت ولا تزال تنتاب الكنيسة الجامعة. فكنيسة رومة ما فتئت منذ القرون الأولى تطالب بالسلطة لا التقدم في الكرامـة فقط وكنائس الشرق ما فتئت منذ القرون الأولى ترد هـذا الطلب مؤكدة تساوي الرسل والأساقفة والبطاركة مبينة أن السلطة العليا في الكنيسة هي في يد المجمع المسكوني وأن المجامع المسكونية أجمعت على هذا الموقف من رومة.

ثم جاءت موقعة ملاذكرد الشهيرة في آب السنة ١٠٧١ وانتصر الأتراك السلاجقة في آسية الصغرى انتصاراً حاسماً ووقـع الإمبراطور رومانوس أسيراً في يدهم فكتب خلفه ميخائيل السابـع إلى غريغوريوس السابع بابا رومة بطلب المعونة من الغرب للدفاع عن الكنيسة والدولة في الشرق وبعد بالسعي لإعادة العلاقات بين فرعي الكنيسة إلى ما كانت عليه. فوافق البابا ولكنه أعلن في السنة ١٠٧٦ الديكتاتوس الشهير «Dictatus Papae» واستقل برأيه في الباباوية والكنيسة وانفرد به دون إخوانه البطاركة الأربعة ودون عرضه على مجمع مسكوني فباعد وانحرف وزاد الشقاق اتساعاً. وتألف هذا الديكتاتوس من سبعة وعشرين بنداً ملؤها تعظيم الحبر الروماني وحصر السلطة في يده: إن الكنيسة الرومانية وحدها مقامة من الله والحبر الروماني وحده يستحق اللقب المسكوني ونائبه يتقدم سائر الأساقفة في المجمع ولو كان دونهم رتبة. وهو وحده يسن شرائع جديدة وهو الرجل الوحيد الذي يقبل الأمراء رجله وهو الوحيد الذي يجب ذكر اسمه في جميع الكنائس وحكمه لا يرفض وهو وحـده يقدر أن يرفض أحكام الجميع وكنيسته لم تغلط أبـداً ومن لا يوافق الكنيسة الرومانية لا يكون ابن الكنيسة الجامعة6.

ووجه مناوئ البابا غريغوريوس السابع في السنة ١٠٨٠ رسالة إلى يوحنا متروبوليت كيف راجياً تدخله في القسطنطينية للاعتراف به بطریرکاً وبابا على رومة. فكتب متروبوليت كيف يأسف لانحراف رومة عن قرارات المجامـع المسكونية في أمور أهمها القول بالانبثاق من الآب والابن ونصح إلى إقليمس أن يرسل من يمثله إلى القسطنطينية ليعلن انسجامه مع التقليد القويم.

وفي السنـة ١٠٩٠ كتب الشماس نيقولاووس إلى ثيوفيلاكتوس متروبوليت أوخريدة يسأل رايه في أخطاء اللاتين. فأكد هذا الحبر العلامة أن بعض الأخطاء التي تنسب إلى اللاتين ليست مهمة وآلمه جداً أن يستمر الروم في التفتيش عن أخطاء غيرهم ولكنه خشي أن يؤدي ادعاء رومة بالسلطة وخروجها عن قرارات المجامع المسكونية في أمر الفيليوكوي إلى انشقاق أليم وأضاف في مناسبة أخرى أنه من الهزء ببطرس الرسول أن نستند إلى سلطة مستمدة منه لنعلن عقيدة لم تقرها المجامع المسكونية7.

ثم هيأ الله في هذه الفترة رجلاً باراً هو البابا أوربانوس الثاني (١٠٨٨

۱۰۹۹) فلوى العنان وردَّ الجماح وواصل وأحسن الصلة. ووافق ظهوره وصول الإمبراطور اليكسيوس إلى العرش. وكان هذا مثقفاً متضلعاً من الفلسفة واللاهوت دمث الأخلاق سلساً يؤثر السياسة على العنف. وكان البطريرك المسكوني نيقولاووس الثالث النحوي (١٠٨٤ - ۱۱۱۱) عالماً كبيراً وراهباً باراً وديعاً تقياً فعادت المياه إلى مجاريها وحل الوفاق والوئام محل التراشق والتخاصم.

ولمس أوربانوس الخطر التركي الذي كان يهدد الكنيسة في الشرق فلبى طلب اليكسيوس ودعا إلى الحملة الصليبية الأولى وأوجب على ممثله فيهـا وعلى أمرائها احترام السلطات الروحية في الشرق وإعادة الأوقاف إليها. وهب سمعان الثاني البطريرك الأوروشليمي اللاجيء آنئذ إلى قبرص إلى التعاون مــع الصليبيين بكل ما أوتي من مقدرة وحكمة. ولدى استيلاء الصليبيين على أنطاكية أسرع زعماؤهم إلى الإفراج عن البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع وإلى إعادته إلى سابق حريته وكرامته. وأمروا بتنظيف كتدرائية أنطاكية وكنيسة السيدة فيها مما لحق بها من الأقذار في عهد السلاجقة. ثم ترأس يوحنا السابع حفلة التطهير والتكريس واشترك معه أساقفة اللاتين وكهنتهم. وبعد ذلك بقليل استولى ريموند أمير تولوز على البارة وأراد أن يحولها إلى مدينة مسيحية ورشح بطرس التربوني لأسقفيتها فسامه أسقفاً البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع.

وتوفي أوربانوس الثاني في تموز السنة ١٠٩٩. وكان بوهيموند الأمـير الصليبي منهوماً بالسلطة طامعاً في إمارة أنطاكية. وكان الإمبراطور اليكسيوس شديد الحرص على إعادة هذه الإمارة إلى الروم. فلجأ بوهيموند إلى بطرس برشلاوس فزعم هذا أن أندراوس ظهر له وأنه أمره أن يقول إلى بوهيموند أن أنطاكية له ما دام تقياً صالحاً وأنه لا بـد من مقاطعة الروم وكنائسهم وانتخاب بطريرك لاتيني على كنيسة أنطاكية. ووقع بوهيموند أسيراً في يد الأتراك في تموز السنـة ١١٠٠ فتجنى على البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع ورمـاه بالتواطؤ مع الأتراك وأكرهه على الخروج من أنطاكية. ثم جعل من برناردوس والنسية أسقف أرتاح بطريركاً لاتينياً على أنطاكية. ولا صحـة في القول بأن يوحنا السابع استقال فنصب برناردوس. فيوحنا السابع لم يستقل قبل وصوله إلى القسطنطينية واستقالته هذه ارتبطت منذ لحظتها الأولى بانتخاب خلف أرثوذكسي له هو يوحنـا الثامن. وكان سمعان الثاني بطريرك أوروشليم قد فر من جور الأتراك السلاجقـة هو وأساقفته إلى قبرص. وكان أيضاً قـد توفي قبيل استيلاء الصليبيين على المدينة المقدسة. فأقام الصليبيون بطريركاً لاتينيــاً هو أرنولفوس روهيز. وكان هذا واعظاً وأديباً ولكنه لم يكن زاهداً تقياً فأبعد الكهنة الأرثوذكسيين عن كنيسة القبر واضطهد وعذب فأثار غضب الشعب الأرثوذكسي وكهنتـه. واعتبر الأمراء والبطاركة الصليبيون الأرثوذكسيين أبناء الكنيسة الجامعة فأخضعوهم لسلطة أساقفة اللاتين وفرضوا عليهم العشر كسائر المسيحيين اللاتينيين ولم يبق في الإمارات الصليبية هيرارخية أرثوذكسية شرقية ولكن رقعة هذه الإمارات كانت ضيقة ولم تشمل جميع الأبرشيات الأنطاكية فظل هنالك أساقفة أرثوذكسيون في مدن دمشق وحمص وحماة وحلب وسائر المشرق وظل على رأسهم بطريرك أرثوذكسي شرعي نـافر من أحكام الأمراء الصليبيين وبطاركتهم ورئيسهم بطريرك وبابا رومة، وهكذا فإن الحرب التي أرادها أوربانوس الثاني وسيلة للدفاع عن الكنيسة الشرقية ولتنشيطها أمست في عهد خلفائه الأقربين أداة ذلال لها وتشويه وتخريب.

وفي السنة ١١٩٨ رقي السدة الرومانية إنوشنتش الثالث. وهاله ما حل بالإمارات الصليبية من تقلص في حدودها وضياع لهيبتها وعلم بتفكك الدولـة الأيوبية فرغب في حملة صليبية رابعة ودعا إليها وشوق وأحبها حملة عامة يشترك فيها جميع المسيحيين في غرب أوروبة وشرقها. وعلم الإمبراطور اليكيوس الثالث بما خالج فؤاد هذا البابا وبالنفور الذي باعد بينه وبين إمبراطور الغرب فكتب إليه «في إمبراطورية واحدة وكنيسة واحدة». ولكن إنوشنتش لم يرض عن إمبراطور شرقي أرثوذكسي فرد يفاوض في اتحـاد الكنيستين فتباطأ الإمبراطور فأنذر إنوشنتش أنه إذا قاوم الإمبراطور أمر اتحاد الكنيستين أيد البابا حق أسرة إسحق الضرير في عرش القسطنطينية8 فغضب الإمبراطور وقال إن السلطة الإمبراطورية أعلى من السلطة الروحية9 ومضى إنوشنتش في الدعوة إلى حملة صليبية رابعة فأعرض عنها فيليبوس ملك فرنسة ولم يعرها يوحنا ملك إنكلترة اهتمامه. ولم يتطوع لها من الملوك سوى ملك المجر والدوج هنريكوس دندولوا رئيس البندقية. وكان دندولوا أبعد الناس عن الروحيات ولم ير في الحملة الرابعة المقترحة سوى وسيلة لتوسيع نفوذ حكومته في الشرق وضمان الأرباح التجارية وكان داهية دهماء وكان لدولته ما لم يكن لغيرها من السفن والمال. فاتجه الصليبيون شطر القسطنطينية عاصمة النصرانية في الشرق وحاربوها باسم الصليب ودخولها في السنة ١٢٠٤ وانتهكوا حرمة كنائسها ونهبوا ذخائرها وجواهرها وحطموا مذابحها الثمينة ودنسوا هياكلها وجاءوا براقصة وأجلسوها على كتدرا الحكمة المقدسة. وأقاموا بطريركاً لاتينيـاً على القسطنطينية وإمبراطورا لاتينياً أيضاً يدعى بلدوين. وكتب هــذا إلى إنوشنتش معلنـاً ارتقاءه عرش القسطنطينية «بنعمة الله»! فأجابه بابا رومة مبتهجاً للأعجوبة التي تمت لتمجيد اسم المسيح وإعلاء شأن العرش الرسولي وتعظيم الشعب المسيحي»!10 وكتب هذا البابا نفسه ثانية فقال: «لقد سرنا بكل تأكيد رجوع القسطنطينية إلى طاعة أمها الكنيسة الكاثوليكية المقدسة ولكننا نسر أكثر إذا عادت أوروشليم إلى سلطة الشعب المسيحي»11. ومما قاله أيضاً عن سقوط القسطنطينية إن هـذا السقوط يسهل استرجاع الأراضي المقدسة من يد غير المؤمنين12.

وحزّ هذا الهجوم والتهجم باسم المسيح في صدور حكام الروم ورؤسائهم وجمهور شعبهم ولا سيما وأنه نال موافقة بابا رومـة وبركته. فأوغر الصدور وأضرم الغيظ ونغل القلوب وجعل من كنيسة رومـة خصماً كاشحاً وعدواً فاشيـاً. وعبثاً حاول إنوشنتش ترقيع الطابق لأنه أصر على اعتبار الحملة الصليبية الرابعة أداة حق في الاقتصاص من الروم لأنهم لم يعترفوا بسلطـة رومة13.

ولدى استيلاء اللاتين على القسطنطينية قامت في نيقية حكومة أرثوذكسية بزعامة أسرة اللاساكرة. واستقال البطريرك المسكوني يوحنا العاشر في السنة ۱۲۰۷ واستخف الروم بالبطريرك اللاتيني توما موروسيني «لجهله وحقارته»14 فأقاموا ميخائيل الرابع بطريركاً مسكونياً في نيقية. وتقوت هذه الدولة الجديدة بسرعة شديدة، ولم يكتب للإمبراطورية اللاتينية التي قامت في القسطنطينية عمر طويل. فإنها كانت منذ نشأتها إقطاعية ضعيفة في الحرب والسياسة، وكانت مقسمة الولاء في الدين بنقصها الشيء الكثير من توحيد الكلمة. فرعايا الإمبراطور اللاتيني ظلوا أرثوذكسيين يوالون البطريرك المسكوني في نيقية و كذلك رجال الدين بينهم.

وسقطت الامبراطورية اللاتينية في الخامس والعشرين من تموز سنـة ١٢٦١ ونودي بمخائيل الثامن باليولوغوس إمبراطوراً. وفتح الباب الذهبي الذي سده الإفرنج ودخل ميخائيل العاصمة منه. وصعد متروبوليت كيزيكوس إلى أحد الابراج حاملاً أيقونة العذراء وصلى على مسمع من الجماهير ثلاثة عشر أفشيناً. وكان ميخائيل يكشف رأسه ويركع على الأرض عند تلاوة كل أفشين وينهض وينهض الشعب معـه صارخين كيريه إيلايصون. ثم ذهب الإمبراطور إلى كنيسة الحكمة المقدسة وصلى وشكر.

ووصل أوربانوس الرابع إلى السدة البابوية في السنة ١٢٦١ أيضاً ورغب رغبة شديدة في إعادة اللاتين إلى سابق حكمهم في القسطنطينية. فتقرب ميخائيل الثامن من البابا الجديد وأغراه باتحاد الكنيستين فعدل أوربانوس عن فكرة الحملة

على القسطنطينية ولكنه توفى (١٢٦٤) قبل أن يتم شيء من أمر المفاوضات في الاتحاد. وخلف أوربانوس الرابع إقليمس الخامس فلجأ هو أيضاً إلى التهديد باستعال القوة العسكرية إذا أصر الروم على موقفهم التقليدي من رومة ومطالبها. وعضد هـذا البابا كارلوس آنجو في مطامعه في صقلية والشرق فاضطر ميخائيل الثامن أن يلجأ إلى لويس التاسع ملك فرنسة راجياً وضع حد لمطامع أخيه كارلوس آنجو في ممتلكات الروم مؤكداً استعداده للتفاوض في أمر الاتحاد. فأحال لويس الاقتراح إلى مجمع الكرادلـة وأوقف أخاه عن القسطنطينية ووجهه شطر تونس. وتوفي لويس التاسع في السنة ١٢٧٠ فعادت مطامع كارلوس إليه. ورقي السدة الرومانية غريغوريوس إمبراطور القرن الثالث عشر العاشر وكان أقل تطرفاً من سلفائه الأقربين في موقفه من الكنيسة الأرثوذكسية فهب ميخائيل الثامن يبث الدعايـة للاعتراف بسلطة البابا ولكن دعايته قوبلت بمقاومة شديدة في معظم الأوساط الإكليريكية والشعبية. وجل ما توصل إليه ميخائيل أنه استمال أحد علماء اللاهوت يوحنا فقس وعدداً يسيراً جداً من الأساقفة. فدعا غريغوريوس الى مجمع مسكوني في ليون في السنة ١٢٧٤ وحضره وفـد ارثوذكسي وأعلن رسمياً اتحاد الكنيستين في السادس من تموز سنة ١٢٧٤. وأقام ميخائيل حفلة دينية ابتهاجاً بهذا الاتحاد ولكنه خشي غضب الشعب فأقام حفلته «السياسية الدينية» في كنيسة في القصر لا في كتدرائية الحكمة المقدسة. واستقال البطريرك المسكوني يوسف احتجاجاً على خرق التقليد الرسولي والخروج على مقرارت المجامع المسكونية. وقرَّعت أفلوجية أخاها ميخائيل على ما جرى. وضج بعض الأمراء فأمر ميخائيل بحبسهم فانعقد مجمع أرثوذكسي محلي في ثيسالية لتوبيخ الإمبراطور وتكديره ولقطع فقس الذي قال بالاتحاد كما أرادته رومة15.

وأقلق تقدم الأتراك العثمانيين الروم وحار الأباطرة في أمرهم. فطلبوا المعونة من الغرب لصد هذا التقدم وللمحافظة على النصرانية في الشرق. وفاوضوا الباباوات مراراً طوال القرن الرابع عشر فكان الجواب واحداً لا يتغير الاعتراف بسلطة رومة! وكان موقف الإكليروس الأرثوذكسي والشعب واحداً أيضاً: لا نخترق التقليد الرسولي ولا نخرج على مقررات المجامع المسكونية! وتضاءلت دولة الروم في القرن الخامس عشر فلم تعد تشمل سوى القسطنطينية وضواحيها ثم بعض الأراضي الضيقة في ساحل البحر فجبل آثوس فثيسالونيكية فميسترة وميزنبوية وانخيالوس. وعظم على الإمبراطور يوحنا الثامن (١٤٢٥-١٤٤٨) سقوط ثسالونيكية في يد الأتراك وأفزعه تقدم السلطان مراد العثماني وانتصاره فهرع يرمم حصون العاصمة. وقام في الغرب آنئذ من طالب بإصلاح الكنيسة رأساً وجسماً والنظر في هرطقة يوحنـا هوس فالتأم مجمع بازل (١٤٣١ - ١٤٤٨) للنظر في هذين الأمرين الهامين، وعلم الآباء المجتمعون بفوز الأتراك وتقدمهم ففاوضوا الإمبراطور يوحنا الثامن في كيفية التعاون بين النصارى للصمود في وجه الأتراك فقام إلى بازل وفد أرثوذكسي وبات ينتظر البحث في التفاهم والاتحاد. ولكن أساقفة الغرب تشاحنوا في تعيين المكان الذي يلتئم فيـه مجمع مسكوني جديد ثم اتفقوا على إرجاء البحث في هذا التفاهم والتعاون إلى أن يكونوا قد حلوا مشكلة يوحنا هوس وهرطقته. فغضب الأرثوذكسيون لكرامتهم وانسحبوا16.

ولم يرض البابا أوجانيوس الرابع (١٤٣١ - ١٤٤٧) عن مجمع بازل ولم يحضر اجتماعاته ولكنه اهتم لسير الحوادث العسكرية في البلقان اهتماماً كبيراً وفاتح الإمبراطور يوحنا الثامن كلاماً مستقلاً في الموضوع نفسه الذي فاوض بشأنه الأساقفة في بازل. فاقترح يوحنا عقد مجمع مسكوني في القسطنطينية ولكن البابا رأى أن يعقد هذا المجمع في بلد إيطالي وسط بين الشرق والغرب ودعا إلى مجمع مسكوني في فراري وقبل يوحنا الثامن وترأس الوفد بشخصه وضم إليه أخاه والبطريرك المسكوني يوسف ومرقس متربوليت أفسس وبيساريون العالم الأديب وسليستروس سيروبولوس الذي أصبح فيما بعد مؤرخ هذا المجمع. وأوفد أمير الروس إسيذوروس رئيس أساقفة موسكو. وعارض الإمبراطور عدد غير قليل من وجهاء الروم من رجال الدين والدنيا وأكدوا ليوحنا أن عمله هذا «سيؤدي حتماً إلى ضياع الأرثوذكسية النقية وإلى عودة اللاتين إلى الحكم في الشرق بسابق فظاظتهم وجشعهم». وأفضل مثال على هذه المعارضة الكبيرة ما كتبه يوسف برينوس في ذلك العصر نفسه فإنه قال: «ولا ينخدع أحد منكم بالرجاء الفارغ بأن جيوش الحلفاء الإيطاليين سيجيئون إلينا. وإن هم تظاهروا بالدفاع عنا فإنهم سيحملون السلاح للقضاء على مدينتنا وجنسنا واسمنا».17 وجمع يوحنا قبل أن يبرح القسطنطينية مجلساً من الوجهاء وبسط أمامـه وجهة نظره مجدداً فتجددت المعارضة في شخص جاورجيوس سكولاريوس وغيره. وأبدى البطريرك يوسف رأيه فإذا به يعارض أيضاً واضطر يوحنا أن يستأذن سيده مراداً الثاني سلطان الأتراك فلم يوافق على خطة الإمبراطور18.

وفي أوائل آذار سنة ١٤٣٨ وصل الوفد الإمبراطوري إلى فراري وبدأت أعمال المجمع وألح يوحنا أن يبحث المجمع السياسة والحرب أولاً ولكن الأساقفة الغربيين رأوا غير ذلك، فبوشر في بحث نقاط الخلاف بين الكنيستين. وحصر البحث في نقاط أربع. في انبثاق الروح القدس واستعمال الفطير ونوع آلام المطهر ورئاسة البابا. وأكد مرقس متروبوليت أفسس أن القول بالانبثاق من الابن أمر أحدثته رومة. واحتدم الجدال في هـذا وفي غيره في فراري وفي فلورنزة بعد انتقال المجمع إليها. وامتنع البطريرك المسكوني وغيره عن موافقة الأساقفـة الغربيين، وأيـد هؤلاء الإمبراطور ومن شد أزره ولا سيما أسبذوروس رئيس أساقفة موسكو. وتوفي البطريرك المسكوني قبل الوصول إلى نتيجة حاسمـة. وانسحب متروبوليت أفسس قبل انتهاء الأعمال. وثابر الإمبراطور في تأييــد الأساقفة الغربيين فاتخذت قرارات معينة وصيغ النص الذي يتعلق برئاسة البابا صيغة مبهمة فأعلن اتحاد الكنيستين في السادس من نموز سنة ١٤٣٩19. وعاد يوحنا الثامن إلى الشرق وعاد الوفد بأكمله، فالتف حول مرقس متروبوليت أفسس عدد كبير من المعارضين عدد كبير ممن وقع صك الاتحاد عن تواقيعهم وأوقف أمير الروس أسيذوروس ولقبه بالذئب بدلاً من الراعي. واجتمع بطاركة الإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم في مجمع محلي في أوروشليم سنة ١٤٤٣ وشجبوا قرارات فلورنزة ووصموهـا بالدنس والفساد «miaria»20 ويرى بعض العلماء أن أقطاب الكنيسة الأرثوذكسية اجتمعوا في السنة ١٤٥٠ في كنيسة الحكمة الإلهية فشجبوا الاتحاد ومن قال به21. ويشك آخرون في صحة هذا الخبر وبينهم بابايواني اليوناني ولبديف الروسي22. ولكن ليس هنالك أي اختلاف في أنه لدى سقوط القسطنطينية في يد الأتراك (١٤٥٣) رقي السدة المسكونية البطريرك جناديوس وأن هذا البطريرك الذي كان قد اشترك في أعمال مجمع فلورنزة بصفته جاورجيوس سكولاريوس كان قد عاد عن قرارات فلورنزة.



* * *






  1. P. G., Vol 120, Cols. 815 - 820.
  2. P. G., Vol. 120, Col. 757.
  3. Leib, B., Deux Inedits Byzantins, Or. Christ., IX, 85 - 107.
  4. Michel. A., Amalfi und Jerusalem, Or. Christ., 121, 34 - 47.
  5. Jugie, M., Schisme Oriental, 230.
  6. Peitz, W., Das Originalregister Gregors VII, 265 ff; Hofmann, K., Der Dictatus Papae, (1933).
  7. P. G., Vol. 125, Cols 221 - 241.
  8. Epistolae V, 122; P. L. Vol. 214, Cols. 1123 1124.
  9. Ibid., Cols. 1082 - 1083.
  10. Tafel und Thomas, Urkunden zur Altern Handels und Staatsgeschichte I, 502, 516 517.
  11. P. L., Vol. 215, Cols, 957 958; Epist. IX, 139.
  12. Epist, VII, 153; P. L., Vol. 215, Col., 455.
  13. Epist. XI, 47.
  14. Nicetas. Hist., 854 - 855.
  15. Grummel. V., Après le Concile de Lyon, Echos d'Orient, 1925, 321 ff.
  16. Pierling, L. P., La Russie et le Saint Siège, I, 11, 12, 15.
  17. Norden, W., Das Papsttum und Byzanz, 781.
  18. Brehier, L., Byzance, Vie et Mort, 493.
  19. Hofmann, G., Epist. Pont. ad Conc. Spectantes, I - III, (1940 - 1946).
  20. Allatius, L., Ecclesiae Occidentalis, III, (4), 939; Diehl, C., Europe Oriental, 363 - 364,
  21. Draseke, J., Zum Kircheneinigungsversuch elc.. Byz. Zeit., 1896, 580; Brehier, L., Attempts at Reunion, Cam. Med. Hist. IV, 624-625.
  22. Vasiliev, A. A., Byz. Empire, 675.