نحن ورومة والفاتيكان (الطبعة الأولى)/دعوات رومة للاتحاد


دَعَواتُ رُومَة لِلاتّحاد

وتبوأ السدة الرومانية في القرن التاسع عشر عدد من الباباوات البررة الأفاضل. فهالهم انتشار الكفر في الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ولمسوا لمس اليد أن نشر الكثلكة في الشرق لم يأت بالفائدة المطلوبة فعادوا إلى المفاوضة لأجل الاتحاد ووجهوا إلى إخوانهم البطاركة الشرقيين عدداً من الدعوات لهذه الغاية.

ولكن انفصال رومة عن شقيقاتها الشرقيات طوال القرون الحديثـة وانفرادها في الرأي كان قد شقة الخلاف في المفاهيم الكنسية والنظم واللاهوت. فرأي البابا غريغوريوس السابع في سلطة أسقف رومة وصلاحياته كان قد أصبح قاعدة أساسية للانتظام والتنظيم. والاكتفاء بالعقل دون الوحي في الأوساط الفكرية الأوروبية كان قد اضطر علماء الكنيسة الغربية إلى اعتماد الفلسفة المدرسية في أبحاثهم اللاهوتية النظرية فابتعدوا بذلك عن إخوانهم في الشرق الذين كانوا لا يزالون مستمسكين باللاهوت النسكي الصوفي مترفعين عن الفلسفة جاعلين من خبرة الله في حياتهم ومن النصوص الطاهرة وأقوال الآباء نبراساً يسترشدون به في كل تفكير لاهوتي. وكانت الفلسفة المدرسية قد أدت في الغرب إلى تقسيم الكنيسة إلى كنيستين كنيسة معلمة وكنيسة متعلمة. فرأى الآباء الشرقيون في هذا أيضاً خروجاً على التقليد وعلى النصوص المنزلة. فالكنيسة الأرثوذكسية كانت ولا تزال جمهرة المقدسين رعاة وشعباً لا رعاة معلمين وشعباً متعلماً. ولا يزال أفراد الشعب الأرثوذكسي حتى يومنا هذا يحافظون على هذا التقليد الأرثوذكسي ويعملون به بفخر واعتزاز إن في حقل النظم والقوانين الكنسية أو في حقل اللاهوت والتاريخ الكنسي.

وهكذا فإنه عندما وجَّه البابا بيوس التاسع رسالته In Suprema» Petri Sede» إلى السلطات الروحية الأرثوذكسية في السادس من كانون الثاني سنة ١٨٤٨ ضمنها عبارات غربية اعتبرها الرؤساء الأرثوذكسيون جارحة كقوله: «عودوا إلى الوحدة. وافقونا في الاعتراف بالإيمان الصحيح الذي تحتفظ به الكنيسة الكاثوليكية وتعلمه»1 فغضبوا رؤساء وشعباً والتأم في القسطنطينية مجمع ضم البطاركة الأربعة وتسعة وعشرين مطراناً فرد رداً قاسياً طعن فيه بما «أضافته» رومة إلى مقررات المجامع المسكونية وبما ادعت به من سلطة وما قامت به من دعايات في الأوساط الأرثوذكسية2.

وعاد بيوس التاسع بعد عشرين عاماً بعد العدة لمجمع الفاتيكان فدعـا السلطات الروحية الأرثوذكسية أولاً ثم الأساقفة البروتستانت بعد ذلك ببضعة أیام3. وأرسل الدعوات إلى سفيره في القسطنطينية السيد برونوني Mgr Brunoni فطلب أبوان من حاشية هـذا السفير الباباوي في الثالث من تشرين الأول سنة ١٨٦٨ السماح بمقابلة صاحب القداسة غريغوريوس السادس البطريرك المسكوني. وفي الخامس من الشهر نفسه جاء الأب تيستي وكيل السفير وآباء ثلاثة آخرون فقال الأب نيستي موجهاً كلامه إلى البطريرك: «لقد جئنا في غياب سيادة السفير لندعو قداستكم إلى الاشتراك في أعمال المجمع الذي سيعقد في رومة في الثامن من كانون الأول في السنة القادمة» ثم قدم ظرفاً كان يحمله بيده. فأشار البطريرك على أحد كبار حاشيته أن يأخذ الظرف ويضعه على الديوان ثم قال إلى الأب تيستي: «لو لم يكن جورنال رومة وغيره من الجرائد التي تغني أغنيته قد سبق لها ونشرت نبأ دعوة غبطته لمجمع مسكوني، كما تقول أنت» في رومة ولو كنا نجهل محتويات هذه الدعوة وأهداف غبطته لكنا تلقينا بفرح رسالة صادرة عن بطريرك رومة القديمة آملين أن نجد فيها شيئاً جديداً. ولكن لما كان غبطته قد نشر رسالة الدعوة فإنه أظهر مقاصد فيهـا تجرح الكنائس الأرثوذكسية الشرقية. وإنه ليؤسفنا أن نقول لأبوتك بكل إخلاص أنه لا يمكننا أن نقبل هـذه الدعوة لأن غبطته يعود بدون انقطاع إلى مواقف لا تتفق وروح الإنجيل أو تعاليم المجامع والآباء. وفي السنة ١٨٤٨ سعى غبطته السعي نفسه فاضطر الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية إلى الرد على رسالته لتظهر له ببساطة ووضوح أن إجراءات رومة لم تتفق وتقاليد الآباء والرسل فأدى ذلك إلى تكدر غبطته وتألمه. وفي رده المتأخر على هذا الرد أظهر كل غضبه وسخطه. وبما أن غبطته لا يريد الرجوع عن مواقفه فإننا نحن أيضاً، والحمد لله، لا نريد أن نتراجع عن مواقفنا. ولا نريد نحن أن نجدد آلامه أو أن نثير مرة أخرى شكاوي قديمة فنحرك بذلك شروراً ساكنة وندخل في مناقشات ومجادلات تنتهي في غالب الأحيان بالقطيعة والنفور ونحن اليوم، وقد أحاطت المخاطر بكنيسة المسيح، بحاجة إلى الاشتراك في الإنجيل والمحبة والرأفة. وليس هنالك مجال للبحث المجمعي لأنه لم يبق بيننـا لا مبادئ ولا مواقف مشتركة نلتقي عندها.

«ومن الناحية الأخرى فإننا لا نرى حلولاً أقرب إلى النجاح وأكثر تجرداً عن العاطفة من التاريخ نفسه. فما دامت الكنيسة قد عاشت عشرة قرون بعقيدة واحدة إن في الشرق أو الغرب إن في رومة القديمة أو في رومة الجديدة فلنعد نحن الاثنين إلى هذه الكنيسة الواحدة لنرى من هم الذين أضافوا إلى العقيدة الواحدة أو حذفوا منها شيئاً ولنحذف ما أضيف هنا وهنالك ولنضف ما حذف وعندئذ نجد أنفسنا من حيث لا ندري منضوين تحت راية واحدة هي راية الأرثوذكسية الكاثوليكية التي ابتعدت عنهـا رومة القديمة بالعقائد الجديدة والتحديدات المبتعدة أكثر فأكثر. عن التقليد المقدس».

الأب نيستي: «وما هي المبادئ التي لا توافق عليها قداستكم»؟

البطريرك: «إذا تحاشينا البحث في التفاصيل قلنا أنه ما دامت كنيسة المخلص على الأرض فلا يمكننا أن نعترف بأن أسقفاً ما يحكم كنيسة المسيح ما عدا السيد نفسه. فليس هنالك بطريرك معصوم منزه عن الذنب أو الخطأ يتكلم من منبر أعلى من المجامع المسكونية التي هي وحدها معصومة ما دامت تنطق بما يتفق والأسفار المقدسة والتقليد الرسولي. ولا يمكننا الاعتراف، بدون تجديف على الروح القدس بعدم تساوي الرسل وهو الذي حل عليهم جميعاً بالمقدار نفسه. ولا يمكننـا الاعتراف بأن بطريركاً أو بابا يتمتع بامتيازات منبرية وبحق إلهي لا مجمعي كما تؤكدون».

الأب الرابع: «ليست رومة مستعدة أن تغير مواقفها».

الأب الثاني: «بما أن مجمع فلورنزة اعترف بهذه الأمور ووحدة الكنيستين فالأب الأقدس يدعو إلى المجمع المسكوني المقبل على هذا الأساس لأجل العودة إلى الاتحاد».

البطريرك: «ما أكثر ما قيل وكتب ضد مجمع فلورنزة! والأميون وحدهم يمكنهم أن يتظاهروا بتجاهل ذلك. أما أبوتكم فإنكم لستم من هذه الطبقة. والتنازع في مقرارته بدأ في جلسة هذا المجمع الإجباري الأخيرة. والاتحاد الذي وقع بالإكراه مات وهو لا يزال في قمطه. إن مجمعاً التأم لأسباب سياسية ومصالح زمنية وتوصل إلى نتائج أكره على القول بها إكراهاً ووقعه بعضنا خوفاً من تهديدات البابا ومن الجوع لا يستحق أن بدعى مجمعاً. وعندنا المجمع المسكوني هو كالكنيسة الحقيقية الجامعة المسكونية هيئة المقدسين الأطهار الذين يحملون، مهما كان عددهم، العقيدة الرسولية النقية وإيمان الكنيسة الذي ثبت منذ تأسيس الكنيسة وطوال القرون الثمانية الأولى الذي أجمع عليه وأعلنه آباء الشرق والغرب والمجامع السبعة المقدسة بإلهام الروح القدس وبموجب رسالة الإنجيل السماوية. وإننا لنرجو أن يظل هؤلاء الآباء الموقرين وأن تبقى قرارات هذه المجامع التي يعرفها الجميع نبراساً خالياً من الشبهات معصوماً عن الخطأ يستضيء بنوره كل مسيحي وكل أسقف في الغرب يسعى بإخلاص للوقوف على الحقيقة الإنجيلية. هؤلاء هم المرجع الأعلى للحكم في الحقيقة المسيحية وهم الطريق الثابت الذي يؤدي إلى التلاقي بالقبلة المقدسة والاتحاد في العقيدة. ومن يحيد عن هذا الطريق يعتبر عندنا بعيداً عن المحور عاجزاً عن ضم أعضاء الكنيسة الكاثوليكية الأرثوذكسية. وإذا كان في الغرب أساقفة يشكون في صحة بعض عقائدهم ويرغبون في الاجتماع معاً لبحث هذه العقائد فليجتمعوا لأجل ذلك في الوقت الذي يريدون. أمـا نحن فإنه ليس لدينا أي شك في تقليد آبائنا أو في عقائد التقوى الراسخة التي لا تتزعزع.

«وإذا عدنا إلى المجمع المسكوني موضوع البحث، أيها الآباء المحترمون، فإنه لا يخفى على أبوتكم أن المجامع المسكونية تجتمع على غير الشكل الذي وضعه غبطته. فإذا كان بابا رومة يقبل بالتساوي في الشرف وبالأخوة الرسولية فإنه يجب عليه بصفته مساو بين متساوين في الوقار والأول في ترتيب المنابر وبموجب القانون الكنسي أن يكتب رسالة شخصية إلى كل بطريرك أو سنودس في الشرق لا أن ينشر دعوات عن طريق الصحافة بصفته الرئيس الأعلى والحاكم المطلق، كان يجب عليه أن يخاطب إخوته كأخ وكمساوٍ لهم في الرتبة والاحترام ليدرس معهم كيفية عقد مجمع مقدس والأسباب لذلك. وإذا ما قلنا هذا وعدتم معنا إلى التاريخ وإلى المجامع المسكونية تم الاتحاد الحقيقي الذي ننشد جميعنا حول شخص المسيح.

«ونحن نستمر في الصلوات والتضرعات لأجل سلام العالم وثبات كنائس الله المقدسة واتحاد الجميع. وإننا نكرر القول بأسف شديد أن هذه الدعوة لا تفيد ولا تأتي بثمرة وكذلك الرسالة التي حملتموها ضمن هذا الظرف».

الأب الرابع: «وهل يمكن أن يتم الاتحاد بالصلاة وحدها؟ إذا مرض مريض فإننا نطلب إلى المسيح شفاءه ونوجه له الصلوات الدائمة والتضرعات ولكننا نستعين في الوقت نفسه بالطبيب والعلاج».

البطريرك: «في معالجة الأمراض الروحية والدينية التي هي موضوع البحث فليس غير المسيح الذي أسس الكنيسة وأكملها يعرف كل شيء. فالسيد يعرف الداء جيداً والدواء، ولذلك فإننا نكرر القول بوجوب الصلاة الحارة الدائمة ليلهم ربنا، الذي هو المحبة بحد ذاته، العلاج النافع المقبول عند الله».

«وبعد أن قال قداسته كل هذا أومأ إلى المترجم أن يأخذ الظرف الذي كان قد وضع على الديوان وأن يعيده إلى ممثلي السيد برونوني الذي حمله وبعـد من الاستئذان من قداسته خرج الزائرون يشيعهم رئيس التشريفات حتى السلم»4. وحذا لاوون الثالث عشر (۱۸۷۸ – ۱۹۰۳) حذو بيوس التاسع فدعا إلى الاتحاد في العشرين من حزيران سنة ١٨٩٤ برسالة «Praeclara gratulationes» فقال: «ننظر نظرة انعطاف صميم إلى الشرق الذي انتشر منه الخلاص في بقيـة العالم. أجل إنه ليسرنا الافتكار بأن الوقت بعيداً لأن تعود الكنائس الشرقية المبجلة إلى إيمان أجدادها بل إلى مجدها القديم، وإننا لنرجو ذلك بما أنها لم تنفصل عنا إلا لاختلافات طفيفة. وإذا استثنينا بعض أمور تجدنا وإياهـا على اتفاق تام في سائر الشؤون. وكثيراً ما نرى في الكتب المؤلفة للدفاع عن الإيمان الكاثوليكي أدلة عديدة متخذة من تعاليمها وعاداتها وطقوسها. ولا يخفى أن أخص باعث على الانفصال إنما هو أولية الحبر الأعظم. وبما أن الحال على هذه الصورة نسألها أن تحسن التأمل في القرون الأولى وتمعن النظر كيف كانت شعائر أجدادها وماذا تركت لهـا العصور الأولى من التقاليد. وحينئذ ترى من غير ارتياب كون شهادة السيد المسيح «أنت الصفاة وعلى هذه الصفاة سأبني كنيستي» لا تنطبق إلا على الأحبار الرومانيين.

«إن القرون الأولى رأت احبــاراً عديدين من الشرق مثل أناكليطوس وإيفارست وأنيقيوس والوتيروس وزوزيموس وأغاتون. وأكثرهم بعد أن دبروا النصرانية بحكمة وقداسة بذلوا في سبيلها دماءهم.

«وكل يعلم في أي زمن وبأي علة حصل هذا الانفصال المشؤوم ويعرف من كانوا مسببيه. فقبل الزمن المذكور الذي فصل فيه الإنسان ما قرنه الله كان اسم الكرسي الرسولي مكرماً ومحترماً عند جميع الطوائف النصرانية. وكل الشرق كالغرب يطيع باتفاق ودون تردد الحبر الروماني طاعته لخلف القديس بطرس الحقيقي بل طاعته لنائب المسيح على الأرض. وبناء على ذلك أرسل فوطيوس بعينه في الخلاف معتمدين من قبله إلى رومة عاهداً إليهم بالدفاع عن دعواه وفي الوقت نفسه كان البابا نقولا الأول قد أنفذ قصادة إلى مدينة القسطنطينية دون أن يتعرض لهم أحد وليفحصوا بعناية مسألة البطريرك أغناطيوس ويخبروا الكرسي الرسولي عن حقيقتها بالتمام، وقصارى القول أن تاريخ هذا الأمر يدل دلالة واضحة على أولية الكرسي الروماني حينما أخذ بالانفصال عنـه. وأخيراً لا يخفى على أحد أن اليونان واللاتين في مجمعي ليون وفلورنسة المسكونيين قـد ثبتوا باتفاق الآراء كون سلطة الأحبار الرومانيين هي عقيدة من عقائد الإيمان. وإنما ذكرنا هذه الأمور لأنها بمنزلة دعوة للائتلاف والسلام ولاسيما في هذا الوقت الذي نرى فيه من الشرقيين أدلة ميل إلى الكاثوليك وعواطف ولاء عظيم. وإنما بدا هذا للعيان من زمن غير بعيد أي عندما ذهب قصادنا إلى الشرق لأمور تقوية فقوبلوا فيه بكمال الإنسانية والصداقة.

«ومن ثم فإننا نوجه الكلام إليكم أيها الشرقيون المنفصلون عن الكنيسة الكاثوليكية سواء كنتم من ذوي الطقس اليوناني أو من ذوي طقس آخر شرقي، ونسأل كلاً منكم أن يمعن النظر على الخصوص في الكلمات المملؤة من الرصانة والحكمة التي وجهها بيساريون الشرقي الجليل إلى أجدادكم قائلاً: وأي جواب يمكننا أن نقدمه لله تعالى على انفصالنا عن إخواننا. فأنـه ليجمعهم في حظيرة واحدة قد نزل هو نفسه من السماء وتجسد وصلب. فماذا يكون عذرنـا يا ترى لدى أعاقبنا؟.

«إفحصوا بانتباه ما نقوله لكم بحضرة الله. واعلموا بأننا نحثكم على التصالح والاتحاد التام بالكنيسة الرومانية غير مدفوعين إلى ذلك بأسباب بشرية بل بالمحبة الإلهية والرغبة في الخلاص العام. ومرادنا بالاتحاد الاتحاد التام الكامل لا ما لا يترتب عليه سوى بعض اتفاق في العقائد الإيمانية وتبادل أدلة المحبة الأبوية لأن الاتحاد الحقيقي بين المسيحيين هو ما أراده السيد المسيح مؤسس الكنيسة. وهو متوقف على وحدة الإيمان والسلطة. ولا سبيل لكم أن تخشوا، لا منا ولا من خلفائنا، إلغـاء شيء من حقوقكم وامتيازاتكم البطريركية وليتورجياتكم وعادات كل كنيسة من كنائسكم. لأن الكرسي الرسولي دائمـاً يراعي كل المراعاة عوائد كل شعب.

«ثم إذا تم الاتحاد الذي نتمناه يعود ولا شك على كنائسكم بالمجد الأثيل والرفعة العظيمة. وهكذا يكون قد أجاب الله الصلوات التي تقدمونها له بأن «يزيل الانشقاق ويجمع المتفرقين … ويجمعهم إلى الكنيسة المقدسة الكاثوليكية الرسولية (ليتورجية القديس باسيليوس). فعودوا إذاً إلى هذا الإيمان الواحـد المقدس الذي سلمه الأقدمون إلينا وإليكم من غير انقطاع وقد حفظه آباؤکم وأجدادكم بغير انقصام وشرفوه ببهاء فضائلهم وعظمة أحلامهم وسمو تعاليمهم كأثناسيوس وباسيليوس وغريغوريوس النزينزي وفم الذهب وغيرهم كثيرين الذين يشترك الشرق والغرب في مجدهم بصفة ميراث عمومي»5.

ولاوون الثالث عشر حبر عظيم مخلص في ما يقول. ومعاصره أنثيموس السابع البطريرك المسكوني حبر عظيم مخلص أيضاً في ما ردَّ بـه على هذه الرسالة ولكن الواقع أنه مع مرور الزمن، نشأ اختلاف في المفاهيم الكنيسة بين كنائس الشرق وكنيسة الغرب. فقال الآباء المتأخرون في الغرب أقوالاً في موضوع السلطة كان للحماس والغيرة أثرهما فيها فجاءت متطرفة. ولا يختلف اثنان فيما نعلم في أن الأدب الكنسي القديم، أدب هؤلاء الآباء الذين أشار إليهم لاوون في رسالته، خالٍ من أي اعتراف بالسلطة التي تطلبها الفاتيكان في القرون المتأخرة كما انه لا يختلف عالمان أيضاً في أن رجوع بعض الآباء الشرقيين إلى رومة لحل بعض المشاكل الكبيرة التي جابهتهم قبل الانشقاق كان من النوع الذي لا يزال شائعاً بين الكنائس الارثوذكسية في عصرنا. فقد يعود بطريرك أرثوذكسي ومجمع بكامله إلى بطريرك أرثوذكسي آخر لحل مشكلة من المشاكل دون الاعتراف بعمله هذا بسلطة لهذا البطريرك كالسلطة التي تنشدها رومة. وجل ما هنالك أن أسقف رومـة تمتع في القرون الأولى بنفوذ وافق تقدم رومة العاصمة الأولى على سائر مدن الإمبراطورية.

وهكذا فإننا نرى البطريرك المسكوني أفتيموس السابع يذيع في آب السنة ١٨٩٥ بالاشتراك مع أعضاء المجمع القسطنيطيني المقدس رسالة رد بها على رسالة البابا لاوون الثالث عشر. ولا مجال لنشر هـذا الرد برمته هنا لأنه طويل ولأنه نشر على حدة في بيروت في السنة الماضية.6 وخلاصته أن كنيسة المسيح الأرثوذكسية على استعداد دائم لقبول كل ما من شأنه الاتحاد شرط رجوع كنيسة الغرب إلى روضة المجامع المسكونية السبعة وتعليم الإنجيل الشريف الطاهر. فالإيمان لا يتغير مع الزمان ولا مع الظروف بل يبقى دائماً هـو نفسه في كل إين وآن. والكنيسة المقدسة الجامعة الرسولية كنيسة المجامع المسكونية السبعة تؤمن وتعتقد وفقاً لنص الإنجيل بأن الروح القدس ينبثق من الآب. ولكن كنيسة الغرب أضافت العبارة «والابن» فقالت بالانبثاق من الآب والابن مخالفة بذلك قرار المجمع المسكوني الثاني وموقف البابا لاوون الثالث ترس الأرثوذكسية وسلف لاوون الثالث عشر في كرسي رومة. والتعميد بغطسات ثلاث أمر الرب على حد قول البابا بيلاجيوس. ونحن الأرثوذكسيين أمناء على التعليم الرسولي و«قد وقفنا مجاهدين عن المتاع العام كنز الإيمان الصحيح» كما قال باسيليوس الكبير في رسالته إلى الأساقفة الإيطاليين والإفرنسيين. وكنيسة المجامع المسكونية السبعة سر الشكر بخبز مخمر لا بالفطير وناولت الجميع من الكأس عمـلاً بوصية الرب و اشربوا منه كلكم، والقرابين تتقدس ببركة الكاهن بعد استدعاء الروح القدس. ولا جزاء قبل القيامة العامة. وتجسد المتعالي وحده كان نقياً وبلا دنس ولم يسلط السيد المخلص رسولاً على آخر، والصخرة التي بنى كنيسته عليهـا هي صخرة الإيمان هي القول أنه المسيح ابن الله الحي وبطريرك كنيسة الغرب متقدم بين متساوين لأنه كان أسقف أول مدينة في المملكة. والبابا غير معصوم وقد أخطأ فعلاً في أمور عقيدية. فليس أحد معصوماً على الأرض إلا ابن الله. وبطرس نفسه أنكر الرب ثلاث مرات وبولس وبخه مرتين بأنه لا يسعى مستقيماً إلى حقيقة الإنجيل.

«أما نحن الذين لم نزل بنعمة الله الكلي الصلاح ومسرته أعضاء شريفـة في جسم المسيح أعني كنيسته الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية فلنتمسك بالعبادة الحسنة الآبائية المسلمة من الرسل ولنحـذر الرسل الذين يأتون بشكل الحملان ويحاولون أن يصطادوا البسطاء فينا. ونحن الأساقفة المقامين بنعمة الله ورحمته رعاة ومعلمين لكنائس الله المقدسة فلننتبه لأنفسنا ولكل الرعية التي أقامنا فيها الروح

القدس أساقفة لنرعى كنيسة الله التي افتداها بدمه الخاص لأننا سنعطي حساباً. ولذا فليعز بعضنا بعضا وليبنِ أحدنا لآخر.

«وإله كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع هو يجعلنا كاملين راسخين مؤيدين مؤسسين. وليمنح جميع الذين هم خارج الحظيرة الواحدة المقدسة الجامعـة الأرثوذكسية حظيرة خرافه الناطقة والبعيدين عنها أن يستنيروا بنور نعمته ومعرفة الحق له المجد والعزة إلى أبد الآبدين آمين».






* * *









  1. Text et Traduction, Ireuikon, 1929, 666-686.
  2. Mansi, Vol. 40, Cols. 377 - 418.
  3. Mansi, Vol. 50, Cols. 1255 - 1261.
  4. هذا ما أذاعته البطريركية المسكونية في حينه وهو ما أعادت نشره «Ekklesia» في أول آب من السنة ١٩٥٦.
  5. عن البشير والصادق في خدمة الحقائق (بيروت ۱۹۰۱ ص ۳ – ۷)
  6. رسالة بطريركية وبجمعية جواباً على رسالة البابا لاوون الثالث عشر في اتحـاد الكنائس (بيروت ۱۹۰۸ طبعة ثالثة).