نزهة المشتاق في اختراق الآفاق/الإقليم الرابع/الجزء العاشر


إن هذا الجزء العاشر من الإقليم الرابع تضمن قطعة من بلاد ما خلف النهر من بلاد الكيماكية فيها عدة من بلادها وأملاكها ولها أنهار كثيرة ومراع وجهات وبتمام هذا الجزء يتم ذكر الإقليم الرابع ثم نذكر الإقليم الخامس على تواليه ونريد أن نذكر ما في هذا الجزء على التقصي مثل ما سبق لنا في سائر أجزاء السالفة من هذا الكتاب. فنقول إن ملك الكيماكية من أعظم الملوك قدراً وأجلهم خطراً والكيماكية بشر كثير وجمع غزير وهم مجوس يعبدون النار وفيهم زنادقة وسكناهم في غياض وأشجار ملتفة يتبعون الكلأ وبين الطراز وموضع مدينة الملك التي بها ملكه أحد وثمانون يوماً في مفاوز بلاد الأتراك الخلجية وبلادهم أوسع البلاد أقطاراً وأكثرها خصباً وغماراً. وكيماك في جنوبها لتغزغز ومع غربيها وجنوبها لخرلخية مما يلي ناحية التبت وفي غربيها الخلجية وفي شرقيها بحر الظلمة أيضاً وفي هذا البحر جزر عامرة والتجار يسافرون إليها في الماء خوضاً على ظهور الدواب ويبيتون في كل ليلة على الشجر ودوابهم مربوطة في الماء إلى أصول تلك الشجر. ومدائن ملوك الكيماكية ست عشرة مدينة فمنها مدينة أسطور ونجعة وبوراغ وسيسيان ومنان ومستناح ومدينة الملك المسمى خاقانا وبنجار وذهلان وخناوش. والطريق من بنجار إلى مدينة خاقان يخرج من بنجار ماراً في عين الشرق إلى مدينة أسطور ست مراحل في مفاوز وأرضين غير عامرة. ومدينة أسطور مدينة عامرة بالأتراك ممتدة الزراعات ومياهها كثيرة وغلاتهم الحنطة والأرز وفيها معادن الحديد ويصنع منه الصناع كل مليحة ويصوغون منه كل عجيبة وهي على نهر غماش وأهلها أنجاد لهم عزم وحذر من ذلك أنهم لا يمشون إلا وهم حذرون شاكون في سلاحهم وأهلها بالجملة عن الهواء والماء أشجع الأتراك نفوساً وأنفذهم عزماً وأحماهم جانباً وأنجحهم طالباً ولهم عند ملوكهم حظوة وإعزاز ولهم أموال واسعة وأحوال وادعة. ومن مدينة أسطور إلى سيسيان اثنا عشر يوماً شرقاً في البر وفي النهر أقل من ذلك. ومدينة خاقان الملك مدينة عظيمة لها أسوار محدقة متحصنة وأبواب حديد وللملك بها أجناد كثيرة وعساكر واستعداد وملوك الأتراك تهاب سلطانه وتخاف نقمته وتحذر سطوته وتتوقى غاراته لما علموا له من ذلك وما تقدم فيهم من فعله وهو ملك عظيم ولا يتولى الملك فيهم إلا من هو من أهل الملك مع القدم. وملك الكيماكية يلبس حلة الذهب وقلنسوة الذهب المكللة ويظهر لأهل مملكته في أربعة أوقات من السنة وله حاجب ووزراء ودولة عادلة مأمونة وأهل دولته يحبونه لإحسانه إليهم ونظره في أمورهم وحمايته لهم من أعدائهم ولهذا الملك قصور ومبان شامخة ومتنزهات رائقة وله مع ذلك همة عالية وكرم طبع. وأهل مدينته لا يقولون بالهموم ولا تجدها قلوبهم ولا يعولون على فائت ولا يكترثون بالمصائب وهم أخصب أهل البلاد أندية وأطيبهم معايش وأكثرهم إنفاقاً وأعلاهم همماً ولباسهم الحرير الأحمر والأصفر ولا يلبس هذا النوع من الثياب إلا الخاصة والمياه تخترق أزقتهم وأسواقهم وبيعهم وسائر ديارهم وهم يدينون بدين الصابئين ويعبدون الشمس والملائكة.

ومن مدينة خاقان الملك إلى مدينة مستناح أربعة أيام في البر شمالاً ومع النهر إنحداراً أقل من ذلك ومستناح مدينة كانت فيما يذكر دار الملك قبل هذا وانتقلت المملكة عنها إلى المدينة التي هي الآن قاعدة دار الملك ومن هذه المدينة إلى البحر المحيط مسير ستة أيام. وجملة هذه المدن التي ذكرناها وأكملنا أوصافها على نهر غماش وهو نهر كبير يخرج من جبال بنجار فيذهب في ناحية المشرق إلى مدينة أسطور وهي في الجنوب وينحدر إلى أن يأتي مدينة سيسيان وهي منه في الشمال ومنها ينحدر حتى يأتي مدينة الملك وهي منه في الجنوب ومنها ينعطف النهر ماراً في جهة الشمال إلى مدينة مستناح وهي منه في الضفة الغربية ومن هذه المدينة ينحرف إلى جهة الشرق إلى أن ينصب في البحر. وبه سمك كثير وهيتات عظيمة وفيما حكى صاحب كتاب العجائب إن به سمكة صنجة وهي التي يستعمل منها أطباء الهند والصين السم القاتل من ساعة وليس فيما يدرى من السموم شيء أفعل ولا أوحى قتلاً منه والسم منها في مرارتها وهو لا يتغير ولا يبطل له فعل أربعين سنة. ويقع في هذا النهر أنهار كثيرة تمده وتفخم جريته وعلى ضفتيه غياض ملتفة وأشجار مصطفة وأكثر أشجاره الكركهار الذي ذكره أبو بكر بن وحشية في كتابه ويحكي أن عروق أصوله شفاء من سم ساعة. ومن مدينة خاقان الملك إلى مدينة بوراغ أربع مراحل بين جنوب وغرب ومن مدينة أسطور إلى مدينة نجعة وهي مدينة صغيرة على جبل منيع وليس لأحد صعود إلى رأس هذا الجبل بوجه ولا بسبب وبه للملك أموال وعدد وذخائر وعليها حراس وحفاظ من ناحية الملك. وجميع ساحل بحر الكيماكية يوجد به التبر عند هيجان البحر وتعاظم أمواجه والأتراك المجاورون لهذا الساحل يقصدون منه مواضع معلومة بأعيانها فيستخرجون منها التبر على ما جرت العادة من الجمع والغسل بالماء تصويلاً ثم يجمعون دقيقه بالزيبق فيسكبونه في أرواث البقر فيجتمع منه الشيء الكثير فيأخذ الملك منهم واجبه ثم يشتي أكثره وما فضل من ذلك تصرفت التجار به تلك البلاد. وفي هذه البلاد من دواب المسك الشيء الكثير لكن المسك التبتي أفضل من سائر المسك الهندي والصيني وسائر هذه الأرضين وفيها نقائع مياه تجتمع إليها سيول الأمطار وبها مزارع وخصب زائد وبوادي الأتراك تسرح بها وتنتقل من موضع إلى آخر حسب ما تأتيه الظواعن من العرب وبوادي البربر ولهم اهتمام بنتاج الجمال والخيل والترك كلهم يأكلون لحوم الخيل ويفضلونها على سائر اللحوم المأكولة من لحوم البقر والغنم وأكلهم الأرز واللحوم والسمك وعندهم الخمور قليلة. ولنسائهم جمال وحسن فائق ونساؤهم أجلد من رجالهم وأكثر تصرفاً فيما يحتاجون إليه لحدة أنفسهن وعزة أطباعهن وعندهم الدهن من الزيت وإنما يسرجون مصابيحهم بالشحم واللبن والسمن والعسل عندهم كثير والسموك عندهم أيضاً كذلك ودراهمهم نحاس ولباسهم التشمير وأطود أيامهم أربع عشر ساعة والأمطار عندهم كثيرة والأنواء متوالية والثلوج في جبالها دائمة شتاءً وصيفاً وقد جئنا بتمام الكلام في هذا الإقليم حسب الطاقة ومبلغ الجهد والإستطاعة والحمد لله على ذلك كثيراً. نجز الجزء العاشر من الإقليم الرابع والحمد لله ويتلوه الجزء الأول من الإقليم الخامس إن شاء الله.