نهج البلاغة تحقيق فارس الحسون/خطب/3


الخطبة 3: المعروفة بالشِّقْشِقِيَّة 


ومن خطبة له (عليه السلام)


المعروفة بالشِّقْشِقِيَّة


[وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له]

عدل

أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها1 فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ2 دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً3، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ4، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة5 عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ.


[ترجيح الصبر]

عدل

فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى6، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجاً7، أرى تُرَاثي8 نَهْباً، حَتَّى مَضَى الاَْوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا9إِلَى فلان بَعْدَهُ.


ثم تمثل بقول الاعشى:


شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا10 وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ


فَيَا عَجَباً!! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها11 في حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لاخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ـ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا12 ! ـ فَصَيَّرَهَا في حَوْزَة خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا13، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ العِثَارُ14 [فِيهَا] وَالاْعْتَذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ15، إِنْ أَشْنَقَ16 لَهَا خَرَمَ17، وَإِنْ أَسْلَسَ18 لَهَا تَقَحَّمَ19، فَمُنِيَ النَّاسُ20 ـ لَعَمْرُ اللهِ ـ بِخَبْط21 وَشِمَاس22، وَتَلَوُّن وَاعْتِرَاض23.


فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الِْمحْنَةِ، حَتَّى إِذا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا في جَمَاعَة زَعَمَ أَنَّي أَحَدُهُمْ. فَيَاللهِ وَلِلشُّورَى24! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الاَْوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هذِهِ النَّظَائِرِ25! لكِنِّي أَسفَفْتُ26 إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا27 رَجُلُ مِنْهُمْ لِضِغْنِه28، وَمَالَ الاْخَرُ لِصِهْرهِ، مَعَ هَن وَهَن29.


إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ، نَافِجَاً حِضْنَيْهِ30 بَيْنَ نَثِيلهِ31 وَمُعْتَلَفِهِ32، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ33 مَالَ اللهِ خَضْمَ الاِْبِل نِبْتَةَ34 الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ35، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ36، وَكَبَتْ37 بِهِ بِطْنَتُهُ38.


[مبايعة علي(عليه السلام)]

عدل

فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ إليَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ39، يَنْثَالُونَ40 عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِب، حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ41، مُجْتَمِعِينَ حَوْلي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ42.


فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالاَْمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ43، وَمَرَقَتْ أُخْرَى44، وَفَسَقَ [وقسط ]آخَرُونَ45 كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ نَجْعَلُهَاِللَّذِينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوّاً في الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، بَلَى! وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتَ الدُّنْيَا46 في أَعْيُنِهمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا47!


أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ48، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ49، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ50، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا51 عَلَى كِظَّةِ52 ظَالِم، وَلا سَغَبِ53 مَظْلُوم، لاََلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا54، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلاََلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز55!


قالوا: وقام إِليه رجل من أهل السواد56 عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتاباً، فأقبل ينظر فيه، فلمّا فرغ من قراءته قال له ابن عباس: يا أميرالمؤمنين، لو اطَّرَدت مَقالتكَ57 من حيث أَفضيتَ58! فَقَالَ(عليه السلام):


هَيْهَاتَ يَابْنَ عَبَّاس! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ59 هَدَرَتْ60 ثُمَّ قَرَّتْ61!


قال ابن عباس: فوالله ما أَسفت على كلام قطّ كأَسفي على ذلك الكلام أَلاَّ يكون أميرالمؤمنين(عليه السلام)بلغ منه حيث أراد.


قوله (عليه السلام) في هذه الخطبة: «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم» يريد: أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها، وإن أرخى لها شيئاً مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها، يقال: أشنق الناقة: إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه، وشنقها أيضاً، ذكر ذلك ابن السكيت في «إصلاح المنطق».


وإنما قال(عليه السلام): «أشنق لها» ولم يقل: «أشنقها»، لانه جعله في مقابلة قوله: «أسلس لها»، فكأنه(عليه السلام)قال: إن رفع لها رأسها بالزمام يعني أمسكه عليها.


وفي الحديث: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) خطب الناس وهو عل ناقة قد شنق لها وهي تقصع بجرّتها.


ومن الشاهد على أنّ أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي:


| وأشناقها إلى الاعناقِ | | ساءها ما بنا تبيّن في الايدي |

| ------------------------ | ---- | ------------------------------- |

| | | |

































































  1. تَقَمّصَها: لبسها كالقميص.
  2. سَدَلَ الثوبَ: أرخاه.
  3. طَوَى عنها كشحاً: مالَ عنها.
  4. الجَذّاءُ ـ بالجيم والذال المعجمة ـ: المقطوعة.
  5. طَخْيَة ـ بطاء فخاء بعدها ياء، ويثلّثُ أوّلها ـ: ظلمة.
  6. أحجى: ألزم، من حَجِيَ بهِ كرَضيَ: أُولِعَ به ولَزِمَهُ.
  7. الشّجَا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
  8. التراث: الميراث.
  9. أدْلَى بها: ألقى بها.
  10. الكُور ـ بالضم ـ: الرّحْل أوهو مع أداته.
  11. يَسْتَقِيلها: يطلب إعفاءه منها.
  12. تشطرا ضرعيها: اقتسماه فأخذ كلّ منهما شطراً، والضرع للناقة كالثدي للمرأة.
  13. كَلْمُها: جرحها، كأنه يقول: خشونتها تجرح جرحاً غليظاً.
  14. العِثار: السقوط والكَبْوَةُ.
  15. الصّعْبة من الابل: ما ليستْ بِذَلُول.
  16. أشْنَقَ البعير وشنقه: كفه بزمامه حتى ألصق ذِفْرَاه (العظم الناتىء خلف الاذن) بقادمة الرحل.
  17. خرم: قطع.
  18. أسْلَسَ: أرخى.
  19. تَقَحّمَ: رمى بنفسه في القحمة أي الهلكة.
  20. مُنيَ الناسُ: ابتُلُوا وأُصيبوا.
  21. خَبْط: سير على غير هدى.
  22. الشِّماس ـ بالكسر ـ: إباء ظَهْرِ الفرسِ عن الركوب.
  23. الاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عَرْضاً في حال سيره طولاً.
  24. أصل الشّورى: الاستشارة، وفي ذكرها هنا إشارة إلى الستة الذين عيّنَهم عمر ليختاروا أحدهم للخلافة.
  25. النّظَائر: جمع نَظِير أي المُشابِه بعضهم بعضاً دونه.
  26. أسَفّ الطائر: دنا من الارض.
  27. صَغَى صَغْياً وَصَغَا صَغْواً: مالَ.
  28. الضِّغْنُ: الضّغِينَة والحقد.
  29. مع هَن وَهَن: أي أغراض أخرى أكره ذكرها.
  30. نافجاً حضْنَيْه: رافعاً لهما، والحِضْن: ما بين الابط والكَشْح، يقال للمتكبر: جاء نافجاً حِضْنَيْه.
  31. النّثِيلُ: الرّوْثُ وقذَر الدوابّ.
  32. الـمُعْتَلَفُ: موضع العلف.
  33. الخَضم: أكل الشيء الرّطْب.
  34. النِّبْتَة ـ بكسر النون ـ: كالنبات في معناه.
  35. انْتَكَثَ عليه فَتْلُهُ: انتقض.
  36. أجهزَ عليه عملُه: تَمّمَ قتله.
  37. كَبَتْ به: من كبابِه الجوادُ: إذا سقط لوجهه.
  38. البِطْنَةُ ـ بالكسر ـ: البَطَرُ والاشَرُ والتّخْمة.
  39. عُرْفُ الضّبُع: ماكثر على عنقها من الشعر، وهو ثخين يُضرب به المثل في الكثرة والازدحام.
  40. يَنْثَالون: يتتابعون مزدحمين.
  41. شُقّ عطفاه: خُدِشَ جانباه من الاصطكاك.
  42. رَبيضَةُ الغنم: الطائفة الرابضة من الغنم.
  43. نَكَثَتْ طَائفة: نَقَضَتْ عهدَها، وأراد بتلك الطائفة الناكثة أصحابَ الجمل وطلحةَ والزبيرَ خاصة.
  44. مَرَقَتْ: خَرَجَتْ، وفي المعنى الديني: فَسَقَتْ، وأراد بتلك الطائفة المارقة الخوارج أصحاب النّهْرَوَان.
  45. قَسَطَ آخرون: جاروا، وأراد بالجائرين أصحاب صفين.
  46. حَلِيَتِ الدنيا: من حَليتِ المرأهُ إذا تزيّنَت بِحُلِيّها.
  47. الزِبْرِجُ: الزينة من وَشْي أوجوهر.
  48. النَسَمَة ـ محركة ـ: الروح وهي في البشر أرجح، وبَرَأها: خلقها.
  49. أراد «بالحاضر» هنا: من حضر لِبَيْعَتِهِ.
  50. أراد «بالناصر» هنا: الجيش الذي يستعين به على إلزام الخارجين بالدخول في البيعة الصحيحة.
  51. ألاّ يُقَارّوا: ألاّ يوافقوا مُقرّين.
  52. الكِظّةُ: ما يعتري الاكل من الثّقَلِ والكَرْب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق.
  53. السَغَب: شدة الجوع، والمراد منه هضم حقوقه.
  54. الغارب: الكاهلُ، والكلام تمثيلٌ للترك وإرسال الامر.
  55. عَفْطَة العَنْز: ما تنثره من أنفها. وأكثر ما يستعمل ذلك في النعجة وإن كان الاشهر في الاستعمال «النّفْطَة» بالنون.
  56. السّوَاد: العراق، وسُمّيَ سواداً لخضرته بالزرع والاشجار، والعرب تسمي الاخضر أسود.
  57. اطّرَدَتْ مقالتك: أُتْبِعَتْ بمقالة أُخرى، من اطّراد النهر إذا تتابع جَرْيُهُ.
  58. أفْضَيْتَ: أصل أفضى: خرج إلى الفضاء، والمراد هنا سكوت الامام عماكان يريد قوله.
  59. الشّقْشِقَةُ ـ بكسر فسكون فكسر ـ: شيء كالرّئَهِ يخرجه البعير من فيه إذا هاج.
  60. هَدَرَتْ: أَطْلَقَتْ صوتاً كصوت البعير عند إخراج الشِقْشِقَةِ من فيه، ونسبة الهدير إليها نسبة إلى الالة.
  61. قَرّتْ: سكنت وَهَدَأتْ.