​نهر العذارى​ المؤلف بدر شاكر السياب


يا نهر لولا منحناك و ما يشابك من فروع

ما كانت البسمات في عيني تطفأ بالدموع

حجبت بالشأو البعيد تسد بابيه الظلال

وجهاً تلاقي في محياه الوداعة و الجمال

مرآتك السجواء منذ جلوتها تحت السماء

ما لاح فيها مثل ذاك الوجه في ذاك الصفاء

إن أوقد الليل العميق نجومه في جانبيك

لّماحة الأضواء تغمر بالأشعة ضفتيك

حدّثت عنه النجم ، والآهات يقطعن الخرير

والنجم يشكو ، مثلما تشكو هواك إلى الأثير

ناشدت ألحاظ الكواكب و هي تخترق الظلام

ألا ينمن و إن تشهّين الكرى حتى تنام:

أنتن أسعد ما أظل الكون يا زهر النجوم

أنتن أبصرتنّ ذاك الوجه في الليل البهيم!

حتى إذا ما رنح النجم الأخير سنا الصباح

فانقضّ تحت القبة الزرقاء محترق الجناح

وانساب غي الوادي شتات الزارعين أو الرعاة

فالجو تنبض في نسائمه الندية ألف آه

أصبحت فوق المعبر المهجور أرقب منحناك

فأبوح بالشكوى و تسكت عن شكاتي ضفتاك

يانهر جيكور الجميل ، ومنتهى شكواك نور

لا الشمس مطفئة جواي ، ولا الكواكب والبدور

لا الصبح يوهن لاعجات الليل والوجد المثار

في مقلتي ، ولايهيض الليل أحقاد النهار

الفتنة السمراء تسرقها مياهك بعد حين:

الشعر و العينين و الثغر المفلج و الجبين

فإذا الهجيرة أطلقتها زرقة الأفق البعيد

فالظلّ مقصوص الجناح يفرّ من عود لعود

والجوسق المستوحد ، المهجور ، في غاب النخيل

تأوي إليه الغادة السمراء لاهبة الغليل

والدوحة اللفاء تحتبس البرودة في الظلال

مهد لأطفال الحقول ، وملعب رحب المجال

سارت إليك بطيئة الخطوات ذابلة الشّفاة

جاءتك ظمأى بالبنان الرخص تغترف المياه

كم عدت مخمور الفؤاد بموعد المدّ القريب

جذلان أقتحم الظهيرة بالتطلع و الوثوب

التوت فوق الشاطئ الغربي و السّعف الصموت

لا يجهلان تنهّداتي و هي بينهما تموت

و الغاب ساعتي الحبيبة من ظلال عقرباها

كم أنبآني أن طرفي بعد حين قد يراها

و اليوم يسقي مدّك العاني أواخر كل جزر

لا ذاك يجلوها و لا هذا بما أرجوه يجري

و اليوم إن سكر الخرير و عاد يحتضن الجرارا !

لم ألق عذرائي فكيف الصّبر يا نهر العذارى ؟!