أخبار النحويين البصريين/المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب فيه ذكر مشاهير النحويين وطرف من أخبارهم وذكر أخذ بعضهم عن بعض والسابق منهم إلى علم النحو. اختلف الناس في أول من رسم النحو فقال قائلون أبو الأسود الدؤلي وقال آخرون نصر بن عاصم الدؤلي ويقال الليثي وقال آخرون عبد الرحمن بن هرمز وأكثر الناس على أبي الأسود الدؤلي واسمه ظالم بن عمرو بن سليمان بن عمرو بن حلس بن نفاثة بن عدي بن الدؤل بن بكر بن كنانة وكان من سكان البصرة، والنسبة إليه دؤلي كما ينسب إلى نمر نمري فيفتح استثقالاً للكسرة ويجوز تخفيف الهمزة فيقال الدولي بقلب الهمزة واواً محضة لأن الهمزة إذا انفتحت وكان قبلها ضمة فتخفيفها بقلبها واواً محضة كما يقال في جُؤن جُوَنٌ وقد يقال الدّيليّ بقلب الهمزة ياء حين انكسرت. فإذا انقلبت ياء كسرت الدال لتسلم الياء كما تقول قيل وبيع. وقال الأصمعي أخبرني عيسى بن عمر قال الديل بن بكر الكناني إنما هو الدُّؤل فترك أهل الحجاز الهمز وأنشد لكعب بن مالك.

جاؤوا بجيش لو قِيسَ مُعْرسُه
ما كان إلا كمُعْرَس الدُّئل

والذي يقول أبو الأسود الديلي يريد به النسبة إلى الدؤل على تخفيف الهمزة الذي ذكرناه لأنه لا خلاف في نسبه. وكان أبو الأسود ممن صحب علياً صلى الله عليه وكان من المتحققين بمحبته ومحبة ولده وفي ذلك يقول:

يقول الأرذلون بنو قشير
طوالَ الدهر لا تنسى عَلِيّا
أحِب محمداً حباً شديدا
وعبَاسا وحَمْزةَ والوصيّا
فإن يك حبُّهم رُشداً أُصِبْه
وليس بمخطئ إن كان غَيّا

وكان نازلاً في بني قشير بالبصرة وكانوا يرجمونه بالليل لمحبته لعلي وولده فإذا أصبح وذكر رجمهم قالوا: الله يرجمك، فيقول لهم: تكذبون لو رجمني الله لأصابني وأنتم ترجمون فلا مصيب.

وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو، فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: أخذ أبو الأسود عن علي بن أبي طالب عليه السلام العربية فكان لا يخرج شيئاً مما أخذه عن علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أحد حتى بعث إليه زيادٌ: اعمل شيئاً تكون فيه إماماً ينتفع الناس به وتُعرب به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئاً يقرأ: (أن الله بريء من المشركين ورسوله)، فقال: ما ظننتُ أن أمر الناس صار إلى هذا فرجع إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير فليبغني كاتباً لقناً يفعل ما أقول، فأتى بكاتب من عبد القيس فلم يرضه فأتى بآخر قال أبو العباس أحسبه منهم. فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه فإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف فإن أتبعت شيئاً من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين. فهذا نقط أبي الأسود.

وروى محمد بن عمران بن زياد الضبي قال حدثني أبو خالد قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم قال: جاء أبو الأسود الديلي إلى عبيد الله بن زياد يستأذنه في أن يضع العربية فأبى، قال فأتاه قوم فقال أحدهم: أصلحك الله مات أبانا وترك بنوه، فقال: علي بأبي الأسود ضع العربية، وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن عاصم قال: أول من وضع العربية أبو الأسود الديلي، جاء إلى زياد بالبصرة فقال: إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم وتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاماً يعرفون أو يقيمون به كلامهم، قال: لا، قال فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير توفي أبانا وترك بنونا، فقال زياد: توفي أبانا وترك بنونا؟ ادع لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم. ويقال إن السبب في ذلك أنه مر بأبي الأسود سعد وكان رجلاً فارسياً من أهل بوزنجان كان قدم البصرة مع جماعة من أهله فدنوا من قدامة بن مظعون الجمحي فادعوا أنهم أسلموا على يديه وأنهم بذاك من مواليه فمر سعد هذا بأبي الأسود وهو يقود فرسه قال: ما لك يا سعد لا تركب؟ قال: إن فرسي ضالع، فضحك به بعض من حضره، قال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا إخوة فلو علمناهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول لم يزد عليه. وكان أبو الأسود الدؤلي من أفصح الناس، قال قتادة بن دعامة السدوسي قال أبو الأسود الديلي: إني لأجد لِلّحن غَمزاً كغمز اللحم.

ويقال إن ابنته قالت له يوماً: يا أبتِ ما أحسن السماء، قال: أي بنية نجومها، قالت: إني لم أرد أي شيء منها أحسن إنما تعجبت من حسنها، قال: إذاً فتقولي ما أحسن السماء، فحينئذ وضع كتاباً ويقال إن ابنته قالت له: يا أبتِ ما أشد الحر، في يوم شديد الحر، فقال لها: إذا كانت الصقعاء، من فوقك والرمضاء من تحتك، قالت: إنما أردت أن الحر شديد، قال: فقولي إذاً ما أشد الحر، والصقعاء الشمس.

ويروى أن أبا الأسود لقى ابن صديق له فقال له: ما فعل أبوك، قال: أخذته الحمى ففضخته فضخاً وطبخته طبخاً ورضخته رضخاً فتركته فرخاً، قال أبو الأسود: فما فعلت امرأته التي كانت تزاره وتماره وتشاره وتضاره، قال: طلقها وتزوج غيرها فحظيت عنده ورضيت وبظيت، قال أبو الأسود: فما معنى بظيت؟ قال: حرف من اللغة لم تدرِ من أي بيض خرج ولا في أي عش درج، قال: يا ابن أخي لا خير لك فيما لم أدر.

وروي عن عبد الله بن بريدة قال قيل لأبي الأسود الديلي: أتعرف فلاناً، قال: لا فإنه يتسارع في أطماعكم ويتثاقل عن حوائجكم ولكن عرفوا فلاناً فإنه الأهيس الملد المجلس إن أعطى أنتهز وإن سل أرز.

وأما نصر بن عاصم فقد روى محبوب البكري عن خالد الحذاء قال: سألت نصر بن عاصم وهو أول من وضع العربية: كيف نقرؤها قال قل هو الله أحد الله الصمد، لم ينون، قال: فأخبرته أن عروة ينون فقال: بئسما قال وهو للبئس أهل، فأخبرت عبد الله بن أبي إسحاق بقول نصر بن عاصم فما زال يقرأ بها حتى مات.

واختلف عن محبوب في عروة وعزرة فقال خلف بن هشام عروة وقال عمر بن شبة عزرة، وكان نصر بن عاصم أحد القراء والفصحاء وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء والناس.

وروي عن عمرو بن دينار قال: اجتمعت أنا والزهري ونصر بن عاصم فتكلم نصر فقال الزهري: إنه ليفلق بالعربية تفليقاً.

وأما عبد الرحمن بن هرمز فروى ابن لهيعة عن أبي النضر قال كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأحد القراء.

وأخذ عن أبي الأسود الديلي جماعة منهم يحيى بن يعمر وعنبسة بن معدان وهو عنبسة الفيل وميمون الأقران ويقال ميمون ابن الأقرن، ويقال أن نصر بن عاصم أخذ عن أبي الأسود. فأما يحيى بن يعمر فهو رجل من عدوان بن قيس بن عيلان بن مضر وكان عداده في بني ليث من كنانة وكان مأموناً عالماً قد روى عنه الحديث ولقي ابن عمر وابن عباس وغيرهما وروى عنه قتادة وغيره.

ويقال إن أبا الأسود لما وضع باب الفاعل والمفعول زاد في ذلك الكتاب رجل من بني ليث أبواباً ثم نظر فإذا في كلام العرب ما لا يدخل فيه فأقصر عنه فيمكن أن يكون الرجل الذي من بني ليث يحيى بن يعمر إذ كان عداده في بني ليث، ويقال أن الحجاج بن يوسف قال ليحيى بن يعمر: أتجدني ألحن؟ قال: الأمير أفصح من ذاك. قال: عزمت عليك لتخبرني وكانوا يعظمون عزائم الأمر، فقال يحيى بن يعمر: نعم في كتاب الله، قال: ذاك أشنع له ففي أي شيء من كتاب الله؟ قال: قرأت: (قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبُّ إليكم من الله ورسوله) فترفع أحب وهو منصوب. قال: إذاً لا تسمعني ألحن بعدها. فنفاه إلى خراسان. ويقال إن يزيد بن المهلب كتب من خراسان إلى الحجاج: أنا لقينا العدو ففعلنا واضطررنا هم إلى عرعرة الجبل ونحن بحضيضه. قال فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟ قيل له: إن ابن يعمر هناك. فقال: إذاً.

وأما عنبسة بن معدان فإن معدان رجل من أهل ميسان قدم البصرة وأقام بها وكان لعبد الله بن عامر قيل بالبصرة فاستكثر النفقة عليه فأتاه معدان فتقبل به بنفقته وفضل في كل شهر فكان يدعى معدان الفيل. فنشأ له ابن يقال له عنبسة فتعلم النحو وروى الشعر وظرف فادعى إلى مهرة بن حيدان. فبلغ الفرزدق أنه يروي عليه شعر جرير فقال:

لقد كان في معدان والفيل زاجرٌ
لعنبسة الراوي على القصائد

فسأل بعض عمال البصرة عنبسة عن هذا البيت وعن الفيل فقال عنبسة: لم يقل والفيل إنما قال: اللؤم. فقال: إن أمراً فررت منه إلى اللؤم لأمرٌ عظيم.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد قال أبو عبيدة: اختلف الناس إلى أبي الأسود يتعلمون منه العربية فكان أبرع أصحابه عنبسة بن معدان المهري. واختلف الناس إلى عنبسة فكان البارع من أصحابه ميمون الأقرن فكان صاحب الناس فخرج عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. وحدث عمر بن شبة قال حدثني عبد الله بن محمد التوزي الصدوق ما علمت العفيف قال سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول: أول من وضع العربية أبو الأسود الديلي ثم ميمون الأقرن ثم عنبسة الفيل ثم عبد الله بن أبي إسحاق. ففي هذه الحكاية ميمون قبل عنبسة وفي الحكاية التي قبلها عنبسة قبل ميمون.

وذكر محمد بن سلام قال كان بعد عنبسة وميمون الأقرن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وكان في زمان ابن أبي إسحاق عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمرو بن العلاء ومات ابن أبي إسحاق قبلهما ويقال أن ابن أبي إسحاق كان أشد تجريداً للقياس وكان أبو عمرو أوسع علماً بكلام العرب ولغاتها وغريبها. وكان بلال بن أبي بردة جمع بينهما وهو على البصرة يومئذ عمله عليها خالد بن عبد الله القسري أيام هشام. قال يونس قال أبو عمرو بن العلاء: فغلبني ابن أبي إسحاق يومئذ بالهمز فنظرت فيه بعد ذاك. قال: وبالغت فيه، وقال محمد بن سلام: سمعت رجلاً يسأل يونس عن ابن أبي إسحاق وعلمه. قال: هو والنحو سواء، أي هو الغاية. قال: فأين علمه من علم الناس اليوم؟ قال: لو كان في الناس اليوم من لا يعلم إلا علمه لضحك به ولو كان فيهم أحد له ذهنه ونفاذه ونظر نظرهم كان أعلم الناس. وكان ابن أبي إسحاق يكثر الرد على الفرزدق والتعنت له فلما قال الفرزدق في قصيدة يمدح فيها يزيد بن عبد الملك.

مستقبلين شمال الشأم تضربنا
بحاصبٍ كنديف القطن منشور
على عمائمنا تلقى وأرحلنا
على زواحف ترجى مخها رير

فألح عليه ابن أبي إسحاق وعابه بخفض البيت الأول ورفع الثاني فغيره الفرزدق فقال: على زواحف نرجيها محاسير. وكان ابن أبي إسحاق يرد على الفرزدق كثيراً فقال فيه الفرزدق.

فلو كان عبد الله مولى هجوته
ولكن عبد الله مولى مواليا

وكان عبد الله بن أبي إسحاق مولى آل الحضرمي وهم حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف والحليف عند العرب مولى. من ذلك قول الراعي.

حزى الله مولانا غنياً ملامةً
شرار موالي عامرٍ في العزائم

وقال الأخطل لجرير:

أتشتم قوماً أثبتوك بنهشلٍ
ولولاهم كنتم لعكل مواليا

يعني حلف الرباب لعكل.

وذكر حسين بن فهم قال حدثنا ابن سلامة قال اخبرنا يونس: أن أبا عمرو كان أشد تسليماً للعرب وكان ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان على العرب. فأما أبو عمرو بن العلاء فهو من الأعلام في القرآن وعنه أخذ يونس بن حبيب والرواية عنه في القراءة والنحو واللغة كثيرة. قال الأصمعي سألت أبا عمرو عن قوله تبارك وتعالى. فعززنا بثالث. مثقلة فقال شددنا وأنشد للمتلمس:

أجدٌ إذا ضمرت تعزز لحمها
وإذا تشد بنسعها لا تنبس

وأنشد المازني قال أنشدنا الأصمعي عن أبي عمرو لرجل من اليمن وقد سماه غيره فقال امرؤ القيس بن عابس:

أيا تملك يا تملي
ذريني وذري عذلي
ذريني وسلاحي ثم
شدى الكف بالعزل
ونبلي وفقاها كعرا
قيب قطاً طحل
وثوباي جديدان
وأرخي شرك النعل
ومني نظرة خلفي
ومني نظرة قبلي
فإما مت يا تملي
فموتي حرة مثلي

قال أبو عمرو: وزادني فيها الجمحي:

وقد أسبأ للندما
ن بالناقة والرحل
وقد أختلس الطعنة
تنفي سنن الرجل

يقول يخرج منها من الدم ما يمنع الرجل من الطريق.

وقد أختلس الطعنة
لا يدمي له نصل

يعني من السرعة والحذق

كجيب الدفنس الورها
ء ريعت وهي تستفلي

يعني من سعة الطعنة.

وقال محمد بن يزيد المبرد أخبرني المازني قال أنشدني الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن شيخ من أهل نجد كان أسنهم.

استقدر الله خيراً وأرضين به
فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطٌ
إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي عليه غريب ليس يعرفه
وذو قرابته في الحي مسرور
حتى كأن لم يكن إلا تذكره
والدهر أيتما حالٍ دهارير

وأما عيسى بن عمر وهو في طبقة ابن عمرو بن العلاء فهو عيسى بن عمر الثقفي من أهل البصرة وليس بعيسى بن عمر الهمداني من أهل الكوفة وتروى عنه قرآت. وعيسى بن عمر الثقفي البكر من مقدمي نحويي أهل البصرة وكان أخذه من عبد الله بن أبي إسحاق وغيره. وعن عيسى بن عمر الثقفي أخذ الخليل بن أحمد. ولعيسى كتابان في النحو سمى أحدهما الجامع والآخر المكمل. فقال الخليل بن أحمد:

بطل النحو جميعاً كله
غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك الكمال وهذا جامع
فهما للناس شمس وقمر

وهذان الكتابان ما وقعا إلينا ولا رأيت أحداً يذكر أنه رآهما. وكان عيسى بن عمر فصيحاً ويروى عنه أشياء كثيرة من القرآت واستودعه بعض أصحابه خالد بن عبد الله القسري وديعة فلما نزع خالد بن عبد الله عن إمارة العراق وتقلد مكانه يوسف بن عمر كتب إلى واليه بالبصرة يأمره أن يحمله إليه مقيداً فدعا به ودعا بالحداد فمره بتقييده فقال له: لا بأس عليك إنما أراد الأمير لتؤدب ولده قال: فما بال القيد إذا؟ ً؟ فبقيت مثلاً بالبصرة. فلما أتى به يوسف بن عمر سأله عن الوديعة فأنكر فأمر به يضرب بالسياط فلما أخذه السوط جزع فقال: أيها الأمير إنها كانت أثياب في أسيفاطٍ. فرفع الضرب عنه ووكل به حتى أخذ الوديعة منه. قال علي بن محمد بن سليمان قال أبي: فرأيت طول دهره يحمل في كمه خرقة فيها سكر العشر والإجاص اليابس وربما رأيته عندي وهو واقفٌ علي أو سائرٌ أو عند ولاة أهل البصرة فتصيبه نهكة على فؤاده يخفق بها حتى يكاد أن يغلب فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيها في فيه ثم يتمصصها فإذا تسرط أي بلعه من ذلك شيئاً سكن ما به فسألته عن ذلك فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني يوسف فتعالجت له بكل شيء فلم أجد له شيئاً أصلح من هذا. وقال وقلت له يوماً: أخبرني عن هذا الذي وضعت يدخل فيه كلام العرب كله. قال: لا. قلت: فمن تكلم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تكلم به أتراه مخطئاً؟ قال: لا. قلت: فما ينفع كتابك؟ وأما يونس بن حبيب فإنه بارعٌ في النحو من كتاب أبي عمرو بن العلاء وقد سمع من العرب كما سمع من قبله وقد روى عنه سيبويه وأكثر وله قياس في النحو ومذاهب يتفرد بها. وقد سمع منه الكسائي والفراء وكانت حلقته بالبصرة ينتابها أهل العلم وطلاب الأدب وفصحاء الأعراب والبادية.

وأخبرنا أبو بكر بن السراج قال: قال المبرد أخبرني أبو عثمان المازني: أن مروان بن سعيد بن عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة سأل الكسائي بحضرة يونس: أي شيء يشبه أي من الكلام؟ فقال: ما ومن. فقال له: فكيف تقول لأضربن من في الدار؟ قال لأضربن من في الدار. قال: فكيف تقول: لأركبنّ ما تركبُ؟ قال: لأَركبنّ ما تركب. قال: فكيف تقول ضربت من في الدار؟ قال: ضربتُ مَن في الدار. قال: فكيف تقول رَكبتُ ما ركبتَ؟ قال: ركبتُ ما ركبتَ. قال: فكيف تقول لأضربنّ أيهم في الدار؟ قال: لأضربن أيَّهم في الدار. قال: فكيف تقول ضَرِبتُ أيّهم في الدار؟ قال: لا يجوز. قال: لِمَ؟ قال: أيٌّ كذا خلقت. قال فغضب يونس وقال: تؤذون جليسنا ومؤدب أمير المؤمنين.

وحدثنا أبو بكر بن مجاهد قال حدثنا محمد بن الجهم قال حدثنا الفراء قال أنشدنا يونس النحوي:

رب حلم أضاعه عدم الما
ل وجهل غطا عليه النعميم

بتخفيف غطا وروى الأصمعي عن يونس قال: قال لي رؤية بن العجاج: حتام تسألني عن هذه البواطيل وأزخرفها لك أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك. قال أبو سعيد هذا صحف فيه ابن الأعرابي فقال بلغ بالغين وهو أحد ما أخذ عليه. قال أبو سعيد: بلع الشيب إذا وقع فيه الشيب.

حدثنا ابن مجاهد قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا يونس قال: كنا على باب ابن عمير فمرت بنا امرأة يدفع بعضها بعضاً كأنها خلفة فما لبثنا أن أقبل فتى من قريش عليه قميص قوهي ورداء فلما رآنا ارتدع فقلنا: هاهنا طلبتك. فتبعها وقال:

إذا سلكت قصد السبيل سلكته
وإن هي عاجت عجت حيث تعوج

وبهذا الإسناد قال يونس تقول العرب: الآل من غدوة إلى ارتفاع الضحى الأعلى ثم هو سرابٌ سائر اليوم وإذا زالت الشمس فهو فيء وغدوة ظل. وأنشد لأبي ذؤيب.

لعمري لأنت البيت أكرم أهله
وأقعد في أفيانه بالأصائل

وكان كذا وكذا الليلة يقولون ذاك إلى ارتفاع الضحى وإذا جاوز ذاك قالوا كان البارحة. وعنه بهذا الإسناد قال كان عبد الملك بن عبد الله ينشد:

إذا أنت لم تنفع فضر وإنما
يرجى الفتى كيما يضر وينفعا

وذكر عمر بن شبة عن خلاد بن يزيد عن يونس النحوي قال: ثلاثة والله أشتهي أن أمكن من مناظرتهم يوم القيامة آدم عليه السلام فأقول له قد مكنك الله من الجنة وحرم عليك شجرة فقصدت لها حتى ألقيتنا في هذا المكروه ويوسف عليه السلام أقول له كنت بمصر وأبوك عليه السلام بكنعان بينك وبينه عشر مراحل يبكي عليك لِم لَم ترسل إليه إني في عافية وتريحه مما كان فيه من الحزن وطلحة والزبير أقول لهما علي بن أبي طالب عليه السلام بايعتهماه بالمدينة وخلعتماه بالعراق لم أي شيء أحدث.

وأما الخليل بن أحمد أبو عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي فقد كان الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه وهو أول من استخرج العروض وحصر أشعار العرب بها وعمل أول كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيأ ضبط اللغة. وكان من الزهاد في الدنيا والمنقطعين إلى العلم ويروى عنه أنه قال: إن لم تكن هذه الطائفة يعني أهل العلم أولياء لله فليس لله ولي. وقد كان وجه إليه سليمان بن علي من الأهواز وكان واليها يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده ويرغبه ويقال إن الذي وجه إليه سليمان بن حبيب بن المهلب من أرض السند يستدعيه إليه. وكان بالبصرة فأخرج الخليل إلى رسول سليمان بن علي خبزاً يابساً وقال: ما عندي غيره وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان، فقال الرسول: فماذا أبلغه عنك؟ فأنشأ يقول:

أبلغ سليمان أني عنك في سعة
وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخا بنفسي أني لا أرى أحداً
يموت هزلاً ولا يبقى على حال

وكان الخليل يقول الشعر البيتين والثلاثة ونحوها في الآداب كمثل ما يروى له:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني
أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني
وعلمت أنك جاهل فعذرتكا

وكما يروى له في الزهد:

وقبلك داوى المريض الطبيب
فعاش المريض ومات الطبيب
فكن مستعداً لداعي الفنى
فإن الذي هو آت قريب

والخليل أستاذ سيبويه وعامة الحكاية في كتاب سيبويه عن الخليل وكل ما قال سيبويه: وسألته أو قال من غير أن يذكر قائله فهو الخليل.

وممن أخذ عن أبي عمرو بن العلاء أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي نسب إلى يزيد بن منصور خال المهدي لصحبته إياه وليس هو في النحو من طبقة الخليل ولا من طبقة سيبويه والأخفش وتأخر موته وكان مؤدب المأمون والكسائي مؤدب أخيه محمد الأمين وبينه وبين الكسائي مقارضة بسبب تأديبهما الأخوين. وله قصيدة يمدح نحويي البصرة ويهجو الكسائي وأصحابه. منها:

يا طالبَ النحو ألا فابكهِ
بعد أبي عمرو وحماد
وابن أبي إسحاق في علمه
والزين في المشهد والنادي
عيسى وأشباه لعيسى وهل
يأتي لهم دهرٌ بأنداد
هيهات إلا قائلاً عنهم
أرسوا له الأصل بأوتاد
فهو بمنهاجهم سالك
لفضلهم ليس بجحاد
ويونس النحوي لا تنسه
ولا خليلاً حية الوادي
وقل لمن يطلب علماً ألا
نادٍ بأعلى شرفٍ ناد
يا ضيعة النحو به مغربٌ
عنقاء أودت ذات اصعاد
أفسده قومٌ وأزروا به
من بين أغتامٍ وأوغاد
ذوى مراء وذوى لكنةٍ
لئام آباد وأجدادِ
لهم قياس أحدثوه هم
قياس سوء غير منقاد
فهم من النحو ولو عمروا
أعمار عادٍ في أبي جاد
أما الكسائي فذاك امرؤ
في النحو حارٍ غير مراد
وهو لمن يأتيه جهلاً به
مثل سراب البيد للصاد

وحماد الذي ذكره في النحويين فيما أظن هو حماد بن سلمة لأني لا أعلم في البصريين من ذكر عنه شيء من النحو واسمه حماد إلا حماد بن سلمة. من ذلك ما حدثنا أبو مزاحم موسى بن عبيد الله قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق قال حدثني مسعود بن عمرو قال حدثنا علي بن حميد الذارع قال سمعت حماد بن سلمة يقول: من لحن في حديثي فقد كذب علي. قال أبو مزاحم وحدثنا ابن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عمرو قال حدثني ابن سلام قلت ليونس: أيما أسن أنت أو حماد بن سلمة؟ قال: هو أسن مني ومنه تعلمت العربية. قال: وحدثني مسعود بن عمر وقال حدثني أبو عمر النحوي صالح بن إسحاق الجرمي قال: ما رأيت فقيهاً قط أفصح من عبد الوارث وكان حماد بن سلمة أفصح منه. وذكر نصر بن علي قال كان سيبويه يستملي على حماد فقال حماد يوماً قال رسول الله صلى الله عليه: ما أحد من أصحابي إلا وقد أخذت عليه ليس أبا الدرداء. فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء: فقال حماد: لحنت يا سيبويه. فقال سيبويه لا جرم لأطلبن علماً لا تلحنني فيه أبداً. فطلب النحو ولزم الخليل. ولا أظن اليزيدي عني حماداً الراوية وإن كان مشهوراً برواية الشعر والأخبار لأنه من أهل الكوفة وإنما قصد اليزيدي تفضيل أهل البصرة على أنا لا نعرف لحماد الراوية شيئاً في النحو. قال أبو سعيد ثم وجدت بخط أبي أحمد الجريري عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن محمد بن سلام في ترتيب النحويين من البصريين حماد بن الزبرقان وكان يونس يفضله.

وقال اليزيد في الكسائي وأصحابه.

كنا نقيس النحو فيما مضى
على لسان العرب الأول
فجاءنا قوم يقيسونه
على لغى أشياخ قطربل
فكلهم يعمل في نقص ما
به يصاب الحق لا يأتل
إن الكسائي وأشياعه
يرقون في النحو إلى أسفل

ثم إن اليزيدي رثى الكسائي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي حنيفة وكانا قد خرجا مع الرشيد إلى خراسان فماتا في الطريق فقال:

تضرمت الدنيا فليس خلود
وما قاضي القضاة ترى من بهجة سيبيد
لكل امرئ منا من الموت منهلٌ
وليس له إلا عليه ورود
ألم تر شيئاً شاملاً ينذر البلى
وإن الشباب الغض ليس يعود
سيأتيك ما أفنى القرون التي خلت
فكن مستعداً فالفناء عتيد
أسيت على قاضي القضاة محمد
فأذريت دمعي والفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا
بإيضاحه يوماً وأنت فقيد
وأقلقني موت الكسائي بعده
وكادت بي الأرض الفضاء تميد
فأذهلني عن كل عيش ولذةٍ
وأرق عيني والعيون هجود
هما عالمانا أوديا وتخرما
وما لهما في العالمين نديد
فحزني أن تخطر على القلب خطرةٌ
بذكرهما حتى الممات جديد

وكان أبو محمد اليزيدي الغاية في قراءة أبي عمرو وبروايته يقرأ أصحابه وكان عدلياً معتزلياً فيما يزعم العدلية ويروون أبياتاً يخاطب بها المأمون وهي:

يا أيها الملك الموحد ربه
قاضيك بشر بن الوليد حمار
ينفي شهادة من يدين بما به
نطق الكتاب وجاءت الآثار
ويعد عدلاً من يقول برأيه
شيخٌ تحيط بجمه الأقدار
عند المريسي اليقين بربه
لو لم يشب توحيده إجبار
لكن من جمع المحاسن كلها
كهلٌ يقال لشيخه مردار

هو عيسى بن صبيح وكان يعرف بأبي موسى بن المردار وكان من الزهاد. وأما سيبويه ويكنى أبا بشر واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد. وسيبويه بالفارسية رائحة التفاح وأخذ النحو عن الخليل وهو أستاذه وعن يونس وعيسى بن عمر وغيرهم وأخذ أيضاً اللغات عن أبي الخطاب الأخفش وغيره وعمل كتابه الذي لم يسبقه إلى مثله أحد قبله ولم يلحق به من بعده.

وقال محمد بن يزيد أبو العباس المبرد قال يونس بن حبيب وقد ذكر عنده سيبويه: أظن هذا الغلام يكذب على الخليل. فقيل له: قد روى عنك أشياء فانظر فيها فنظر فقال: صدق في جميع ما قال هو قولي.

ومات سيبويه قبل جماعة قد كان أخذ عنهم كيونس وغيره وقد كان يونس مات في سنة ثلاث وثمانين ومائة. وذكر أبو زيد النحوي اللغوي كالمفتخر بذلك بعد موت سيبويه قال: كل ما قال سيبويه وأخبرني الثقة فأنا أخبرته. ومات أبو زيد بعد سيبويه بنيف وثلاثين سنة ويقال أنه نجم من أصحاب الخليل أربعة عمرو بن عثمان سيبويه والنضر بن شميل وأبو فيد مؤرج العجلي وعلي بن نصر الجهضمي وكان أبرعهم في النحو سيبويه وغلب على النضر بن شميل اللغة وعلى مؤرج العجلي الشعر واللغة وعلى لي بن نصر الحديث. ونجم من أصحاب سيبويه أبو الحسن الأخفش وقطرب وهو أبو علي محمد بن المستنير ويقال أنه إنما سمي قطرباً أن سيبويه كان يخرج فيراه بالأسحار على بابه فيقول: إنما أنت قطرب ليل. والقطرب دويبة تدب.

قال أبو العباس كان الأخفش أكبر سناً من سيبويه وكانا جميعاً يطلبان. قال فجاءه الأخفش يناظره بعد ن برع فقال له الأخفش: إنما ناظرتك لأستفيد لا لغيره. أتراني أشك في هذا. وكان كتاب سيبويه لشهرته وفضله علماً عند النحويين فكان يقال بالبصرة: قرأ فلان الكتاب فيعلم أنه كتاب سيبويه وقرأت نصف الكتاب ولا يشك أنه في كتاب سيبويه. وكان محمد بن يزيد المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: هل ركبت البحر. تعظيماً له واستصعاباً لما فيه. وكان المازني يقول: من أراد أن يعمل كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي.

ومات سيبويه بفارس في أيام الرشيد.

وأما الأخفش فهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة مولى لبني مجاشع بن دارم فهو من مشهري نحويي البصرة وهو أحذق أصحاب سيبويه وهو أسن منه فيما يروى ولقى من لقيه سيبويه من العلماء والطريق إلى كتاب سيبويه الأخفش وذلك أن كتاب سيبويه لا نعلم أحداً قرأه على سيبويه ولا قرأه عليه سيبويه ولكنه لما مات سيبويه قرئ الكتاب على أبي الحسن الأخفش. وكان ممن قرأه أبو عمر الجرمي صالح بن إسحاق وأبو عثمان المازني بكر بن محمد وغيرهما.

وقد حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا سلمة قال حدثني الأخفش قال: جاءنا الكسائي إلى البصرة فسألني أن أقرأ عليه أو أقرئه كتاب سيبويه ففعلت فوجه إلي خمسين ديناراً. وكان أبو العباس ثعلب يفضل الأخفش ويقول: كان أوسع الناس علماً وله كتب كثيرة في النحو والعروض والقوافي. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: مات الأخفش بعد الفراء ومات الفراء سنة سبع ومائتين بعد دخول المأمون العراق بثلاث سنين.

وذكر أبو العباس محمد بن يزيد عن المازني عن الأخفش عن الكسائي قال: فزع أعرابي من الأسد فجعل يلوذ والأسد من وراء عوسجة فجعل يقول: يعسجني بالخوتلة يبصرني لا أحسبه يريد يختلني بالعوسجة يحسبني لا أبصره.

وكان من أهل البصرة جماعة انتهى إليهم علم اللغة والشعر وكانوا نحويين منهم الخليل بن أحمد وأبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي والأصمعي عبد الملك بن قريب وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري فهؤلاء المشاهير في اللغة والشعر ولهم كتب مصنفة. وكان بالبصرة جماعة غيرهم قبلهم وفي عصرهم كأبي الخطاب الأخفش. وكان قبل هؤلاء وفي عصرهم خلف الأحمر وأبو مالك عمرو بن كركرة الأعرابي وأبو فيد مؤرج العجلي وغيرهم. ويقال إن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة وكان الخليل يحفظ نصف اللغة وكان أبو مالك عمرو بن كركرة يحفظ اللغة كلها.


أخبار النحويين البصريين لأبي سعيد السيرافي
المقدمةذكر أخبار أبي زيدذكر أخبار الأصمعيذكر أخبار أبي عبيدةأخبار أبي عمر الجرميأخبار أبي عثمان المازنيأخبار التوزيأخبار الزياديأخبار الرياشيأخبار أبي حاتم السجستانيأخبار أبي العباس محمد بن يزيد الأزدي