إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الصلاة ومهماتها/الباب السادس



الباب السادس

في مسائل متفرقة تعم بها البلوى

ويحتاج المريد إلى معرفتها

فأما المسائل التي تقع نادرة فقد استقصيناها


في كتب الفقه

عدل

مسألة الفعل القليل وإن كان لا يبطل الصلاة فهو مكروه إلا لحاجة وذلك في دفع المار وقتل العقرب التي تخاف ويمكن قتلها بضربة أو ضربتين فإذا صارت ثلاثاً فقد كثرت وبطلت الصلاة، وكذلك القملة والبرغوث مهما تأذى بهما كان له دفعهما، وكذلك حاجته إلى الحك الذي يشوش عليه الخشوع. كان معاذ يأذ القملة والبرغوث في الصلاة. وابن عمر كان يقتل القملة في الصلاة حتى يظهر الدم على يده. وقال النخعي: يأخذها وبوهنها ولا شيء عليه إن قتلها. وقال ابن المسيب: يأخذها ويخدرها ثم يطرحها. وقال مجاهد: الأحب إلى أن يدعها إلا أن تؤذيه فتشغله عن صلاته فيوهنها قدر ما لا تؤذي ثم يلقيها. وهذه رخصة وإلا فالكمال الاحتراز عن الفعل وإن قل. ولذلك كان بعضهم لا يطرد الذباب وقال: لا أعود نفسي ذلك فأفسح على صلاتي. وقد سمعت أن الفساق بين يدي الملوك يصبرون على أذى كثير ولا يتحركون. ومهما تثاءب فلابأس أن يضع يده على فيه وهو الأولى. وإن عطس حمد الله عز وجل في نفسه ولا يحرك لسانه. وإن تجشأ فينبغي أن لا يرفع رأسه إلى السماء وإن سقط رداؤه فلا ينبغي أن يسويه وكذلك أطراف عمامته فكل ذلك مكروه إلا لضرورة.

مسألة الصلاة في النعلين جائزة وإن كان نزع النعلين سهلاً، وليست الرخصة في الخف لعسر النزع بل هذه النجاسة معفو عنها. وفي معناها المداس "صلى رسول الله في نعليه، ثم نزع فنزع الناس نعالهم فقال: لم خلعتم نعالكم? قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا فقال : إن جبرائيل عليه السلام أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا أراد أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض وليصل فيهما" وقال بعضهم: الصلاة في النعلين أفضل لأنه قال "لم خلعتم نعالكم?" وهذه مبالغة فإنه سألهم ليبين لهم سبب خلعه إذ علم أنهم خلعوا على موافقته. وقد روى عبد الله بن السائب "أن النبي خلع نعليه" فإذن قد فعل كليهما فمن خلع فلا ينبغي أن يضعهما عن يمينه ويساره فيضيق الموضع ويقطع الصف بل يضعهما بين يديه ولا يتركهما وراءه فيكون قلبه ملتفتاً إليهما. ولعل من رأى الصلاة فيهما أفضل راعي هذا المعنى وهو التفات القلب إليهما. روى أبو هريرة رضي الله عنه. أن النبي قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل نعليه بين رجليه" وقال أبو هريرة لغيره: اجعلهما بين رجليك ولا تؤذ بهما مسلماً. ووضعهما رسول الله على يساره وكان إماماً فللإمام أن يفعل ذلك إذ لا يقف أحد على يساره. والأولى أن لا يضعهما بين قدميه فتشغلانه ولكن قدام قدميه، ولعله المارد بالحديث. وقد قال جبير بن مطعم. وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة.

مسألة إذا بزق في صلاته لم تبطل صلاته لأنه فعل قليل. وما لا يحصل به صوت لا يعد كلاماً وليس على شكل حروف الكلام إلا أنه مكروه فينبغي أن يحترز منه إلا كما أذن رسول الله فيه إذ روى بعض الصحابة "أن رسول الله رأى في القبلة نخامة فغضب غضباً شديداً ثم حكها بعرجون كان في يده وقال: ائتوني بعبير، فلطخ أثرها بزعفران ثم التفت إلينا وقال: أيكم يحب أن يبزق في وجهه? فقلنا: لا أحد، قال: فإن أحدكم إذا دخل في الصلاة فإن الله عز وجل بينه وبين القبلة" وفي لفظ آخر "واجهه الله تعالى فلا يبزقن أحدكم تلقاء وجهه ولا عن يمينه ولكن عن شماله أو تحت قدمه اليسرى فإن بدرته بادرة فليبصق في ثوبه وليقل به هكذا ودلك بعضه ببعض"

مسألة لوقوف المقتدى: سنة وفرض؛ أما السنة: فأن يقف الواحد عن يمين الإمام متأخراً عنه قليلاً، والمرأة الواحدة تقف خلف الإمام؛ فإن وقفت بجنب الإمام لم يضر ذلك ولكن خالفت السنة. فإن كان معها رجل وقف الرجل عن يمين الإمام وهي خلف الرجل. ولا يقف أحد خلف الصف منفرداً بل يدخل في الصف أو يجر إلى نفسه واحداً من الصف. فإن وقف منفرداً صحت صلاته مع الكراهية. وأما الفرض. فاتصال الصف وهو أن يكون بين المقتدي والإمام رابطة جامعة فإنهما في جماعة فإن كانا في مسجد كفى ذلك جامعاً لأنه بنى له فلا يحتاج إلى اتصال صف بل إلى أن يعرف أفعال الإمام، صلى أبو هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد بصلاة الإمام. وإذا كان الماموم على فناء المسجد في طريق أو صحراء مشتركة وليس بينهما اختلاف بناء مفرق فيكفي القرب بقدر غلوة سهم وكفى بها رابطة إذ يصل فعل أحدهما إلى الآخر. وإنما يشترط إذا وقف في صحن دار على يمين المسجد أو يساره وبابها لاطىء في المسجد فالشرط أن يمد صف المسجد في دهليزها من غير انقطاع إلى الصحن. ثم تصح صلاة من في ذلك الصف ومن خلفه دون من تقدم عليه وهكذا حكم الأبنية المختلفة فأما البناء الواحد والعرصة الواحدة فكالصحراء.

مسألة المسبوق إذا أدرك آخر صلاة الإمام فهو أول صلاته فليوافق الإمام وليبن عليه وليقنت في الصبح في آخر صلاة نفسه. وإن قنت مع الإمام وإن أدرك مع الإمام بعض القيام فلا يشتغل بالدعاء وليبدأ بالفاتحة وليخففها. فإن ركع الإمام قبل تمامها وقدر على لحوقه في اعتداله من الركوع فليتم. فإن عجز وافق الإمام وركع وكان لبعض الفاتحة حكم جميعها فتسقط عنه بالسبق. وإن ركع الإمام وهو في السورة فليقطعها. وإن أدرك الإمام في السجود أو التشهد كبر للإحرام ثم جلس ولم يكبر بخلاف ما إذا أدركه في الركوع فإنه يكبر ثانياً في الهوى لأن ذلك انتقال محسوب له. والتكبيرات للانتقالات الأصلية في الصلاة لا للعوارض بسبب القدوة. ولا يكون مدركاً للركعة ما لم يطمئن راكعاً في الركوع والإمام بعد في حد الراكعين. فإن لم يتم طمأنينته إلا بعد مجاوزة الإمام حد الراكعين فاته تلك الركعة.

مسألة من فاتته صلاة الظهر إلى وقت العصر فليصل الظهر أولاً ثم العصر، فإن ابتدأ بالعصر أجزأه ولكن ترك الأولى واقتح شبهة الخلاف. فإن وجد إماماً فليصل العصر ثم ليصل الظهر بعده فإن الجماعة بالأداء أولى. فإن صلى منفرداً في أول الوقت ثم أدرك جماعة صلى في الجماعة ونوى صلاة الوقت والله يحتسب أيهما شاء. فإن نوى فائتة أو تطوعا جاز. وإن كان قد صلى في الجماعة فأدرك جماعة أخرى فلينو الفائتة أو النافلة فإعادة المؤداة بالجماعة مرة أخرى لا وجه له وإنما احتمل ذلك لدرك فضيلة الجماعة.

مسألة من صلى ثم رأى على ثوبه نجاسة فالأحب قضاء الصلاة ولا يلزمه. ولو رأى النجاسة في أثناء الصلاة رمى بالثوب وأتم والأحب الاستئناف. وأصل هذا قصة خلع النعلين حين أخبر جبرائيل عليه السلام رسول الله بأن عليهما نجاسة فإنه لم يستأنف الصلاة.

مسألة من ترك التشهد الأول أو القنوت أو ترك الصلاة على رسول الله في التشهد الأول أو فعل فعلاً سهواً وكانت تبطل الصلاة بتعمده أو شك فلا يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً: أخذ باليقين وسجد سجدتي السهو قبل السلام. فإن نسي فبعد السلام مهما تذكر على القرب. فإن سجد بعد السلام وبعد أن أحدث بطلت صلاته. فإنه لما دخل في السجود كأنه جعل سلامه نسياناً في غير محله فلا يحصل التحلل به وعاد إلى الصلاة فلذلك يستأنف السلام بعد السجود. فإن تذكر سجود السهو بعد خروجه من المسجد أو بعد طول الفصل فقد فات.

مسألة الوسوسة في نية الصلاة سببها خبل في العقل أو جهل بالشرع لأن امتثال أمر الله عز وجل مثل امتثال أمر غيره وتعظيمه كتعظيم غيره في حق القصد. ومن دخل عليه عالم فقام له فلو قال: نويت أن أنتصب قائماً تعظيماً لدخول زيد الفاضل لأجل فضله مقبلاً عليه بوجهي، كان سفهاً في عقله بل كما يراه ويعلم فضله تنبعث داعية التعظيم فتقيمه ويكون معظماً إلا إذا قام لشغل آخر أو في غفلة. واشتراط كون الصلاة ظهراً أداء فرضاً في كونه امتثالاً كاشتراط كون القيام مقروناً بالدخول مع الإقبال بالوجه على الداخل وانتفاء باعث آخر سواه. وقصد التعظيم به ليكون تعظيماً. فإنه لو قام مدبراً عنه أو صبر فقام بعد ذلك بمدة لم يكن معظماً. ثم هذه الصفات لابد وأن تكون معلومة وأن تكون مقصودة ثم لا يطول حضورها في النفس في لحظة واحدة وإنما يطول نظم الألفاظ الدالة عليها إما تلفظاً باللسان وإما تفكراً بالقلب. فمن لم يفهم نية الصلاة على هذا الوجه فكأنه لم يفهم النية. فليس فيه إلا أنك دعيت إلى أن تصلي في وقت فأجبت وقمت فالوسوسة محض الجهل. فإن هذه القصود وهذه العلوم تجتمع في النفس في حالة واحدة ولا تكون مفصلة الآحاد في الذهن بحيث تطالعها النفس وتتأملها. وفرق بين حضور الشيء في النفس وبين تفصيله بالفكر. والحضور مضاد للعزوب والغفلة، وإن لم يكن مفصلاً. فإن من علم الحادث مثلاً فيعلمه بعلم واحد في حالة واحدة وهذا العلم يتضمن علوماً هي حاضرة وإن لم تكن مفصلة فإن من علم الحادث فقد علم الموجود والمعدوم والتقدم والتأخر والزمان، وأن التقدم للعدم وأن التأخر للوجود، فهذه العلوم منطوية تحت العلم بالحادث، بدليل أن العالم بالحادث إذا لم يعلم غيره لو قيل له هل علمت التقدم فقط أو التأخر أو العدم أو تقدم العدم أو تأخر الوجود أو الزمان المنقسم إلى المتقدم والمتأخر? فقال ما عرفته قط كان كاذباً وكان قوله مناقضاً لقوله: إني أعلم الحادث. ومن الجهل بهذه الدقيقة يثور الوسواس فإن الموسوس يكلف نفسه أن يحضر في قلبه الظهرية والأدائية والفرضية في حالة واحدة مفصلة بألفاظها وهو يطالعها وذلك محال. ولو كلف نفسه ذلك في القيام لأجل العالم لتعذر عليه. فبهذه المعرفة يندفع الوسواس وهو أن امتثال أمر الله سبحانه في النية كامتثال أمر غيره ثم أزيد على سبيل التسهيل والترخيص وأقول. لو لم يفهم الموسوس النية إلا بإحضار هذه امور مفصلة ولم يمثل في نفسه الامتثال دفعة واحدة وأحضر جملة ذلك في أثناء التكبير من أوله إلى آخره بحيث لا يفرغ من التكبير إلا وقد حصلت النية كفاه ذلك. ولا نكلفه أن يقرن الجميع بأول التكبير أو آخره فإن ذلك تكليف شطط. ولو كان مأموراً به لوقع للأولين سؤال عنه ولوسوس واحد من الصحابة في النية، فعدم وقوع ذلك دليل على أن الأمر على التساهل، فكيفما تيسرت النية للموسوس ينبغي أن يقنع به حتى يتعود ذلك وتفارقه الوسوسة، ولا يطالب نفسه بتحقيق ذلك فإن التحقيق يزيد في الوسوسة. وقد ذكرنا في الفتاوي وجوهاً من التحقيق في تحقيق العلوم. والقصود المتعلقة بالنية تفتقر العلماء إلى معرفتها أما العامة فربما ضرها سماعها ويهيج عليها الوسواس فلذلك تركناها.

مسألة ينبغي أن لا يتقدم المأموم على الإمام في الركوع والسجود والرفع منهما ولا في سائر الأعمال ولا ينبغي أن يساويه بل يتبعه ويقفو أثره فهذا معنى الاقتداء، فإن ساواه عمداً لم تبطل صلاته كما لو وقف بجنبه غير متأخر عنه. فإن تقدم عليه ففي بطلان صلاته خلاف، ولا يبعد أن يقضي بالبطلان تشبيهاً بما لو تقدم في الموقف على الإمام؛ بل هذا أولى لأن الجماعة اقتداء في الفعل لا في الموقف فالتبعية في الفعل أهم. وإنما شرط ترك التقدم في الموقف تسهيلاً للمتابعة في الفعل وتحصيلاً لصورة التبعية إذ اللائق بالمقتدى به أن يتقدم فالتقدم عليه في الفعل لا وجه له إلا أن يكون سهواً. ولذلك شدد رسول الله النكير فيه فقال "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" وأما التاخر عنه بركن واحد فلا يبطل الصلاة، وذلك بأن يعتدل الإمام عن ركوعه وهو بعد لم يركع ولكن التأخر إلى هذا الحد مكروه فإن وضع الإمام جبهته على الأرض وهو بعد لم ينته إلى حد الراكعين بطلت صلاته. وكذا إن وضع الإمام جبهته للسجود الثاني وهو بعد لم يسجد السجود الأول.

مسألة حق على من حضر الصلاة إذا رأى من غيره إساءة في صلاته أن يغيره وينكر عليه. وإن صدر من جاهل رفق بالجاهل وعلمه. فمن ذلك الأمر بتسوية الصفوف ومنع المنفرد بالوقوف خارج الصف، والإنكار على من يرفع رأسه قبل الإمام إلى غير ذلك من الأمور. فقد قال "ويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلمه" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من رأى من يسيء صلاته فلم ينهه فهو شريكه في وزرها. وعن بلال بن سعد أنه قال: الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها فإذا أظهرت فلم تغير أضرت بالعامة. وجاء في الحديث "أن بلالاً كان يسوي الصفوف ويضرب عراقيبهم بالدرة" وعن عمر رضي الله عنه قال: تفقدوا إخوانكم في الصلاة فإذا فقدتموهم فإن كانوا مرضى فعودوهم وإن كانوا أصحاء فعاتبوهم. والعتاب إنكار على من ترك الجماعة ولا ينبغي أن يتساهل فيه. وقد كان الأولون يبالغون فيه حتى كان بعضهم يحمل الجنازة إلى بعض من تخلف عن الجماعة إشارة إلى أن الميت هو الذي يتأخر عن الجماعة دون الحي. ومن دخل المسجد ينبغي أن يقصد يمين الصف؛ ولذلك تزاحم الناس عليه في زمن رسول الله حتى قيل له: تعطلت الميسرة فقال "من عمر ميسرة المسجد كان له كفلان من الأجر" ومهما وجد غلاماً في الصف ولم يجد لنفسه مكاناً فله أن يخرجه إلى خلف ويدخل فيه - أعني إذا لم يكن بالغاً - وهذا ما أردنا أن نذكره من المسائل التي تعم بها البلوى. وسيأتي أحكام الصلوات المتفرقة في كتاب الأوراد إن شاء الله تعالى.