إظهار الحق/الفصل الثالث: في إبطال ألوهية المسيح عليه السلام


الفصل الثالث: في إبطال ألوهية المسيح عليه السلام

قد عرفت في الأمر الخامس من المقدمة أن كلام يوحنا مملوء من المجاز قلما تجد فقرة لا تحتاج إلى التأويل وقد عرفت في الأمر السادس أن الإجمال يوجد كثيراً في أقوال المسيح عليه السلام بحيث لم يفهمها معاصروه ولا تلاميذه في كثير من الأحيان ما لم يفسرها بنفسه وقد عرفت في الأمر الثاني عشر أن عيسى عليه السلام ما بين ألوهيته إلى العروج ببيان لا يبقى فيه شبهة ويفهم منه صراحة هذا المعنى، فالأقوال الذي يتمسك بها المسيحيون غالباً مجملة منقولة من إنجيل يوحنا وعلى ثلاثة أقسام

-بعضها لا يدل بحسب معانيها الحقيقية على مقصودهم فاستنباط الألوهية منها مجرد زعمهم، وهذا الاستنباط والزعم ليسا بمعتدّين ولا جائزين في مقابلة البراهين العقلية القطعية والنصوص العيسوية كما عرفت في الفصلين المذكورين،

-وبعضها أقوال يفهم تفسيرها من الأقوال المسيحية الأخرى ومن بعض مواضع الإنجيل ففيها أيضاً لا اعتبار لرأيهم

-وبعضها أقوال يجب تأويلها عندهم أيضاً فإذا وجب التأويل فنقول لا بد أن يكون هذا التأويل بحيث لا يخالف البراهين والنصوص، وأنى لهم ذلك؟! فلا حاجة إلى نقل الكل بل أنقل الأكثر ليتضح منه للناظر حال استدلالهم ويقيس الباقي عليه.

(الأول): من إطلاق لفظ ابن الله على المسيح عليه السلام: أقول هذا الدليل في غاية الضعف بوجهين:

أما أولاً فلأن هذا الإطلاق معارض بإطلاق ابن الإنسان كما عرفت وبإطلاق ابن داود فلا بد من التطبيق بحيث لا يثبت المخالفة للبراهين العقلية ولا يلزم منه محال، وأما ثانياً فلأنه لا يصح أن يكون لفظ الابن بمعناه الحقيقي لأن معناه الحقيقي باتفاق لغة أهل العالم من تولد من نطفة الأبوين وهذا محال ههنا، فلا بد من الحمل على المعنى المجازي المناسب لشأن المسيح وقد علم من الإنجيل أن هذا اللفظ في حقه بمعنى الصالح. الآية التاسعة والثلاثون من الباب الخامس عشر من إنجيل مرقس هكذا: (ولما رأى قائد المائة الواقف مقابله أنه صرح هكذا وأسلم الروح قال حقاً كان هذا الإنسان ابن الله) ونقل لوقا قول القائد في الآية السابعة والأربعين من الباب الثالث والعشرين من إنجيله هكذا: (بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً) ففي إنجيل مرقس لفظ ابن الله وفي إنجيل لوقا بدله لفظ البار واستعمل مثل هذااللفظ في حق الصالح غير المسيح أيضاً، كما استعمل مثل ابن إبليس في حق الصالح في الباب الخامس من إنجيل متى هكذا: (و) (طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون) 44 (وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم باركوا لأعينكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسبونكم) 54 (لكي تكون أبناء أبيكم الذي في السماوات) فأطلق عيسى عليه السلام على صانعي السلام والصلح على العاملين بالأعمال المذكورة لفظ أبناء الله وعلى الله لفظ الأب بالنسبة إليهم. وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا في المكالمة التي وقعت بين اليهود والمسيح هكذا: 41 (أنتم تعملون أعمال أبيكم فقالوا له إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله) 42 (فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني) الخ 44 (أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذب وأبو الكذب) فاليهود ادعوا أن لنا أباً واحداً وهو الله وقال المسيح عليه السلام لا بل أبوكم الشيطان وظاهر أن الله والشيطان ليس أباً لهم بالمعنى الحقيقي فلا بد من الحمل على المعنى المجازي فغرض اليهود نحن صالحون ومطيعون لأمر الله، وغرض المسيح عليه السلام إنكم لستم كذلك بل أنتم صالحون مطيعون للشيطان وفي الباب الثالث من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: 9 (كل من هو مولود من الله لا يفعل خطيئة لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله) 10 (بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس) الخ وفي الآية السابعة من الباب الرابع من الرسالة المذكورة: (وكل من يحب فقد ولد من الله) وفي الباب الخامس من الرسالة المذكورة: (كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً) 2 (بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه) والآية الرابعة عشرة من الباب الثامن من الرسالة الرومية هكذا: (لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله) وفي الباب الثاني من رسالة بولس إلى أهل فيلبس هكذا: 14 (افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة) 15 (لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاد الله بلا عيب) ودلالة هذه الأقوال على ما قلت غير خفية، وإذا لم يفهم من إطلاق لفظ الله ومثله الألوهية كما عرفت في الأمر الرابع من المقدمة فكيف يفهم من لفظ ابن الله ومثله سيما إذا لاحظنا كثرة وقوع المجاز في كتب العهد العتيق والجديد، كما عرفت في المقدمة وسيما إذا لاحظنا أن استعمال الأب والابن في كتب العهدين جاء في المواضع الغير المحصورة وأنقل بعضها بطريق الأنموذج:

-[1] قال لوقا في الباب الثالث من إنجيله في بيان نسب المسيح عليه السلام أنه ابن يوسف وآدم ابن الله وظاهر أن آدم عليه السلام ليس ابناً للّه بالمعنى الحقيقي ولا إلهاً لكن لما ولد بلا أبوين نسبه إلى الله. وللّه در لوقا لقد أجاد ههنا لأنه لما كان المسيح عليه السلام مولوداً بلا أب فقط نسبه إلى يوسف النجار ولما كان آدم عليه السلام مولوداً بلا أبوين نسبه إلى الله.

-[2] في الباب الرابع من سفر الخروج قول الله هكذا: 22 (وتقول له هذا ما يقول الرب ابني بكري إسرائيل) 33 (فقلت له أطلق ابني ليعبدني وإن أبيت أن تطلقه هو ذا أنا سأقتل ابنك بكرك) فأطلق على إسرائيل لفظ ابن الله في الموضعين بل أطلق عليه لفظ الابن البكر.

-[3] في الزبور الثامن والثمانين قول داود عليه السلام في خطاب الله هكذا: 19 (حينئذ كلمت نبيك بالوحي وقلت إني وضعت عوناً على القوي ورفعت منتخباً من شعبي) 20 (وجدت داود عبدي فمسحته بدهن قدسي) 26 (هو يدعونني أنت أبي وإلهي وناصر خلاصي) 27 (وأنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من كل ملوك الأرض) فأطلق على الله لفظ الأب وعلى داود لفظ القوي والمنتخب والمسيح وابن الله البكر وأعلى من كل ملوك الأرض.

-[4] الآية التاسعة من الباب الحادي والثلاثين من كتاب أرساء قول الله هكذا: (إني صرت أباً لإسرائيل وأفرام هو بكري) فأطلق على أفرام لفظ ابن الله البكر فلو كان إطلاق مثل هذه الألفاظ موجباً للألوهية لكان إسرائيل وداود وأفرام أحقاء بالألوهية لأن الابن البكر أحق بالإكرام من غيره بحسب الشرائع السابقة وبحسب الزواج العام أيضاً وإن قالوا جاء في حق عيسى عليه السلام لفظ الابن الوحيد قلنا إن الوحيد لا يمكن أن يكون بمعناه لأن الله أثبت له أخوة كثيرين وقال في حق الثلاثة منهم لفظ الابن البكر بل لا بد أن يكون بالمعنى المجازي مثل الابن.

-[5] في الباب السابع من سفر صموئيل الثاني قول الله تعالى في حق سليمان هكذا: (وأنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً) فلو كان إطلاق هذا اللفظ سبباً للألوهية لكان سليمان عليه السلام أحق من المسيح عليه السلام لسبقه وكونه من آباء المسيح عليه السلام.

-[6] في الآية الأولى من الباب الرابع عشر والآية التاسعة عشرة من الباب الثاني والثلاثين من كتاب الاستثناء، والآية الثانية من الباب الأول والآية الأولى من الباب الثلاثين، والآية الثامنة من الباب الثالث والستين من كتاب أشعيا، والآية العاشرة من الباب الأول من كتاب هوشع، جاء إطلاق أبناء الله على جميع بني إسرائيل.

-[7] في الآية السادسة عشرة من الباب الثالث والستين من كتاب أشعيا، قول أشعيا في خطاب الله هكذا: (فإنك أنت أبونا وإبراهيم لم يعرفنا وإسرائيل جهلنا أنت يا رب أبونا فخلصنا من الدهر اسمك). الآية الثامنة من الباب الرابع والستين من الكتاب المذكور هكذا: (والآن يا رب أنت أبونا) الخ، فصرح أشعيا عليه السلام في حقه وحق غيره من بني إسرائيل: بأن الله أبونا.

-[8] الآية السابعة من الباب الثامن والثلاثين من كتاب أيوب هكذا: (إذا كان تسبح لي نجوم الصبح جميعاً ويفرحون جميع بني الله).

-[9] قد عرفت في صدر الجواب أنه جاء إطلاق أبناء الله على الصالحين وعلى المؤمنين بالمسيح وعلى المحبين وعلى المطيعين لأمر الله، وعلى العاملين بالأعمال الحسنة.

-[10] الآية الخامسة من الزبور السابع والستين هكذا: (أبو اليتامى وحاكم الأرامل الله في موضع قدسه). فأطلق على الله لفظ أبي اليتامى.

-[11] في الباب السادس من سفر الخليقة هكذا 2: (فرأى بنو الله بنات الناس أنهن حسنات، واتخذوا لهم نساء من كل ما اختاروا) 4: (فأما الجبابرة كانوا في تلك الأيام على الأرض لأن من بعد ما دخل أبناء الله على بنات الناس وولدن، فهؤلاء هم أقوياء منذ الدهر مشهورون) والمراد بأبناء الله بنو الأشراف وببنات الناس بنات العامة، ولذا ترجم مترجم الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 م الآية الأولى هكذا: (رأى بنو الأشراف بنات العامة حساناً فاتخذوا لهم نساء) فجاء إطلاق أبناء الله على أبناء الأشراف مطلقاً، وفهم منه صحة إطلاق الله على الشريف أيضاً.

-[12] جاء في المواضع الكثيرة من الإنجيل، إطلاق لفظ أبيكم على الله في خطاب التلاميذ وغيرهم.

-[13] قد يضاف لفظ الابن والأب إلى شيء له مناسبة ما، بمعناها الحقيقي كإطلاق أبي الكذب على الشيطان كما عرفت، وكإطلاق أبناء جهنم وأولاد أورشليم على اليهود في كلام المسيح عليه السلام في الباب الثالث والعشرين من إنجيل متى، وجاء إطلاق أبناء الدهر على أهل الدنيا، وجاء إطلاق أبناء الله وأبناء القيامة على أهل الجنة، في قول المسيح عليه السلام في الباب العشرين من لوقا. وفي الآية الخامسة من الباب الخامس من الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي جاء إطلاق أبناء النور وأبناء النهار على أهل تسالونيقي.

الثاني في الآية الثالثة والعشرين من الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا: (فقال لهم أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق، أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم) يعني أني إله نزلت من السماء وتجسمت.

(أقول): لما كان هذا القول مخالفاً للظاهر لأن عيسى عليه السلام كان من هذا العالم فأولوا بهذا التأويل وهو غير صحيح بوجهين: (الأول): أنه مخالف للبراهين العقلية والنصوص.(والثاني): أن عيسى عليه السلام قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً في الآية التاسعة عشرة من الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، ولكن إنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم). وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا 14: (لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم) [16] (ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم) فقال في حق تلاميذه: إنهم ليسوا من العالم، وسوّى بينه وبينهم في عدم الكون من هذا العالم، فلو كان هذا مستلزماً للألوهية كما زعموا، لزم أن يكونوا كلهم آلهة والعياذ بالله، بل التأويل الصحيح: أنتم طالبو الدنيا الدنية وأنا لست كذلك، بل طالب الآخرة ورضاء الله، وهذا المجاز شائع في الألسنة يقال للزهاد والصلحاء إنهم ليسوا من الدنيا.

الثالث: في الآية الثلاثين من الباب العاشر من إنجيل يوحنا هكذا: (أنا والأب واحد) فهذا يدل على اتحاد المسيح بالله. أقول هذا الاستدلال غير صحيح بوجهين: (الأول): أن المسيح عليه السلام عندهم أيضاً إنسان ذو نفس ناطقة، وليس بمتحد بهذا الاعتبار. فيحتاجون إلى التأويل فيقولون: كما أنه إنسان كامل فكذلك إله كامل، فبالاعتبار الأول مغاير، وبالاعتبار الثاني متحد. وقد عرفت أن هذا التأويل باطل. (والثاني): إن مثل هذا وقع في حق الحواريين في الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا 21: (ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني) 22 (وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد) 33 (أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد). فقوله ليكون الجميع واحداً وقوله [ص 20] ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد. وقوله يكونوا مكملين إلى واحد، تدل على اتحادهم. وسوّى في القول الثاني بين اتحاده بالله وبين اتحاده فيما بينهم. وظاهر أن اتحاده فيما بينهم ليس حقيقياً، فكذا اتحاده بالله، بل الحق أن الاتحادبالله عبارة عن إطاعة أحكامه والعمل بالأعمال الصالحة، وفي نفس هذا الاتحاد المسيح والحواريون وجميع أهل الإيمان متساوية الأقدام، وإنما الفرق باعتبار القوة والضعف، فاتحاد المسيح بهذا المعنى أشد وأقوى من اتحاد غيره. والدليل على كون الاتحاد عبارة عن هذا المعنى قول يوحنا في الباب الأول من رسالته الأولى وهو هكذا 5: (وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه ونخبركم به أن الله نور وليس فيه ظلمة ألبتة 6 إن قلنا إن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق 7 ولكن إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض). والآية السادسة والسابعة في التراجم الفارسية هكذا: 6 (اكر كونييم كه باوى متحديم ودرظلمت رفتا رنماييم در وغكوييم ودر راستي عمل نتماييم). 7 وأكردر رو شنائى رفتا رنماييم جنا نجه أودر روشنائي مى باشد بايكد يكر متحد هستيم) فوقع فيها بدل لفظ الشركة لفظ الاتحاد فعلم أن الاتحاد بالله أو الشركة بالله عبارة عما قلنا.

الرابع: في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 9 (الذي رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت أرنا الأب10 ألست تؤمن أني أنا في الأب والأب فيّ الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الأب الحالّ فيّ هو يعمل الأعمال) فقوله: الذي رآني فقد رأى الأب، وقوله أنا في الأب والأب فيّ، وقوله الأب الحالّ فيّ دالة على اتحاد المسيح بالله، وهذا الاستدلال أيضاً ضعيف بوجهين: (أما الأول): فلأن رؤية الله في الدنيا ممتنعة عندهم كما عرفت في الأمر الرابع من المقدمة فيؤلونها بالمعرفة، ومعرفة المسيح باعتبار الجسمية أيضاً لا تفيد الاتحاد، فيقولون إن المراد بالمعرفة باعتبار الألوهية، والحلول الذي وقع في القول الثاني والثالث واجب التأويل عند جمهور أهل التثليث، فيقولون إن المراد به الاتحاد الباطني.فبعد هذه التأويلات يقولون إنه لما كان إنساناً كاملاً، وإلهاً عاملاً. صح أقواله الثلاثة بالاعتبار الثاني، وقد عرفت مراراً أنه باطل لأن التأويل يجب أن لا يخالف البراهين والنصوص. (وأما الثاني): فلأن الآية العشرين من الباب المذكور هكذا: (في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيّ وأني فيكم) وقد عرفت في جواب الدليل الثالث أن المسيح قال في حق الحواريين: (أنا فيهم وأنت فيّ) وبديهي أن حال الحال، حال في محل الحال. والآية التاسعة عشرة من الباب السادس من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا: (أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم). والآية السادسة عشرة من الباب السادس من الرسالة الثانية إلى قورنيثوس هكذا: (وآية موافقة لهيكل الله مع الأوثان فإنكم أنتم هيكل الله الحي) الخ. والآية السادسة من الباب الرابع من الرسالة إلى أهل أفسس هكذا: (إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم). فلو كان الحلول مشعراً بالاتحاد ومثبتاً للألوهية لزم أن يكون الحواريون بل جميع أهل قورنيثوس وكذا جميع أهل أفسس آلهة بل الحق أن الأدنى إذا كان من اتباع الأعلى كأن يكون رسوله أو عبده أو تلميذه أو قريباً من أقربائه. فالأمر المنسوب إلى الأدنى من التعظيم والتحقير والمحبة وغيرها، ينسب إلى الأعلى مجازاً ولذلك قال المسيح عليه السلام في حق الحواريين: (من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني). كما وقع في الآية الأربعين من الباب العاشر من إنجيل متى وقال في حق الولد الصغير: (من قبل هذا الولد باسمي يقبلني ومن قبلني يقبل الذي أرسلني) كما هو مصرح في الآية في الآية الثامنة والأربعين من الباب التاسع من إنجيل لوقا. وقال في حق السبعين الذين أرسلهم اثنين اثنين إلى البلاد (الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني) كما هو مصرح في الآية السادسة عشرة في الباب العاشر من إنجيل لوقا.. وهكذا وقع في حق أصحاب اليمين وأصحاب الشمال في الباب الخامس والعشرين من إنجيل متى ولذلك قال الله على لسان أرمياء: (أكلني ابتلعني يختنصر ملك بابل جعلني كإناء فارغ ملأ بطنه من رخصتي وطردني) كما هو مصرح في الباب الحادي والخمسين من كتاب أرمياء ومثل هذا وقع في القرآن المجيد أيضاً: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم}. وقال مولانا المعنوي قدس سره في مثنويه:

كرتو خواهي همنشيتي باخدا * رونشين تودر حضور اوليا

فمعرفة المسيح بهذا الاعتبار بمنزلة معرفة الله وأما حلول الغير في الله أو حلول الله فيه، وكذا حلول الغير في المسيح أو حلول المسيح فيه، فعبارة عن إطاعة أمرهما. في الباب الثالث من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا: (من يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه. وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا). وقد يتمسكون على ألوهيته ببعض حالاته فيستدلون تارة أنه ولد بلا أب وهذا الاستدلال ضعيف جداً، لأن العالم حادث بأسره وما مضى على حدوثه إلى هذا الزمان ستة آلاف سنة على زعمهم. وكل مخلوق من السماء والأرض والجماد والنبات والحيوان وآدم، خلق عندهم في أسبوع واحد فجميع الحيوانات مخلوقة بلا أب وأم فكل من هذه يشارك المسيح في كونه مخلوقاً بلا أب، ويفوق عليه في كونه بلا أم، وتتولد أصناف من الحشرات في كل سنة في موسم نزول المطر بلا أب وأم فكيف يكون هذا الأمر سبباً للألوهية. (ولو نظرنا إلى نوع الإنسان فآدم عليه السلام يفوق عليه، وكذلك ملكي صادوق الكاهن الذي هو معاصر إبراهيم عليه السلام). في الآية الثالثة من الباب السابع من الرسالة العبرانية حاله هكذا: (بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداية أيام له ولا نهاية حياة) فيفوق المسيح في كونه بلا أم وفي كونه لا بداية له ويستدلون تارة بمعجزاته، وهذا أيضاً ضعيف لأن من أعظم معجزاته إحياء الموتى مع قطع النظر عن ثبوته، وعن أنه يفهم من هذا الإنجيل المتعارف تكذيبه. أقول إن عيسى عليه السلام بحسب هذا الإنجيل ما أحيا إلى زمان الصلب إلا ثلاثة أشخاص كما عرفت في الباب الأول، وأحيا حزقيال عليه السلام ألوفاً كما هو مصرح في الباب السابع والثلاثين من كتابه، فهو أولى بأن يكون إلهاً، وأحيا إيليا عليه السلام ميتاً كما هو مصرح في الباب السابع عشر من سفر الملوك الأول، وأحيا اليسع عليه السلام أيضاً ميتاً كما هو مصرح في الباب الرابع من سفر الملوك الثاني، وصدرت هذه المعجزة عن اليسع بعد موته، أن ميتاً ألقي في قبره فحيي بإذن الله كما هو مصرح في الباب الثالث عشر من السفر المذكور، وأبرأ الأبرص من برصه، كما هو مصرح في الباب الخامس من السفر المذكور. وقد يتمسكون ببعض آيات كتب العهد العتيق وببعض أقوال الحواريين.

وإني قد نقلت هذه التمسكات مع أجوبتها في كتاب إزالة الأوهام، فمن أراد الاطلاع عليها فليرجع إليه، وتركت ذكرها في هذا الكتاب لأن التمسكات الأولية ضعيفة جداً ومع قطع النظر عن الضعف لا يثبت منها الألوهية على زعمهم أيضاً ما لم يعترف أن المسيح إنسان كامل وإله كامل، وهذا التأويل باطل، كما عرفت مراراً، والتمسكات الثانوية حالها كحال التمسكات بالأحوال المسيحية غالباً فيعامل بها معاملة أقوال المسيح من الحالات الثلاث كما عرفت في صدر هذا الفصل. ولو فرضنا أن بعض القول منهم نص على هذا الأمر، فيحمل على أنه بحسب اجتهادهم. وقد عرفت في الباب الأول أن جميع تحريراتهم ليست بالإلهام، وأنه قد وقع منهم الأغلاط والاختلافات والتناقض يقيناً، وقول مقدسهم بولس غير مسلم عندنا لأنه ليس بحواري ولا واجب التسليم عندنا، بل لا نسلم وثاقته. واعلم أرشك الله تعالى إنما نقلت الأقوال المسيحية وأولتها لأجل إتمام الإلزام وإثبات أن تمسكهم بها ضعيف، وكذا ما قلت من أقوال الحواريين إنما هو على تقدير تسليم أنها أقوالهم، ولا يثبت عندنا أنها أقوال المسيح عليه السلام والحواريين لأجل فقدان إسناد هذه الكتب كما عرفت في الباب الأول، ولأجل وقوع التحريف فيها عموماً وفي هذه المسألة خصوصاً أيضاً كما عرفت في الباب الثاني أن عادتهم في مثل هذه الأمور كانت كذلك وعقيدتي أن المسيح والحواريين كانوا برآء من هذه العقيدة الكفرية يقيناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وأن الحواريين رسل رسول الله.

ووقعت بين الإمام الهمام الفخر الرازي عليه الرحمة وبين بعض القسيسين مناظرة بخوارزم ولما كان نقلها لا يخلو عن فائدة فأنقلها: قال قدس سره في المجلد الثاني من تفسيره في سورة آل عمران تحت تفسير قوله تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} الآية. اتفق أني حين كنت بخوارزم أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم فذهبت إليه وشرعنا في الحديث، فقال لي ما الدليل على نبوة محمد . فقلت له: كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد فإن رددنا التواتر أو قبلناه لكن قلنا إن المعجزة لا تدل على الصدق فحينئذ بطلت نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ثم إنهما حاصلان في حق محمد ، وجب الاعتراف قطعاً بنبوة محمد عليه السلام ضرورة. إذ عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول.. فقال النصراني لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبياً، بل أقول إنه كان إلهاً. فقلت له الكلام في النبوة لا بد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله، وهذا الكلام الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته، يجب ألا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضاً, وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوماً، وقتل بعد أن كان حياً على قولكم، وكان طفلاً أولاً ثم صار مترعرعاً، ثم صار شاباً. وكان يأكل ويشرب وَيُحْدِث وينام ويستيقظ. وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً. والمحتاج لا يكون غنياً والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً. (والوجه الثاني) في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد. فإن كان إلهاً أو كان الإله حالاً فيه أو كان جزء من الإله حالاً فيه فَلِمَ لَمْ يدفعهم عن نفسه ولِمَ لَمْ يهلكهم بالكلية، وأية حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم. وبالله إنني لأتعجب جداً أن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول، ويعتقد صحته. فتكاد أن تكون بداهة العقل شاهدة بفساده. (الوجه الثالث) وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإله بكليته. أو حل بعض الإله وجزأ منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة: أما الأول، فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم فحين قتله اليهود كان ذلك قولاً بأن اليهود قتلوا إله العالم فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله. ثم إن أشد الناس ذلاً ودناءة اليهود فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز. وأما الثاني وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم فهو أيضاً فاسد لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله. وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل وكان الإله محتاجاً إلى غيره. وكل ذلك سخيف. وأما الثالث وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه فذلك أيضاً محال، لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلهاً وإن لم يكن معتبراً في تحقيق الإلهية لم يكن جزءاً من الإله. فثبت فساد هذه الأقسام فكان قول النصارى باطلاً. (الوجه الرابع) في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر من أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة ولو كان إلهاً لاستحال ذلك لأن الإله لا يعبد نفسه. فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم.

ثم قلت للنصراني وما الذي دلك على كونه إلهاً فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى. فقلت له هل تسلم أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا. فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فأقول لما جوزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام فكيف عرفت أن الإله ما حل بدني وبدنك ومن بدن كل حيوان ونبات وجماد. فقال الفرق ظاهر وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا. فقلت له تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام، فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك بل وفي حق الكلب والسنور والفأر، ثم قلت إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسة والركاكة. ثم إن قلب العصا حية أبعد في العقل من إعادة الميت حياً، لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى عليه السلام إلهاً وابناً للإله فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان ذلك أولى وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام والله أعلم. انتهى كلامه بعبارته الشريفة.

إظهار الحق

تمهيد | مقدمة | بيان كتب العهد العتيق والجديد | أسماؤها وتعدادها | لا سند متصل عندهم لكتبهم | كتبهم مملوءة من الاختلافات والأغلاط | بيان الاختلافات | بيان الأغلاط | ادعاء الإلهام | القول في التوراة والإنجيل | إثبات التحريف | إثبات التحريف اللفظي بالتبديل | إثبات التحريف بالزيادة | إثبات التحريف بالنقصان | إثبات النسخ | إبطال التثليث | مقدمة | إبطال التثليث بالبراهين العقلية | إبطال التثليث بأقوال المسيح عليه السلام | إبطال ألوهية المسيح عليه السلام | إثبات أن القرآن الكريم كلام الله | رفع شبهات القسيسين | إثبات صحة الأحاديث النبوية | دفع شبهات القسيسين على الأحاديث | إثبات نبوة محمد | دفع المطاعن | الخاتمة