إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر/31

30
32


فصل

ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم ورهبانهم قد نصبوا حبائل الحيل ليقتنصوا بها عقول العوام ويتوصلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم واستدرار أموالهم وذلك أشهر وأكثر من أن يذكر

فمن ذلك: ما يعتمدونه في العيد الذي يسمونه عيد النور ومحله بيت المقدس فيجتمعون من سائر النواحي في ذلك اليوم ويأتون إلى بيت فيه قنديل معلق لا نار فيه فيتلوا أحبارهم الإنجيل ويرفعون أصواتهم ويبتهلون في الدعاء فبيناهم كذلك وإذا نار قد نزلت من سقف البيت فتقع على ذبالة القنديل فيشرق ويضىء ويشتعل فيضجون ضجة واحدة ويصلبون على وجوههم ويأخذون في البكاء والشهيق

قال أبو بكر الطرطوشي: كنت ببيت المقدس وكان واليها إذ ذاك رجلا يقال له سقمان فلما نما خبر هذا العيد إليه أنفذ إلى بتاركتهم وقال: أنا نازل إليكم في يوم هذا العيد لأكشف عن حقيقة ما تقولون فإن كان حقا ولم يتضح لي وجه الحيلة فيه أقررتكم عليه وعظمته معكم بعلم وإن كان مخرقة على عوامكم أوقعت بكم ما تكرهونه فصعب ذلك عليهم جدا وسألوه أن لا يفعل فأبى ولج فحملوا له مالا عظيما فأخذه وأعرض عنهم

قال الطرطوشي: ثم اجتمعت بأبي محمد بن الأقدم بالإسكندرية فحدثني أنهم يأخذون خيطا دقيقا من نحاس وهو الشريط ويجعلونه في وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التي في القنديل ويدهنونه بدهن اللبان والبيت مظلم بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس وقد عظموا ذلك البيت فلا يمكنون كل أحد من دخوله وفي رأس القبة رجل فإذا قدسوا ودعوا ألقى على ذلك الخيط النحاس شيئا من نار النفط فتجرى النار مع دهن اللبان إلى آخر الخيط النحاس فتلقى الفتيلة فيتعلق بها

فلو نصح أحد منهم نفسه وفتش على نجاته لتتبع هذا القدر وطلب الخيط النحاس وفتش رأس القبة ليرى القبة ليرى الرجل والنفط ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرق الملبس وأنه لو نزل من السماء لظهر من فوق ولم يكن ظهوره من الفتيلة

ومن حيلهم أيضا: أنه قد كان بأرض الروم في زمان المتوكل كنيسة إذا كان يوم عيدها يحج الناس إليها ويجتمعون عند صنم فيها فيشاهدون ثدي ذلك الصنم في ذلك اليوم يخرج منه اللبن وكان يجتمع للسادن في ذلك اليوم مال عظيم فبحث الملك عنها فانكشف له أمرها فوجد القيم قد ثقب من وراء الحائط ثقبا إلى ثدى الصنم وجعل فيها أنبوبة من رصاص وأصلحها بالجبس ليخفى أمرها فإذا كان يوم العيد فتحها وصب فيها اللبن فيجرى إلى الثدي فيقطر منه فيعتقد الجهال أن هذا سر في الصنم وأنه علامة من الله تعالى لقبول قربانهم وتعظيمهم له فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادن ومحو الصور من الكنائس وقال: إن هذه الصور مقام الأصنام فمن سجد للصورة فهو كمن سجد للأصنام

ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله لما فيه من الإعانة على الكفر وتعظيم شعائره فالمساعد على ذلك والمعين عليه شريك للفاعل لكن لما هان عليهم دين الإسلام وكان السحت الذي يأخذونه منهم أحب إليهم من الله تعالى ورسوله أقروهم على ذلك ومكنوهم منه

فصل

والمقصود: أن دين الأمة الصليبية بعد أن بعث الله تعالى محمدا بل قبله بنحو ثلاثمائة سنة مبني على معاندة العقول والشرائع وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم فكل نصراني لا يأخذ بحظه من هذه البلية فليس بنصراني على الحقيقة

أفليس هو الدين الذي أسسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد

فيا عجبا كيف رضى العاقل أن يكون هذا مبلغ عقله ومنتهى علمه أفترى لم يكن في هذه الأمة من يرجع إلى عقله وفطرته ويعلم أن هذا عين المحال وإن ضربوا له الأمثال واستخرجوا له الأشباه فلا يذكرون مثالا ولا شبها إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم كتشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت وامتزاجه به باتحاد النار والحديد وتمثيل غيرهم ذلك باختلاط الماء باللبن وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء واختلاطه بأعضاء البدن إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس التي تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما حتى صارا حقيقة أخرى تعالى الله تعالى عن إفكهم وكذبهم ولم يقنعهم هذا القول في رب السموات والأرض حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه وساقوه بينهم ذليلا مقهورا وهو يحمل خشبته التي صلبوه عليها واليهود يبصقون في وجهه ويضربونه ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات وتركوه مصلوبا حتى التصق شعره بجلده لما يبس دمه بحرارة الشمس ثم دفن وأقام تحت التراب ثلاثة أيام ثم قام بلاهوتيته من قبره

هذا قول جميعهم ليس فيهم من ينكر منه شيئا

فيا للعقول ! كيف كان حال هذا العالم الأعلى والأسفل في هذه الأيام الثلاثة ومن كان يدبر أمر السموات والأرض ومن الذي خلف الرب سبحانه وتعالى في هذه المدة ومن الذي كان يمسك السماء أن تقع على الأرض وهو مدفون في قبره

ويا عجبا ! هل دفنت الكلمة معه بعد أن قتلت وصلبت أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نصرها له كما خذله أبوه وقومه فإن كانت قد فارقته وتجرد منها فليس هو حينئذ المسيح وإنما هو كغيره من آحاد الناس وكيف يصح مفارقتها له بعد أن اتحدت به وما زجت لحمه ودمه وأين ذهب الاتحاد والامتزاج وإن كانت لم تفارقه وقتلت وصلبت ودفنت معه فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله وصلبه ودفنه ويا عجبا ! أي قبر يسع إله السموات والأرض هذا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون

الحمد لله ثم الحمد لله تعالى الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله

يا ذا الجلال والإكرام كما هديتنا للإسلام أسألك أن لا تنزعه عنا حتى تتوفانا على الإسلام

أعُبًّادَ المسيح ِ لنا سؤالٌ ... نريدُ جوابه ممن وعاهُ

إذا مات الإله بصنع قومٍ ... أماتوه . فما هذا الإلهُ ؟

وهل أرضاه ما نالوه منه ؟ ... فبشراهم إذا نالوا رضاه

وإن سَخِط الذي فعلوه فيه ... فقوتهم إذن أوهت قواه

وهل بقي الوجود بلا إلهٍ ... سميع ٍ يستجيب لمن دعاه ؟

وهل خلت الطباق السبع لما ... ثوى تحت التراب ، وقد علاه ؟

وهل خلت العوالم من إلهٍ ... يدبرها ، وقد سُمّرَتْ يداه ؟

وكيف تخلت الأملاك عنه ... بنصرهم ، وقد سمعوا بكاه ؟

وكيف أطاقت الخشبات حمل ... إله الحق شد على قفاه ؟

وكيف دنا الحديد إليه حتى ... يخالطه ، ويلحقه أذاه ؟

وكيف تمكنت أيدي عداه ... وطالت حيث قد صفعوا قفاه ؟

وهل عاد المسيح إلى حياةٍ ... أم المحيي له رب سواه ؟

ويا عجبا لقبرٍ ضم ربا ... وأعجب منه بطن قد حواه

أقام هناك تسعا من شهورٍ ... لدى الظلمات من حيض غذاه

وشق الفرج مولودا صغيرا ... ضعيفا ، فاتحا للثدي فاه

ويأكل ، ثم يشرب ، ثم يأتي ... بلازم ذاكَ ، هل هذا إله ؟

تعالى الله عن إفك النصارى ... سيُسئلُ كلهم عما افتراه

أعُبَّادَ الصليب ِ .. لأي معنى ... يعظم أو يقبح من رماه ؟

وهل تقضي العقول بغير كسرٍ ... وإحراق ٍله ، و لمن بغاه ؟

إذا ركب الإله عليه كرها ... وقد شدت لتسميرٍ يداه

فذاك المركب الملعون حقا ... فَدُسْه لا تَبُسْه إذ تراه

يهان عليه رب الخلق طُرا ... وتعبده ؟ فإنك من عداه

فإن عظمته من أجل أن قد ... حوى رب العباد ، وقد علاه

وقد فقد الصليب ، فإن رأينا ... له شكلا تذكرنا سناه

فهلًّا للقبور سجدت طُرا ... لضم القبر ربك في حشاه ؟

فيا عبد المسيح أفق ، فهذا ... بدايته ، وهذا منتهاه


فصل

فقد بان لكل ذي عقل أن الشيطان تلاعب بهذه الأمة الضالة كل التلاعب ودعاهم فأجابوه واستخفهم فأطاعوه فتلاعب بهم في شأن المعبود سبحانه وتعالى

وتلاعب بهم في أمر المسيح

وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته

وتلاعب بهم في تصوير الصور في الكنائس وعبادتها فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو عن صورة مريم والمسيح وجرجس وبطرس وغيرهم من القديسين عندهم والشهداء وأكثرهم يسجدون للصور ويدعونها من دون الله تعالى حتى لقد كتب بطريق الاسكندرية إلى ملك الروم كتابا يحتج فيه للسجود للصور: بأن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يصور في قبة الزمان صورة الساروس وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب ونصبها داخل الهيكل ثم قال في كتابه: وإنما مثال هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عماله كتابا فيأخذه العامل ويقبله ويضعه على عينيه ويقوم له لا تعظيما للقرطاس والمداد بل تعظيما للملك كذلك السجود للصور تعظيم لاسم ذلك المصور لا للأصباغ والألوان

وبهذا المثال بعينه عبدت الأصنام

وما ذكره هذا المشرك عن موسى وسليمان عليهما السلام لو صح لم يكن فيه دليل على السجود للصور وغايته: أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود: أنه نقش خطيئته في كفه كيلا ينساها فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون: من التذلل والخضوع والسجود بين يدي تلك الصور وإنما المثال المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدام الملك دخل على رجل فوثب الرجل من مجلسه وسجد له وعبده وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك

وكل عاقل يستجهله ويستحمقه في فعله إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغي له أن يخص به الملك دون عبيده: من الإكرام والخضوع والتذلل ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك له وسقوطه من عينه أقرب منه إلى إكرام له ورفع منزلته

كذلك حال من سجد لمخلوق أو لصورة مخلوق لأنه عمد إلى السجود الذي هو غاية ما يتوصل به العبد إلى رضا الرب ولا يصلح إلا له ففعله لصورة عبد من عبيده وسوى بين الله وبين عبده في ذلك وليس وراء هذا في القبح والظلم شيء

ولهذا قال تعالى: إن الشرك لظلم عظيم وقد فطر الله سبحانه عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم والإجلال والخضوع والذل الذي يعامل به الملك فكيف حال من فعل ذلك بأعداء الملك فإن الشيطان عدو الله والمشرك إنما يشرك به لا بولي الله ورسوله بل رسول الله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم معادون لهم أشد الناس مقتا لهم فهم في نفس الأمر إنما أشركوا بأعداء الله وسووا بينهم وبين الله في العبادة والتعظيم والسجود والذل ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلوما بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح والمقصود: ذكر تلاعب الشيطان بهذه الأمة في أصول دينهم وفروعه كتلاعبه بهم في صيامهم فإن أكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح بل هو مختلق مبتدع فمن ذلك: أنهم زادوا جمعة في بدء الصوم الكبير يصومونها لهرقل مخلص بيت المقدس وذلك أن الفرس لما ملكوا بيت المقدس وقتلوا النصارى وهدموا الكنائس أعانهم اليهود على ذلك وكانوا أكثر قتلا وفتكا في النصارى من الفرس

فلما سار هرقل إليه استقبله اليهود بالهدايا وسألوه أن يكتب لهم عهدا ففعل فلما دخل بيت المقدس شكا إليه من فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم

فقال لهم هرقل: وما تريدون مني قالوا: تقتلهم قال: كيف أقتلهم وقد كتبت لهم عهدا بالأمان وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد

فقالوا له: إنك حين أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى وهدم الكنائس وقتلهم قربان إلى الله تعالى ونحن نتحمل عنك هذا الذنب ونكفره عنك ونسأل المسيح أن لا يؤاخذك به ونجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم نصومها لك ونترك فيها أكل اللحم ما دامت النصرانية ونكتب به إلى جميع الآفاق غفرانا لما سألناك

فأجابهم وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الخليل مالا يحصى كثرة

فصيروا أول جمعة من الصوم الذي يترك فيه الملكية أكل اللحم يصومونها لهرقل الملك غفرانا لنقضه العهد وقتل اليهود وكتبوا بذلك إلى الآفاق

وأهل بيت المقدس وأهل مصر يصومونها وبقية أهل الشام والروم يتركون اللحم فيه ويصومون الأربعاء والجمعة

وكذلك لما أرادوا نقل الصوم إلى فصل الربيع المعتدل وتغيير شريعة المسيح زادوا فيه عشرة أيام عوضا وكفارة لنقلهم له ومن ذلك: تلاعبه في أعيادهم: فكلها موضوعة مختلقة محدثة بآرائهم واستحسانهم فمن ذلك: عيد ميكائيل وسببه: أنه كان بالاسكندرية صنم وكان جميع من بمصر والإسكندرية يعيدون له عيدا عظيما ويذبحون له الذبائح فولي بتركة الاسكندرية واحدا منهم فأراد أن يكسره ويبطل الذبائح فامتنعوا عليه فاحتال عليهم وقال إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله تعالى وجعلتم هذه الذبائح له كان يشفع لكم عند الله وكان خيرا لكم من هذا الصنم فأجابوه إلى ذلك فكسر الصنم وصيره صلبانا وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل وسماها قيسارية ثم احترقت الكنيسة وخربت وصيروا العيد والذبائح لميكائيل فنقلهم من كفر إلى كفر ومن شرك إلى شرك

فكانوا في ذلك كمجوسي أسلم فصار رافضيا فدخل الناس عليه يهنئونه فدخل عليه رجل وقال: إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى

ومن ذلك عيد الصليب وهو مما اختلقوه وابتدعوه فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير وكان الذي أظهره زورا وكذبا أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذي صلب عليه إلهم وربهم فانظر إلى هذا السند وهذا الخبر فاتخذوا ذلك الوقت الذي ظهر فيه عيدا وسموه عيد الصليب ولو أنهم فعلوا كما فعل أشباههم من الرافضة حيث اتخذوا وقت قتل الحسين رضي الله عنه مأتما وحزنا لكان أقرب إلى العقول

وكان من حديث الصليب: أنه لما صلب المسيح على زعمهم الكاذب وقتل ودفن رفع من القبر إلى السماء وكان التلاميذ كل يوم يصيرون إلى القبر إلى موضع الصلب ويصلون فقالت اليهود: إن هذا الموضع لا يخفى وسيكون له نبأ وإذا رأى الناس القبر خاليا آمنوا به فطرحوا عليه التراب والزبل حتى صار مزبلة عظيمة فلما كان في أيام قسطنطين الملك جاءت زوجته إلى بيت المقدس تطلب الصليب فجمعت من اليهود والسكان ببيت المقدس وجبل الخليل مائة رجل واختارت منهم عشرة واختارت من العشرة ثلاثة اسم أحدهم يهوذا فسألتهم أن يدلوها على الموضع فامتنعوا وقالوا: لا علم لنا بالموضع فطرحتهم في الحبس في جب لا ماء فيه فأقاموا سبعة أيام لا يطعمون ولا يسقون فقال يهوذا لصاحبيه: إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب فصاح الإثنان فأخرجوهما فخبراها بما قال يهوذا فأمرت بضربه بالسياط فأقر وخرج إلى الموضع الذي فيه المقبرة وكان مزبلة عظيمة فصلى وقال: اللهم إن كان في هذا الموضع فاجعله أن يتزلزل ويخرج منه دخان فتزلزل الموضع وخرج منه دخان فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب فظهرت المقبرة وأصابوا ثلاثة صلبان فقالت الملكة: كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد أيس منه فوضع الصليب الأول عليه ثم الثاني ثم الثالث فقام عند الثالث واستراح من علته فعلمت أنه صليب المسيح فجعلته في غلاف من ذهب وحملته إلى قسطنطين

وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب: ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة

هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصراني في تاريخه

والمقصود: أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة.

وبعد فسند هذه الحكاية من بين يهودي ونصراني مع انقطاعها وظهور الكذب فيها لمن له عقل من وجوه كثيرة ويكفي في كذبها وبيان اختلاقها: أن ذلك الصليب الذي شفي العليل كان أولى أن لا يميت الإله الرب المحيي المميت ومنها: أنه إذا بقي تحت التراب خشب ثلثمائة وثمانية وعشرون سنة فإنه ينخر ويبلى لدون هذه المدة فإن قال عباد الصليب: إنه لما مس جسم المسيح حصل له الثبات والقوه والبقاء قيل لهم: فما بال الصليبين الباقيين لم يتفتتا واشتبها به فلعلهم يقولون: لما مست صليبه مسها البقاء والثبات وجهل القوم وحمقهم أعظم من ذلك والرب سبحانه لما تجلى للجبل تدكدك الجبل وساخ في الأرض ولم يثبت لتجليه فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها في تلك الحال

ولقد صدق القائل: إن هذه الأمة عار على بني آدم أن يكونوا منهم فإن كانت هذه الحكاية صحيحة فما أقربها من حيل اليهود التي تخلصوا بها من الحبس والهلاك وحيل بني آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير ولا سيما لما علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس وأنها تعاقبهم حتى يدلوها على موضع القتل والصلب وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلصوا من عقوبتها

ومنها: أن عباد الصليب يقولون: إن المسيح لما قتل غار دمه ولو وقع منه قطرة على الأرض ليبست ولم تنبت فيا عجبا ! كيف يحيى الميت ويبرأ العليل بالخشبة التي شهر عليها وصلب أهذا كله من بركتها وفرحها به وهو مشدود عليها يبكي ويستغيث

ولقد كان الأليق أن يتفتت الصليب ويضمحل لهيبة من صلب عليه وعظمته ولخسفت الأرض بالحاضرين عند صلبه والمتمالئين عليه بل تتفطر السموات وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا

ثم يقال لعباد الصليب: لا يخلو أن يكون المصلوب الناسوت وحده أو مع اللاهوت فإن كان المصلوب هو الناسوت وحده فقد فارقته الكلمة وبطل اتحادها به وكان المصلوب جسدا من الأجساد ليس بإله ولا فيه شىء من الإلهية والربوبية ألبتة وإن قلتم: إن الصلب وقع على اللاهوت والناسوت معا فقد أقررتم بصلب الإله وقتله وموته وقدرة الخلق على أذاه وهذا أبطل الباطل وأمحل المحال فبطل تعلقكم بالصليب من كل وجه عقلا وشرعا وأما تلاعبه بهم في صلاتهم فمن وجوه أحدها: صلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة والمسيح برىء من هذه الصلاة وسبحان الله أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة فقدره أعلى وشأنه أجل من ذلك ومنها: صلاتهم إلى مشرق الشمس وهم يعلمون أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلا وإنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس

ومنها: تصليبهم على وجوههم عند الدخول في الصلاة والمسيح برىء من ذلك فصلاة مفتاحها النجاسة وتحريمها التصليب على الوجه وقبلتها الشرق وشعارها الشرك كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع ألبتة

ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساقفة: إن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة شدوه بالحيل والصور في الحيطان بالذهب واللازورد والزنجفر وبالأرغل وبالأعياد المحدثة ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة والغلظة والمكر والكذب والبهت وما عليه كثير من المسلمين من الظلم والفواحش والفجور والبدعة والغلو في المخلوق حتى يتخذه إلها من دون الله واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواصالمسلمين وصالحيهم فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم فيه ورؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور والشرك والفواحش

ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا وقالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام ممن يعظمهم الجهال: من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به فالله طليب قطاع طريق الله وحسيبهم فهذه إشارة يسيرة جدا إلى تلاعب الشيطان بعباد الصليب تدل على ما بعدها والله الهادي الموفق

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34