إقامة الدليل على إبطال التحليل/6


السادس: تسميته الأخبار التي أخبر بها الرسول عن ربه أخبارا متشابهة كما يسمون آيات الصفات متشابهة وهذا كما يسمي المعتزلة الأخبار المثبتة للقدر متشابهة، وهذه حال أهل البدع والأهواء الذين يسمون ما وافق آراءهم من الكتاب والسنة محكما وما خالف آراءهم متشابها، وهؤلاء كما قال الله تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } وكما قال تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } وكما قال تعالى: { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون }، السابع: قياسه لما سماه المتشابه في الأخبار على المتشابه في آي الكتاب ليلحقه به في الإعراض عن ذكره وعدم الاشتغال به، وحاشا لله أن يكون في كتاب الله ما أمر المسلمين بالإعراض عنه وعدم التشاغل به، أو أن يكون سلف الأمة وأئمتها أعرضوا عن شيء من كتاب الله لا سيما الآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته، فما منها آية إلا وقد روى الصحابة فيما يوافق معناها ويفسروه عن النبي وتكلموا في ذلك بما لا يحتاج معه إلى مزيد، كقوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه }، فإن المتأخرين، وإن كان فيهم من حرف فقال: قبضته قدرته، وبيمينه بقوته أو بقسمه أو غير ذلك، فقد استفاضت الأحاديث الصحيحة التي رواها خيار الصحابة وعلماؤهم، وخيار التابعين وعلماؤهم بما يوافق ظاهر الآية ويفصل المعنى كحديث أبي هريرة المتفق عليه، وحديث عبد الله بن عمر المتفق عليه، وحديث ابن مسعود في قصة الخبر المتفق عليه، وحديث ابن عباس الذي رواه الترمذي وصححه وغير ذلك، وكذلك أنه خلق آدم بيديه، وغير ذلك من الآيات، الثامن: قوله والدليل عليه أن أئمة السنة وأخيار الأمة بعد صحب النبي لم يودع أحد منهم كتابه الأخبار المتشابهات فلم يورد مالك رضي الله عنه في الموطإ منها شيئا كما أورده الآجري وأمثاله، وكذلك الشافعي وأبو حنيفة وسفيان والليث والثوري، ولم يعتنوا بنقل المشكلات فإن هذا الكلام لا يقوله إلا من كان من أبعد الناس عن معرفة هؤلاء الأئمة، وما نقلوه وصنفوه، وقوله: رجم بالغيب من مكان بعيد فإن نقل هؤلاء الأئمة وأمثالهم لهذه الأحاديث مما يعرفه من له أدنى نصيب من معرفة هؤلاء الأئمة، وهذه الأحاديث عن هؤلاء وأمثالهم أخذت، وهم الذين أدوها إلى الأمة، والكذب في هذا الكلام أظهر من أن يحتاج إلى بيان، لكن قائله لم يتعمد الكذب ولكنه قليل المعرفة بحال هؤلاء وظن أن نقل هذه الأحاديث لا يفعله إلا الجاهل الذين يسميهم المشبهة أو الزنادقة وهؤلاء برآء عنده من ذلك، فتركب من قلة علمه بالحق ومن هذا الظن الناشئ عن الاعتقاد الفاسد هذا الكلام الذي فيه من الفرية والجهل والضلال ما لا يخفى على أدنى الرجال، التاسع: قوله لم يورد مالك في الموطإ منها شيئا، وقد ذكر أحاديث النزول وأحاديث الضحك فيما أنكره ومن المعلوم أن حديث النزول من أشهر الأحاديث في موطإ مالك رواه عن أجل شيوخه ابن شهاب عمن هو من أجل شيوخه أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي عبد الله الأعز عن أبي هريرة أن رسول الله قال: { ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول: من يدعوني فأستجب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له } وقد رواه أهل الصحاح كالبخاري ومسلم من طريق مالك وغيره، وأحاديث النزول متواترة عن النبي رواها أكثر من عشرين نفسا من الصحابة بمحضر بعضهم من بعض والمستمع لها منهم يصدق المحدث بها ويقره، ولم ينكرها منهم أحد، ورواه أئمة التابعين وعامة الذين سماهم من الأئمة، رووا ذلك وأودعوه كتبهم وأنكروا على من أنكره، قال شارح الموطإ الشرح الذي لم يشرح أحد مثله، الإمام أبو عمر بن عبد البر هذا حديث ثابت، فمن جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته، قال: وهو حديث منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي ، وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله في كل مكان وليس على العرش، وبسط الكلام في ذلك، وكذلك أحاديث الضحك متواترة عن النبي وقد رواها الأئمة، وروى مالك في الموطإ منها حديثه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال: { يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل في سبيل الله فيستشهد } وقد أخرجه أهل الصحاح من حديث مالك وغير مالك، ورواه أيضا سفيان الثوري الإمام عن أبي الزناد وحدث به، وقد روى صاحب الصحيحين منها قطعة مثل هذا الحديث ومثل حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الطويل المشهور وفيه: { فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله منه فإذا ضحك الله منه قال له ادخل الجنة } ورواه أعلم التابعين بإجماع المسلمين سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وغير سعيد أيضا، ورواه عنه الزهري وعنه أصحابه، وفي هذا الحديث: { فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقولون نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون } وهذا الحديث في الصحيحين من طريق أخرى عن أبي سعيد من رواية الليث بن سعد إمام المسلمين وغيره الذي زعم أنه لم يكن يروي هذه الأحاديث، وفيه ألفاظ عظيمة أبلغ من الحديث الأول كقوله: { فيرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة }، وقوله فيه: { فيكشف عن ساقه } وقوله: { فيقول الجبار بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار يخرج أقواما قد امتحشوا }، وقد روى مالك أيضا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: { لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي } وقد أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري من طريقه وطريق غيره، وروى البخاري في صحيحه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال: { إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك } رواه سعيد عن مالك، وقد روى مالك في موطئه عن زيد بن أسلم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن { عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } الآية، فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله يسأل عنها فقال رسول الله : إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل ؟ فقال رسول الله : إن الله تبارك وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار }، وهذا الحديث إنما رواه أهل السنن والمسانيد كأبي داود والترمذي والنسائي وقال حديث حسن صحيح، وقد قيل إن إسناده منقطع وإن راويه مجهول، ومع هذا فقد رواه مالك في الموطإ مع أنه أبلغ من غيره لقوله: { ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، .، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية }، ومن العجب أن الآجري يروي في كتاب الشريعة له من طريق مالك والطبيعي والليث وغيرهم، فلو تأمل أبو المعالي وذويه الكتاب الذي أنكروه لوجدوا فيه ما يخصمهم، ولكن أبو المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه كان قليل المعرفة بالآثار النبوية ولعله لم يطالع علاتها بحال حتى يعلم ما فيه، فإنه لم يكن له بالصحيحين البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي وأمثال هذه السنن علم أصلا فكيف بالموطإ ونحوه وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني وأبو الحسن مع إتمام إمامته في الحديث فإنه إنما صنف هذه السنن كي يذكر فيها الأحاديث المستغربة في الفقه ويجمع طرقها، فإنها هي التي يحتاج فيها إلى مثله، فأما الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما فكان يستغني عنها في ذلك فلهذا كان مجرد الاكتفاء بكتابه في هذا الباب يورث جهلا عظيما بأصول الإسلام، واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي، الذي هو نخبة عمره نهاية المطلب في دراية المذهب " ليس فيه حديث واحد معزو إلى صحيح البخاري إلا حديث واحد في البسملة وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره، ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي، فإذا لم يسوغ أصحابه أن يعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه كيف يكون حالهم في غير هذا ؟ وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يتخذ إماما في مسألة واحدة من مسائل الفروع فكيف يتخذ إماما في أصول الدين مع العلم بأنه إنما نيل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه، لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة، وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقل جمعه أو بحث تفطن له فلا يجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه، فكيف بالكلام الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بعد الشرك بالله ذنب أعظم منه ؟، وقد بينا أن ما جعله أصل دينه في الإرشاد والشامل وغيرهما هو بعينه من الكلام الذي نصت عليه الأئمة، ولهذا روى عنه ابن طاهر أنه قال وقت الموت: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يدركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة أمي أو عقائد عجائز نيسابور، قال أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي: حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الطبري الفقيه قال: دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرضه الذي مات فيه بنيسابور، فأقعد، فقال لنا: اشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح عليهم السلام، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور، وعامة المتأخرين من أهل الكلام سلكوا خلفه من تلامذته وتلامذة تلامذته وتلامذة تلامذة تلامذته، ومن بعدهم، ولقلة علمه بالكتاب والسنة وكلام سلف الأمة يظن أن أكثر الحوادث ليست في الكتاب والسنة والإجماع ما يدل عليها وإنما يعلم حكمها بالقياس، كما يذكر ذلك في كتبه، ومن كان له علم بالنصوص ودلالتها على الأحكام علم أن قول أبي محمد بن حزم وأمثاله: إن النصوص تستوعب جميع الحوادث، أقرب إلى الصواب من هذا القول، وإن كان في طريقة هؤلاء من الإعراض عن بعض الأدلة الشرعية ما قد يسمى قياسا جليا، وقد يجعل من دلالة مثل فحوى الخطاب والقياس في معنى الأصل، وغير ذلك، ومثل الجمود على الاستصحاب الضعيف، ومثل الإعراض عن متابعة أئمة من الصحابة ومن بعدهم ما هو معيب عليهم، وكذلك القدح في أعراض الأئمة، لكن الغرض أن قول هؤلاء في استيعاب النصوص للحوادث، وأن الله ورسوله قد بين للناس دينهم هو أقرب إلى العلم والإيمان الذي هو الحق ممن يقول إن الله لم يبين للناس حكم أكثر ما يحدث لهم من الأعمال، بل وكلهم فيها إلى الظنون المتقابلة والآراء المتعارضة، ولا ريب أن سبب هذا كله ضعف العلم بالآثار النبوية والآثار السلفية، وإلا فلو كان لأبي المعالي وأمثاله بذلك علم راسخ، وكانوا قد عضوا عليه بضرس قاطع لكانوا ملحقين بأئمة المسلمين لما كان فيهم من الاستعداد لأسباب الاجتهاد، ولكن اتبع أهل الكلام المحدث والرأي الضعيف للظن وما تهوى الأنفس، الذي ينقض صاحبه إلى حيث جعله الله مستحقا لذلك، وإن كان له من الاجتهاد في تلك الطريقة ما ليس لغيره، فليس الفضل بكثرة الاجتهاد ولكن بالهدى والسداد ; كما جاء في الأثر: { ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا } وقد { قال النبي في الخوارج: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية }، ويوجد لأهل البدع من أهل القبلة لكثير من الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم من الاجتهاد ما لا يوجد لأهل السنة في العلم والعمل، وكذلك لكثير من أهل الكتاب والمشركين، لكن إنما يراد الحسن من ذلك كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال: أخلصه وأصوبه، فقيل له: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وأما الشافعي رضي الله عنه فقد روى الأحاديث التي تتعلق بغرض كتابه مثل حديث النزول، وحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي فيه { قول رسول الله للجارية: أين الله ؟ قالت: في السماء، قال: من أنا ؟ قالت: أنت رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة } وقد رواه مسلم في صحيحه، بل روى في كتابه الكبير الذي اختصر منه مسنده من الحديث ما هو من أبلغ أحاديث الصفات ورواه بإسناد فيه ضعف فقال: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني موسى بن عبيدة حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبيد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول: { أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى النبي فقال النبي : ما هذه ؟ قال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النبي : يا جبريل وما يوم المزيد ؟ قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله عز وجل ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد للنبيين وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ويجلس من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله عز وجل لهم أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فاسألوني أعطكم فيقولون ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من خير، وهو اليوم الذي استوى ربكم على العرش فيه، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة }، وأما ما رواه الثوري والليث بن سعد وابن جريج والأوزاعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة ونحوهم من هذه الأحاديث فلا يحصيه إلا الله، بل هؤلاء مدار هذه الأحاديث من جهتهم أخذت، وحماد بن سلمة الذي قال إن مالكا احتذى موطأه على كتابه هو قد جمع أحاديث الصفات لما أظهرت الجهمية إنكارها حتى إن حديث خلق آدم على صورته أو صورة الرحمن قد رواه هؤلاء الأئمة رواه الليث بن سعد عن ابن عجلان، ورواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد، ومن طريقه رواه مسلم في صحيحه ورواه الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن النبي مرسلا، ولفظه: { خلق آدم على صورة الرحمن } مع أن الأعمش رواه مسندا، فإذا كان الأئمة يروون مثل هذا الحديث وأمثاله مرسلا فكيف يقال إنهم كانوا يمتنعون عن روايتها، والحديث هو في الصحيحين من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة، وفي صحيح مسلم من حديث قتادة عن أبي أيوب عن أبي هريرة، وقد روي عن ابن القاسم قال: سألت مالكا عن من يحدث الحديث { إن الله خلق آدم على صورته }، والحديث { إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة } { وأنه يدخل في النار يده حتى يخرج من أراد }، فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث به أحد، قلت: هذان الحديثان كان الليث بن سعد يحدث بهما، فالأول حديث الصورة حدث به عن ابن عجلان، والثاني هو في حديث أبي سعيد الخدري الطويل، وهذا الحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث، والأول قد أخرجاه في الصحيحين من حديث غيره، وابن القاسم إنما سأل مالكا لأجل تحديث الليث بذلك، فيقال: إما أن يكون ما قاله مالك مخالفا لما فعله الليث ونحوه أو ليس بمخالف بل يكره أن يتحدث بذلك أن يفتنه ذلك ولا يحمله عقله كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقد كان مالك يترك رواية أحاديث كثيرة لكونه لا يأخذ بها ولم يتركها غيره فله في ذلك مذهب، فغاية ما يعتذر لمالك أن يقال إنه كره التحدث بذلك مطلقا فهذا مردود على من قاله فقد حدث بهذه الأحاديث من هم أجل من مالك عند نفسه وعند المسلمين كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن عباس وعطاء بن أبي رباح، وقد حدث بها نظراؤه كسفيان الثوري والليث بن سعد وابن عيينة، والثوري أعلم من مالك بالحديث وأحفظه له، وهو أقل غلطا فيه من مالك، وإن كان مالك ينقي من يحدث عنه، وأما الليث فقد قال فيه الشافعي: كان أفقه من مالك إلا أن أصحابه ضيعوه، ففي الجملة: هذا كلام في حديث مخصوص، أما أن يقال إن الأئمة أعرضوا عن هذه الأحاديث مطلقا فهذا بهتان عظيم، العاشر: إن هؤلاء الذين سماهم وسائر أئمة الإسلام كانوا كلهم مثبتين لموجب الآيات والأحاديث الواردة في الصفات مطبقين على ذم الكلام الذي بنى عليه أبو المعالي أصول دينه، وزعم أنه أول ما أوجبه الله على العبد بعد البلوغ وهو ما استدل به على حدوث الأجسام بقيام الأعراض بها حتى إن شيخه أبا الحسن الأشعري ذكر اتفاق الأنبياء وأتباعهم وسلف هذه الأمة على تحريم هذه الطريقة التي ذكر أبو المعالي أنها أصل الإيمان وبها وبنحوها عارض هذه الأحاديث، وقد كتبنا كلام الأشعري وغيره في ذلك في كتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية "، لما استدل الرازي بالحركة على حدوث ما قامت به في إثبات حجته الدالة على نفي التحيز عندهم، ولكن علمه بحالهم كعلمه بمذهبه في آيات الصفات وأحاديث الصفات، حيث اعتقد أن مذهبهم إمرار حروفها مع نفي دلالتها على ما دلت عليه من الصفات، فهذا الضلال في معرفة رأيهم، كذلك الضلال في معرفة روايتهم وقولهم في شيئين: في الكلام الذي كان ينتحله، وفي النصوص الواردة عن الرسول فقد حرفوا مذهب الأئمة في هذه الأصول الثلاثة كما حرفوا نصوص الكتاب والسنة، الحادي عشر: إن الذي أوجب لهم جمع هذه الأحاديث وتبويبها ما أحدثت الجهمية من التكذيب بموجبها وتعطيل صفات الرب المستلزمة لتعطيل ذاته وتكذيب رسوله والسابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، وما صنفوه في ذلك من الكتب وبوبوه أبوابا

مبتدعة يردون بها ما أنزله الله على رسوله ويخالفون بها صرائح المعقول وصحائح المنقول، وقد أوجب الله تعالى تبليغ ما بعث به رسله وأمر ببيان العلم، وذلك يكون بالمخاطبة تارة وبالمكاتبة أخرى، لماذا كان المبتدعون قد وضعوا الإلحاد في كتب فإن لم يكتب العلم الذي بعث الله به رسوله في كتب لم يظهر إلحاد ذلك ولم يحصل تمام البيان والتبليغ ولم يعلم كثير من الناس ما بعث الله به رسوله من العلم والإيمان المخالف لأقوال الملحدين المحرفين وكان جمع ما ذكره النبي وأخبر به عن ربه أهم من جمع غيره، الثاني عشر: إن أبا المعالي وأمثاله يضعون كتب الكلام الذي تلقوا أصوله عن المعتزلة والمتفلسفة ويبوبون أبوابا ما أنزل الله بها من سلطان ويتكلمون فيها بما يخالف الشرع والعقل فكيف ينكرون على من يصنف ويؤلف ما قاله رسول الله وأصحابه والتابعون لهم بإحسان ؟ والأصول التي يقررها هي أصول جهم بن صفوان في الصفات والقدر والإرجاء، وقد ظهر ذلك في أتباعه كالمدعي المغربي في مرشدته وغيره، فإن هؤلاء في القدر يقولون بقول جهم أي يميلون إلى الجبر، وفي الإرجاء بقول جهم أيضا لأن الإيمان هو المعرفة، وأما في الصفات فهم يخالفون جهما والمعتزلة، فهم يثبتون الصفات في الجملة، لكن جهم والمعتزلة حقيقة قولهم نفي الذات والصفات وإن لم يقصدوا ذلك ولم يعتقدوه، وهؤلاء حقيقة قولهم إثبات صفات بلا ذات وإن لم يعتقدوا ذلك ويقصدوه، ولهذا هم متناقضون لكن هم خير من المعتزلة ولهذا إذا حقق قولهم لأهل الفطر السليمة يقول أحدهم فيكون الله شبحا وشبحه خيال الجسم مثل ما يكون من ظله على الأرض، وذلك هو عرض فيعلمون أن من وصف الرب بهذه الأسلوب مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه، ونحوه، فلا يكون الله على قوله شيئا قائما بنفسه موجودا بل يكون كالخيال الذي يشبحه الذهن من غير أن يكون ذلك الخيال قائما بنفسه، ولا ريب أن هذا حقيقة قول هؤلاء الذين يزعمون أنهم ينزهون الرب بنفي الجسم وما يتبع ذلك، ثم إنهم مع هذا النفي إذا نفوا الجسم وملازيمه، وقالوا لا داخل العالم ولا خارجه فيعلم أهل العقول أنهم لم يثبتوا شيئا قائما بنفسه موجودا، بل يقال هذا الذي أثبتموه شبح أي خيال كالخيال الذي هو ظل الأشخاص، وكالخيال الذي في المرآة والماء، ثم من المعلوم أن هذا الخيال والمثال والشبح يستلزم حقيقة موجودة قائمة بالنفس فإن خيال الشخص يستلزم وجوده، وكذلك قول هؤلاء، فإنهم يقرون بوجود مدبر خالق للعالم موصوف بأنه عليم قدير، ويصفونه من السلب بما يوجب أن يكون خيالا فيكون قولهم مستلزما لوجوده ولعدمه معا فإذا تكلموا بالسلب لم يبق إلا الخيال، ويصفون ذلك الخيال بالثبوت فيكون الخيال يستلزم ثبوت الموجود القائم بنفسه، الثالث عشر: إن معرفة أبي المعالي وذويه بحال هؤلاء الأئمة الذين اتفقت الأمة على إمامتهم لا يكون أعظم عن معرفتهم بالصحابة والتابعين، بنصوص رسول الله ، وقد رأيت أبا المعالي في ضمن كلامه يذكر ما ظاهره الاعتذار عن الصحابة وباطنه جهل بحالهم مستلزم إذا اطرد الزندقة والنفاق، فإنه أخذ يعتذر عن كون الصحابة لم يمهدوا أصول الدين ولم يقرروا قواعده فقال لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد والقتال عن ذلك، هذا مما في كلامه، وهذا إنما قالوه لأن هذه الأصول والقواعد التي يزعمون أنها أصول الدين قد علموا أن الصحابة لم يقولوها وهم يظنون أنها أصول صحيحة وأن الدين لا يتم إلا بها، وللصحابة رضي الله عنهم أيضا من العظمة في القلوب ما لم يمكنهم دفعه حتى يصيروا بمنزلة الرافضة القادحين في الصحابة، ولكن أخذوا من الرفض شعبة كما أخذوا من التجهم شعبة، وذلك دون ما أخذته المعتزلة من الرفض والتجهم حين غلب على الرافضة التجهم وانتقلت عن التجسيم إلى التعطيل والتجهم إذ كان هؤلاء نسجوا على منوال المعتزلة لكن كانوا أصلح منهم وأقرب إلى السنة وأهل الإثبات في أصول الكلام، ولهذا كان المغاربة الذين اتبعوا ابن التومرت المتبع لأبي المعالي أمثل وأقرب إلى الإسلام من المغاربة الذين اتبعوا القرامطة وغلوا في الرفض والتجهم حتى انسلخوا من الإسلام فظنوا أن هذه الأصول التي وضعوها هي أصول الدين الذي لا يتم الدين إلا بها، وجعلوا الصحابة حين تركوا أصول الدين كانوا مشغولين عنه بالجهاد، وهم في ذلك بمنزلة كثير من جندهم ومقاتلتهم الذين قد وضعوا قواعد وسياسة للملك والقتال فيها الحق والباطل ولم نجد تلك السيرة تشبه سيرة الصحابة ولم يمكنهم القدح فيهم فأخذوا يقولون كانوا مشتغلين بالعلم والعبادة عن هذه السيرة وأبهة الملك الذي وضعناه، وكل هذا قول من هو جاهل بسيرة الصحابة، وعلمهم، ودينهم، وقتالهم، وإن كان لا يعرف حقيقة أحوالهم فلينظر إلى آثارهم، فإن الأثر يدل على المؤثر، هل انتشر عن أحد من المنتسبين إلى القبلة أو عن أحد من الأمم المتقدمين والمتأخرين من العلم والدين ما انتشر وظهر عنهم ؟ أم هل فتحت أمة البلاد وقهرت العباد، كما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن كانت علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقا باطنا وظاهرا، وكانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله وفعلهم لأمر الله، فمن حاد عن سبيلهم لم ير ما فعلوه فيزين له سوء عمله حتى يراه حسنا ويظن أنه حصل له من العلوم النافقة والأعمال الصالحة ما قصروا عنه، وهذه حال أهل البدع، ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته التي رواها عبدوس مالك العطار: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله وقد ثبت عن النبي من غير وجه أنه قال: { خير القرون القرن الذي بعث فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } والأدلة الدالة على تفضيل القرن الأول، ثم الثاني أكثر من أن تذكر، ومعلوم أن أم الفضائل العلم والدين والجهاد، فمن ادعى أنه حقق من العلم بأصول

الدين أو من الجهاد ما لم يحققوه، كان من أجهل الناس وأضلهم، وهو بمنزلة من يدعي من أهل الزهد والعبادة والنسك أنهم حققوا من العبادات والمعارف والمقامات والأحوال ما لم يحققه الصحابة، وقد يبلغ الغلو بهذه الطوائف إلى أن يفضلوا نفوسهم وطرقهم على الأنبياء وطرقهم ونجدهم عند التحقيق من أجهل الناس وأضلهم وأفسقهم وأعجزهم، الوجه الرابع عشر: أن يقال له هؤلاء الذين سميتهم أهل الحق وجعلتهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة هم متناقضون في الشرعيات والعقليات، أما الشرعيات فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة، وتارة يبطلون التأويل فإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقا ردوا عليهم وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات، وإذا ناظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة كالمحبة والرضاء والغضب والمقت والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول، بل منهم ما يحيل على العقل، ومنه ما يحيل على الكشف ; فأكثر متكلميهم يقولون ما علم ثبوته بالعقل لا يتأول وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، ومنهم من يقول: ما علم ثبوته بالكشف والنور الإلهي لا يتأول وما لم يعلم ثبوته بذلك يتأول وكلا الطريقين ضلال وخطأ من وجوه: أحدها: أن يقال عدم الدليل ليس دليل العدم فإن عدم العلم بالشيء يعقل أو كشف يقتضي أن يكون معدوما فمن أين لكم ما دلت عليه النصوص أو الظواهر ولم تعلموا انتفاءه أنه منتف في نفس الأمر ؟ الوجه الثاني: إن هذا في الحقيقة عزل للرسول واستغناء عنه وجعله بمنزلة شيخ من شيوخ المتكلمين أو الصوفية، فإن المتكلم مع المتكلم والمتصوف مع المتصوف يوافقه فيما علمه بنظره أو كشفه دون ما لم يعلمه بنظره أو كشفه، بل ما ذكروه فيه تنقيص للرسول عن درجة المتكلم والمتصوف فإن المتكلم والمتصوف إذا قال نظيره شيئا ولم يعلم ثبوته ولا انتفاءه لا نثبته ولا ننفيه، وهؤلاء ينفون معاني النصوص ويتأولونها وإن لم يعلموا انتفاء مقتضاها، ومعلوم أن من جعل الرسول بمنزلة واحد من هؤلاء كان في قوله من الإلحاد والزندقة ما الله به عليم، فكيف بمن جعله في الحقيقة دون هؤلاء ؟ وإن كانوا هم لا يعلمون أن هذا لازم قولهم فنحن ذكرنا أنه لازم لهم لنبين فساد الأصول التي لهم، وإلا فنحن نعلم أن من كان منهم ومن غيرهم مؤمنا بالله ورسوله لا ينزل الرسول هذه المنزلة، الوجه الثالث: أن يقال ما نفيتموه من الصفات وتأولتموه من يقال في ثبوته من العقل والكشف نظير ما قلتموه فيما أثبتموه وزيادة وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع وبينت أن الأدلة الدالة سمعا وعقلا على ثبوت رحمته ومحبته ورضاه وغضبه ليست بأضعف من الأدلة على إرادته، بل لعلها أقوى منها فمن تأول نصوص المحبة والرضا والرحمة وأقر نصوص الإرادة كان متناقضا، الوجه الرابع: إن ما ذكرتموه هو نظير قول المتفلسفة والمعتزلة فإنهم يقولون تأولنا ما تأولناه لدلالة أدلة العقول على نفي مقتضاه وكل ما يجيبونهم به يجيبكم أهل الإثبات من أهل الحديث والسنة به، الوجه الخامس: إن أهل الإثبات لهم من العقل الصريح والكشف الصحيح ما يوافق ما جاء به النصوص، فهم مع موافقة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة يعارضون بعقلهم عقل النفاة وبكشفهم كشف النفاة لكن عقلهم وكشفهم هو الصحيح، ولهذا تجدهم ثابتين فيه وهم في مزيد علم وهدى كما قال تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وأولئك تجدهم في مزيد حيرة وضلال، وآخر أمرهم ينتهي إلى الحيرة ويعظمون الحيرة، فإن آخر معقولهم الذي جعلوه ميزانا يزنون به الكتاب والسنة يوجب الحيرة حتى يجعلوا الرب موجودا معدوما، ثابتا منفيا، فيصفونه بصفة الإثبات وبصفة العدم، والتحقيق عندهم جانب النفي، بأنهم يصفونه بصفات المعدوم والموات، وآخر كشفهم وذوقهم وشهودهم الحيرة، وهؤلاء لا بد لهم من إثبات فيجعلونه حالا في المخلوقات، أو يجعلون وجوده وجود المخلوقات، فآخر نظر الجهمية وعقلهم أنهم لا يعبدون شيئا، وآخر كشفهم وعقلهم أنهم يعبدون كل شيء، وأضل البشر من جعل مثل هذا الكشف ميزانا يزن به الكتاب والسنة أما أهل العقل الصريح والكشف الصحيح فهم أئمة العلم والدين من مشايخ الفقه والعبادة الذين لهم من الأمة لسان صدق وكل من له في الأمة لسان صدق عام من أئمة العلم والدين المنسوبين إلى الفقه والتصوف فإنهم على الإثبات لا على النفي، وكلامهم في ذلك كثير قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وأما تناقضهم في العقليات فلا يحصى مثل قولهم: إن الباري لا تقوم به الأعراض ولكن تقوم به الصفات، والصفات والأعراض في المخلوق سواء عندهم فالحياة والعلم والقدرة والإرادة والحركة والسكون في المخلوق وهو عندهم عرض، ثم قالوا في الحياة ونحوها: هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين والصفة القديمة باقية، ومعلوم أن قوله العرض ما لا يبقى زمانين هو فرق بدعوى وتحكم، فإن الصفات في المخلوق لا تبقى أيضا زمانين عندهم فتسمية الشيء صفة أو عرضا لا يوجب الفرق، لكنهم ادعوا أن صفة المخلوق لا تبقى زمانين وصفة الخالق تبقى فيمكنهم أن يقولوا العرض القائم بالمخلوق لا يبقى والقائم بالخالق باق، هذا إن صح فقولهم إن الصفات التي هي الأعراض لا تبقى فأكثر العقلاء يخالفونهم في ذلك، وذلك قولهم: إن الله يرى كما ترى الشمس والقمر من غير مواجهة ولا معاينة وأن كل موجود يرى حتى الطعم واللون، وأن المعنى الواحد القائم بذات المتكلم يكون أمرا بكل ما أمر به ونهيا عن كل ما نهى عنه وخبرا بكل ما أخبر به وذلك المعنى إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل، وأن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له،

وأن هذا المعنى يسمع بالأذن على قول بعضهم إن السمع عنده متعلق بكل موجود، وعلى قول بعضهم إنه لا يسمع بالأذن لكن بلطيفة جعلت في قلبه فجعلوا السمع من جنس الإلهام، ولم يفرقوا بين الإيحاء إلى غير موسى وبين تكليم موسى، ومثل قولهم: إن القديم لا يجوز عليه الحركة والسكون ونحو ذلك لأن هذه لا تقوم إلا بتحيز، وقالوا: إن القدرة والحياة ونحوهما يقوم بقديم غير متحيز، وجمهور العقلاء يقولون إن هذا فرق بين المتماثلين، وكذلك زعمهم أن قيام الأعراض التي هي الصفات بالمحل الذي تقوم به يدل على حدوثها، ثم قالوا: إن الصفات قائمة بالرب ولا تدل على حدوثه وكذلك في احتجاجهم على المعتزلة في مسألة القرآن فإن عمدتهم فيها أنه لو كان، مخلوقا لم يخل إما أن يخلقه في نفسه أو في غيره أو لا في نفسه ولا في غيره، وهذا باطل لأنه يستلزم قيام الصفة بنفسها والأول باطل لأنه ليس بمحل الحوادث، والثاني باطل لأنه لو خلقه في محل لعاد حكمه على ذلك المحل فكان يكون هو المتكلم به، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يعد على غيره كالعلم والقدرة والحياة، وهذا من أحسن ما يذكرونه من الكلام لكنهم نقضوه حيث منعوا أن تقوم به الأفعال مع اتصافه بها فيوصف بأنه خالق وعادل ولم يقم به خلق ولا عدل، ثم كان من قولهم الذي أنكره الناس، إخراج الحروف عن مسمى الكلام، وجعل دلالة لفظ الكلام عليها مجاز، فأحب أبو المعالي ومن اتبعه كالرازي أن يخلصوا من هذه الشناعة، فقالوا: اسم الكلام يقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس، وعلى الحروف الدالة عليه وهذا الذي قالوه أفسدوا به أصل دليلهم على المعتزلة، فإنه إذا صح أن ما قام بغير الله يكون كلاما له حقيقة بطلت حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الكلام إذا قام بمحل عاد حكمه عليه، وجاز حينئذ أن يقال إن الكلام مخلوق، خلقه في غيره وهو كلامه حقيقة ولزمهم من الشناعة ما لزم المعتزلة حيث ألزمهم السلف والأئمة أن تكون الشجرة هي القائلة لموسى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } مع أن أدلتهم في مسألة امتناع حلول الحوادث لما تبين للرازي ونحوه ضعفها لم يمكنه أن يعتمد في مسألة الكلام على هذا الأصل، بل احتج بحجة سمعية هي من أضعف الحجج، حيث أثبت الكلام النفساني بالطريقة المشهورة، ثم قال: وإذا ثبت ذلك ثبت أنه واحد، وأنه قديم، لأن كل من قال ذلك قال هذا، ولم يفرق أحد، هكذا قرره في نهاية العقول، ومعلوم أن الدليل لا يصلح لإثبات مسألة فرعية عند محققي الفقهاء، وقد بينا تناقضهم في هذه المسألة بقريب من مائة وجه عقلي في هذا الكتاب، وكان بعض الفقهاء وقد قال للفقيه أبي محمد بن عبد السلام في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار ؟ فقال له أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري، وأيضا فهم في مسألة القدر يسوون بين الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك، ويتأولون قوله تعالى: { ولا يرضى لعباده الكفر } أي بمعنى لا يريده لهم، وعندهم أنه رضيه وأحبه لمن وقع منه، وكل ما وقع في الوجود من كفر وفسوق وعصيان فالله يرضاه ويحبه، وكل ما لم يقع من طاعة وبر وإيمان فإن الله لا يحبه ولا يرضاه، ثم إنهم إذا تكلموا مع سائر العلماء في أصول الفقه بينوا أن المستحب هو ما يحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر استحباب، سواء قدره أو لم يقدره وهذا باب يطول وصفه، الوجه الخامس عشر: أن يقال إن هذه القواعد التي جعلتموها أصول دينكم وظننتم أنكم بها صرتم مؤمنين بالله ورسوله وباليوم الآخر، وزعمتم أنكم تقدمتم بها على سلف الأمة وأئمتها، وبها دفعتم أهل الإلحاد من المتفلسفة والمعتزلة ونحوه هي عند التحقيق تهدم أصول دينكم وتسلط عليكم عدوكم، وتوجب تكذيب نبيكم، والطعن في خير قرون هذه الأمة، وهذا أيضا فيما فعلتموه في الشرعيات والعقليات، أما الشرعيات فإنكم لما تأولتم ما تأولتم من نصوص الصفات الإلهية، تأولت المعتزلة ما قررتموه أنتم، واحتجوا بمثل حجتكم، ثم زادت الفلاسفة وتأولوا ما جاءت به النصوص الإلهية في الإيمان باليوم الآخر، وقالت المتفلسفة مثل ما قلتم لإخوانكم المؤمنين، ولم يكن لكم حجة على المتفلسفة، فإنكم إذا احتججتم بالنصوص تأولوها، ولهذا كان غايتكم في مناظرة هؤلاء أن تقولوا: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر بمعاد الأبدان، وأخبر بالفرائض الظاهرة كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، ونحو ذلك لجميع البرية، والأمور الضرورية لا يمكن القدح فيها، فإن قال لكم المتفلسفة: هذا غير معلوم بالضرورة كان جوابكم أن تقولوا: هذا جهل منكم، أو تقولوا: إن العلوم الضرورية لا يمكن دفعها عن النفس، ونحن نجد العلم بهذا أمرا ضروريا في أنفسنا، وهذا كلام صحيح منكم، لكن في هذا نقول لكم المثبتة أهل العلم بالقرآن وتفسيره المنقول عن السلف والأئمة، وبالأحاديث الثابتة عن النبي والصحابة والتابعين، نحن نعلم بالاضطرار أنها أثبت الصفات، وأن الله فوق العالم، والعلم بهذا ضروري عندهم كما ذكرتم أنتم في معاد الأبدان والشرائع الظاهرة، بل لعل العلم بهذا أعظم من العلم ببعض ما تنازعكم فيه المعتزلة والفلاسفة من أمور المعاد كالصراط والميزان والحوض والشفاعة، ومسألة منكر ونكير، وأيضا فالعلم بعلو الله على عرشه ونحو ذلك يعلم بضرورية عقلية وأدلة عقلية يقينية لا يعلم بمثلها معاد الأبدان، فالعلوم الضرورية والأدلة السمعية والعقلية على ما نفيتموه من علو الله على خلقه ومباينته لهم ونحو ذلك أكمل وأقوى من العلوم الضرورية والأدلة السمعية العقلية على كثير مما خالفكم فيه المعتزلة، بل والفلاسفة ولهذا يوجد عن كثير من السلف موافقة المعتزلة في بعض ما خالفتموهم فيه كما يوجد عن بعض السلف إنكار سماع الذي في القبر للأصوات، وعن بعض السلف إنكار المعراج

بالبدن، وأمثال ذلك، ولا يوجد عن واحد منهم موافقتكم على أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق العالم، بل ولا على ما نفيتموه من الجسم وملازمه، وكذلك المعتزلة وإن كانوا ضالين في مسألة إنكار الرؤية فمعهم فيها من الظواهر التي تأولوها والمقاييس التي اعتمدوا عليها أعظم مما معكم في إنكار مباينة الله لمخلوقاته وعلوه على عرشه، ومن العجب أنكم تقولون إن محمدا رأى ربه ليلة المعراج، وهذه مسألة نزاع بين الصحابة، أو تقولون رآه بعينه ولم يقل ذلك أحد منهم، ثم تقولون إن محمدا لم يعرج به إلى الله فإن الله ليس هو فوق السموات، فتنكرون ما اتفق عليه السلف وتقولون بما تنازعوا فيه، ولم يقله أحد منهم، فالمعتزلة في جعلهم المعراج مناما أقرب إلى السلف وأهل السنة منكم حيث قلتم رآه بعينه ليلة المعراج، وقلتم مع هذا إنه ليس فوق السموات رب يعرج إليه، فهذا النفي أنتم والمعتزلة فيه شركاء وهم امتازوا بقولهم المعراج مناما، وهو قول مأثور عن طائفة من السلف، وأنتم امتزتم بقولكم رآه بعينه، وهذا لم يثبت عن أحد من السلف، وإنما نقل عنهم بأسانيد ضعيفة، ثم إنكم أظهرتم للمسلمين مخالفة المعتزلة في مسألة الرؤية والقرآن، ووافقتم أهل السنة على إظهار القول بأن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ; والقول بأن الله لا يرى في الآخرة وأن القرآن مخلوق من البدع القديمة التي أظهرها الجهمية المعتزلة وغيرهم في عصر الأئمة حتى امتحنوا الإمام أحمد وغيره بذلك، ووافقتم المعتزلة على نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة وهو قولهم إن الله لا داخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله، فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من اليهود والنصارى لم يكن يظهرها أحد من المعتزلة للعامة، ولا يدعو عموم الناس إليها وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم فموافقتكم للمعتزلة على ما أسروه من التعطيل والإلحاد الذي هو أعظم مخالفة للشرع والعقل مما خالفتموه فيه في مسألة الرؤية والقرآن، فإن كل عاقل يعلم أن دلالة القرآن على علو الله على عرشه أعظم من دلالته على أن الله يرى، وليس في القرآن آية توهم المستمع أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، وفيه ما يوهم بعض الناس نفي الرؤية ولكن يعارضون آيات العلو الكثيرة الصريحة بما يتوهم أنه يدل على أنه بذاته في كل مكان، وأنتم لا تقولون لا بهذا ولا بهذا، فلم يكن معكم على هذا النفي آية تشعر بمذهبكم، فضلا من أن تدل عليه نصا أو ظاهرا، ولا حديث عن رسول الله ، ولا قول صاحب ولا تابع ولا إمام، وإنما غايتكم أن تتمسكوا بأثر مكذوب كما تذكرونه عن علي أنه قال: الذي أين الأين لا يقال له أين، وهذا من الكذب على علي باتفاق أهل العلم، لا إسناد له، وكذلك حديث الملائكة الأربعة مع أن ذلك لا حجة فيه لكم، وكذلك القول بأن القرآن مخلوق فيه من الشبهة ما ليس في نفس علو الله على عباده، ولهذا كان في فطر جميع الأمم الإقرار بعلو الله على خلقه .

وهنا انقسم الناس ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفوسهم، فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القدر سبق بذلك، وأنه لا خروج له عن القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسرى، وهذا ليس مذهب طائفة من بني آدم، ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين الذين لا حفظوا حدود الأمر والنهي، ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر، كما قال فيهم الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به .

-مسألة: في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هي هذه القبور التي تزورها الناس اليوم ؟ مثل: قبر نوح، وقبر الخليل، وإسحاق ويعقوب ويوسف، ويونس وإلياس واليسع، وشعيب وموسى وزكريا، وهو بمسجد دمشق ؟ وأين قبر علي بن أبي طالب ؟ فهل يصح من تلك القبور شيء أم لا ؟، الجواب: الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا محمد  وقبر الخليل فيه نزاع ; لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره، وأما يونس وإلياس وشعيب وزكريا فهو يعرف، وقبر علي بن أبي طالب بقصر الإمارة الذي بالكوفة، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة إنه قبر هود، والله أعلم .

فصل: ولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا، فذكر أن برهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه ولا ينقص، وأن إعطاءه إياهم غاية ما يسألونه نسبته إلى ما عنده أدنى نسبة، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يزداد ملكه بطاعة الرعية، وينقص ملكه بالمعصية، وإذا أعطى الناس ما يسألونه أنفد ما عنده ولم يغنهم، وهم في ذلك يبلغون مضرته ومنفعته، وهو يفعل ما يفعله من إحسان وعفو وأمر ونهي، لرجاء المنفعة وخوف المضرة، فقال: { يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا }، إذ ملكه وهو قدرته على التصرف، فلا تزداد بطاعتهم ولا تنقص بمعصيتهم كما تزداد قدرة الملوك بكثرة المطيعين لهم، وتنقص بقلة المطيعين لهم، فإن ملكه متعلق بنفسه، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، والملك قد يراد به القدرة على التصرف والتدبير، ويراد به نفس التدبير والتصرف، ويراد به المملوك نفسه الذي هو محل التدبير، ويراد به ذلك كله، وبكل حال فليس بر الأبرار وفجور الفجار، موجبا لزيادة شيء من ذلك ولا نقصه، بل هو بمشيئته وقدرته يخلق ما يشاء، فلو شاء أن يخلق مع فجور الفجار ما شاء لم يمنعه من ذلك مانع، كما يمنع الملوك فجور رعاياهم التي تعارض أوامرهم عما يختارونه من ذلك، ولو شاء أن لا يخلق مع بر الأبرار شيئا مما خلقه لم يكن برهم محوجا له إلى ذلك ولا معينا له، كما يحتاج الملوك ويستعينون بكثرة الرعايا المطيعين .

-مسألة: في اتباع الرسول  بصحيح المعقول ؟، قال الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله  تسليما كثيرا، أما بعد، اعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من الإنس والجن أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، أرسله إلى جميع الخلق، إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، وفرسهم وهندهم، وبربرهم ورومهم، وسائر أصناف العجم أسودهم وأبيضهم، والمراد بالعجم من ليس بعربي على اختلاف ألسنتهم، فمحمد  أرسل إلى كل أحد من الإنس والجن، كتابيهم وغير كتابيهم، في كل ما يتعلق بدينه، من الأمور الباطنة والظاهرة، في عقائده وحقائقه وطرائقه وشرائعه، فلا عقيدة إلا عقيدته، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا طريقة إلا طريقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا يصل أحد من الخلق إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته وولايته، إلا بمتابعته باطنا وظاهرا ; في الأقوال والأعمال الباطنة، والظاهرة في أقوال القلب وعقائده

، وأحوال القلب وحقائقه، وأقوال اللسان وأعمال الجوارح، وليس لله ولي إلا من اتبعه باطنا وظاهرا، فصدقه فيما أخبر به من الغيوب، والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات، فمن لم يكن له مصدقا فيما أخبر، ملتزما لطاعته فيما أوجب وأمر في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمنا، فضلا عن أن يكون وليا لله، ولو حصل له من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور، من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها، إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله، المقربة إلى سخطه وعذابه، لكن من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين، قد رفع القلم عنهم، فلا يعاقبون، وليس من الإيمان بالله وتقواه باطنا وظاهرا ما يكونون به من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعا لآبائهم، كما قال تعالى: { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين }، وهم مع عدم العقل، لا يكونون ممن في قلوبهم حقائق الإيمان، ومعارف أهل ولاية الله، وأحوال خواص الله ; لأن هذه الأمور كلها مشروطة بالعقل، فالجنون مضاد العقل والتصديق، والمعرفة واليقين، والهدى والثناء، وإنما يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، فالمجنون وإن كان الله لا يعاقبه، ويرحمه في الآخرة، فإنه لا يكون من أولياء الله المقربين والمقتصدين، الذين يرفع الله درجاتهم، ومن اعتقد أن أحدا من هؤلاء الذين لا يؤدون الواجبات ولا يتركون المحرمات، سواء كان عاقلا أو مجنونا أو مولها أو متولها، فمن اعتقد أن أحدا من هؤلاء من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، وجنده الغالبين السابقين المقربين والمقتصدين، الذين يرفع الله درجاتهم بالعلم والإيمان، مع كونه لا يؤدي الواجبات، ولا يترك المحرمات، كان المعتقد لولاية مثل هذا كافرا مرتدا عن دين الإسلام ; غير شاهد لمحمد ، بأنه رسول الله بل هو مكذب لمحمد فيما شهد به ; لأن محمدا أخبر عن الله أن أولياء الله هم المتقون المؤمنون، قال تعالى: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون }، وقال تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }، والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة الله على نور من الله، يرجو رحمة الله، وأن يترك معصية الله على نور من الله، يخاف عذاب الله، ولا يتقرب ولي الله إلا بأداء فرائضه ثم بأداء نوافله، قال تعالى: { ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه }، كما جاء في الحديث الصحيح الإلهي الذي رواه البخاري .

ومن ظن من أصحاب أحمد وغيرهم أن تحريم نكاح من أبويه مجوسيان أو أحدهما مجوسي قول واحد في مذهبه، فهو مخطئ خطأ لا ريب فيه، لأنه لم يعرف أصل النزاع في هذه المسألة، ولهذا كان من هؤلاء من يتناقض فيجوز أن يقر بالجزية من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل، ويقول مع هذا بتحريم نكاح نصراني العرب مطلقا، ومن كان أحد أبويه غير كتابي كما فعل ذلك طائفة من أصحاب أحمد، وهذا تناقض، والقاضي أبو يعلى وإن كان قد قال هذا القول هو وطائفة من أتباعه فقد رجع عن هذا القول في الجامع الكبير، وهو آخر كتبه، فذكر فيمن انتقل إلى دين أهل الكتاب من عبدة الأوثان، كالروم، وقبائل من العرب، وهم تنوخ، وبهراء، ومن بني تغلب هل تجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا بأس بنكاح نصارى بني تغلب، وأن الرواية الأخرى مخرجة على الروايتين عنه في ذبائحهم، واختار أن المنتقل إلى دينهم حكمه حكمهم سواء كان انتقاله بعد مجيء شريعتنا أو قبلها، وسواء انتقل إلى دين المبدلين أو دين لم يبدل، ويجوز مناكحته وأكل ذبيحته، وإذا كان هذا فيمن أبواه مشركان من العرب والروم، فمن كان أحد

أبويه مشركا فهو أولى بذلك، هذا هو المنصوص عن أحمد، فإنه قد نص على أنه من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن دخل في دينهم في هذا الزمان، فإنه يقر بالجزية، قال أصحابه: وإذا أقررناه بالجزية، حلت ذبائحهم ونساؤهم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما، وأصل النزاع في هذه المسألة ما ذكرته من نزاع علي وغيره من الصحابة في بني تغلب، والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والجمهور أحلوها وهي الرواية الأخرى عن أحمد، ثم الذين كرهوا ذبائح بني تغلب تنازعوا في مأخذ علي، فظن بعضهم أن عليا إنما حرم ذبائحهم ونساءهم لكونه لم يعلم أن آباءهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل، وبنوا على هذا أن الاعتبار في أهل الكتاب بالنسب لا بنفس الرجل، وأن من شككنا في أجداده، هل كانوا من أهل الكتاب أم لا، أخذنا بالاحتياط فحقنا دمه بالجزية احتياطا، وحرمنا ذبيحته ونساءه احتياطا، وهذا مأخذ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، وقال آخرون: بل علي لم يكره ذبائح بني تغلب إلا لكونهم ما تدينوا بدين أهل الكتاب في واجباته ومحظوراته، بل أخذوا منه حل المحرمات فقط، ولهذا قال: إنهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر، وهذا المأخذ من قول علي هو المنصوص عن أحمد وغيره وهو الصواب، وبالجملة فالقول بأن أهل الكتاب المذكورين في القرآن هم من كان دخل جده في ذلك قبل النسخ والتبديل قول ضعيف، والقول بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراد ذلك قول ضعيف، بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه، وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك، وهذا مذهب جمهور العلماء، كأبي حنيفة ومالك، وهو المنصوص الصريح عن أحمد، وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف، وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعا، وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم، واحتج بذلك في هذه المسألة على من لا يقر الرجل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن هو في زماننا إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب، فإنه تؤكل ذبيحته، وتنكح نساؤه، وهذا يبين خطأ من يناقض منهم، وأصحاب هذا القول الذي هو قول الجمهور، يقولون: من دخل هو، أو أبواه، أو جده في دينهم بعد النسخ والتبديل أقر بالجزية، سواء دخل في زماننا هذا، أو قبله، وأصحاب القول الآخر يقولون: متى علمنا أنه لم يدخل إلا بعد النسخ والتبديل لم تقبل منه الجزية، كما يقوله بعض أصحاب أحمد مع أصحاب الشافعي، والصواب قول الجمهور، والدليل عليه وجوه: أحدها: أنه قد ثبت أنه كان من أولاد الأنصار جماعة تهودوا قبل مبعث النبي بقليل، كما قال ابن عباس: أن المرأة كانت مقلاتا، والمقلات التي لا يعيش لها ولد، كثيرة القلت، والقلت: الموت والهلاك، كما يقال: امرأة مذكار مئناث إذا كانت كثيرة الولادة للذكور والإناث والسما الكثيرة الموت، قال ابن عباس: فكانت المرأة تنذر إن عاش لها ولدان تجعل أحدهما يهوديا لكون اليهود كانوا أهل علم وكتاب، والعرب كانوا أهل شرك وأوثان، فلما بعث الله محمدا كان جماعة من أولاد الأنصار تهودوا، فطلب آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام فأنزل الله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } الآية، فقد ثبت أن هؤلاء كان آباؤهم موجودين تهودوا، ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم في اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح صلوات الله عليه، وهذا بعد النسخ والتبديل، ومع هذا نهى الله عز وجل عن إكراه هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام، وأقرهم بالجزية، وهذا صريح في جواز عقد الذمة لمن دخل بنفسه في دين أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل، فعلم أن هذا القول هو الصواب دون الآخر، ومتى ثبت أنه يعقد له الذمة ثبت أن العبرة بنفسه لا بنسبه، وأنه تباح ذبيحته وطعامه باتفاق المسلمين، فإن المانع لذلك لم يمنعه إلا بناء على أن هذا الصنف ليسوا من أهل الكتاب، فلا يدخلون، فإذا ثبت بنص السنة أنهم من أهل الكتاب دخلوا في الخطاب بلا نزاع، والوجه الثاني: أن جماعة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وحولها كانوا عربا ودخلوا في دين اليهود، ومع هذا فلم يفصل النبي في أكل طعامهم، وحل نسائهم، وإقرارهم بالذمة بين من دخل أبواه بعد مبعث عيسى عليه السلام، ومن دخل قبل ذلك، ولا بين المشكوك في نفسه، بل حكم في الجميع حكما واحدا عاما، فعلم أن التفريق بين طائفة وطائفة، وجعل طائفة لا تقر بالجزية، وطائفة تقر ولا تؤكل ذبائحهم، وطائفة يقرون وتؤكل ذبائحهم، تفريق ليس له أصل في سنة رسول الله الثابتة عنه، وقد علم بالنقل الصحيح المستفيض، أن أهل المدينة كان فيهم يهود كثير من العرب وغيرهم من بني كنانة وحمير وغيرهما من العرب، ولهذا قال النبي لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: { إنك تأتي قوما أهل كتاب }، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وعدله معافر، ولم يفرق بين من دخل أبوه قبل النسخ أو بعده وكذلك وفد نجران وغيرهم من النصارى الذين كان فيهم عرب كثيرون أقرهم بالجزية، وكذلك سائر اليهود والنصارى من قبائل العرب لم يفرق رسول الله ولا أحد من خلفائه، وأصحابه بين بعضهم وبعض، بل قبلوا منهم الجزية، وأباحوا ذبائحهم، ونساءهم، وكذلك نصارى الروم وغيرهم لم يفرقوا بين صنف وصنف، ومن تدبر السيرة النبوية علم كل هذا بالضرورة، وعلم أن التفريق قول محدث لا أصل له في الشريعة، الوجه الثالث: أن كون الرجل مسلما أو يهوديا أو نصرانيا ونحو ذلك من أسماء الدين هو حكم يتعلق بنفسه لا باعتقاده وإرادته وقوله وعمله، لا يلحقه هذا الاسم بمجرد اتصاف آبائه بذلك، لكن الصغير حكمه في أحكام الدنيا

حكم أبويه، لكونه لا يستقل بنفسه، فإذا بلغ وتكلم بالإسلام أو بالكفر كان حكمه معتبرا بنفسه باتفاق المسلمين، فلو كان أبواه يهودا أو نصارى، فأسلم كان من المسلمين باتفاق المسلمين، ولو كانوا مسلمين فكفر كان كافرا باتفاق المسلمين، فإن كفر بردة لم يقر عليه لكونه مرتدا لأجل آبائه، وكل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان، وكفر ونفاق، وردة وتهود، وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك، وكون الرجل من المشركين أو أهل الكتاب هو من هذا الباب، فمن كان بنفسه مشركا فحكمه حكم أهل الشرك وإن كان أبواه غير مشركين، ومن كان أبواه مشركين وهو مسلم فحكمه حكم المسلمين لا حكم المشركين، فكذلك إذا كان يهوديا، أو نصرانيا وآباؤه مشركين فحكمه حكم اليهود والنصارى، أما إذا تعلق عليه حكم المشركين مع كونه من اليهود والنصارى لأجل كون آبائه قبل النسخ والتبديل كانوا مشركين فهذا خلاف الأصول، الوجه الرابع: أن يقال قوله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين }، وقوله: { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا }، وأمثال ذلك إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين وإخبار عنهم، المراد بالكتاب هو الكتاب الذي بأيديهم، الذي جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى، ليس المراد به من كان متمسكا به قبل النسخ والتبديل، فإن أولئك لم يكونوا كفارا، ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن، ولا قيل لهم في القرآن يا أهل الكتاب، فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن، وإذا كان كذلك فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند أهل الكتاب فهو من أهل الكتاب، وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ، وهم مخلدون في نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار، والله تعالى مع ذلك سوغ إقرارهم بالجزية، وأحل طعامهم ونساءهم، الوجه الخامس: أن يقال هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب بالقرآن هم كفار، وإن كان أجدادهم كانوا مؤمنين وليس عذابهم في الآخرة بأخف من عذاب من كان أبوه من غير أهل الكتاب، بل وجود النسب الفاضل هو إلى تغليظ كفرهم أقرب منه إلى تخفيف كفرهم، فمن كان أبوه مسلما وارتد كان كفره أغلظ من كفر من أسلم هو ثم ارتد، ولهذا تنازع الناس فيمن ولد على الفطرة إذا ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، هل تقبل توبته ؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد، وإذا كان كذلك فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدا صلى الله عليهما كفر بهما وبما جاءا به من عند الله واتبع الكتاب المبدل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر، ولم يكن كفره أخف من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدل، ولا له بمجرد نسبة حرمة عند الله ولا عند رسوله، ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفا لهم، فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين، فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت، فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم، ومن كفر بشيء من كتب الله فليس مسلما في أي زمان كان، وإذا لم يكن لأولاد بني إسرائيل إذا كفروا مزية على أمثالهم من الكفار الذين ماثلوهم في اتباع الدين المبدل المنسوخ، علم بذلك بطلان الفرق بين الطائفتين، وإكرام هؤلاء بإقرارهم بالجزية، وحل ذبائحهم، ونسائهم دون هؤلاء، وأنه فرق مخالف لأصول الإسلام، وإنه لو كان الفرق بالعكس كان أولى، ولهذا يوبخ الله بني إسرائيل على تكذيبهم بمحمد ما لا يوبخه غيرهم من أهل الكتاب ; لأنه تعالى أنعم على أجدادهم نعما عظيمة في الدين والدنيا، فكفروا نعمته، وكذبوا رسله، وبدلوا كتابه، وغيروا دينه، فضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وباءوا بغضب من الله، وضربت عليهم المسكنة ; ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، فهم مع شرف آبائهم وحق دين أجدادهم من أسوأ الكفار عند الله، وهو أشد غضبا عليهم من غيرهم ; لأن في كفرهم من الاستكبار والحسد والمعاندة والقسوة وكتمان العلم، وتحريف الكتاب، وتبديل النص، وغير ذلك ما ليس في كفر هؤلاء، فكيف يجعل لهؤلاء الأرجاس الأنجاس الذين هم من أبغض الخلق إلى الله مزية على سائر إخوانهم الكفار، مع أن كفرهم إما مماثل لكفر إخوانهم الكفار، وإما أغلظ منه إذ لا يمكن لأحد أن يقول إن كفر الداخلين أغلظ من كفر هؤلاء مع تماثلهما في الدين بهذا الكتاب الموجود، الوجه السادس: أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب ; هو حكم من أحكام الجاهلية، الذين اتبعتهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل، فإن الله تعالى قال: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }، وقال النبي : { لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب }، ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدا بنسبه، ولا يذم أحدا بنسبه، وإنما يمدح الإيمان والتقوى ويذم بالكفر والفسوق والعصيان، وقد ثبت عنه في الصحيح، أنه قال: { أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن، الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم }، فجعل الفخر بالأحساب من أمور الجاهلية، فإذا كان المسلم لا فخر له على المسلم بكون أجداده لهم حسب شريف، فكيف يكون لكافر من أهل الكتاب فخر على كافر من أهل الكتاب بكون أجداده كانوا مؤمنين ؟ وإذا لم تكن مع التماثل في الدين فضيلة لأحد الفريقين على الآخرين في الدين لأجل النسب، علم أنه لا فضل لمن كان من اليهود والنصارى آباؤه مؤمنين متمسكين بالكتاب الأول قبل النسخ والتبديل، على من كان أبوه داخلا فيه بعد النسخ والتبديل، وإذا تماثل دينهما تماثل حكمهما في الدين، والشريعة إنما علقت بالنسب أحكاما، مثل كون الخلافة من قريش، وكون ذوي القربى لهم

الخمس، وتحريم الصدقة على آل محمد ونحو ذلك ; لأن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غيرهم، كما قال النبي : { الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا }، والمظنة تعلق الحكم بما إذا خفيت الحقيقة أو انتشرت، فأما إذا ظهر دين الرجل الذي به تتعلق الأحكام وعرف نوع دينه وقدره لم يتعلق بنسبه الأحكام الدينية، ولهذا لم يكن لأبي لهب مزية على غيره، لما عرف كفره كان أحق بالذم من غيره، ولهذا جعل لمن يأتي بفاحشة من أزواج النبي ضعفين من العذاب، كما جعل لمن يقنت منهن لله ورسوله أجرين من الثواب، فذوي الأنساب الفاضلة إذا أساءوا كانت إساءتهم أغلظ من إساءة غيرهم، وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم، وكفر من كفر من بني إسرائيل إن لم يكن أشد من كفر غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم فلا أقل من المساواة بينهم، ولهذا لم يقل أحد من العلماء إن من كفر وفسق من قريش والعرب تخفف عنه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة بل إما أن تكون عقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم في أشهر القولين، أو تكون عقوبتهم أغلظ في القول الآخر ; لأن من أكرمه بنعمته ورفع قدره إذا قابل حقوقه بالمعاصي وقابل نعمه بالكفر، كان أحق بالعقوبة ممن لم ينعم عليه كما أنعم عليه، الوجه السابع: أن يقال أصحاب رسول الله لما فتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وغيرهم، وكانوا يأكلون ذبائحهم، لا يميزون بين طائفة وطائفة، ولم يعرف عن أحد من الصحابة الفرق بينهم بالأنساب، وإنما تنازعوا في بني تغلب خاصة لأمر يختص بهم، كما أن عمر ضعف عليهم الزكاة، وجعل جزيتهم مخالفة لجزية غيرهم، ولم يلحق بهم سائر العرب، وإنما ألحق بهم من كان بمنزلتهم، الوجه الثامن: أن يقال هذا القول مستلزم أن لا يحل لنا طعام جمهور من أهل الكتاب ; لأنا لا نعرف نسب كثير منهم ولا نعلم قبل أيام الإسلام أن أجداده كانوا يهودا أو نصارى قبل النسخ والتبديل، ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، فإذا كان هذا القول مستلزما رفع ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم أنه باطل، الوجه التاسع: أن يقال ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم، فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين، وهذه الوجوه كلها لبيان رجحان القول بالتحليل، وأنه مقتضى الدليل، فأما أن مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد، يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل، فهذا خلاف إجماع المسلمين، فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين، وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب القول الآخر إلا بحجة شرعية، وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله، وفي شحم الثرب، والكليتين، وذبحهم لذوات الظفر كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم، وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك من المسائل، وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين، فمن صار إلى قول مقلدا لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلدا لقائله، لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة، بل من كان مقلدا لزم حل التقليد، فلم يرجح ولم يزيف ولم يصوب ولم يخطئ، ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه، فقبل ما تبين أنه حق، ورد ما تبين أنه باطل، ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين، والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان، كما فاوت بينهم في قوى الأبدان، وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه إلا من عرف أقاويل العلماء ومآخذهم فأما من لم يعرف إلا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته، فإنه من العوام المقلدين لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون، والله تعالى يهدينا وإخواننا لما يحبه ويرضاه، وبالله التوفيق، والله أعلم .

فصل: ومن أحب الأعمال إلى الله وأعظم الفرائض عنده الصلوات الخمس في مواقيتها، وهي أول ما يحاسب عليها العبد من عمله يوم القيامة، وهي التي فرضها الله تعالى بنفسه ليلة المعراج، لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة، وهي عمود الإسلام، الذي لا يقوم إلا به، وهي أهم أمر الدين، كما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله: { إن أهم أمركم عندي الصلاة ومن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة }، وقد ثبت في الصحيح، عن النبي أنه قال: { بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة }، وقال: { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر }، فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ إلا الحائض والنفساء فهو كافر مرتد باتفاق أئمة المسلمين، وإن اعتقد أنها عمل صالح، وأن الله يحبها ويثيب عليها، وصلى مع ذلك وقام الليل وصام النهار، وهو مع ذلك لا يعتقد وجوبها على كل بالغ، فهو أيضا كافر مرتد، حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ عاقل، ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين، أو أن لله خواصا لا تجب عليهم الصلاة، بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس، أو لاستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى، أو أن المقصود حضور القلب مع الرب، أو أن الصلاة فيها تفرقة، فإذا كان العبد في جمعيته مع الله فلا يحتاج إلى الصلاة، بل المقصود من الصلاة هي المعرفة، فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلاة، فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة، كالطيران في الهواء، والمشي على الماء أو ملء الأوعية ماء من الهواء، أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من الكنوز، وقتل من يبغضه بالأحوال الشيطانية، فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلاة ونحو ذلك، أو أن لله رجالا خواصا لا يحتاجون إلى متابعة محمد بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن موسى، أو أن كل من كاشف وطار في الهواء، أو مشى على الماء فهو ولي سواء صلى، أو لم يصل، أو اعتقد أن الصلاة تقبل من غير طهارة، أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل والطهارات والخانات والقمامين وغير ذلك من البقاع، وهم لا يتوضئون ولا يصلون الصلوات المفروضات، فمن اعتقد أن هؤلاء أولياء، فهو كافر مرتد عن الإسلام باتفاق أئمة الإسلام، ولو كان في نفسه زاهدا عابدا، فالرهبان أزهد وأعبد، وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول، وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون أتباعه، ولكنهم لم يؤمنوا بجميع ما جاء به، بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض فصاروا بذلك كافرين، كما قال تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما }، ومن كان مسلوب العقل أو مجنونا فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه، فليس عليه عقاب، ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه، ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل، فمن لا عقل له لا يصح شيء من عبادته، لا فرائضه ولا نوافله، ومن لا فريضة له ولا نافلة ليس من أولياء الله، ولهذا قال تعالى: { إن في ذلك لآيات لأولي النهى }، أي العقول، وقال تعالى: { هل في ذلك قسم لذي حجر }، أي لذي عقل، وقال تعالى: { واتقون يا أولي الألباب }، وقال: { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون }، وقال تعالى { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }، فإنما مدح الله، وأثنى على من كان له عقل، فأما من لا يعقل فإن الله لم يحمده، ولم يثن عليه، ولم يذكره بخير قط، بل قال تعالى عن أهل النار { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }، وقال تعالى: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }، وقال: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }، فمن لا عقل له لا يصح إيمانه ولا فرضه ولا نفله، ومن كان يهوديا أو نصرانيا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح إسلامه، لا باطنا ولا ظاهرا، ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار، ومن كان مؤمنا ثم جن بعد ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في حال عقله، ومن ولد مجنونا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ولا كفر، وحكم المجنون حكم الطفل إذا كان أبوه مسلما كان مسلما تبعا لأبويه باتفاق المسلمين، وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وكذلك من جن بعد إسلامه يثبت لهم حكم الإسلام تبعا لآبائهم، وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له بالإسلام ظاهرا تبعا لأبويه أو لأهل الدار، كما يحكم بذلك للأطفال لا لأجل إيمان قام به فأطفال المسلمين ومجانينهم يوم القيامة تبع لآبائهم، وهذا الإسلام لا يوجب مزية على غيره، ولا أن يصير به من أولياء الله المتقين الذين يتقون إليه بالفرائض والنوافل، وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا }، فنهى الله عز وجل عن قربان الصلاة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما يقولون وهذه الآية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم بالآية التي أنزلها الله في سورة المائدة، وقد روي أنه كان سبب نزولها أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم، فخلط فغلط في القراءة فأنزل الله هذه الآية، فإذا كان قد حرم الله الصلاة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون، علم أن ذلك يوجب أن لا يصلي أحد حتى يعلم ما يقول، فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلاة، وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم، ولهذا اتفق العلماء على أنه لا تصح صلاة من زال عقله بأي سبب زال، فكيف بالمجنون وقد قال بعض المفسرين، وهو يروي عن الضحاك: لا تقربوها وأنتم سكارى من النوم، وهذا إذا قيل إن الآية دلت عليه بطريق الاعتبار، أو شمول معنى اللفظ العام، وإلا فلا ريب أن سبب الآية كان السكر من الخمر، واللفظ صريح في ذلك، والمعنى الآخر صحيح أيضا، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: { إذا قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه }، وفي لفظ: { إذا قام يصلي فنعس فليرقد }، فقد نهى النبي عن الصلاة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس، وقد احتج العلماء بهذا على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلاة، أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة، والنبي إنما علل ذلك بقوله: { فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه } "، فعلم أنه قصد النهي عن الصلاة لمن لا يدري ما يقول، وإن كان ذلك بسبب النعاس وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال: { لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبثين ولا بحضرة طعام }، لما في ذلك من شغل القلب، وقال أبو الدرداء: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته فيقضيها، ثم يقبل على صلاته وقلبه فارغ، فإذا كانت الصلاة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح، حتى يعلم ما يقول، كانت صلاة المجنون ومن يدخل في مسمى المجنون وإن سمي مولها أو متولها أو وليا أن لا تجوز صلاته، ومعلوم أن الصلاة أفضل العبادات، كما في الصحيحين، عن ابن مسعود، أنه قال: { قلت للنبي : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي ؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي ؟ قال: الجهاد، قال: حدثني بهن رسول الله ولو استزدته لزادني }، وثبت أيضا في الصحيحين عنه أنه: { جعل أفضل الأعمال إيمان بالله، وجهاد في سبيله ثم الحج المبرور }، ولا منافاة بينهما، فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان بالله، كما دخلت في قوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }، قال البراء بن عازب وغيره من السلف: أي صلاتكم إلى بيت المقدس، ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال، فلا يصلي أحد عن أحد الفرض لا لعذر ولا لغير عذر، كما لا يؤمن أحد عنه ولا تسقط بحال، كما لا يسقط الإيمان بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرا وهو متمكن من فعل بعض أفعالها . فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال، فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه، فيه قولان للعلماء، وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع فإذا كان كذلك، تبين أن من زال عقله، فقد حرم ما يتقرب به إلى الله من فرض ونفل، والولاية هي الإيمان، والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل، فقد حرم ما به يتقرب أولياء الله إليه، لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه، فلا يعاقب، كما لا يعاقب الأطفال والبهائم، إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال، ثم إن كان مؤمنا قبل حدوث الجنون به، وله أعمال صالحة، وكان يتقرب إلى الله بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله، كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم، وكان له من ولاية الله تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى، كما لا يسقط ذلك بالموت بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام، فإن الردة تحبط الأعمال، وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة، كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته، كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله فالأعمال المسكرة والنوم لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح، ولكن في الحديث الصحيح عن أبي موسى عن النبي أنه قال: { إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم }، وفي الصحيح عن النبي { أنه قال في غزوة تبوك: إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة ؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر }، فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه، لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل بخلاف من زال عقله، فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلا، بخلاف أولئك فإن لهم قصدا صحيحا يكتب لهم به الثواب، وأما من كان قبل جنونه كافرا أو فاسقا أو مذنبا، لم يكن حدوث الجنون به مزيلا لما ثبت من كفره وفسقه، ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورا معهم، وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين، وزوال العقل بجنون أو غيره، سواء سمي صاحبه مولها أو متولها لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى، ولا يكون زوال عقله سببا لمزيد خيره ولا صلاحه ولا ذنبه، ولكن الجنون يوجب زوال العمل، فيبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده ولا ينقصه، لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر، وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم كشرب الخمر، وأكل الحشيشة، أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله، أو الذي يتعبد بعبادات بدعية حتى يقترن به بعض الشياطين، فيغيروا عقله أو يأكل بنجا يزيل عقله، فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول، وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه، فيرقص رقصا عظيما حتى يغيب عقله، أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني، وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولها، فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان، وهذا معروف من غير واحد منهم، واختلف العلماء هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم، والأصل مسألة السكران والمنصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله، وقال كثير من العلماء ليس مكلفا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإحدى الروايتين عن أحمد أن طلاق السكران لا يقع، وهذا أظهر القولين، ولم يقل أحد من العلماء إن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء الله الموحدين المقربين وحزبه المفلحين، ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير فهو من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم، ومن علامة هؤلاء أنهم إذا حصل لهم من جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، لا بالكفر والبهتان، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقة بالكفر والشرك ويهذي في زوال عقله بالكفر، فهذا إنما يكون كافرا لا مسلما، ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع، ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل، أو بغير العربية، فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان، كما يتكلم على لسان المصروع، ومن قال إن هؤلاء أعطاهم الله عقولا وأحوالا، فأبقى أحوالهم، وأذهب عقولهم، وأسقط ما فرض عليهم بما سلب، قيل: قولك وهب الله لهم أحوالا كلام مجمل، فإن الأحوال تنقسم إلى: حال رحماني، وحال شيطان، وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب، فتارة يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان، وتارة يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان، فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية، وكانوا من المؤمنين المتقين، فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول، وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون، فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق، كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان والتقوى، كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته وإغماءه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل غايته أن يسقط التكليف، ورفع القلم لا يوجب حمدا ولا مدحا ولا ثوابا، ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء الله، ولا كرامة من كرامات الصالحين، بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت، ولا مدح في ذلك ولا ذم، بل النائم أحسن حالا من هؤلاء، ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام ينامون، وليس فيهم مجنون ولا موله، والنبي يجوز عليه النوم والإغماء، ولا يجوز عليه الجنون، وكان نبينا محمد تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقد أغمي عليه في مرضه، وأما الجنون فقد نزه الله أنبياءه عنه، فإنه من أعظم نقائص الإنسان، إذ كمال الإنسان بالعقل، ولهذا حرم الله إزالة العقل بكل طريق، وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل، كشرب الخمر، فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل ; لأنها ذريعة إلى شرب الكثير، الذي يزيل العقل، فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببا أو شرطا أو مقربا إلى ولاية الله، كما يظنه كثير من أهل الضلال حتى قال قائلهم في هؤلاء: هم معشر حلوا النظام وخرفوا السياج فلا فرض لديهم ولا نفل مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل فهذا كلام ضال بل كافر ويظن أن للمجنون سرا يسجد العقل على بابه، وذاك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين، كما يكون للسحرة والكهان فيظن هذا الضال، أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا لله، ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين، اليهود والنصارى فإن كثيرا من الكفار والمشركين، فضلا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء ; لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب، لكن لا بد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان، ولا بد في أعمالهم من فجور وطغيان، كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان، قال الله تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم }، فكل من تنزلت عليه الشياطين، لا بد أن يكون فيه كذب وفجور من أي قسم كان، والنبي قد أخبر أن أولياء الله هم الذين يتقربون إليه بالفرائض وحزبه المفلحون وجنده الغالبون وعباده الصالحون، فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء الله المتقين، إما لعدم عقله أو جهله، أو لغير ذلك، فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين وعباده الصالحين فهو كافر، مرتد عن دين رب العالمين، وإذا قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، كان من الكاذبين الذين قيل فيهم: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون، ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون }، وقد ثبت في الصحيح، عن النبي أنه قال: { من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر طبع الله على قلبه }، فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع - وإن صلى الظهر - فكيف بمن لا يصلي ظهرا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة، ولا يتطهر للصلاة الطهارة الكبرى ولا الصغرى، فهذا لو كان قبل مؤمنا، وكان قد طبع على قلبه كان كافرا مرتدا بما تركه، ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض، وإن اعتقد أنه مؤمن، كان كافرا مرتدا، فكيف يعتقد أنه من أولياء الله المتقين، وقد قال تعالى في صفة المنافقين: { استحوذ عليهم الشيطان }، أي استولى يقال: حاذ الإبل حوذا إذا استقاها، فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر الله به ورسوله، قال تعالى: { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا }، أي تزعجهم إزعاجا، فهؤلاء استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله: { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون }، وفي السنن عن أبي الدرداء، عن النبي أنه قال: { ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا يقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان }، فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان، استحوذ عليهم إلا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم، فإن كانوا عبادا زهادا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة، كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات، كأهل جبل لبنان، وأهل جبل الفتح، الذي بأسوان، وجبل ليسون، ومغارة الدم بجبل قاسيون وغير ذلك، من الجبال والبقاع التي قصدها كثير من العباد الجهال الضلال، ويفعلون فيها خلوات ورياضيات من غير أن يؤذن وتقام فيهم الصلاة الخمس، بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها الله ورسوله، بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم، من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة، ولا قصد المتابعة لرسول الله، الذي قال الله فيه: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } الآية، فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان، لا من أولياء الرحمن، فمن شهد بولاية الله فهو شاهد زور كاذب، وعن طريق الصواب ناكب، ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول، وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الله، فهو مرتد عن دين الإسلام، إما مكذب للرسول، وإما شاك فيما جاء به مرتاب، وإما غير منقاد له، بل مخالف له جحودا وعنادا وإتباعا لهواه، وكل من هؤلاء كافر، وأما إن كان جاهلا بما جاء به الرسول، وهو معتقد مع ذلك أنه رسول الله إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة، وأنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته لكن ظن أن هذه العبادات البدعية، والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول، ولم يعلم أنها من الشيطان لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته، لا لقصد مخالفته، ولا يرجو الهدى في غير متابعته، فهذا يبين له الصواب، ويعرف ما به من السنة والكتاب، فإن تاب وأناب وإلا لحق بالقسم الذي قبله، وكان كافرا مرتدا ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب الله، كما لم ينج من ذلك الرهبان، وعباد الصلبان، وعباد النيران، وعباد الأوثان، مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية، ومكاشفات شيطانية، قال تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا }، قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف: نزلت في أصحاب الصوامع والديارات، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنهم كانوا الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات، وقال تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم }، فالأفاك هو الكذاب، والأثيم الفاجر، كما قال: { لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة }، ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبا، وإن كان لا يتعمد الكذب كما ثبت في الصحيحين، { عن النبي لما قالت له سبيعة الأسلمية وقد توفي عنها زوجها، سعد بن خولة، في حجة الوداع، فكانت حاملا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين ؟ فقال النبي : كذب أبو السنابل بل حللت فانكحي }، وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع: إنهم يقولون إن عامرا قتل نفسه، وحبط عمله، فقال: " كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد "، وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب، فإنه كان رجلا صالحا، وقد روي أنه كان أسيد بن الحضير، لكنه لما تكلم بلا علم، كذبه النبي ، وقد قال أبو بكر، وابن مسعود وغيرهما من الصحابة، فيما يفتون فيه باجتهادهم: " إن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه "، فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان، فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين ؟ فهذا خطؤه أيضا من الشيطان، مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب، والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له، كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان، وهو مغفور بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك، فهذا كذب آثم في ذلك، وإن كانت له حسنات في غير ذلك، فإن الشيطان ينزل على كل إنسان، ويوحي بحسب موافقته له، ويطرد بحسب إخلاصه لله وطاعته له، قال تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }، وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله، من أداء الواجبات والمستحبات، وأما من عبده بغير ذلك، فإنه من عباد الشيطان، لا من عباد الرحمن، قال تعالى: { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون }، والذين يعبدون الشيطان، وأكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان، بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين، كالذين يستغيثون بهم ويسجدون لهم فهم في الحقيقة إنما عبدوا الشيطان، وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد الله الصالحين، قال تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون }، ولهذا نهى النبي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى يكون سجود عباد الشمس له وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس، وسجودهم للشيطان، وكذلك أصحاب دعوات الكواكب الذين يدعون كوكبا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه، ويدعونه، ويضعون له من الطعام واللباس والبخور والتسبيحات ما يناسبه، كما ذكره صاحب السر المكتوم المشرقي، وصاحب الشعلة النورانية البوني المغربي وغيرهما، فإن هؤلاء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض الأمور، وتقضي لهم بعض الحوائج، ويسمون ذلك روحانية الكواكب، ومنهم من يظن أنها ملائكة، وإنما هي شياطين تنزل عليهم قال تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين }، وذكر الرحمن هو الذي أنزله، وهو الكتاب والسنة اللذان قال الله فيهما: { واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به }، وقال تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة }، وهو الذكر الذي قال الله فيه: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، فمن أعرض عن هذا الذكر، وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين، فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه، وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى، كان فيه من الإيمان وولاية الله بحسب ما والى فيه الرحمن، وكان فيه من عداوة الله والنفاق، بحسب ما والى فيه الشيطان، كما قال حذيفة بن اليمان: " القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، والأغلف قلب يلف عليه غلاف كما قال تعالى عن اليهود: { وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم }، وقد تقدم قوله : { من ترك ثلاث جمع طبع الله على قلبه }، وقلب منكوس فذلك قلب المنافق، وقلب فيه مادتان مادة تمده للإيمان، ومادة تمده للنفاق،

فأيهما غلب كان الحكم له "، وقد روي هذا في مسند الإمام أحمد مرفوعا، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي قال: { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر }، فقد بين النبي أن القلب يكون فيه شعبة نفاق وشعبة إيمان، فإذا كان فيه شعبة نفاق، كان فيه شعبة من ولايته، وشعبة من عداوته، ولهذا يكون بعض هؤلاء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه بالله، وتقواه تكون من كرامات الأولياء، وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين، ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في كل صلاة: { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }، والمغضوب عليهم هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، والضالون الذين يعبدون الله بغير علم، فمن اتبع هواه وذوقه ووجده، مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة فهو من المغضوب عليهم وإن كان فذلك من الضالين، نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين .

- مسألة: سئل: الشيخ تقي الدين رحمة الله عليه، ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل سئل: إيش مذهبك ؟ فقال: محمدي، أتبع كتاب الله، وسنة رسوله محمد فقيل: له ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبا، ومن لا مذهب له فهو شيطان، فقال: إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده رضي الله عنهم ؟ فقيل له: لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبا من هذه المذاهب فأيهم المصيب ؟ أفتونا مأجورين، فأجاب: الحمد لله إنما يجب على الناس طاعة الله ورسوله، وهؤلاء أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }، إنما تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله، لا استقلالا، ثم قال: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }، وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ، واتباع الشخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق، بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله فيفعل المأمور، ويترك المحظور، والله أعلم

ولهذا كانت أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث: قول النبي : { إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى }، وقوله: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد }، وقوله: { الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب }، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

- مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن النية في الدخول في العبادات من الصلاة وغيرها، هل تفتقر إلى نطق اللسان ؟ مثل قول القائل: نويت أصلي، ونويت أصوم ؟ أجاب: الحمد لله، نية الطهارة من وضوء، أو غسل أو تيمم، والصلاة والصيام، والزكاة والكفارات، وغير ذلك من العبادات ; لا تفتقر إلى نطق اللسان باتفاق أئمة الإسلام، بل النية محلها القلب باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غلطا خلاف ما في قلبه فالاعتبار بما ينوي لا بما لفظ، ولم يذكر أحد في ذلك خلافا، إلا أن بعض متأخري أصحاب الشافعي خرج وجها في ذلك، وغلطه فيه أئمة أصحابه، ولكن تنازع العلماء هل يستحب اللفظ بالنية ؟ على قولين: فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد: يستحب التلفظ بها لكونه أوكد، وقالت طائفة من أصحاب مالك، وأحمد، وغيرهما: لا يستحب التلفظ بها ; لأن ذلك بدعة لم ينقل عن رسول الله ولا أصحابه ولا أمر النبي أحدا من أمته أن يلفظ بالنية ولا علم ذلك أحدا من المسلمين، ولو كان هذا مشروعا لم يهمله النبي وأصحابه، مع أن الأمة مبتلاة به كل يوم وليلة، وهذا القول أصح، بل التلفظ بالنية نقص في العقل والدين: أما في الدين فلأنه بدعة، وأما في العقل فلأن هذا بمنزلة من يريد أكل الطعام فقال: أنوي بوضع يدي في هذا الإناء أني آخذ منه لقمة، فأضعها في فمي فأمضغها، ثم أبلعها لأشبع فهذا حمق وجهل، وذلك أن النية تتبع العلم، فمتى علم العبد ما يفعل كان قد نواه ضرورة، فلا يتصور مع وجود العلم به أن لا تحصل نية، وقد اتفق الأئمة على أن الجهر بالنية وتكريرها ليس بمشروع، بل من اعتاده فإنه ينبغي له أن يؤدب تأديبا يمنعه عن التعبد بالبدع، وإيذاء الناس برفع صوته، والله أعلم . الخامس: أن النية لا يدخلها فساد بخلاف الأعمال الظاهرة، فإن النية أصلها حب الله ورسوله وإرادة وجهه، وهذا هو بنفسه محبوب لله ورسوله، مرضي لله ورسوله، والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة، وما لم تسلم منها لم تكن مقبولة، ولهذا كانت أعمال القلب المجردة أفضل من أعمال البدن المجردة، كما قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه وضعفه في قلبه "، وتفصيل هذا يطول، والله أعلم .

وأما المسخن بالنجاسة فليس ينجس باتفاق الأئمة إذا لم يحصل له ما ينجسه، وأما كراهته ففيها نزاع، لا كراهة فيه في مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنهما، وكرهه مالك، وأحمد في الرواية الأخرى عنهما، وهذه الكراهة لها مأخذان، أحدهما: احتمال وصول أجزاء النجاسة إلى الماء فيبقى مشكوكا في طهارته شكا مستندا إلى أمارة ظاهرة، فعلى هذا المأخذ متى كان بين الوقود والماء حاجز حصين كمياه الحمامات لم يكره ; لأنه قد تيقن أن الماء لم تصل إليه النجاسة، وهذه طريقة طائفة من أصحاب أحمد: كالشريف أبي جعفر، وابن عقيل، وغيرهما، والثاني: أن سبب الكراهة كونه سخن بإيقاد النجاسة، واستعمال النجاسة مكروه عندهم ; والحاصل بالمكروه مكروه، وهذه طريقة القاضي وغيره، فعلى هذا إنما الكراهة إذا كان التسخين حصل بالنجاسة، فأما إذا كان غالب الوقود طاهرا، أو شك فيه لم تكن هذه المسألة وأما دخان النجاسة: فهذا مبني على أصل، وهو: أن العين النجسة الخبيثة إذا استحالت حتى صارت طيبة كغيرها من الأعيان الطيبة، مثل: أن يصير ما يقع في الملاحة من دم وميتة وخنزير، ملحا طيبا كغيرها من الملح، أو يصير الوقود رمادا، وخرسفا، وقصرملا، ونحو ذلك، ففيه للعلماء قولان، أحدهما: لا يطهر كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وهو المشهور عن أصحاب أحمد، وإحدى الروايتين عنه، والرواية الأخرى: أنه طاهر، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك في أحد القولين، وإحدى الروايتين عن أحمد، ومذهب أهل الظاهر وغيرهم: أنها تطهر، وهذا هو الصواب المقطوع به، فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظا، ولا معنى، فليست محرمة ولا في معنى المحرم، فلا وجه لتحريمها، بل تتناولها نصوص الحل، فإنها من الطيبات، وهي أيضا في معنى ما اتفق على حله، فالنص والقياس يقتضي تحليلها، وأيضا فقد اتفقوا كلهم على الخمر إذا صارت خلا بفعل الله تعالى، صارت حلالا طيبا، واستحالة هذه الأعيان أعظم من استحالة الخمر، والذين فرقوا بينهما قالوا: الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة، بخلاف الدم والميتة، ولحم الخنزير، وهذا الفرق ضعيف، فإن جميع النجاسات نجست أيضا بالاستحالة، فإن الدم مستحيل عن أعيان طاهرة، وكذلك العذرة والبول، والحيوان النجس، مستحيل عن مادة طاهرة مخلوقة، وأيضا فإن الله تعالى حرم الخبائث لما قام بها من وصف الخبث، كما أنه أباح الطيبات لما قام بها من وصف الطيب، وهذه الأعيان المتنازع فيها ليس فيها شيء من وصف الخبث، وإنما فيها وصف الطيب، فإذا عرف هذا: فعلى أصح القولين: فالدخان، والبخار المستحيل عن النجاسة: طاهر ; لأنه أجزاء هوائية ونارية ومائية، وليس فيه شيء من وصف الخبث وعلى القول الآخر فلا بد أن يعفى من ذلك عما يشق الاحتراز منه، كما يعفى عما يشق الاحتراز منه على أصح القولين، ومن حكم بنجاسة ذلك ولم يعف عما يشق الاحتراز منه، فقوله أضعف الأقوال، هذا إذا كان الوقود نجسا، فأما الطاهر: كالخشب والقصب، والشوك فلا يؤثر باتفاق العلماء، وكذلك أرواث ما يؤكل لحمه من الإبل والبقر والغنم والخيل فإنها طاهرة في أصح قولي العلماء والله أعلم .

وأما روث ما لا يؤكل لحمه: كالبغال، والحمير، فهذه نجسة عند جمهور العلماء، وقد ذهب طائفة إلى طهارتها، وأنه لا ينجس من الأرواث، والأبوال إلا بول الآدمي وعذرته، لكن على القول المشهور قول الجمهور إذا شك في الروثة: هل هي من روث ما يؤكل لحمه أو من روث ما لا يؤكل لحمه، ففيها قولان للعلماء، هما وجهان في مذهب أحمد أحدهما: يحكم بنجاستها ; لأن الأصل في الأرواث النجاسة، والثاني: وهو الأصح يحكم بطهارتها ; لأن الأصل في الأعيان الطهارة، ودعوى أن الأصل في الأرواث النجاسة ممنوع، فلم يدل على ذلك لا نص، ولا إجماع، ومن ادعى أصلا بلا نص، ولا إجماع فقد أبطل، وإذا لم يكن معه إلا القياس فروث ما يؤكل لحمه طاهر، فكيف يدعي أن الأصل نجاسة الأرواث ؟ إذا عرف ذلك، فإن تيقن أن الوقود نجس، فالدخان من مسائل الاستحالة كما تقدم، وأما إذا تيقن طهارته فلا نزاع فيه، وإن شك هل فيه نجس فالأصل الطهارة، وإن تيقن أن فيه روثا، وشك في نجاسته فالصحيح الحكم بطهارته، وإن علم اشتماله على طاهر ونجس، وقلنا بنجاسة المستحيل عنه كان له حكمه فيما يصيب بدن المغتسل: يجوز أن يكون من الطاهر، ويجوز أن يكون من النجس، فلا ينجس بالشك، كما لو أصابه بعض رماد مثل هذا الوقود، فإنا لا نحكم بنجاسة البدن بذلك، وإن تيقنا أن في الوقود نجسا، لإمكان أن يكون هذا الرماد غير نجس، والبدن طاهر بيقين فلا نحكم بنجاسته بالشك، وهذا إذا لم يختلط الرماد النجس بالطاهر، أو البخار النجس بالطاهر، فأما إذا اختلطا بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، فما أصاب الإنسان يكون منهما جميعا، ولكن الوقود في مقره لا يكون مختلطا، بل رماد كل نجاسة يبقى في حيزها، فإن قيل: لو اشتبه الحلال بالحرام: كاشتباه أخته بأجنبية، أو الميتة بالمذكى، اجتنبهما جميعا، ولو اشتبه الماء الطاهر بالنجس: فقيل: يتحرى للطهارة إذا لم يكن النجس نجس الأصل بأن يكون بولا كما قاله الشافعي: وقيل: لا يتحرى بل يجتنبهما كما لو كان أحدهما بولا، وهو المشهور من مذهب أحمد، وطائفة من أصحاب مالك، وقيل: يتحرى إذا كانت الآنية أكبر، وهذا مذهب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب أحمد، وفي تقدير الكبير نزاع معروف عندهم، فهنا أيضا اشتبهت الأعيان النجسة بالطاهرة، فاشتبه الحلال بالحرام، قيل: هذا صحيح، ولكن مسألتنا ليست من هذا الباب، فإنه إذا اشتبه الحلال بالحرام اجتنبهما ; لأنه إذا استعملهما لزم استعمال الحرام قطعا، وذلك لا يجوز، فهو بمنزلة اختلاط الحلال بالحرام على وجه لا يمكن تمييزه: كالنجاسة إذا ظهرت في الماء، وإن استعمل أحدهما من غير دليل شرعي كان ترجيحا بلا مرجح، وهما مستويان في الحكم، فليس استعمال هذا بأولى من هذا، فيجتنبان جميعا . - مسألة: إذا ولغ الكلب في اللبن، ومخض اللبن وظهر فيه زبدة، فهل يحل تطهير الزبدة، أفتونا مأجورين، الجواب: اللبن وغيره من المائعات هل يتنجس بملاقاة النجاسة، أو حكمه حكم الماء ؟ هذا فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن أحمد، وكذلك مالك له في النجاسة الواقعة في الطعام الكثير هل تنجسه ؟ فيه قولان، وأما ولوغ الكلب في الطعام فلا ينجسه عند مالك، فهذا على أحد قولي العلماء: لم ينجس، وعلى القول الآخر: ينجس، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عن أصحابه، لكن عند هؤلاء هل يطهر الدهن بالغسل ؟ فيه قولان في مذهب الشافعي وأحمد، وهما قولان في مذهب مالك أيضا، فمن قال إن الأدهان تطهر بالغسل، قال بطهارته بالغسل، وإلا فلا، والله أعلم .

وأما اشتباه الماء الطاهر بالنجس، فإنما نشأ فيه النزاع ; لأن الطهارة بالطهور واجبة، وبالنجس حرام، فقد اشتبه واجب بحرام، والذين منعوا التحري قالوا: استعمال النجس حرام، وأما استعمال الطهور فإنما يجب مع العلم والقدرة، وذلك منتف هنا، ولهذا تنازعوا: هل يحتاج إلى أن يعدم الطهور بخلط أو إراقة ؟ على قولين مشهورين: أصحهما أنه لا يجب ; لأن الجهل كالعجز، والشافعي رحمه الله إنما جوز التحري إذا كان الأصل فيهما الطهارة ; لأنه حينئذ يكون قد استعمل ما أصله طاهر وقد شك في تنجسه فيبقى الأمر فيه على استصحاب الحال، والذين نازعوه قالوا: ما صار نجسا بالتغير فهو بمنزلة نجس الأصل قد زال الاستصحاب بيقين النجاسة كما لو حرمت إحدى امرأتيه برضاع، أو طلاق، أو غيرهما، فإنه بمنزلة من تكون محرمة الأصل عنده، ومسألة اشتباه الحلال بالحرام ذات فروع متعددة، وأما إذا اشتبه الطاهر بالنجس، وقلنا يتحرى أو لا يتحرى، فإنه إذا وقع على بدن الإنسان، أو ثوبه، أو طعامه شيء من أحدهما: لا ينجسه ; لأن الأصل الطهارة، وما ورد عليه مشكوك في نجاسته، ونحن منعنا من استعمال أحدهما ; لأنه لا ترجيح بلا مرجح، فأما تنجس ما أصابه ذلك فلا يثبت بالشك، نعم لو أصابا ثوبين حكم بنجاسة أحدهما، ولو أصابا بدنين فهل يحكم بنجاسة أحدهما، هذا مبني على ما إذا تيقن الرجلان أن أحدهما أحدث أو أن أحدهما طلق امرأته، وفيه قولان: أحدهما: أنه لا يجب على واحد منهما طهارة ولا طلاق، كما هو مذهب الشافعي وغيره، وأحد القولين في مذهب أحمد ; لأن الشك في رجلين لا في واحد، فكل واحد منهما له أن يستصحب حكم الأصل في نفسه، والثاني: أن ذلك بمنزلة الشخص الواحد، وهو القول الآخر في مذهب أحمد، وهو أقوى ; لأن حكم الإيجاب أو التحريم يثبت قطعا في حق أحدهما، فلا وجه لرفعه عنهما جميعا، وسر ما ذكرناه إذا اشتبه الطاهر بالنجس، فاجتنابهما جميعا واجب ; لأنه يتضمن لفعل المحرم، واجتناب أحدهما ; لأن تحليله دون الآخر تحكم، ولهذا لما رخص من رخص في بعض الصور عضده بالتحري، أو به واستصحابه الحلال، فأما ما كان حلالا بيقين، ولم يخالطه ما حكم بأنه نجس، فكيف ينجس ؟ ولهذا لو تيقن أن في المسجد أو غيره بقعة نجسة، ولم يعلم عينها، وصلى في مكان منه، ولم يعلم أنه المتنجس صحت صلاته ; لأنه كان طاهرا بيقين، ولم يعلم أنه نجس، وكذلك لو أصابه شيء من طين الشوارع لم يحكم بنجاسته، وإن علم أن بعض طين الشوارع نجس، ولا يفرق في هذا بين العدد المنحصر وغير المنحصر، وبين القلتين والكثير، كما قيل مثل ذلك في اشتباه الأخت بالأجنبية ; لأنه هناك اشتبه الحلال بالحرام، وهنا شك في طريان التحريم على الحلال .

وأما الماء الذي يجري على أرض الحمام مما يفيض وينزل من أبدان المغتسلين غسل النظافة وغسل الجنابة وغير ذلك فإنه طاهر، وإن كان فيه من الغسل كالسدر والخطمي والأشنان ما فيه إلا إذا علم في بعضه بول أو قيء أو غير ذلك من النجاسات، فذلك الماء الذي خالطته هذه النجاسات له حكمه، وأما ما قبله وما بعده فلا يكون له حكمه بلا نزاع، لا سيما وهذه المياه جارية بلا ريب، بل ماء الحمام الذي هو فيه إذا كان الحوض فائضا فإنه جار في أصح قولي العلماء وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء وهو بمنزلة ما يكون في الأنهار من حفرة ونحوها، فإن هذا الماء وإن كان الجريان على وجهه فإنه يستخلف شيئا فشيئا ويذهب ويأتي ما بعده لكن يبطئ ذهابه بخلاف الذي يجري جميعه، وقد تنازع العلماء في الماء الجاري على قولين، أحدهما: لا ينجس إلا بالتغير، وهذا مذهب أبي حنيفة مع تشديده في الماء الدائم، وهو أيضا مذهب مالك، والقول القديم للشافعي، وهو أنص الروايتين عن أحمد واختيار محققي أصحابه، والقول الآخر للشافعي، وهي الرواية الأخرى عن أحمد أنه كالدائم، فتعتبر الجرية، والصواب الأول، فإن النبي فرق بين الدائم والجاري في نهيه عن الاغتسال فيه والبول فيه، وذلك يدل على الفرق بينهما ; ولأن الجاري إذا لم تغيره النجاسة فلا وجه لنجاسته، وقوله { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث }، إنما دل على ما دونهما بالمفهوم، والمفهوم لا عموم له فلا يدل ذلك على أن ما دون القلتين يحمل الخبث، بل إذا فرق فيه بين دائم وجار ; أو إذا كان في بعض الأحيان يحمل الخبث كان الحدث معمولا به، فإذا كان طاهرا بيقين، وليس في نجاسته نص ولا قياس، وجب البقاء على طهارته مع بقاء صفاته، وإذا كان حوض الحمام الفائض إذا كان قليلا ووقع فيه بول، أو دم أو عذرة، ولم تغيره، لم ينجسه على الصحيح، فكيف بالماء الذي جميعه يجري على أرض الحمام، فإنه إذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره، لم ينجس، وهذا يتضح بمسألة أخرى، وهو أن الأرض، وإن كانت ترابا، أو غير تراب، إذا وقعت عليها نجاسة من بول، أو عذرة، أو غيرهما ; فإنه إذا صب الماء على الأرض حتى زالت عين النجاسة فالماء والأرض طاهران، وإن لم ينفصل الماء في مذهب جماهير العلماء، فكيف بالبلاط ؟ ولهذا قالوا: إن السطح إذا كانت عليه نجاسة، وأصابه ماء المطر، حتى أزال عينها، كان ما ينزل من الميازيب طاهرا، فكيف بأرض الحمام ؟ فإذا كان بها بول، أو قيء فصب عليه ماء حتى ذهبت عينه كان الماء والأرض طاهرين وإن لم يجر الماء ; فكيف إذا جرى وزال عن مكانه، والله أعلم، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وذكرنا بضعة عشر دليلا شرعيا على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه، فإذا كانت طاهرة فكيف بالمستحيل منها أيضا، وطهارة هذه الأرواث بينة في السنة فلا يجعل الخلاف فيها شبهة يستحب لأجله اتقاء ما خالطته، إذ قد ثبت بالسنة الصحيحة أن النبي وأصحابه كانوا يلابسونها .

- مسألة: في أناس في مفازة، ومعهم قليل ماء فولغ الكلب فيه، وهم في مفازة معطشة، الجواب: يجوز لهم حبسه لأجل شربه إذا عطشوا ولم يجدوا ماء طيبا، فإن الخبائث جميعا تباح للمضطر، فله أن يأكل عند الضرورة الميتة والدم، ولحم الخنزير، وله أن يشرب عند الضرورة كل ما يرويه: كالمياه النجسة، والأبوال التي ترويه وإن ما منعه أكثر الفقهاء شرب الخمر، قالوا: لأنها تزيده عطشا، وأما التوضؤ بماء الولوغ فلا يجوز عند جماهير العلماء، بل يعدل عنه إلى التيمم، ويجب على المضطر أن يأكل ويشرب ما يقيم به نفسه، فمن اضطر إلى الميتة، أو الماء النجس، فلم يشرب ولم يأكل حتى مات دخل النار، ولو وجد غيره مضطرا إلى ما معه من الماء الطيب، أو النجس، فعليه أن يسقيه إياه ويعدل إلى التيمم، سواء كان عليه جنابة أو حدث صغير، ومن اغتسل وتوضأ وهناك مضطر من أهل الملة، أو الذمة، أو دوابهم المعصومة، فلم يسقه كان آثما عاصيا، والله أعلم .

فصل وإذا عرف أصل هذه المسألة، فالحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة، فإذا زالت بفعل الله طهرت، بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تأكلوا خل خمر، إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري خلا من خمر أهل الكتاب ما لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها ; وذلك لأن اقتناء الخمر محرم، فمن قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة، وأما إذا اقتناها لشربها، واستعمالها خمرا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده، فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة، وأما سائر النجاسات: فيجوز التعمد لإفسادها، لأن إفسادها ليس بمحرم، كما لا يحد شاربها ; لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر، ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة، وجوزوا أيضا إحالة النجاسة بالنار وغيرها .

- مسألة: في الزيت إذا وقعت فيه النجاسة مثل الفأرة ونحوها وماتت فيه، هل ينجس أم لا ؟ وإذا قيل ينجس فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتى يبلغ قلتين أم لا ؟، وإذا قيل تجوز المكاثرة، هل يجوز إلقاء الطاهر على النجس، أو بالعكس، أو لا فرق ؟ وإذا لم تجز المكاثرة، وقيل بنجاسته، هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به، أو غسله إذا قيل يطهر بالغسل أم لا ؟ وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمكاثرة، هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا ؟، الجواب: الحمد لله، أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة فهل تنجس ؟ وإن كانت كثيرة فوق القلتين، أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقا إلا بالتغير، أو لا ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين ؟ فيه عن أحمد ثلاث روايات: إحداهن: أنها تنجس ولو مع الكثرة، وهو قول الشافعي، وغيره، والثانية: أنها كالماء سواء، كانت مائية، أو غير مائية، وهو قول طائفة من السلف والخلف: كابن مسعود، وابن عباس، والزهري، وأبي ثور، وغيرهم، وهو قول أبي ثور، نقله المروزي عن أبي ثور، وحكي ذلك لأحمد فقال: إن أبا ثور شبهه بالماء، ذكر ذلك الخلال في جامعه عن المروزي، وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة أن حكم المائعات عندهم حكم الماء، ومذهبهم في المائعات معروف: فإذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر لم تنجس كالماء عندهم، وأما أبو ثور فإنه يقول بالعكس: بالقلتين كالشافعي، والقول أنها كالماء يذكر قولا في مذهب مالك، وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين وروي عن أبي نافع، من المالكية، في الجباب التي بالشام للزيت تموت فيه الفأرة أن ذلك لا يضر الزيت، قال: وليس الزيت كالماء، وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة ولم تغير أوصافه وكان كثيرا ; لم ينجس بخلاف موتها فيه، ففرق بين موتها فيه، ووقوعها فيه، ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر: أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة، إلا السمن إذا وقعت فيه فأرة، كما يقولون إن الماء لا ينجس، إلا إذا بال فيه بائل، والثالثة: يفرق بين المائع المائي: كخل الخمر، وغير المائي: كخل العنب، فيلحق الأول بالماء دون الثاني، وفي الجملة: للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال، أحدها: أنها كالماء، والثاني: أنها أولى بعدم التنجس من الماء ; لأنها طعام وإدام فإتلافها فيه فساد ; ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء ; أو مباينة لها من الماء، والثالث: أن الماء أولى بعدم التنجس منها ; لأنه طهور، وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرنا حجة من قال بالتنجيس، وأنهم احتجوا بقول النبي : { إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وإن كان مائعا، فلا تقربوه }، رواه أبو داود، وغيره، وبينا ضعف هذا الحديث، وطعن البخاري، والترمذي، وأبي حاتم الرازي، والدارقطني، وغيرهم فيه، وأنهم بينوا أنه غلط فيه معمر على الزهري . - مسألة: فيمن وقع على ثيابه ماء من طاقة ما يدري ما هو، فهل يجب غسله أم لا ؟ الجواب: لا يجب غسله، بل ولا يستحب على الصحيح، وكذلك لا يستحب السؤال عنه على الصحيح، فقد مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع رفيق له، فقطر على رفيقه ماء من ميزاب فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أم نجس ؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره فإن هذا ليس عليه، والله أعلم .

والماء لنجاسته سببان، أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه، فالمتفق عليه: التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير، فزال التغير، كان طاهرا: كالثوب المضمخ بالدم، إذا غسل عاد طاهرا، والثاني: القلة: فإذا كان الماء قليلا، ووقعت فيه نجاسة، ففي نجاسته قولان للعلماء: فمذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه: أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثني البول، والعذرة المائعة، فيجعل ما أمكن نزحه نجسا بوقوع ذلك فيه، ومذهب أبي حنيفة: ينجس ما وصلت إليه الحركة، ومذهب أهل المدينة، وأحمد في الرواية الثالثة: أنه لا ينجس ولو لم يبلغ قلتين، واختار هذا القول بعض أصحاب الشافعي، وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب أحمد، كما نصر الأولى طائفة كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا: إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين، وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول، فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير، ومن يسوي بين الماء والمائعات: كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد، قال: في المائعات كذلك، كما قاله الزهري وغيره، فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات إلا بالتغير، كما ذكره البخاري في صحيحه، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء، وكذلك في المائعات إذا سويت به فنقول: إذا وقع في المائع القليل نجاسة، فصب عليه مائع كثير، فيكون الجميع طاهرا إذا لم يكن متغيرا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين، فصار الجميع كثيرا فوق القلتين، ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد: أحدهما: وهو مذهب الشافعي في الماء أن الجميع طاهر، والوجه الثاني: أنه لا يكون طاهرا حتى يكون المضاف كثيرا، والمكاثرة المعتبرة: أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير، كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضا، وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرا، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة، وكان الجميع كثيرا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل، وفي ذلك الوجهان المتقدمان، وهذا القول الذي ذكرناه من المائعات كالماء، أولى بعدم التنجيس من الماء هو الأظهر في الأدلة الشرعية، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجيس الأشربة والأطعمة، ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل، ولم يأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك ; لأن الماء لا يمن له في العادة بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم، فإن في نجاستها من المشقة والحرج والضيق ما لا يخفى على الناس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير رفعا للحرج فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة، والحرج في هذا أشق، ولعل أكثر المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو عن نجاسة، فإن قيل: الماء يدفع النجاسة عن غيره، فعن نفسه أولى وأحرى ; بخلاف المائعات، قيل: الجواب عن ذلك من وجوه، أحدها: إن الماء إنما دفعها عن غيره ; لأنه يزيلها عن ذلك المحل، وتنتقل معه، فلا يبقى على المحل نجاسة وأما إذا وقعت فيه، فإنما كان طاهرا لاستحالتها فيه لا لكونه أزالها عن نفسه، ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة: إن المائعات كالماء في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زالت معه أن يزيلها إذا كانت فيه، ونظير الماء الذي فيه النجاسة: الغسالة المنفصلة عن المحل، وتلك نجسة قبل طهارة المحل، وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه: هل هي طاهرة، أو مطهرة، أو نجسة ؟ وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال: الماء ينجس بوقوعها فيه، وإن كان يزيلها عن غيره لما ذكرنا، فإذا كانت النصوص، وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دل عليه قول النبي : { الماء طهور لا ينجسه شيء } وقوله: { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث }، فإنه إذا كان طهورا يطهر به غيره، علم أنه لا ينجس بالملاقاة، إذ لو نجس بها لكان إذا صب عليه النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت، وإن استحالت زالت، فدل ذلك على أن استحالة النجاسة مع ملاقاتها فيه لا تنجسه، إن لم تكن قد زالت كما زالت عن المحل، فإن من قال: يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره فقد خالف المشاهدة، وهذا المعنى يوجد في سائر المائعات من الأشربة وغيرها، الوجه الثاني: أن يقال: غاية هذا أن يقتضي أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد، ومالك، كما هو مذهب أبي حنيفة، وغيره، وأحمد جعله لازما فمن قال: إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة، وقال: يلزم على هذا أن تزال به النجاسة، وهذا ; لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالته بكل مائع طاهر مزيل للعين، قلاع للأثر على هذا القول، وهذا هو القياس، فنقول به على هذا التقدير، وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال إنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير، إما مطلقا وإما مع الكثرة، فكذلك الصواب في المائعات، وفي الجملة: التسوية بين الماء، والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات، وفي مسألة ملاقاتها للمائعات الماء وغير الماء، ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها، والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية، تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة، وكون حكم النجاسة تبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع، أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس، ومن كان فقيها خبيرا بمأخذ الأحكام الشرعية، وأزال عنه الهوى، تبين له ذلك، ولكن إذا كان في استعمالها فساد، فإنه ينهى عن ذلك، كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها، ونحو ذلك، لما في ذلك من الحاجة إليها، لا لأجل الخبث، كما ثبت في الصحيح: { عن النبي : لما كان في بعض أسفاره مع أصحابه، فنفدت أزوادهم، فاستأذنوه في نحر الظهر، فأذن لهم، ثم أتى عمر، فسأله أن يجمع الأزواد، فيدعو الله بالبركة فيها ويبقي الظهر، ففعل ذلك }، فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب، لا ; لأن الإبل محرمة، فهكذا ينهى فيما يحتاج إليه من الأطعمة، والأشربة عن إزالة النجاسة بها، كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن، وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها، فالقول في المائعات كالقول في الجامدات، الوجه الثالث: أن يقال إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء، وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات، فإذا كان الماء لا ينجس بما وقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته فالمائعات أولى وأحرى، الوجه الرابع: أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم، ولا لون، ولا ريح، لا نسلم أن يقال بنجاسته أصلا، كما في الخمر المسلبة أو أبلغ، وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة، فإن الجمهور على أن المستحيلات من النجاسة طاهرة، كما هو المعروف عن الحنفية، والظاهرية، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وأحمد، ووجه في مذهب الشافعي، الوجه الخامس: أن دفع العين للنجاسة عن نفسها كدفع الماء، لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره، فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض، وذهبت بالشمس، أو الريح، أو الاستحالة هل تطهر الأرض على قولين، أحدهما: تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي، وأحمد، وهو الصحيح في الدليل، فإنه ثبت { عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ، ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك }، وفي السنن أنه قال: { إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما في التراب فإن التراب لهما طهور }، وكان الصحابة: كعلي بن أبي طالب، وغيره، يخوضون في الوحل، ثم يدخلون يصلون بالناس، ولا يغسلون أقدامهم، وأوكد من هذا { قوله في ذيول النساء إذا أصابت أرضا طاهرة بعد أرض خبيثة: تلك بتلك } وقوله: { يطهره ما بعده }، وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد، وغيره، وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وهي من أجل المسائل، وهذا ; لأن الذيول يتكرر ملاقاتها للنجاسة، فصارت كأسفل الخف ومحل الاستنجاء، فإذا كان الشارع جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها لأجل الحاجة، كما في الاستنجاء بالأحجار، وجعل الجامد طهورا ; علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء، وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال من النجاسة ; فالمائعات أولى وأحرى ; لأن إحالتها أشد وأسرع، ولبسط هذه المسائل وما يتعلق بها مواضع غير هذا، وأما من قال: إن الدهن يتنجس بما يقع فيه، في جواز الاستصباح به قولان في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، أظهرهما: جواز الاستصباح به، كما نقل ذلك عن طائفة من الصحابة، وفي طهارته بالغسل وجهان في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد: أحدهما: يطهر بالغسل كما اختاره ابن شريح، وأبو الخطاب، وابن شعبان، وغيرهم، وهو المشهور من مذهب الشافعي، وغيره، والثاني: لا يطهر بالغسل، وعليه أكثرهم، وهذا النزاع يجري في الدهن المتغير بالنجاسة، فإنه نجس بلا ريب، ففي جواز الاستصباح به هذا النزاع ; وكذلك في غسله هذا النزاع، وأما بيعه: فالمشهور أنه لا يجوز بيعه، لا من مسلم ولا كافر، وعن أحمد أنه يجوز بيعه من كافر، إذا علم بنجاسته، كما روي عن أبي موسى الأشعري، وقد خرج قول له بجواز بيعه منهم من خرجه على جواز الاستصباح به، كما فعل أبو الخطاب، وغيره، وهو ضعيف ; لأن أحمد وغيره من الأئمة فرقوا بينهما، ومنهم من خرج جواز بيعه على جواز تطهيره ; لأنه إذا جاز تطهيره صار كالثوب النجس، والإناء النجس، وذلك يجوز بيعه وفاقا، وكذلك أصحاب الشافعي لهم في جواز بيعه إذا قالوا بجواز تطهيره وجهان، ومنهم من قال يجوز بيعه مطلقا، والله أعلم .

- مسألة: في المرأة هل تختن أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، نعم تختن، وختانها: أن تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك، { قال رسول الله للخافضة - وهي الخاتنة: أشمي ولا تنهكي فإنه أبهى للوجه وأحظى لها عند الزوج } يعني: لا تبالغي في القطع، وذلك أن المقصود بختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة، والمقصود من ختان المرأة تعديل شهوتها، فإنها إذا كانت قلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة، ولهذا يقال في المشاتمة: يا ابن القلفاء، فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، ولهذا من الفواحش في نساء التتر، ونساء الإفرنج، ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصل المبالغة في الختان ضعفت الشهوة، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود باعتدال والله أعلم .

- مسألة: في الختان متى يكون ؟ الجواب: أما الختان فمتى شاء اختتن، لكن إذا راهق البلوغ فينبغي أن يختن كما كانت العرب تفعل، لئلا يبلغ إلا وهو مختون، وأما الختان في السابع ففيه قولان هما روايتان عن أحمد: قيل لا يكره ; لأن إبراهيم ختن إسحاق في السابع، وقيل يكره ; لأنه عمل اليهود فيكره التشبه بهم، وهذا مذهب مالك، والله أعلم . - مسألة: مسلم بالغ، عاقل، يصوم ويصل وهو غير مختون، وليس مطهرا، هل يجوز ذلك، ومن ترك الختان كيف حكمه ؟ الجواب: إذا لم يخف عليه ضرر الختان فعليه أن يختتن، فإن ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة، وهو واجب عند الشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وقد اختتن إبراهيم الخليل عليه السلام بعد ثمانين من عمره، ويرجع في الضرر إلى الأطباء الثقات، وإذا كان يضره في الصيف أخره إلى زمان الخريف، والله أعلم .

- مسألة: كم مقدار أن يقعد الرجل حتى يحلق عانته الجواب: عن أنس رضي الله عنه: { أن رسول الله : وقت لهم في حلق العانة، ونتف الإبط، ونحو ذلك أن لا يترك أكثر من أربعين يوما } وهو في الصحيح، والله أعلم .

- مسألة: في رجل إذا قبل زوجته أو ضمها فأمذى، هل يفسد ذلك صومه أم لا ؟ وإذا أمذى فهل يلزمه وضوء أم لا ؟ وإذا صبر الرجل على زوجته الشهر والشهرين لا يطؤها فهل عليه إثم أم لا ؟ وهل يطالب الزوج بذلك ؟ الجواب: أما الوضوء فينتقض بذلك وليس عليه إلا الوضوء، لكن يغسل ذكره وأنثييه، ويفسد الصوم بذلك عند أكثر العلماء، ويجب على الرجل أن يطأ زوجته بالمعروف، وهو من أوكد حقها عليه أعظم من إطعامها، والوطء الواجب قيل: إنه واجب في كل أربعة أشهر مرة، وقيل: بقدر حاجتها وقدرته، كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته، وهذا أصح القولين، والله أعلم .

- مسألة: في رجل يهيج عليه بدنه فيستمني بيده، وبعض الأوقات يلصق وركيه على ذكره، وهو يعلم أن إزالة هذا بالصوم لكن يشق عليه الجواب: أما ما نزل من الماء بغير اختياره فلا إثم عليه فيه، لكن عليه الغسل إذا نزل الماء الدافق، وأما إنزاله باختياره بأن يستمني بيده فهذا حرام عند أكثر العلماء ; وهو إحدى الروايتين عن أحمد بل أظهرهما، وفي رواية أنه مكروه لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف الزنا إن لم يستمن، أو يخاف المرض، فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وقد رخص في هذه الحال طوائف من السلف والخلف، ونهى عنه آخرون، والله أعلم .

- مسألة: في امرأة بها مرض في عينيها، وثقل في جسمها من الشحم، وليس لها قدرة على الحمام لأجل الضرورة، وزوجها لم يدعها تطهر، وهي تطلب الصلاة، فهل يجوز لها أن تغسل جسمها الصحيح وتتيمم عن رأسها ؟ الجواب: نعم إذا لم تقدر على الاغتسال في الماء البارد ولا الحار، فعليها أن تصلي في الوقت بالتيمم عند جماهير العلماء، لكن مذهب الشافعي، وأحمد أنها تغسل ما يمكن وتتيمم للباقي، ومذهب أبي حنيفة، ومالك، إن غسلت الأكثر لم تتيمم، إن لم يمكن إلا غسل الأقل تيممت، ولا غسل عليها .

وقول القائل: إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة كقوله: إن النظر إلى وجوه النساء، أو النظر إلى وجوه محارم الرجل، كبنت الرجل، وأمه وأخته عبادة، ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة كان بمنزلة من جعل الفواحش عبادة، قال تعالى: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }، ومعلوم أنه قد يكون في صور النساء الأجنبيات وذوي المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما في صورة المرد، فهل يقول مسلم إن للإنسان أن ينظر بهذا الوجه إلى صور نساء العالم، وصور محارمه، ويقول إن ذلك عبادة ؟ بل من جعل مثل هذا النظر عبادة فإنه كافر، مرتد، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفواحش عبادة، أو جعل تناول يسير الخمر عبادة أو جعل السكر بالحشيشة عبادة، فمن جعل المعاونة على الفاحشة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئا من المحرمات التي يعلم تحريمها من دين الإسلام عبادة، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو مضاه للمشركين الذين { إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }، وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية، وقد ذكر عنهم ما ذكر، فكيف بمن يجعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة، والله سبحانه قد أمر في كتابه بغض البصر، وهو نوعان: غض البصر عن العورة، وغضها عن محل الشهوة، فالأول: كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبي : { لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة }، ويجب على الإنسان أن يستر عورته، كما قال النبي لمعاوية بن حيدة: { احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك }، قلت: فإذا كان أحدنا مع قومه ؟ قال: { إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها }، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا ؟ قال: { فالله أحق أن يستحيي منه الناس } ويجوز أن يكشف بقدر الحاجة كما يكشف عند التخلي، وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده بجنب ما يستره، فله أن يغتسل عريانا كما اغتسل موسى عريانا، وأيوب، وكما في اغتساله يوم الفتح، واغتساله في حديث ميمونة، وأما النوع الثاني من النظر: كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية، فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم، ولحم الخنزير، وعلى صاحبها الحد، تلك المحرمات إذا تناولها غير مستحل لها كان التعزير ; لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهي الخمر، وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهي كما يشتهي النظر إلى النساء ونحوهن، وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم لشهوة، والخالق سبحانه يسبح عند رؤية مخلوقاته كلها، وليس خلق الأمرد بأعجب في قدرته من خلق ذي اللحية، ولا خلق النساء بأعجب في قدر من خلق الرجال، بل تخصيص الإنسان التسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره ; كتخصيصه التسبيح بنظره إلى المرأة دون الرجل، وما ذاك إلا أنه دل على عظمة الخالق عنده، ولكن ; لأن الجمال يغير قلبه وعقله، وقد يذهله ما رآه فيكون تسبيحه بما يحصل في نفسه من الهوى، كما أن النسوة لما رأين يوسف { أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم }، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي أنه قال: { إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم }، وإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به، وقد قال تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا }، وقال في المنافقين: { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون }، فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم، لما فيهم من البهاء، والرواء، والزينة الظاهرة، وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن ينظر إليه لشهوة، وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى، وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته، وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور، فهذا حسن، وقد ينظر من جهة استحسان خلقه، كما ينظر إلى الجبل والبهائم، وكما ينظر إلى الأشجار، فهذا أيضا إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة، والمال، فهو مذموم لقوله تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه }، وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق، وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حراما بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بنظر الشهوة، أو كان نظرا بشهوة الوطء، وفرق بين ما يجده الإنسان عند نظره الأشجار والأزهار، وما يجده عند نظره النسوان والمرد، فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعي، فصار النظر إلى المرد ثلاثة أقسام، أحدها: ما يقرن به الشهوة فهو حرام بالاتفاق، والثاني: ما يجزم أنه لا شهوة معه، كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن، وابنته الحسنة، وأمه، فهذا لا يقرن به شهوة، إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترنت به الشهوة حرم، وعلى هذا من لا يميل قلبه إلى المرد كما كان الصحابة، وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة، فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق بين هذا الوجه وبين نظره إلى ابنه، وابن جاره، وصبي أجنبي، ولا يخطر بقلبه شيء من الشهوة ; لأنه لم يعتد ذلك وهو سليم القلب من مثل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات وهن متكشفات الرءوس، وتخدم الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجال أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات، كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد، وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة، والأزمنة، التي يخاف فيها الفتنة بهم، إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج، ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب، ولا من رقصة بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، والنظر إليه كذلك، وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر ; وهو: النظر إليه لغير شهوة، لكن مع خوف ثورانها، فيه وجهان في مذهب أحمد، أصحهما وهو المحكي عن نص الشافعي: إنه لا يجوز، والثاني يجوز ; لأن الأصل عدم ثورانها، فلا يحرم بالشك بل قد يكره، والأول هو الراجح، كما أن الراجح في مذهب الشافعي، وأحمد: أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لكن ; لأنه يخاف ثورانها، ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية ; لأنها مظنة الفتنة، والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة، ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرما إلا إذا كان لمصلحة راجحة، مثل نظر الخاطب، والطبيب، وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة، لكن مع عدم الشهوة، وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز، ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه، أو أدامه، وقال: إني لا أنظر لشهوة كذب في ذلك، فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك، وأما نظرة الفجأة فهي عفو إذا صرف بصره، كما ثبت في الصحيح: { عن جرير قال: سألت رسول الله عن نظرة الفجأة، فقال: اصرف بصرك }، وفي السنن: أنه قال لعلي عليه السلام: " { يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية }، وفي الحديث الذي في المسند، وغيره: { النظرة سهم مسموم من سهام إبليس }، وفيه: { من نظر إلى محاسن امرأة، ثم غض بصره عنها، أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة } أو كما قال، ولهذا يقال: إن غض البصر عن الصورة التي نهي عن النظر إليها كالمرأة، والأمرد الحسن يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر: إحداها: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه الله، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تجتذب بسببها إلى الصور، حتى تبقى تجذب أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع، ولهذا قال بعض التابعين: ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه، وقال بعضهم: اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن لهم فتنة كفتنة العذارى، وما زال أئمة العلم والدين: كشيوخ الهدى، وشيوخ الطريق، يوصون بترك صحبة الأحداث حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال: صحبت ثلاثين من الأبدال، كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة الأحداث، وقال بعضهم: ما سقط عبد من عين الله إلا بصحبة هؤلاء الأنتان، ثم النظر يؤكد المحبة، فيكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب إليه، ثم غراما للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقا إلى أن يصير تتيما، والمتيم المعبد، وتيم الله عبد الله، فيبقى القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون أخا، بل ولا خادما، وهذا إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله، كما قال تعالى في حق يوسف: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقا لقوله: { ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين }، قال تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين }، والغي هو اتباع الهوى، وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى، ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة: كابن سينا، وذويه، أو من الفرس كما يذكر عن بعضهم، أو من جهال المتصوفة، فإنهم أهل ضلال وغي، فهم مع مشاركة اليهود في الغي، والنصارى في الضلال، زادوا على الأمتين في ذلك، فإن هذا وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق: كتطليق نفسه، وتهذيب أخلاقه، وللمعشوق من الشفاء في مصالحه وتعليمه، وتأديبه، وغير ذلك، فمضرة ذلك أضعاف منفعته، وأين إثم ذلك من منفعته، وإنما هذا كما يقال: إن في الزنا منفعة لكل منهما، بما يحصل له من التلذذ والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك، وكما يقال إن في شرب الخمر منافع بدنية ونفسية، وقد قال في الخمر والميسر: { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }، وهذا قبل التحريم دع ما قاله عند التحريم وبعده، وباب التعلق بالصور هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش، وهو من باطن الإثم، قال تعالى: { وذروا ظاهر الإثم وباطنه }، وقال تعالى: { إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن }، وقد قال: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون }، وليس بين أئمة الدين نزاع في أن هذا ليس بمستحب، كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحا، وأثنى عليه، فقد خرج من إجماع المسلمين، بل اليهود والنصارى، بل وعما عليه عقل بني آدم من جميع الأمم، وهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين }، وقد قال تعالى: { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى }، وقال تعالى: { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } . - مسألة: في رجل يخرج من ذكره قيح لا ينقطع، فهل تصح صلاته مع خروج ذلك ؟ أفتونا مأجورين الجواب: لا يجوز أن يبطل الصلاة، بل يصلي بحسب إمكانه، فإن لم تنقطع النجاسة قدر ما يتوضأ ويصلي، صلى بحسب حاله بعد أن يتوضأ وإن خرجت النجاسة في الصلاة، لكن يتخذ حفاظا يمنع من انتشار النجاسة، والله أعلم .

وهذا كما أنه لما أمر بالاستجمار بالأحجار، لم يختص الحجر إلا لأنه كان الموجود غالبا، لا لأن الاستجمار بغيره لا يجوز، بل الصواب قول الجمهور في جواز الاستجمار بغيره، كما هو أظهر الروايتين عن أحمد ; لنهيه عن الاستجمار بالروث والرمة، وقال: { إنهما طعام إخوانكم من الجن }، فلما نهى عن هذين تعليلا بهذه العلة، علم أن الحكم ليس مختصا بالحجر، وإلا لم يحتج إلى ذلك، وكذلك أمره بصدقة الفطر بصاع من تمر أو شعير، هو عند أكثر العلماء لكونه كان قوتا للناس، فأهل كل بلد يخرجون من قوتهم، وإن لم يكن من الأصناف الخمسة، كالذين يقتاتون الرز، أو الذرة يخرجون من ذلك عند أكثر العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وليس نهيه عن الاستجمار بالروث والرمة إذنا في الاستجمار بكل شيء، بل الاستجمار بطعام الآدميين، وعلف دوابهم، أولى بالنهي عنه من طعام الجن، وعلف دوابهم، ولكن لما كان من عادة الناس أنهم لا يتوقون الاستجمار بما نهى عنه من ذلك، بخلاف طعام الإنس وعلف دوابهم، فإنه لا يوجد من يفعله في العادة الغالبة، وكذلك هذه الأصناف الخمسة نهى عنها، وقد سئل ما يلبس المحرم من الثياب، وظاهر لفظه أنه أذن فيما سواها ; لأنه سئل عما يلبس لا عما لا يلبس، فلو لم يفد كلامه الإذن فيما سواها لم يكن قد أجاب السائل، لكن كان الملبوس المعتاد عندهم مما يحرم على المحرم هذه الخمسة، والقوم لهم عقل وفقه، فيعلم أحدهم أنه إذا نهى عن القميص وهو طاق واحد، فلأن ينهى عن المبطنة، وعن الجبة المحشوة، وعن الفروة التي هي كالقميص، وما شاكل ذلك بطريق الأولى والأحرى ; لأن هذه الأمور فيها ما في القميص وزيادة، فلا يجوز أن يأذن فيها مع نهيه عن القميص، وكذلك التبان أبلغ من السراويل، والعمامة تلبس في العادة فوق غيرها، إما قلنسوة، أو كلثمة، أو نحو ذلك، فإذا نهى عن العمامة التي لا تباشر الرأس فنهيه عن القلنسوة، والكلثمة، ونحوها مما يباشر الرأس أولى، فإن ذلك أقرب إلى تخمير الرأس، والمحرم أشعث أغبر، ولهذا قال في الحديث الصحيح - حديث المباهاة - { إنه يدنو عشية عرفة، فيباهي الملائكة بأهل الموقف فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا، ما أراد هؤلاء }، وشعث الرأس واغبراره لا يكون مع تخميره، فإن المخمر لا يصيبه الغبار، ولا يشعث بالشمس، والريح وغيرهما ; ولهذا كان من لبد رأسه يحصل له نوع متعة بذلك يؤمر بالحلق فلا يقصر، وهذا بخلاف القعود في ظل، أو سقف أو خيمة، أو شجر أو ثوب يظل به، فإن هذا جائز بالكتاب والسنة، والإجماع ; لأن ذلك لا يمنع الشعث ولا الاغبرار، وليس فيه تخمير الرأس، وإنما تنازع الناس فيمن يستظل بالمحمل ; لأنه ملازم للراكب كما تلازمه العمامة، لكنه منفصل عنه، فمن نهى عنه اعتبر ملازمته له، ومن رخص فيه اعتبر انفصاله عنه، فأما المنفصل الذي لا يلازم، فهذا يباح بالإجماع، والمتصل الملازم منهي عنه باتفاق الأئمة، ومن لم يلحظ المعاني من خطاب الله ورسوله، ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر كالذين يقولون إن قوله: { فلا تقل لهما أف }، لا يفيد النهي عن الضرب، وهو إحدى الروايتين عن داود، واختاره ابن حزم، وهذا في غاية الضعف، بل وكذلك قياس الأولى، وإن لم يدل عليه الخطاب، لكن عرف أنه أولى بالحكم من المنطوق بهذا، فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحد من السلف، فما زال السلف يحتجون بمثل هذا، وهذا كما أنه إذا قال في الحديث الصحيح: { والذي نفسي بيده لا يؤمن كررها ثلاثا، قالوا: من يا رسول الله ؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه } فإذا كان هذا بمجرد الخوف من بوائقه، فكيف فعل البوائق مع عدم أمن جاره منه، كما في الصحيح: عنه أنه قيل له: { أي الذنب أعظم ؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قيل: ثم ماذا ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قيل: ثم أي ؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك }، ومعلوم أن الجار لا يعرف هذا في العادة، فهذا أولى بسلب الإيمان ممن لا تؤمن بوائقه، ولم يفعل مثل هذا، وكذلك إذا قال: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }، فإذا كان هؤلاء لا يؤمنون، فالذين يحكمونه ويرون حكمه، وإن لم يجدوا حرجا مما قضى ; لاعتقادهم أن غيره أصح منه، أو أنه ليس بحكم سديد، [ أشد وأعظم ]، وكذلك إذا قال: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله }، فإذا كان بموادة المحاد لا يكون مؤمنا، فأن لا يكون مؤمنا إذا حاد بطريق الأولى والأحرى، وكذلك إذا نهي الرجل أن يستنجي بالعظم والروثة ; لأنهما طعام الجن وعلف دوابهم، فإنهم يعلمون أن نهيه عن الاستنجاء بطعام الإنس وعلف دوابهم أولى، وإن لم يدل ذلك اللفظ عليه، وكذلك إذا نهي عن قتل الأولاد مع الإملاق، فنهيه عن ذلك مع الغنى واليسار أولى وأحرى، فالتخصص بالذكر قد يكون للحاجة إلى معرفته، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم، فتخصيص القميص دون الجباب، والعمائم دون القلانس، والسراويل دون التباين، هو من هذا الباب، لا لأن كل ما لا يتناوله اللفظ فقد أذن فيه، وكذلك أمره بصب دلو من ماء على بول الأعرابي، مع ما فيه من اختلاط الماء بالبول وسريان ذلك، لكن قصد به تعجيل التطهير، لا لأن النجاسة لا تزول بغير ذلك بل الشمس والريح، والاستحالة تزيل النجاسة، أعظم من هذا ; ولهذا { كانت الكلاب تقبل، وتدبر، وتبول في مسجد رسول الله ، ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك )