ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء االثاني/فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة


فإن قيل : فعلى أي وجه ترك هو ومن قبلـه كثيراً من الأحاديث ؟

قيل لـه وباللـه التوفيق: وقد بينَّا هذا فيما خلا، ولكن نأتي بفصول تقتضي تكرار ما قد ذكر فلا بد من تكراره، وذلك أن مالكاً وغيره بشر ينسى كما ينسى سائر الناس، وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه، وقد يعرض هذا في آي القرآن، وقد أمر عمر على المنبر بألا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره، فذكرته امرأة بقول اللـه تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }

فترك قولـه وقال: كل أحد أفقه منك يا عمر، وقال: امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ، وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فذكره عليّ بقول اللـه تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }

مع قولـه تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فرجع عن الأمر برجمها.

وهمّ أن يسطو بعيينة بن حصن، إذ قال لـه: يا عمر ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل. فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول اللـه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }

وقال لـه: يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين فأمسك عمر.

وقال يوم مات رسول اللـه : واللـه ما مات رسول اللـه ولا يموت حتى يكون آخرنا، أو كلاماً هذا معناه، حتى قرئت عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } فسقط السيف من يده وخر إلى الأرض.

وقال: كأني واللـه لم أكن قرأتها قط .

فإذا أمكن هذا في القرآن، فهو في الحديث أمكن، وقد ينساه البتة، وقد لا ينساه بل يذكره، ولكن يتأول فيه تأويلاً فيظن فيه خصوماً أو نسخاً أو معنى ما، وكل هذا لا يجوز اتباعه إلا بنص أو إجماع، لأنه رأي من رأى ذلك، ولا يحل تقليد أحد ولا قبول رأيه.

وقد علم كل أحد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حوالي رسول الله بالمدينة مجتمعين، وكانوا ذوي معايش يطلبونها، وفي ضنك من القوت شديد قد جاء ذلك منصوصاً وأن النبي وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم، فكانوا من متحرف في الأسواق، ومن قائم على نخلة، ويحضر رسول الله في كل وقت منهم الطائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله، هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره وقد ذكر ذلك أبو هريرة فقال : إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكنت امرأ مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني، وقد أقرّ بذلك عمر فقال: فاتني مثل هذا من حديث رسول الله ، ألهاني الصفق في الأسواق، ذكر ذلك في حديث استئذان أبي موسى فكان رسول الله يسأل عن المسألة، ويحكم بالحكم، ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيعيه من حضره ويغيب بمن غاب عنه.

فلما مات النبي وولي أبو بكر رضي الله عنه، فمن حينئذ تفرق الصحابة للجهاد، إلى مسيلمة وإلى أهل الردة، وإلى الشام والعراق، وبقي بعضهم بالمدينة مع أبي بكر رضي الله عنه.

فكان إذا جاءت القضية ليس عنده فيها عن النبي أمر، سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك فإن وجد عندهم رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم، ليس عليه غير ذلك، فلما ولي عمر رضي الله عنه فتحت الأمصار، وزاد تفرق الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل في المدينة أو في غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك عن النبي أثر، حكم به، وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك، وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي موجود عند صاحب آخر، في بلد آخر.

وقد حضر المديني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المديني، كل هذا موجود في الآثار وفي ضرورة العلم بما قدمنا من مغيب بعضهم عن مجلس النبي في بعض الأوقات وحضور غيره، ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضر، ويفوته ما غاب عنه.

وهذا معلوم ببديهة العقل.

وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره.

وجهله عمر وابن مسعود فقالا: لا يتيمم الجنب، ولو لم يجد الماء شهرين وكان حكم المسح عند عليّ وحذيفة رضي الله عنهما وغيرهم، وجهلته عائشة وابن عمر وأبو هريرة، وهم مدنيون.

وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وجهله أبو موسى، وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى، وعند أبي سعيد وجهله عمر.

وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف، عند ابن عباس وأم سليم، وجهله عمر وزيد بن ثابت، وكان حكم تحريم المتعة والحمر الأهلية عند عليّ وغيره، وجهله ابن عباس. وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما وجهله طلحة وابن عباس وابن عمر، وكان حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب، عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر فذكر، فأجلاهم.

وكان علم الكلالة عند بعضهم، ولم يعلمه عمر، وكان النهي عن بيع الخمر عند عمر وجهله سمرة.

وكان حكم الجدة عند المغيرة ومحمد بن مسلمة وجهله أبو بكر وعمر. وكان حكم أخذ الجزية من المجوس، وألا يقدم على بلد فيه الطاعون، عند عبد الرحمن بن عوف، وجهله عمر وأبو عبيدة وجمهور الصحابة رضوان الله عنهم وكان حكم ميراث الجد عند معقل بن سنان، وجهله عمر.

ومثل هذا كثير جداً، فمضى الصحابة على ما ذكرنا، ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإذا تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة، وكانوا لا يتعدون فتاويهم، لا تقليداً لهم، ولكن لأنهم إنما أخذوا ورووا عنهم، إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم، كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس.

ثم أتى بعد التابعين فقهاء الأمصار: كأبي حنيفة، وسفيان، وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة، ومالك وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتي وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم، واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم، وهو موجود عند غيرهم، و{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .

وكل ما ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه حكم النبي أجرين ومأجور فيما خفي عنه منه أجراً واحداً، وقد يبلغ الرجل مما ذكرنا حديثان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما دون الثاني بضرب من الترجيحات التي صححنا أو أبطلنا قبل هذا في هذا الباب ويميل غيره إلى الحديث الذي ترك هذا بضرب من تلك الترجيحات كما روي عن عثمان في الجمع بين الأختين، حرمتهما آية، وأحلَّتهما آية، وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملة بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال ولا أعلم شركاً أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربها. وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى، وكما جعل ابن عباس عدة الحامل آخر الأجلين من وضع الحمل، أو تمام أربعة أشهر وعشر، وكما تأول بعض الصحابة في الحمُر الأهلية أنها إنما حرمت لأنها لم تخمس، وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها حمولة الناس، وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها كانت تأكل العذرة، وقال بعضهم: بل حرمت لعينها، وكما تأول قدامة في شرب الخمر، قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

فعلى هذه الوجوه ترك مالك ومن كان قبله ما تركوا من الأحاديث والآيات، وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم، فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء، فهي وجوه عشرة كما ذكرنا:

أحدها: ألا يبلغ العالم الخبر فيفتي فيه بنص آخر بلغه، كما قال عمر في خبر الاستئذان: خفي عليَّ هذا من رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق.

وقد أوردناه بإسناده من طريق البخاري في غير هذا المكان.

وثانيها: أن يقع في نفسه أن راوي الخبر لم يحفظ، وأنه وهَمَ كفعل عمر في خبر فاطمة بنت قيس، وكفعل عائشة في خبر الميت يعذب ببكاء أهله، وهذا ظن لا معنى له، إن أطلق بطلت الأخبار كلها وإن خص به مكان دون مكان كانت تحكماً بالباطل.

وثالثها: أن يقع في نفسه أنه منسوخ كما ظن ابن عمر في آية نكاح الكتابيات.

ورابعها: أن يغلب نصّاً على نص بأنه أحوط وهذا لا معنى له، إذ لا يوجبه قرآن ولا سنة.

وخامسها: أن يغلِّب نصّاً على نص لكثرة العاملين به أو لجلالتهم، وهذا لا معنى له لما قد أفدناه قبلاً في ترجيح الأخبار.

وسادسها: أن يغلب نصّاً لم يصح على نص صحيح، وهو لا يعلم بفساد الذي غلب.

وسابعها: أن يخصص عموماً بظنه.

وثامنها: أن يأخذ بعموم لم يجب الأخذ به، ويترك الذي يثبت تخصيصه.

وتاسعها: أن يتأول في الخبر غير ظاهره بغير برهان لعله ظنها بغير برهان.

وعاشرها: أن يترك نصّاً صحيحاً لقول صاحب بلغه، فيظن أنه لم يترك ذلك النص إلا لعلم كان عنده.

فهذه ظنون توجب الاختلاف الذي سبق في علم الله عز وجل، أنه سيكون، ونسأل الله تعالى التثبيت على الحق بمنَّه آمين.

ثم كثرت الرحل إلى الآفاق، وتداخل الناس والتقوا، وانتدب أقوام لجمع حديث النبي وضمه وتقييده، ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شيء منه، وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأول في الحديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن بلوغه إليه، وقيام الحجة به عليه، فلم يبق إلا العناد والجهل، والتقليل والإثم.

وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي الله عنهم، وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحد الأيام الكثيرة، وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر، إلى عقبة بن عامر في حديث واحد.

وكتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليَّ ما سمعته من رسول الله ، ورحل علقمة والأسود إلى عائشة وعمر رضي الله عنهما، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام. فقد بيَّنا وجه ترك من ترك بعض الحديث وأزحنا العلة في ذلك، ورفعنا الإشكال جملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

  • قال أبو محمد : وقد موه بعضهم بأن قال: إن ابن مسعود كان يسأل عن الشيء فيتركه حتى يأتي المدينة.
  • قال علي : وإنما كان هذا في مسألتين فقط وهي: مسألة نكاح الأم التي لم يدخل بابنتها فخالفه عمر، وقد صح عن زيد بن ثابت وهو مدني مثل قول ابن مسعود.

والثانية: بيعه نفاية بيت المال، ثم رجع عن ذلك.

  • قال علي : وكيف يكون هذا والصحيح أن ابن مسعود قال مخبّراً عن نفسه: ما من سورة من كتاب الله تعالى إلا وأنا أدري فيما نزلت، ولو أني أعلم مكان رجل أعلم مني بكتاب الله عز وجل تبلغني إليه الإبل لأتيته.

فكيف يرجع إلى قول غيره من هذه صفته ؟ ولقد صدق رضي الله عنه، وهو الذي أمر رسول الله أن يتمسك بعهده، وأن يؤخذ القرآن عنه وعن ثلاثة مذكورين معه، وقد صح أن عمر بن الخطاب أمر برجم مجنونة، فردَّه عن ذلك وهو كوفي وكذلك وجد عند المغيرة خبر إملاص المرأة وهو كوفي لم يكن عند أهل المدينة.

  • قال علي : وقد موه بعضهم بأن ذكر ما حدثناه عبد اللـه بن ربيع، ثنا عمر بن عبد الملك، ثنا محمد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا محمد بن المثنى، ثنا سهل بن يوسف، قال حميد: أنبأ عن الحسن قال: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة صومكم، فكأن الناس لم يعلموا، فقال من ههنا من أهل المدينة ؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون، فرض رسول اللـه هذه الصدقة صاعاً من تمر أو شعير، أو نصف صاع من قمح على كل حرَ أو مملوك، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير.

فلما قدم عليَّ رأى رخص الشعير، قال: قد أوسع اللـه عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء.

  • قال علي : وهذا الحديث قبل كل شيء لا يصح، لوجوه ظاهرة:

أولـها: أن الكذب والتوليد والوضع فيه ظاهر كالشمس: لأنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار، أن يوم الجمل كان لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ثم أقام عليّ بالبصرة باقي جمادى الآخرة، وخرج راجعاً إلى الكوفة في صدر رجب، وترك ابن عباس بالبصرة أميراً عليها، ولم يرجع عليّ بعدها إلى البصرة هذا ما لا خلاف فيه من أحد لـه علم بالأخبار.

وفي الخبر المذكور ذكر تعليم ابن عباس أهل البصرة صدقة الفطر، ثم قدم عليّ بعد ذلك وهذا هو الكذب البحت الذي لا خفاء فيه.

ووجه ثان: أن الحسن لم يسمع من ابن عباس أيام ولايته البصرة شيئاً، ولا كان الحسن يومئذ بالبصرة، وإنما كان بالمدينة هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من نقلة الحديث.

وأيضاً وجه ثالث: فإنه حديث مفتعل لا يصح، لأن البصرة فتحها وبناها سنة أربع عشرة من الـهجرة عتبة بن غزوان المازني بدري مدني، ووليها بعده المغيرة بن شعبة، وأبو موسى، وعبد اللـه بن عامر، وكلـهم مدنيون، ونزلـها من الصحابة المدنيين أزيد من ثلاثمائة رجل، منهم عمران بن الحصين، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر، والحكم بن عمرو، وغيرهم، وفتحت أيام عمر بن الخطاب، وتداولـها ولاته إلى أن وليها ابن عباس بعد صدر كبير من سنة ست وثلاثين من الـهجرة، فلم يكن في هؤلاء كلـهم من يخبرهم بزكاة الفطر، بل ضيعوا ذلك وأهملوه واستخفوا به أو جهلوه مدة أزيد من اثنين وعشرين عاماً، مدة خلافة عمر بن الخطاب، وعثمان رضوان اللـه عليهم، حتى وليهم ابن عباس بعد يوم الجمل.

أترى عمر وعثمان ضيعا إعلام رعيتهما هذه الفريضة، أترى أهل البصرة لم يحجوا أيام عمر وعثمان، ولا دخلوا المدينة، فغابت عنهم زكاة الفطر إلى بعد يوم الجمل ؟ إن هذا لـهو الضلال المبين، والكذب المفترى، ونسبة البلاء إلى الصحابة رضوان اللـه عليهم، أن هذا الخبر ما يدخل تصحيحه في عقل سليم ؟ وما حدث الحسن، واللـه أعلم بهذا الحديث إلا على وجه التكذيب لـه، لا يجوز غير ذلك.

ثم نقول لـهم: لو صح وهو لا يصح لكان حجة على المالكيين، لأنه خلاف مذهبهم في صدقة الفطر، لأنهم يرون أنه لا يجزي فيها من البُرِّ إلا صاع فعاد حجة عليهم، ولا أضل ممن يحتج بما لا يصح نعوذ باللـه من الخذلان، وإنما يصح هذا الحديث بخلاف اللفظ المذكور، لكن كما حدثنا عبد اللـه بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا حماد هو ابن زيد عن أيوب السختياني، عن أبي رجاء هو العطاردي قال: سمعت ابن عباس يخطب على منبركم يعني منبر البصرة يقول: صدقة الفطر صاع من طعام.

وقد موه بعضهم بأن قال: إن أهل المدينة هم شهدوا آخر عمل رسول اللـه .

  • قال علي : وهذا قول رجل جاهل أو مدلس، لا بد لـه ضرورة من أحد الوجهين، فإن كان جاهلاً وكان هذا مقداره من العلم فما كان في وسعه أن يفتي في دين اللـه عز وجل، وإن كان هذا مستحيلاً للتلبيس في دين اللـه تعالى، فهذا أخبث وأنتن.
  • قال علي : وهذا كلام يبطل من وجهين ضروريين :

أحدهما: أننا قد بيَّنا في هذا الباب أنهم أترك الناس لآخر عمل رسول اللـه

والثاني: أن الصحابة رضي اللـه عنهم كانوا كلـهم مدنيين طول مدة رسول اللـه ومدة أبي بكر، وإنما سكنوا الشام والبصرة والكوفة في صدر خلافة عمر رضوان اللـه عليه فما بعد ذلك، لأن الشام ومصر كانت بأيدي الروم، والعراق حيث بنيت الكوفة والبصرة كانت بأيدي الفرس، ولم يفتتح شيء من كل ذلك ولا سكنه مسلم إلا بعد صدر إمارة عمر، هذا أمر لا يجهلـه من لـه أقل نصيب من العلم، وكل من كان بالعراق والشام ومصر من الصحابة فلم يفارقوا سكنى المدينة طوال حياة رسول اللـه ، ولم ينفرد قط برسول اللـه من بقي منهم بالمدينة دون من سكن بعد موته العراق أو الشام أو مصر، فبطل كذب من موَّه بما ذكرنا، وللـه الحمد ووجب بالضرورة أن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي اللـه عنهم، ليس بأولى بحسن الظن بهم في الثبات على ما شهدوه من النبي من سائر الصحابة الذين بالأمصار، ولا هم أولى بالعلم منهم، بل كلـهم واجب الحق، موصوف بالعلم والدين والنصيحة للمسلمين.

  • قال أبو محمد : وهذا الذي جرى عليه الناس، كما حدثنا عبد اللـه بن ربيع، ثنا عبد اللـه بن محمد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، ثنا يزيد بن أبي إبراهيم، ثنا رزيق وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على أيلة أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في عبد أبق وسرق، وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد إذا سرق، فكتب إليه، كتبت إليّ في عبد أبق وسرق، وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق، وأن اللـه تعالى يقول: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } : فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه.
  • قال علي : فهذا عمر بن عبد العزيز لم يلتفت إلى عمل أهل الحجاز، وأخذ بعموم القرآن وهو الذي لا يجوز خلافه.
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني

فصل في المرسل | فصل في أقسام السنن | فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك | فصل في حكم العدل | تتمة فصل في حكم العدل | فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقناً | فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح | فصل ليس كل قول الصحابي إسناداً | فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي | فصل ليس كل من أدرك النبي ورآه صحابياً | فصل في حكم الخبر عن النبي | فصل في زيادة العدل | فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً | فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة | فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن | فصل في صفة الرواية | فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالواهذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان