ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء االثاني/فصل في حكم الخبر عن النبي


  • قال علي : وحكم الخبر عن النبي أن يورد بنص لفظه لا يبدل ولا يغير، إلا في حال واحدة، وهي أن يكون المرء قد تثَّبت فيه، وعرف معناه يقيناً فيسأل فيفتي بمعناه وموجبه، أو يناطر فيحتج بمعناه وموجبه، فيقول: حكم رسول الله بكذا، وأمر بكذا، وأباح كذا، ونهى عن كذا، وحرم كذا، والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي وهو كذا.

وكذلك القول فيما جاء من الحكم في القرآن ولا فرق، وجائز أن يخبر المرء بموجب الآية وبحكمها بغير لفظها وهذا ما لا خلاف فيه من أحد في أن ذلك مباح كما ذكرنا.

وأما من حدث وأسند القول إلى النبي ، وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي فلا يحل له إلا أن يتحرى الألفاظ كما سمعها لا يبدل حرفاً مكان آخر، وإن كان معناهما واحداً، ولا يقدم حرفاً ولا يؤخر آخر، وكذلك من قصد تلاوة آية أو تعلمها وتعليمها ولا فرق، وبرهان ذلك أن النبي علم البراء بن عازب دعاء وفيه : «ونبيّك الذي أرسلت»

فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي قال: وبرسولك الذي أرسلت : فقال النبي  : «لا، وَنَبِيّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» فأمره كما تسمع ألا يضع لفظة «رسول» في موضع لفظة «نبي» وذلك حق لا يحيل معنى ، وهو رسول ونبي ، فكيف يسوغ للجهال المغفلين أو الفساق المبطلين، أن يقولوا: إنه كان يجيز أن توضع في القرآن مكان {عزيز حكيم} {غفور رحيم} أو {سميع عليم}

وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآناً، والله يقول مخبراً عن نبيه  : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}

ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى، أم كيف يسوغ لأهل الجهل والعمى إباحة القراءة المفروضة في الصلاة بالأعجمية مع ما ذكرنا، ومع إجماع الأمة على أن إنساناً لو قرأ أم القرآن فقدم آية على أخرى، أو قال: الشكر للصمد مولى الخلائق، وقال هذا هو القرآن المنزل لكان كافراً بإجماع ومع قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }

ففرق تعالى بينهما، وأخبر أن القرآن إنما هو باللفظ العربي لا بالعجمي، وأمر بقراءة القرآن في الصلاة، فمن قرأ بالأعجمية فلم يقرأ القرآن بلا شك.

والعجب أن قائل هذا الهجر لا يجيز الدعاء في الصلاة إلا بما يشبه ما في القرآن لا بتسمية المدعو لهم، ولا بغير ذلك، وقد جاء النص بإباحة الدعاء فيها جملة ويقول: إن من عطس في الصلاة فقال: الحمد لله رب العالمين، فحرك بها لسانه فقد بطلت صلاته، فسبحان من وفقهم لخلاف الحق في كلا الوجهين، فيجيزون القراءة في الصلاة بخلاف القرآن، ويبطلون الصلاة بذكر آية من القرآن، ويمنعون من الدعاء فيها إلا بما في القرآن أو ما يشبهه، ولا شبه للقرآن في شيء من الكلام بإجماع الأمة.

واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } وبخطابه تعالى لنا بالعربية حاكياً كلام موسى عليه السلام.

  • قال علي : وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الذي في زبر الأولين إنما هو معنى القرآن لا القرآن، ولو كان القرآن في زبر الأولين لما كان محمد مخصوصاً به، ولا كانت فيه آية، وهذا خلاف النصوص والخروج عن الإسلام، لأنه لو أنزل على غيره قبله لما كان محمد مخصوصاً به، وأما حكايته تعالى لنا كلام موسى وغيره بلغتنا فلم يلزمنا تعالى قراءة ألفاظهم بنصها، ولا نمنع من تلاوته في الصلاة، وإنما نمنع من تلاوته في القرآن، أو على سبيل التقريب بتلاوته إلى الله تعالى بغير اللفظ الذي أنزل به، لا بكلام أعجمي، ولا بغير تلك الألفاظ، وإن وافقتها في العربية، ولا بتقديم تلك الألفاظ بعينها ولا بتأخيرها، وإنما نجيز الترجمة التي أجازها النص على سبيل التعليم والإفهام فقط، لا على سبيل التلاوة التي نقصد بها القربة، وبالله تعالى التوفيق.

وبلا خلاف من أحد من الأمة أن القرآن معجزة وبيقين ندري أنه إذا ترجم بلغة أعجمية أو بألفاظ عربية غير ألفاظه، فإن تلك الترجمة غير معجزة، وإذ هي غير معجزة فليست قرآناً.

ومن قال فيما ليس قرآناً إنه قرآن فقد فارق الإجماع وكذب الله تعالى، وخرج عن الإسلام إلا أن يكون جاهلاً، ومن أجاز هذا وقامت عليه الحجة، ولم يرجع فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال، لا نشك في ذلك أصلاً.

وأيضاً فقد قال تعالى مخبراً عن نبيه  : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } فلما صح بنص القرآن أن كلامه عليه السلام وحي كله حرم بلا شك تحريف الوحي وإحالته كما حرم ذلك في الوحي المتلو الذي هو القرآن ولا فرق.

ومن حدث بحديث فبلغه إلى غيره كما بلغه إياه غيره، وأخذ عنه فليس عليه أن يكرره أبداً حتى يحصل في حد الهذيان، وقد أدى ما عليه بتبليغه.

  • قال أبو محمد : وبهذا يبطل قول من رام توهين الحديث المسند، بأن فلاناً أرسله إذ لو كان سكوت المرء في بعض الأحيان عن تأدية ما سمع مسقطاً للاحتجاج به، إذ أداه في وقت آخر أو لم يؤده هو وأداه غيره، لكان إذا نام أو أكل أو وطىء أو اشتغل بصلاة أو مصلحة دنياه أو بشيء من أمر دينه، أو بتبليغ حديث آخر قد بطل الاحتجاج بما سكت عنه في الأحوال التي ذكرنا، وهذا جنون فادح ممن قاله، وكفى سقوطه بكل قول أخرج إلى الجنون، وأدى إلى المحال والممتنع، وبالله تعالى التوفيق.

وأما اللحن في الحديث فإن كان شيئاً له وجه في لغة بعض العرب، فليروه كما سمعه ولا يبدله ولا يرده إلى أفصح منه ولا إلى غيره، وإن كان شيئاً لا وجه له في لغة العرب البتة فحرام على كل مسلم أن يحدث باللحن عن النبي ، فإن فعل فهو كاذب مستحق للنار في الآخرة، لأنا قد أيقنا أنه لم يلحن قط كتيقننا أن السماء محيطة بالأرض، وأن الشمس تطلع من المشرق وتغرب من المغرب، فمن نقل عن النبي اللحن فقد نقل عنه الكذب بيقين، وفرض عليه أن يصلحه ويَبْشُره من كتابه، ويكتبه معرباً، ولا يحدث به إلا معرباً.

ولا يلتفت إلى ما وجد في كتابه من لحن ولا إلى ما حدث شيوخه ملحوناً.

ولهذا لزم لمن طلب الفقه أن يتعلم النحو واللغة، وإلا فهو ناقص منحط لا تجوز له الفتية في دين الله عز وجل.

ثنا يونس بن عبد الله، ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، ثنا أحمد بن خالد، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار بندار ثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين، ثنا سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن.

  • قال علي : اللحن المحكي عن الله تعالى ورسوله كذب، والكذب واجب أن يضرب آتيه وقد روي عن شعبة أو عن حماد بن سلمة الشك مني أنه قال: «مَن حَدَّثَ عَنِّي بِلَحْنٍ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيَّ» ، ونحن نقول ذلك وكان شعبة وحماد وخالد بن الحارث وبشر بن المفضل والحسن البصري لا يلحنون البتة وبالله تعالى التوفيق.
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني

فصل في المرسل | فصل في أقسام السنن | فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك | فصل في حكم العدل | تتمة فصل في حكم العدل | فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقناً | فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح | فصل ليس كل قول الصحابي إسناداً | فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي | فصل ليس كل من أدرك النبي ورآه صحابياً | فصل في حكم الخبر عن النبي | فصل في زيادة العدل | فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً | فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة | فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن | فصل في صفة الرواية | فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالواهذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان