ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الخامس و فصل


والشريعة : هي ما شرعه اللـه تعالى على لسان نبيه في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبلـه ، والحكم منها للناسخ ، وأصلـها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للرَّاكب والشارب من النهر ، قال تعالى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } .

وقال امرؤ القيس :

ولما رأت أن الشريعة همها
وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طامي

واللغة : ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها ، ولكل أمة لغتهم. قال اللـه عز وجل : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات .

واللفظ : هو كل ما حرك به اللسان .

قال تعالى : {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } وحدّه على الحقيقة أنه هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود ، وهذا أيضاً هو الكلام نفسه .

والخلاف : هو التنازع في أي شيء كان ، وهو أن يأخذ الإِنسان في مسالك من القول أو العقل ، ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في الديانة ، إذ لا يحل خلاف ما أثبته اللـه تعالى فيها ، وقال تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ } وقال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } وهو التفريق أيضاً، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ } .

والإِجماع : هو في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعداً وهو الاتفاق ، وهو حينئذ مضاف إلى ما أجمع عليه ، وأما الإِجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم ، وليس الاجماع في الدين شيئاً غير هذا ، وأما ما لم يكن إجماعاً في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم أو سكت بعضهم ، ولو واحد منهم في الكلام فيه .

والسنَّة : هي الشريعة نفسها، وهي في أصل اللغة وجه الشيء وظاهره.

قال الشاعر:

تريك سنَّة وجه غير مقرفة
ما ساء ليس بها خال ولا ندب

وأقسام السنة في الشريعة : فرض ، أو ندب ، أو إباحة ، أو كراهة ، أو تحريم كل ذلك قد سنّه رسول الله عن الله عز وجل .

والبدعة : كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه ، وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن ، ولا عن رسول الله إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ، ويغدر بما قصد إليه من الخير ، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسناً ، وهو ما كان أصله الإِباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه ، نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص .

ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به .

والكتابة : لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات، وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية .

والإِشارة : تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه المشار إليه أو تنبيه عليه .

والمجاز : هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الأماكن، ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر ، ولا يعلم ذلك إلا من دليل من اتفاق أو مشاهدة .

وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان ، ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر ، أو جماع متيقن ، أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقياً ، لأن التسمية لله عز وجل فإذا سمَّى تعالى شيئاٌ ما باسم ما فهو اسم ذلك الشيء على الحقيقة في ذلك المكان ، وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى ، قال عز وجل : {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } .

والتشبيه : هو أن يشبه شيء بشيء في بعض صفاته ، وهذا لا يوجب في الدين حكماً أصلاً وهو أصل القياس ، وهو باطل لأن كل ما في العالم فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ، ومخالف أيضاً بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ، وهو أيضاً التمثيل .

والمتشابه : لا يوجد في شيء من الشرائع إلا بالإِضافة إلى من جهل دون من علم ، وهو في القرآن ، وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه ، وأمرنا بالإِيمان به جملة ، وليس هو في القرآن إلا للأقسام التي في السورة كقوله تعالى : {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }

والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من القرآن فهو محكم .

والمفصل : هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض، تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك .

والاستنباط : إخراج الشيء المعيب من شيء آخر كان فيه ، وهو في الدين إن كان منصوصاً على جملة معناه فهو حق ، وإن كان غير منصوص على جملة معناه فهو باطل لا يحل القول به .

والحكم: هو إمضاء قضية في شيء ما، وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة ، أو بكراهة ، أو باختيار .

والإيمان : أصله في اللغة التصديق باللسان والقلب معاً ، لا بأحدهما دون الثاني، وهو في الدين التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى به على لسان رسوله والنطق بذلك باللسان ، ولا بد من استعمال الجوارح في جميع الطاعات : واجبها ، وندبها ، واجتناب محرمها ومكروهها ، برهان ذلك أن جميع أهل الإيمان مكذوب بأشياء منها أن يكون لله تعالى ولد ، وأن يكون مسيلمة نبيّاً ، وغير ذلك كثير ومصدقون بأشياء كثيرة ، وقد أطلق الله تعالى وأطلق جميعهم بعضهم على بعض اسم الإيمان مطلقاً دون إضافة ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق اسم التكذيب عليهم إلا بإضافة ، والكفار مؤمنون بأشياء كثيرة ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان مطلقاً إلا بالإضافة ، فصح أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة إلى ما ذكرناه .

والكفر : أصله في اللغة التغطية ، قال عز وجل : {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }

قال لبيد بن أبي ربيعة : ألقت ذكاء يمينها في كافر يريد الليل لأنه يغطي على كل شيء .

وهو في الدين : صفة من جحد شيئاً مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه ، أو بهما معاً ، أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان على ما بيّنا في غير هذا الكتاب برهان ذلك، أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء ، مكذب بأشياء ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان بلا إضافة وأهل الإيمان كفار بأشياء كثيرة منها التثليث وغير ذلك ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الكفر بلا إضافة .

والشرك : هو في اللغة أن يجمع شيئاً إلى شيء فيشرك بينهما فيما جمعا فيه وهو في الدين معنى الكفر سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان والتسمية لله تعالى لا لغيره .

والإلزام : هو أن نحكم على الإنسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب .

والعقل : هو استعمال الطاعات والفضائل ، وهو غير التمييز لأنه استعمال ما ميز الإنسان فضله ، فكل عاقل مميز وليس كل مميز عاقلاً ، وهو في اللغة : المنع ؛ تقول : عقلت البعير أعقله عقلاً . وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم ، والحق هو في قول الله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } يريد الذين يعصونه، وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ من ذلك .

والفور : هو استعمال الشيء بلا مهلة ولكن على أثر ورود الأمر به .

والتراخي : تأخير إنفاذ الواجب، وحكم أوامر الله عز وجل ورسوله كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شيء ما فيوقف عنده .

والاحتياط : هو التورع نفسه وهو اجتناب ما يتقي المرء أن يكون غير جائز، وإن لم يصح تحريمه عنده ، أو اتقاء ما غيره خسر منه عند ذلك المحتاط ، وليس الاحتياط واجباً في الدين ولكنه حسن ، ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحداً لكن يندب إليه لأن الله تعالى لم يوجب الحكم به .

والورع : هو الاحتياط نفسه .

فصـــل فــي معانــي حــروف تتكــرر فــي النصــوص

واو العطف : لاشتراك الثاني مع الأول : إما في حكمه ، وإما في الخبر عنه على حسب رتبة الكلام ، فإن كان الثاني جملة فهو اشتراك في الخبر فقط ، وإن كان اسماً مفرداً فهو مشترك في حكم الأول ، وهي لا تعطي رتبة أي أنها لا توجب أن الأول قبل الثاني ، ولا أنه بعده بل ممكن فيهما أن يكونا معاً ، أو أن يكون أحدهما قبل الآخر بمهلة بلا مهلة كقولك : جاءني زيد وعمرو ، فجائز أن يأتيا معاً ، وجائز أن يأتي زيد قبل عمرو، وعمرو قبل زيد بساعة وبعام وبأقل وبأكثر .

والفاء : تعطي رتبة الثاني بعد الأول بلا مهلة كقولك : جاءني زيد فعمرو ، فزيد جاء قبل عمرو ولا بد ، وأتى عمرو أثره بلا مهلة .

وثم : توجب أن الثاني بعد الأول بمهلة .

وواو القسم : ليست واو عطف لأنها قد يبدأ بها أول الكلام ولا يبتدأ بواو العطف .

وأو للشك وللتخيير : مثل قولك خذ هذا أو هذا ، فإنما ملكت أخذ أحدهما ، وفي الشك قولك : جاءني زيد أو عمرو فلم تقطع بمجيء أحدهما بعينه لكن حققت أن أحدهما أتاك ولم تعينه .

ومعنى الباء : الاتصال مثل قولك : مررت بزيد ، تريد اتصال مرورك به ولا توجب تبعيضاً ولا استيفاء .

ومن : معناها ابتداء أو تبعيض .

وإلى : معناها الانتهاء أو مع ، وهذا يكثر جداً ولهذا قلنا : إنه لا بد للفقيه أن يكون نحوياً لغويَّاً وإلا فهو ناقص ، ولا يحل له أن يفتي لجهله بمعاني الأسماء وبعده عن فهم الأخبار .

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول

مقدمة تشمل الباب الأول والثاني | في إثبات حجج العقول | في كيفية ظهور اللغات أعن التوقيف أم عن إصطلاح ؟ | في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر | تتمة الباب الخامس وفصل في معاني حروف تتكرر في النصوص | هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة | فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة | في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟ | فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟ | في البيان ومعناه | في تأخير البيان | في الأخذ بموجب القرآن | في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول اللـه | فصل فيه أقسام الإخبار عن الله | هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم؟ | صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار