ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟


قال أبو محمد: إذا جمعت الآية أو الحديث حكمين فصاعداً، فجاء نص أو إجماع بنسخ أحد الحكمين، أو تخصيصه أو إخراجه إلى الندب، وقف عنده، ولم يحل لمسلم أن يقول: إن الحكم الآخر منسوخ من أجل هذا الحكم المذكور معه في الآية أو الحديث، ولا أنه مخصوص، ولا أنه ندب، بل يبقى على حكمه كما كان، وعلى ما يوجبه ظاهره لقول الله عز وجل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } . ومن ادعى أن هذا الحكم مرتبط بيانه أو نسخه بحكم آخر فقد افترى على الله عز وجل، وادعى ما لا دليل عليه، ولزمه أن متى وجد في سورة واحدة آية منسوخة، أن يقول: إن تلك السورة منسوخة كلها من أجل الآية المنسوخة منها، ولزمه ما هو أفحش من هذا، وهو أن يقول: إن القرآن كله منسوخ من أجل وجوده فيه أحكاماً كثيرة منسوخة. ولا فرق بين عطف حكم على حكم وبين عطف آية على آية، ولا فرق بين ذكر حكمين في آية، وبين ذكرهما في سورة، فإذا وجب أن يكون أحد الحكمين المذكورين في الآية منسوخاً لزم مثل ذلك في أحكام السورة كلها، لأن الحكم المذكور معها منسوخ أيضاً ولا فرق، وهذا إبطال للشريعة جملة وخروج عن الإسلام ومن الله تعالى العافية علينا من ذلك، وبالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: مثال ذلك قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } ثم نسخ تعالى الإمساك في البيوت وأثبت استشهاد الأربعة.

وقد نهى رسول الله عن مهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام وثمن الكلب، فخرج كسب الحجام عن التحريم بحديثه عليه السلام «أَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ وَنَاضِحَكَ» ، فيلزم من خالفنا أن يبيح من أجل ذلك مهر البغي وحلوان الكاهن، وهذا ما لا يقوله مسلم، وقد قال الطحاوي: إن النهي عن ثمن الكلب منسوخ بنسخ إيجاب قتل الكلاب. قال أبو محمد: ولا أدري في أي عقل أم في أي نص وجد هذا الرجل أنه إذا حرم قتل حيوان حلّ بيعه أتراه جهل أن يبيعه وبيع كل حر حرام وقتله حرام، ما لم يقترف ما حل دمه؟ إن هذه لغباوة شديدة وعصبية لمذهبه الفاسد قبيحة.

ونعوذ بالله من التقليد المؤدي إلى القول على الله تعالى بمثل هذا بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير، وليت شعري ما الفرق بينه وبين من عارضه فقال: بل لما حرم الله أكلها حرم بيعها.

فصل في كيف يعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخاً؟

قال أبو محمد: لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين، لأن الله عز وجل يقول: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه ففرض اتباعه، فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ. فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة، وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفتر مبطل.

ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها، لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما، وبين دعوى غيره والنسخ في آية ما أو حديث ما، وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى، وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة، وهذا خروج عن الإسلام، وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه، فإذا قد صح ذلك وثبت، فلنقل في الوجوه التي بها يصح نسخ الآية أو الحديث، فإذا عدم شيء من تلك الوجوه، فقد بطلت دعوى من ادعى النسخ في شيء من الآيات أو الأحاديث. قال أبو محمد: فإذا اجتمعت علماء الأمة ـــــ كلهم بلا خلاف من واحد منهم ـــــ على نسخ آية أو حديث فقد صحّ النسخ حينئذ، فإن اختلفوا نظرنا، فإن وجدنا الأمرين لا يمكن استعمالهما معاً، أو وجدنا أحدهما كان بعد الآخر بلا شك، أو وجدنا نصّاً جليّاً على منسوخ، ووجدنا نصّاً في ذلك من نهي بعد أمر أو أمر بعد نهي أو نقل من مرتبة إلى مرتبة على ما قدمنا ـــــ فقد أيقنَّا بالنسخ، مثل قوله عليه السلام: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارِةِ القُبُورِ فَزُورُوها وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الانْتِبَاذِ في الأَسْقِيَةِ فَانْتَبِذُوا» وأباح الانتباذ في كل ظرف، ومثل قول جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار، ومثل ما روي أنه رخص في الحجامة للصائم، والترخيص لا يكون إلا بعد النهي، والحجامة هكذا فعل الحاجم والمحجوم معاً، فهذان وجهان. أو نجد حالاً قد أيقنَّا بإبطالها وارتفاعها، وحالاً أخرى قد أيقنَّا بنزولها ووجوبها ورفعها للحال الأولى، ثم جاء نص من قرآن أو حديث موافق للحال المرفوعة التي قد سقطت بيقين، إلا أننا لا ندري هل جاء هذا النص ــــــ الموافق لتلك الحال المرفوعة ــــــ قبل مجيء الحال الرافعة أو بعدها؟ فإذا كان مثل هذا ففرض ألا يترك ما أيقنَّا بوجوبه علينا، وصحّ عندنا لزومه لنا، وحرم علينا أن نرجع إلى حال قد أيقنَّا بارتفاعها عنا، وصح عندنا بطلانها إلا بنص جليّ راد لنا إلى الحالة الأولى، ورافع عنا الحالة الثانية.

ومن تعدى هذا فقد قفا ما لا علم له به وترك الحق واليقين، واستعمل الشك والظنون، وذلك ما لا يحل أصلاً، فكيف وقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } شواهد قاطعة بأنه لا يجوز البتة أن يكون الله تعالى تركنا في عمياء وضلالة لا ندري معها أبداً، هل هذا الحكم منسوخ أو غير منسوخ، هذا أمر قد أمنَّا وقوعه أبداً، إذ لو كان ذلك لكان الدين قد بطل أكثره، ولكننا في شك متصل لا ندري أنعمل بالباطل في نصوص كثيرة من القرآن والسنن، أم نعمل بالحق؟ وهل نحن في طاعات كثيرة لله تعالى ولرسوله على ضلال أو على هدى؟ حاشا لله من هذا. فصح يقيناً أن حكم تيقنَّا بطلانه فهو باطل أبداً، بلا شك حتى يأتي نص ثابت بأنه قد عاد بعد بطلانه هكذا ولا بد، وإلا فلا، والحمد لله رب العالمين.

فمن هذا الباب ما قد أيقنَّا من أن إباحة زواج أكثر من أربع نسوة قد ارتفعت، وأن نكاح أكثر من أربع حرام على كل أحد ــــــ بعد رسول اللـه بيقين، وقد جاء حديث بتخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع فكان هذا الحديث موافقاً لحال ما نسخ من ترك التحريم لزواج أكثر من أربع، وما كان عليه من أسلم وعنده أكثر من أربع، لأنهم نكحوهن وذلك غير محظور عليهم، فلما نزل التحريم خيروا في أربع منهن، وكان من ابتدأ نكح خامساً فصاعداً، وأكثر من أربع معاً، أو أختين، أو أم وابنتها بعد نزول تحريم كل ذلك ــــــ عاصياً للـه عز وجل، وعاملاً عملاً ليس عليه أمره فهو رد ففعلـه ذلك كلـه مردود. وعقده ذلك فاسد مفسوخ محلول غير ماض أصلاً، فصح بذلك ارتفاع التخيير، وأنه إنما كان ذلك للذين نكحوا أكثر من أربع قبل أن يحظر ذلك، وأيضاً فلو صح تخيير من ابتدأ نكاح خمس في كفر بعد ورود النهي عن ذلك لما كان في ذلك إباحة تخيير من أسلم، وعنده أختان أو حريمتان، ومع ذلك أيضاً: أننا قد أيقنَّا أنه قد كان في صدر الإسلام: إذا نام الرجل في ليل رمضان، حرم عليه الوطء والأكل والشرب، ثم نسخ ذلك وجاء حديث أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي بأن من أدركه الصبح وهو جنب فقد أفطر، فكان هذه الحديث موافقاً لتلك الحال المنسوخة، وقد أيقنا برفعها وبإباحة الوطء إلى تبين طلوع الفجر، فلا سبيل إلى الرجوع إلى حظر الوطء إلا ببيان جليّ.

ومن ذلك أننا قد أيقنَّا بأن الوصية لم تكن مدة من صدر الإسلام فرضاً، ثم أيقنَّا نزول وجوب الوصية للوالدين والأقربين، ثم جاء حديث عمران بن الحصين في الستة الأعبد، فكان هذا الحديث موافقاً للحال المرفوعة من ألا يلزم المرء أن يوصي لوالديه وأقربيه فلم يجز لنا أن نرفع به حكم الآية التي أيقنَّا أنها ناسخة للحال الأولى، ولا جاز لنا أن نرجع إلى حالة قد أيقنَّا أنها حظرت علينا إلا بنص جليّ. إن هذا الحديث كان بعد نزول الآية، وبأن أولئك الأعبد لم يكونوا أقارب الموصي بعتقهم، ولا سبيل إلى وجود بيان بذلك أبداً، وباللـه تعالى التوفيق. فصحّ أن كل ما كان في معنى الحال المتقدمة ـــــ من إباحة ترك الوصية للوالدين والأقربين ـــــ منسوخ بيقين، ولم يصح أنه عاد بعد أن نسخ، ولا يحل الحكم بالظنون، وأيضاً فقد ملك قوم من العرب أقاربهم، وقد كان هَرَاسَة أخا عنترة، واستلحف شداد عنترة، وكان هَرَاسة عبداً لأخيه، وقد كان في نساء الصحابة رضي اللـه عنهم من باعها عمها أخو أبيها، وهي أم ولد أبي اليَسَر الأنصاري.

قال أبو محمد: ومن استجاز أن يترك اليقين من الآية المذكورة، بأن يقول: لعل حديث عمران في الأعبد الستة نسخها، فليقنعوا من أصحاب أبي حنيفة بقولهم: لعل حكم العرايا نسخ بالنهي عن المزابنة، وبقولهم: لعل القصاص بغير نسخ بالنهي عن المثلة، وليقولوا بقول من منع أن يمسح على الخفين، وقال: لعل ذلك نسخ بآية الوضوء التي بالمائدة، وليأخذوا بقول ابن عباس في إباحة الدرهم بالدرهمين، ويقولوا: لعل النهي عن ذلك نسخ بقوله عليه السلام: «إِنَّما الرِّبَا في النَّسِيئَةِ» وليأخذوا بقول عثمان البتي في إبطال العاقلة، ويقولوا: لعل حكم العاقلة نسخ بقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } وليبطلوا السلم ويقولوا: لعله نسخ بنهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك، ويستحلوا أكل الحمير والسباع ويقولوا: لعل النهي عنها منسوخ، بقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .

فإن أبوا من كل ما ذكرنا، وقالوا: لا نقول في شيء من ذلك إنه منسوخ إلا بيقين فكذلك يلزمهم أن يقولوا أيضاً بقول ابن عباس: إن الآية القصرى نسخت الآية الطولى فيوجبوا خلود القاتل من المسلمين في نار جهنم أبداً، فإن أبوا ألزمهم مثل ذلك في آية الوصية ولا فرق. وكذلك القول فيمن قال في رضاع سالم، فإنه لما كان مرتبطاً بالتبني وكان التبني منسوخاً، بطل حكم التعلق به لبطلانه، وكل سبب بطل فإن مسببه يبطل بلا شك، فإن هذا أيضاً خطأ، لأنه لم يأت نص ولا إجماع ولا ضرورة مشاهدة بأن هذا الحكم مخصوص به التبني فقط، بل هو عموم على ظاهره ولا يجوز تخصيصه بالدعوى بلا نص ولا إجماع.

فهذه الوجوه الأربعة لا سبيل إلى أن يعلم نسخ آية أو حديث بغيرها أبداً، إما إجماع متيقن، وإما تاريخ بتأخر أحد الأمرين عن الآخر مع عدم القوة على استعمال الأمرين، وإما نص بأن هذا الأمر ناسخ للأول وأمر نتركه، وإما يقين لنقل حال ما فهو نقلي لكل ما وافق تلك الحال أبداً بلا شك. فمن ادعى نسخاً بوجه غير هذه الوجوه الأربعة فقد افترى إثماً عظيماً وعصى عصياناً ظاهراً، وبالله تعالى التوفيق. فمما تبين بالنص أنه منسوخ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ثم قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فهذا تأخير لائح أن القبلة التي كانت قبل هذه منسوخة وأن التوجه إلى الكعبة كان بعد تلك القبلة.

وهذا أيضاً له إجماع، ومثل قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فنسخ بذلك النهي عن الوطء في ليل رمضان، ومثل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نسخ به قوله تعالى: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وهذا نقل مسند إلى النبي بإجماع، يعني نسخ إباحة الفطر، والإطعام، من ندب إلى فرض ومثل نسخ قيام الليل، فإنه نسخ بالنص المنقول بإجماع من فرض إلى ندب.

قال أبو محمد: وقد ادعى قوم في قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } إنه نسخ لقوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } . قال أبو محمد: وهذا خطأ لأنه ليس إجماعاً، ولا فيه بيان نسخ، ولا نسخ عندنا في هذه الآيات أصلاً، وإنما هي فرض البراز للمشركين، وأما بعد اللقاء فلا يحل لواحد منها أن يولي دبره جميع من على وجه الأرض من المشركين إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة ـــــ على ما نبين في موضعه إن شاء الله تعالى ــــــ أو من كان مريضاً أو زَمِناً بقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . فإن قالوا: إن الضعيف القلب معذور لأنه دخل في جملة الضعفاء قيل لهم: هذا خطأ لأن من رضي أن يكون مع الخوالف لضعف قلبه، ملوم بالنص غير معذور، وأيضاً فإن ضعف القلب قد نهينا عنه بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ولا يجوز أن يكون تعالى أراد وهن البدن، لأنه لا يستطاع دفعه أصلاً والله تعالى لا يكلف إلا ما نطيق، وضعف القلب مقدور على دفعه ولو أراد الجبان أن يثبت لثبت، ولكنه آثر هواه والفرار على ما لا بد له من إدراكه من الموت الذي لا يعدو وقعه ولا يتقدم ولا يتأخر وهذا بيّن وبالله تعالى التوفيق. والعجب ممن يقول: إن هذه الآية مبيحة لهروب واحد أمام ثلاثة فليت شعري من أين وقع لهم ذلك؟ وهل في الآية التي ذكروا فراراً أو تولية دبر بوجه من الوجوه، أو إشارة إليه ودليل عليه؟ ما في الآية شيء من ذلك البتة، وإنما فيها أخبار عن الغلبة فقط، بشرط الصبر، وتبشير بالنصر مع الثبات. ولقد كان ينبغي أن يكون أشد الناس حياء من الاحتجاج بهذه الآيات في إباحة الفرار عن ثلاثة: أصحاب القياس المحتجين علينا بقول الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ويقول لنا: إن ما فوق القنطار بمنزلة القنطار، فهلا جعلوا ههنا ما فوق الاثنين، بمنزلة الاثنين ولكن هكذا يفعل الله بمن ركب ردْعه واتبع هواه وأضرب عن الحقيقة جانباً.

وأما نحن فلو رأينا في الآيات المذكورة ذكر إباحة فرار لقلنا به، ولسلمنا لأمر ربنا، ولكنا لم نجد فيها لإباحة الفرار أثراً ولا دليلاً بوجه من الوجوه، وإنما وجدنا فيها أننا إن صبرنا غلب المائة منا المائتين، وصدق الله عز وجل، فليس في ذلك ما يمنع أن يكون أقل من مائة أو أكثر من مائة يغلبون العشرة آلاف منهم وأقل وأكثر، كما قال تعالى: { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } وهكذا كله إخبار عن فعل الله تعالى ونصره عز وجل لمن صبر منا فتلك الآية التي فيها أن المائة منا تغلب المائتين، وهي إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها أن المائة منا تغلب الألف، وهاتان الآيتان معاً هما إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } فلم يخص في هذه الآية عدداً من عدد، بل عمَّ عموماً تامّاً. فإن قال قليل التحصيل: فأي معنى لتكرار ذلك وما فائدته؟.

قيل له: قد ذكرنا الجواب عن هذا الفضول من السؤال السخيف، في باب دليل الخطاب من ديواننا هذا، ولكن لا بد من إيراد بعض ذلك، لورود هذا السؤال فيقول وبالله تعالى التوفيق: هذا اعتراض منك على الله عز وجل. والمعنى في ذلك والفائدة كالمعنى والفائدة في تكرار قصة موسى عليه السلام في عدة مواضع بعضها أتمّ في الخبر من بعض، وبعضها مساو لبعض، وكما كرر تعالى العنب والرمان والنخل بعد ذكر الفاكهة، وكما كرر تعالى: وأقيموا الصلاة والصلاة الوسطى، بعد ذكر المحافظة على جميع الصلوات. وكما كرر تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة: ولم يكررها ثلاثين مرة، لا ثمانية وعشرين مرة. ولا كررها أيضاً في غير تلك السورة، وكما أخبر تعالى في مكان بأنه رب السموات والأرض وما بينهما في مكان آخر بأنه رب الشعرى، ولم يذكر معها غيرها. ولا يسأل رب العالمين عما قال ولا ما فعل، وإنما علينا الإيمان بكل ما أتى من عند الله وقبوله كما هو، واعتقاده في موجبه ولا نتعداه، ولنا الأجر على الإقرار به، وعلى تلاوته، وعلى قبوله كما ذكرنا. فأي حظ أعظم من هذا الحظ المؤدي إلى الجنة وفوز الأبد، وهل يبتغي أكثر من هذا الأمر إلا من لا عقل له ولا يسأل الله عما يفعل إلا ملحد أو جاهل أو سخيف أو فاسق، لا بد من أحد هذه، وما فيها حظ لمختار.

فإن قال قائل: فما معنى قول الله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } في الآيات المذكورات. وما هذا التخفيف؟ وهو شيء قد خاطبنا الله تعالى به وامتن به علينا فلا بدّ من طلب معناه والوقوف على مقدار النعمة علينا في ذلك، وما هذا الشيء الذي خفف عنا، لنحمد الله تعالى عليه، ونعرف وجه الفضل علينا فيه. فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن هذا السؤال صحيح حسن، ووجه ذلك أن أول الآية يبين وجه النعمة عليه وموضع التخفيف، وهو قوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } فكان في هذه الآية التحريض لنا على قتالهم، وإيجاب نهوضنا إليهم وهجومنا على ديارهم، ونحن في عشر عددهم، هذا هو ظاهر الآية ومفهومها الذي لا يفهم منها أحد غير ذلك ثم خفف عنا تعالى ذلك وجعلنا في سنة من ترك التعرض للقصد إلى محالهم، إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة أكثر من ضعيفنا، وكنا بالآية الأولى في حرج إن لم نغزهم ونحن في عشر عددهم، فنحن الآن في حرج إن لم نقصدهم إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة مثلينا فأقل، فإن كانوا ثلاثة أمثالنا فصاعداً فنحن في سعة من أن لا نقصدهم ما لم ينزلوا بنا، وما لم يستنفر الإمام أو أميره، إلا أن نختار النهوض إليهم وهم في أضعاف عددنا. فأي هذه الوجوه الثلاثة كان قد حرم علينا الفرار جملة، ولو أنهم جميع أهل الأرض والملاقي لهم مسلم واحد فصاعداً، فهذا هو وجه التخفيف.

وبهذا تتآلف الآيات المذكورة مع قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ومع قول رسول الله : «فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» ومع إجماع الأمة على أنه إذا نزل العدو ساحتنا، ففرض علينا الكفاح والدفاع.

وأيضاً فقول الله عز وجل: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } يبين وجه التخفيف، وإنما هو عمن فيه ضعف فقط، فصار هذا التخفيف إنما هو عن الضعفاء فقط كقوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } وكقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى } .

ومن النسخ الذي بينّه النص قول رسول الله المنقول بالإجماع، «لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» «فنسخ» بذلك الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون، وبقي الولدان والأقربون الذين لا يرثون على وجوب فرض الوصية لهم. قال أبو محمد: وقد بيّنا في كتابنا هذا في باب الكلام في الأخبار المأثورة عن النبي في فصل أفردناه للكلام فيما ادعاه قوم من تعارض الأخبار ـــــ كلاماً استغنينا عن تكراره ههنا، فيه بيان غلط قوم فيما ظنوه نسخاً وليس بنسخ، ولكن اكتفينا بأن نبهنا عليه ههنا لأنه لا غنى بمزيد معرفة فقه النسخ عنه وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع

في أقل الجمع | في الاستثناء | في الكناية بالضمير | في الإشارة | في المجاز والتشبيه | فصل في التشبيه | في أفعال رسول الله | الكلام في النسخ | فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها | فصل في قول الله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ | فصل في اختلاف الناس على النسخ | فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ | فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه | فصل هل يجوز نسخ الناسخ ؟ | فصل في مناقل النسخ | فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟ | فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب | فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف | فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل | فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي | فصل في النسخ بالإجماع | فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس | في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام | في الإجماع، وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع | فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع | فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو | فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما | فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان | فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة | فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع | فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافاً | فصل في قول من قال: قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل | فصل في إبطال قول من قال: الإجماع هو إجماع أهل المدينة | فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة | إن قول الواحد من الصحابة إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع | فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة | فصل في معنًى نسبوه إلى الإجماع | فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الأهواء أم لا ؟