ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في إبطال قول من قال: الإجماع هو إجماع أهل المدينة


قال أبو محمد: هذا قول لهج به المالكيون قديماً وحديثاً، وهو في غاية الفساد، واحتجوا في ذلك بأخبار منها صحاح، ادعوا فيها أنها تدل على أن المدينة أفضل البلاد، ومنها مكذوب موضوع في رواية محمد بن الحسن بن زبالة وغيره، ليس هذا مكان ذكرها، لأن كلامنا في هذا الكتاب إنما هو على الأصول الجامعة لقضايا الأحكام، لا لبيان أفضل البلاد، وقد تقصينا تلك الأخبار في كتابنا المعروف بالإيصال في آخر كتاب الحج منه، وتكلمنا على بيان سقوط ما سقط منها، ووجه ما صحّ منها بغاية البيان، والحمد لله رب العالمين. وبجمع ذلك أنهم قالوا: المدينة مهبط الوحي ودار الهجرة، ومجتمع الصحابة، ومحل سكنى النبي ، وأحكامها فأهلها أعلم بذلك ممن سواهم، وهم شهداء آخر العمل من النبي وعرفوا ما نسخ وما لم ينسخ. ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم: إنما إجماعهم إجماع وحجة، فيما كان من جهة النقل فقط، وقالت طائفة منهم: إجماعهم إجماع وحجة، من جهة النقل كان أو من جهة الاجتهاد، لأنهم أعلم بالنصوص التي منها يستنبط وعليها يقاس، فإذا هم أعلم بذلك، فاستنباطهم وقياسهم أصح من قياس غيرهم واستنباط غيرهم.

وقالوا: من المحال أن يخفى حكم النبي على الأكثر، وهم الذين بقوا بالمدينة، ويعرفه الأقل، وهم الخارجون عن المدينة، مع شغلهم بالجهاد، وذكروا قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم ــــ إذ أراد أن يقوم بالموسم الذي بلغه من قول القائل: لو قد مات عمر لقد بايعنا فلاناً، فقال عمر: لأقومن بالعشية فلأحذرن الناس من هؤلاء الرهط يريدون يغصبونهم. فقال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس، ويغلبون على مجلسك، فأخاف ألا ينزلوها على وجهها فيطيروا بها كل مطير، فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلو بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، ويحفظون مقالتك، وينزلوها على وجهها. نا بهذا عبد الرحمن بن عبد الله نا إبراهيم بن أحمد، حدثنا الفربري، نا البخاري، نا موسى بن إسماعيل، نا عبد الواحد، نا معمر عن الزهري، عن عبيد الله بن عتبة، قال: حدثني ابن عباس، قال: قال لي عبد الرحمن بن عوف: لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل فقال له: إن فلاناً يقول: لو قد مات عمر فبايعنا فلاناً، ثم ذكر نصه كما أوردنا.

قال أبو محمد: هذا كل ما شغبوا به، وكله لا حجة لهم في شيء منه، على ما تبيّن إن شاء الله عز وجل. أما دعواهم أن المدينة أفضل البلاد، فدعوى قد بيَّنا إبطالها في غير هذا المكان، وبيّنا أن مكة أفضل البلاد بنص القرآن، والسنن الثابتة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وليس هذا مكان الكلام في ذلك، لكن نقول لهم: هبكم أنه كما تقولون، وليس كذلك، فأي برهان في كونها أفضل البلاد على أن إجماع أهلها هو الإجماع؟ ألا يستحي من يدري أن كلامه مكتوب وأنه محاسب به بين يدي الله عز وجل، من أن يموّه هذا التمويه البارد، ونحن نقول: إن مكة أفضل البلاد، وليس ذلك بموجب اتباع أهلها دون غيرهم، ولا أن إجماعهم دون إجماع غيرهم، ولا أنهم حجة على غيرهم، إذ ليس فضل البقعة موجباً لشيء من ذلك. وأيضاً فإنه لا يختلف مسلمان في أنه قد كان في المدينة منافقون، وهم شر الخلق، قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } .

وكان فيها فساق كما في سائر البلاد، وزناة وكذابون وشربة خمر وقذفة كما في سائر البلاد ولا فرق، وأهلها اليوم ـــــ وإنا لله وإنا إليه راجعون ــــ غلاة الروافض الكفرة، أفترون لهؤلاء فضلاً يوجب اتباعهم من أجل سكناهم المدينة؟ فمن قولهم: لا لكن إنما توجب الحجة بالفضلاء من أهل المدينة، قلنا لهم: ومن أين خصصتم فضلاء المدينة دون فضلاء غيرهم من البلاد؟ وهذا ما لا سبيل إلى وجود برهان على صحته أبداً. وأيضاً فالمدينة فضلها باق بحسبه، كما كان لم يتغير ولايتغير أبداً، وأهلها أفسق الناس، فقد بطل أن تكون للبقعة حكم في وجوب اتباع أهلها، وصحّ أن الفاضل فاضل حيث كان، والفاسق فاسق حيث كان. وأما قولهم: إن أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله ممن سواهم، فهو كذب وباطل، وإنما الحق أن أصحاب رسول الله وهم العالمون بأحكامه سواء بقي منهم من بقي بالمدينة أو خرج منهم من خرج، لم يزد الباقي بالمدينة بقاؤه فيها درجة في علمه وفضله، ولا حظ الخارج منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله.

وأما قولهم: إنهم شهدوا آخر حكمه وعلموا ما نسخ مما لم ينسخ فتمويه فاحش، وكذب ظاهر، بل الخارجون من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم بها منهم سواء كعليّ وابن مسعود وأنس وغيرهم ولا فرق، والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة، فظهر فساد كل ما موَّهوا به وبنوه على هذا الأصل الفاسد، وأسموه بهذا الأساس المنهار. وأما قولهم: إن من المحال أن يخفى حكم رسول الله على الأكثر، وهم الباقون بالمدينة، وبعلمه الأقل، وهم الخارجون عن المدينة، فتمويه ظاهر، وشغب غث، وإنما كان ممكن أن يموّهوا بذلك، لو وجدوا مسألة رويت من طريق كل من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، وأفتى بها كل من بقي بالمدينة من الصحابة. وأما ولا يجدوا هذا أبداً، ولا في مسألة واحدة، وإنما وجد فتيا الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك، وروايتهم كذلك، فممكن أن يغيب حكم النبي عن النفر من الصحابة، وبعلمه الواحد والأكثر منهم، وقد يمكن أن يكون الذي حضر ذلك الحكم يخرج عن المدينة، ويمكن أن يبقى بها، ويمكن خلاف ذلك أيضاً، ولا فرق، وإنما تفرق الصحابة في البلاد بعد موت النبي .

وأما قول عبد الرحمن لعمر ــــ الذي ذكرنا ــــ في تأخير الأمر حتى يقدم المدينة فيخلو بوجوه الناس، وأهل الفقه وأهل العلم، فوالله ما أدرك مالك من هؤلائك أحداً، وإنما أخذ عنهم كما فعل أهل الأمصار سواء ولا فرق، وأيضاً فما كل قول قاله عبد الرحمن، ووافقه عليه عمر رضي الله عنه حجة، وقد علم جميع أهل الإسلام أن رسول الله ، لم يخطب الخطبة التي عهد فيها إلى الناس وجعلها كالوداع لهم وقررهم «أَلا هَلْ بَلَّغْتُ» ، وأشهد الله تعالى عليهم، إلا في الموسم أحفل ما كان في الأعراب وغيرهم ففعل رسول الله أولى من رأي رآه عبد الرحمن وعمر رضي الله عنهما. وبرهان ذلك أنه لو سلك الأئمة هذا الرأي ما تعلم جاهل شيئاً أبداً، فصح أنه لا بد من مخاطبة الرعاع والجهَّال بما يلزم علمه، والعجب كله أنهم يموّهون إجماع أهل المدينة، ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده، ولا يأخذون بسواه، وهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة كعمر وابن عمر وعائشة وعثمان، ثم سعيد بن المسيب والقاسم وغيرهم. ومن عجائب الدنيا التي لا نظير لها أن يتهالكوا على تقاليد رأي ابن القاسم المصري، وسحنون التنوفي من إفريقية، لأن ابن القاسم أخذ عن مالك، ولأن سحنون أخذ عن ابن القاسم المصري عن مالك، ولا يرون لأخذ مسروق والأسود وعلقمة عن عائشة أم المؤمنين، وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما وجهاً ولا معنى، ثم لا يستحيون مع هذا من أهل التمويه بأهل المدينة، وإنما ذكرنا من أخذ عن هؤلاء المدنيين تنكيتاً لهم، وكشفاً لتناقضهم، وهم أترك خلق الله لإجماع أهل المدينة أجمعوا كلهم مع رسول الله على إعطاء أموالهم التي قسمها رسول الله على مفتتحي خيبر إلى اليهود، على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم يقرونهم ما أقرهم الله تعالى، ويخرجونهم متى شاؤوا، وبقي كذلك إلى أن مات رسول الله مدة أربعة أعوام ثم مدة أبي بكر رضي الله عنه إلى آخر عام من خلافة عمر رضي الله عنه. فقال المدعون إنهم على مذهب أهل المدينة. هذا عقد فاسد وعمل باطل مفسوخ تقليداً لخطأ مالك.

حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، نا وهب بن ميسرة، نا ابن وضاح بن يحيى، نا مالك، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: نحرنا مع رسول الله يوم الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. نا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا محمد بن حاتم، نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: نحرنا يومئذ تسعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة، فهذا إجماع أهل المدينة حقّاً وعملهم بحضرة رسول الله وإجماع الصحابة حقّاً. فقال هؤلاء المنتسبون إلى اتباع أهل المدينة: هذا عمل لا يجوز، ولا يجزىء تقليداً لخطأ مالك، وخلافاً لأهل المدينة وتمويهاً برواية عن ابن عمر قد جاء عنه خلافها.

وتركوا عمل أهل المدينة ــــ كل من حضر منهم ــــ مع عمر، في سجوده في: {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ } وسجودهم مع عمر إذ قرأ السجدة، وهو يخطب يوم الجمعة فنزل عن المنبر فسجد وسجدوا معه، ثم رجع إلى خطبته، فقال هؤلاء المنتمون إلى اتباع أهل المدينة. هذا لا يجوز، تقليداً لخطأ مالك في ذلك، ولا سبيل إلى أن يوجد عمل لأهل المدينة أعمّ من هذا، وتركوا إجماع أهل المدينة، إذ صلوا مع رسول الله آخر صلاة صلاها بالناس، فقالوا: هذه صلاة فاسدة، تقليداً لخطأ مالك في ذلك. والعجب احتجاجهم كلهم في ترك إجماع أهل المدينة على هذا وعملهم برواية الجعفي الكذاب الكوفي عن الشعبي أن النبي قال: «لا يُؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِساً» . وهذه رواية ليس في رواية أهل المدينة أنتن منها، فهل في العجب أكثر من هذا؟ وهم يقولون: إن إجماع أهل الكوفة هو الإجماع فإن روايات أهل الكوفة الصحاح مدخولة. حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرنا أبو أيوب بن محمد الوزان، نا عمرو بن أيوب، نا أفلح بن حميد، نا محمد بن حميد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع ناساً من أهل العلم، فيهم عمر بن عبد العزيز، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد، وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، وابن شهاب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة، فكلهم أمره بالطيب.

وقال القاسم: أخبرتني عائشة أنها طيَبت رسول الله لحرمه حين أحرم، ولحلّه حين حلّ قبل أن يطوف بالبيت ولم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبد الله قال: كان عبد الله رجلاً حاداً محداً كان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله، قال سالم: صدق.

فهذه فتيا أهل المدينة وفقهائها عن سلفهم، فقال هؤلاء المدعون: إنهم يتبعون أهل المدينة، لا يجوز ذلك تقليداً لخطأ مالك، واحتجوا برواية كوفية ليست موافقة لقولهم أيضاً، لكن موَّهوا بإيرادها. وذكر قيس بن مسلم، عن أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع عليّ، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي، وعامل عمر بن الخطاب الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا وكذا، ورأى ذلك الزهري. قال أبو محمد: فهل يكون عمل يمكن أن يقال: إنه إجماع ــــ أظهر من هذا أو أفشى منه؟ فقال هؤلاء المموّهون باتباع أهل المدينة: هذا لا يحل ولا يجوز تقليداً لخطأ مالك في ذلك، والعجب أن مالكاً لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة فاستحل هؤلاء القدر بنفحة، وقمحوا جميع آرائه في إجماع أهل المدينة، وإنا لله وإنا إليه راجعون على فشو الكذب واختداع أهل الغفلة والاغترار بالباطل. ثم إن المسائل المذكورة التي ذكر مالك أنها إجماع أهل المدينة تنقسم قسمين: أحدهما: لا يعلم فيه خلاف من أحد من الناس في سائر الأمصار، وهو الأقل. والثاني: قد وجدنا فيه الخلاف، كما هو موجود في غير المدينة.

قال أبو محمد: ونقول لهم لا يخلو ما ادعيتموه ــــ من إجماع أهل المدينة ــــ من أن يكون عن توقيف من رسول الله ، أو يكون عن اجتهاد، وقد تقدم إبطالنا لكل اجتهاد أدى إلى ما لا نص فيه، أو إلى خلاف النص. ثم لو صحّ لهم فمن أين جاز أن يكون اجتهاد أهل المدينة أولى من غيرهم؟ والنصوص التي يقيسون عليها معروفة عند غيرهم، كما هي عندهم إذ كتمانها محال غير ممكن، ولا فرق بين دعواهم هذه ودعوى غيرهم، أو يكون إجماعهم عن توقيف من النبي ، ولم يبق إلا هذا الوجه، فلا يخلو ذلك التوقيف من أن يكون علمه الخارجون من المدينة من الصحابة، أو جهلوه أو علمه من علمه من أهل المدينة سائر الناس أو كتموه، فإن كان علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو علمه من علمه ممن بقي في المدينة من سائر الناس، فقد استوى في العلم به أهل المدينة وغيرهم ضرورة، وإن كان من بقي في المدينة كتمه عن سائر أهل البلاد.

فهذا محال غير ممكن، لأن كل سر جاوز اثنين شائع فكيف ما علمه جميع أهل المدينة بزعمهم؟ وحتى لو صحّ أنهم كتموه لسقطت عدالتهم، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } ولقد أعاذهم الله من هذا، فبطل ضرورة ما ادعوه من إجماع أهل المدينة. وأيضاً فإن الإجماع لا يصح نقله إلا بإجماع مثله، أو بنقل تواتر، وهم لا يرجعون في دعواهم الكاذبة لإجماع أهل المدينة إلا إلى إنسان واحد، وهو مالك، فهو نقل واحد كنقل غيره من العلماء ولا فرق. وأيضاً فيقال لهم: أخبرونا هل خصّ رسول الله بتبليغ أحكام الدين أو بعضها أو حكم واحد منها ــــ المقيمين بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم عمن علم الله عز وجل أنهم سيخرجون عن المدينة. فإن قالوا: نعم كفروا وكذبوا، إذ جعلوه كتم شيئاً من الدين عمن يلزمه من علم الديانة كالذي يلزم غيره، وصاروا إلى أقوال الروافض من كثب، وإن قالوا: لا، ثبت أن السنن هي بيان الدين في غير المدينة كما هي في المدينة ضرورة ولا فرق.

وأيضاً فإن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يجاهدون ويحجون، ومن خرج عن المدينة منهم كانوا يفدون على عمر وعثمان فقد وجب التداخل بينهم. وهكذا صحت الآثار بنقل التابعين من سائر الأمصار عن أهل المدينة، وبنقل التابعين من أهل المدينة ومن بعدهم عن أهل الأمصار فقد صحب علقمة ومسروق عمر وعثمان وعائشة أم المؤمنين، واختصوا بهم وأكثروا الأخذ عنهم، وكذلك صحب عطاء عائشة أم المؤمنين، وصحب الشعبي وابن سيرين بن عمر، وصحب قتادة بن المسيب، وأخذ الزهري عن أنس، وأخذ مالك عن أيوب وحميد المكي، وأخذ عبيد الله بن عمر، عن ثابت البناني، وأخذ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. وأخبرني يوسف بن عبد الله النمري قال: نا عبد الوارث بن حسرون، نا قاسم بن أصبغ، نا أحمد بن زهير بن حرب، نا أحمد بن حنبل، نا عبد الرحمن بن مهدي، سمعت مالك بن أنس يقول: قال سعيد بن المسيب، إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، فاستوى الأمر في المدينة وغيرها بلا شك. وأيضاً فنقول لهم: هل تعمد عمر وعثمان رضي الله عنهما أن يبعثا من يعلم أهل البصرة والكوفة والشام ومصر دينهم وأحكامهم أم أغفلا ذلك وضيعاه؟ وعمالهما يترددون على هذه البلاد، ووفود هذه البلاد يفدون عليهما كل عام؟ أم لم يتركا ذلك، بل علماهم كل ما يجب علمه من الدين؟ ولا بد من أحد هذه الأقسام، فإن قالوا: تعمدنا كتمان الدين عنهم أو ضيعوا ذلك، كذبوا جهاراً، ونسبوا الخليفتين الفاضلين إلى ما قد نزههما الله تعالى عنه، مما هو أعظم الجور وأشد الفسق، بل هو الانسلاخ من الإسلام، وإن قالوا: ما تركا ذلك، علماهم كل ما يجب علمه والعمل به من الدين.

قلنا: صدقتم وقد ثبت بهذا أن أهل المدينة وغيرهم سواء في المعرفة والعلم والعدالة، وظهر فساد دعواهم الكاذبة في دعوى إجماع أهل المدينة. أنبأنا محمد بن سعيد بن بنات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر ــــ غندر ــــ، نا شعبة، نا أبو إسحاق السبيعي قال: سمعت حارثة بن مضرب قال: قرأت كتاب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة: إني بعثت عليكم عماراً أميراً، وعبد الله معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله من أهل بدر فخذوا عنهما، واقتدوا بهما، فإنني آثرتكم بعبد الله على نفسي إثرة. حدثني أحمد بن عمر بن أنس العدوي، نا عبد الله بن الحسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا محمد بن أحمد بن محمد بن الجهم، نا إسماعيل بن إسحاق القاضي، نا أحمد بن يونس، نا قيس بن أشعث، عن الشعبي قال: ما جاءك عن عمر فخذ به، فإنه كان إذا أراد أمراً استشار أصحاب محمد فإذا أجمعوا على شيء كتب به فهذا تعليم عمر ما عنده من العلم لأهل الأمصار، فصار الأمر في المدينة وغيرها سواء. وأيضاً فنقول لهم: إذا كان إجماع أهل المدينة عندكم هو الإجماع، ومن قولكم: إن من خالف الإجماع كافر، فتكفرون كل من خالف إجماع أهل المدينة بزعمكم أم لا؟ فإن قالوا: نعم لزمهم تكفير ابن مسعود وعلي، وكلّ من روي عنه فتيا مخالفة لما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من صاحب أو تابع فمن دونهم، وفي هذا ما فيه، وإن أبوا من ذلك قلنا لهم: كذبتم في الدعوى إن إجماعهم هو الإجماع، فارجعوا عن ذلك واقتصروا على أن تقولوا صواباً أو حقاً ونحو ذلك. قال أبو محمد: وأيضاً فلا شيء أظهر ولا أشهر ولا أعلن ولا أبيّن ولا أفشى من الأذان، الذي هو كل يوم وليلة خمس مرات، برفع الأصوات في مساجد الجماعات في الصوامع المشرفات لا يبقى رجل ولا امرأة، ولا صبي، ولا عالم ولا جاهل إلا تكرر على سمعه كذلك، ولا يستعمله المسافرون كما يستعمله الحاضرون، ولا يطول به العهد فينسى، وفي المدينة فيه من الاختلاف كالذي خارج المدينة. صحّ عن ابن عمر أن الأذان وتر، وروي عنه وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قولهما في الأذان: حي على خير العمل.

نا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله بن محمد بن عثمان، نا أحمد بن خالد، نا عليّ بن عبد العزيز، نا الحجاج بن منهال، نا حماد بن سلمة، نا أيوب السختياني، وقتادة، كلاهما عن محمد بن سيرين، عن ابن عمر، أنه مرّ على مؤذن فقال له: أوتر أذانك، نا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الأعرابي، نا الديري، نا عبد الرزاق، عن معمر عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: الأذان ثلاثاً ثلاثاً. وبه إلى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل، عن ابن عمر أنه كان إذا قال في الأذان: حيَّ على الفلاح، قال: حي على خير العمل.

ومن ادعى أن الصحابة في الكوفة والبصرة ومكة بدلوا الأذان، فلكافر مثله، أن يدعي ذلك على الصحابة بالمدينة، وكلاهما كاذب ملعون، وحق صحابة المدينة والكوفة والبصرة جائز واجب فرض سواء على كل مسلم، ولا فرق من ادعى ذلك على التابعين بالكوفة والبصرة فالفاسق مثله أن يدعي على التابعين بالمدينة إذ لا فرق بينهم. ومن ادعى ذلك على الولاة بالبصرة والكوفة، فلغيره أن ينسب مثل ذلك إلى الولاة بالمدينة، فقد وليها من الفساق كالذين ولوا البصرة والكوفة كالحجاج وخالد القسري وطارق وعثمان بن حيان المري، وكلهم نافذ أمره في الدماء والأموال والأحكام، وموضعهم من الفسق بالدين بحيث لا يخفى فهذا أصل عظيم. ثم الزكاة فالزهري يراها في الخُضَر، ومالك لا يراها وابن عمر لا يرى الزكاة مما أنبتت الأرض إلا في البر والشعير والتمر والزيت والسلت، ومالك يخالفه ولا شيء بعد الأذان بالصلاة أشهر من عمل الزكاة، وابن عمر لا يجيز في زكاة الفطر إلا التمر والشعير، ومالك يخالفه، وقال ابن عمر وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو سليمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزهري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عدل الناس بصاع شعير في صدقة الفطر مُدَّين من بُر، وروي ذلك أيضاً عن عمر وعثمان وأسماء بنت أبي بكر فخالفهم مالك فصح أنهم أترك الناس لعمل أهل المدينة.

وقال بعضهم: من خرج عن المدينة اشتغل بالجهاد، قلنا: لا يشغل الجهاد عن تعليم الدين فقولكم هذا مجاهدة بالباطل وقالوا: إن كان ابن مسعود إذا أفتى بفتيا أتى المدينة فيسأل عنها، فإن أفتى بخلاف فتياه رجع إلى الكوفة ففسخ ما عمل. قال أبو محمد: وهذا كذب إنما جاء أنه أفتى بمسألتين فقط، فأمر عمر بفسخ ذلك وعمر الخليفة فلم يمكنه خلافه. نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا أحمد بن دحيم، نا إبراهيم بن حماد، قال: نا إسماعيل بن إسحاق، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عمرو الشيباني أن رجلاً سأل ابن مسعود عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها أيتزوج أُمها؟ قال: نعم، فتزوجها، فولدت له، فقدم على عمر فسأله، فقال: فرِّق بينهما، قال ابن مسعود: إنها ولدت، قال عمر: وإن ولدت عشراً ففرِّق بينهما.

قال أبو محمد: والخلاف في هذا موجود بالمدينة، نا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله بن محمد بن عنان، نا أحمد بن خالد، نا عليّ بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال: إن طلق الابنة قبل أن يدخل بها تزوج أمها، وإن ماتت موتاً لم يتزوج أمها.

نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود، نا أحمد بن دحيم، نا إبراهيم بن حماد، نا إسماعيل بن إسحاق، نا إسماعيل بن أبي أويس، نا عبد الرحمن بن أبي الموال، عن عبد الحكيم بن عبد اللـه بن أبي فروة أن رجلاً من بني ليث يقال لـه الأجدع، تزوج جارية شابة فكان يأتيها فيتحدث مع أمها فهلكت امرأته، ولم يدخل بها فخطب أمها وسأل عن ذلك ناساً من أصحاب النبي فمنهم من رخص لـه ومنهم من نهاه. قال أبو محمد: هذا والمسألة المذكورة منصوصة في القرآن الذي هو عند جميع الناس كما هو عند أهل المدينة لا يمكن أن يدعوا فيها توفيقاً حتى خفي عمن هو خارج المدينة، لكن من أباح ذلك حمل الأم على حكم الربيبة، ومن منع أخذ بظاهر الآية وعمومها وهو الحق فلا مزية ههنا لأهل المدينة على غيرهم أصلاً، وقد صحّ أن عمر استفتى ابن مسعود بالبتة وأخذ بقولـه، وهذا مدني إمام أخذ بقول كوفي وذكر غريبة تضحك الثكالى ويدل على ضعف دين المموَّه، وقلة عقلـه: وهي أنهم ذكروا خبر ابن عمر إذ رأى سعداً وهو يمسح فلم يأخذ بعملـه حتى رجع إلى المدينة فسأل أباه. قال أبو محمد: وهذا عليهم لا لـهم لأن ابن عمر مدني، وقد خفي عليه حكم المسح وسعد مدني فلم يأخذ ابن عمر بفعلـه إلا أن يقولوا: إنه لا يجوز أن يؤخذ بقول مدني إلا إذا كان بين جدران المدينة. فهذا حمق لا يقولـه من لا مسكة لـه.

وموَّهوا بما أنبأنا عبد اللـه بن الربيع قال: نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرنا محمد بن المثنى، نا خالد بن الحارث، نا حميد عن الحسن قال: قال ابن عباس وهو أمير البصرة في آخر الشهر: أخرجوا زكاة صومكم، فنظر الناس بعضهم إلى بعض فقال: من هنا من أهل المدينة؟ قوموا فعلموا إخوانكم، فإنهم لا يعلمون أن هذه الزكاة فرضها رسول اللـه على كل ذكر أو أنثى حر أو مملوك، صاعاً من شعير أو تمر أو نصف صاع من قمح.

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لـهم فيه لوجوه: أولـها: أنه خبر ساقط منقطع أخذه الحسن بلا شك من غير ثقة ذلك، لأن الحسن لم يكن بالبصرة أيام ابن عباس أميراً لعليّ بن أبي طالب رضي اللـه عنه، وإنما نزلـها الحسن أيام معاوية لا خلاف في هذا. وثانيها: أن البصرة بناها عتبة بن غزوان المازني من بني مازن بن منصور أخي سليم بن منصور، وهذا بدري من أكابر المهاجرين الأولين الممتحنين في اللـه تعالى في أول الإسلام سنة أربع عشرة من الـهجرة في صدر أيام عمر رضي اللـه عنه، وإنما وليها ابن عباس لعليّ في آخر سنة ست وثلاثين بعد يوم الجمل بعد اثنتين وعشرين سنة من بنيانها، وسكنها الصحابة والتابعون رضي اللـه عنهم، ووليها أبو موسى الأشعري بعد عتبة بن غزوان، والمغيرة بن شعبة وغيرهما أيام عمر وطول أيام عثمان رضي اللـه عنهما، وولي قبض زكاتها أنس بن مالك في تلك الأيام.

فكيف يدخل في عقل من له مسكة عقل، أن مصراً يسكنه عشرات الألوف من المسلمين منهم مئون من الصحابة رضي الله عنهم، تداوله الصحابة من قبل عمر وعثمان فلم يكن فيهم أحد يعلمهم زكاة الفطر التي يعلمها النساء والصبيان في كل مدينة وكل قرية لتكررها في كل عام في العيد إثر رمضان، حتى بقوا المدة المذكورة ليس فيهم أحد علم ذلك، وأهل المدينة يعرفونها، فكيف يكتم مثل هذا والوفود من البصرة يفدون على الخليفتين بالمدينة؟. وتالله إن هذه لمصيبة على عمر وعثمان وأهل المدينة أعظم منها على أهل البصرة إذ تعمدوا ترك تعليمهم أو ضيعوا ذلك وكل ذلك باطل لا يمكن البتة، وكذب لا خفاء به، ومحال ممتنع لما ذكرنا. وثالثها: أن المحتجين بهذا الخبر ــــ وهم المقلدون لمالك ــــ أول مبطل لحكم هذا الخبر، فلا يرون ما فيه من نصف صاع قمح مكان صاع شعير في زكاة الفطر، أفليس من الرزايا والفضائح والبلايا والقبائح من يموّه بخبر يحتج به فيما ليس فيه منه شيء على من لا يراه حجة لو صح؟ لأنه ليس من كلام النبي ، ثم المحتج به أول مخالف لما احتج به، وأول مبطل ومكذب لما فيه، مما لو صحّ ذلك الخبر لما حلّ لأحد خلافه؛ لأنه عن النبي ، نعوذ بالله العظيم من مثل هذا المقال في الدنيا والآخرة. وإذ قد صححوا ههنا رواية الحسن عن ابن عباس فقد: نا أحمد بن محمد الطلمنكي، نا ابن مفرج، نا محمد بن أيوب الرقي، نا أحمد بن عروة بن عبد الخالق البزار نا محمد بن المثنى، نا يزيد بن هارون، نا حميد الطويل، عن الحسن البصري، قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة فقال: فرض رسول الله صدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد، صاع من تمر أو صاع من شعير أو بنصف صاع من بر ومن أتى بدقيق قبل منه، ومن أتى بسويق قبل منه. وهم أول عاصٍ لما في هذا الخبر، فيا للناس، مرة يصححون رواية الحسن عن ابن عباس إذا ظنوا أنهم يموَّهون به في إثبات باطل دعواهم، ومرة يبطلونهم ويكذبونها إذا خالفت رأي مالك فيزورون شاهدهم ويكذبون أنفسهم، ألا ذلك هو الضلال المبين.

قال أبو محمد: وهذا خبر رواه ابن سيرين وأبو رجاء عن ابن عباس وهما حاضران لولايته فلم يذكروا فيه ما ذكر ابن عباس من القول: يا أهل المدينة قوموا علِّموا إخوانكم، فصح أنها زيادة من لا خير فيه. قال أبو محمد: فبطل كل ما موَّهوا به ونحن ولله الحمد على ثقة من أن الله لو أراد أن يجعل إجماع أهل المدينة حجة لما أغفل أن يعين ذلك على لسان رسوله فإذا لم يفعل فنحن نثبت بأنه لم يجعل قط إجماعهم حجة على أحد من خلقه، هذا لو صحّ وجود إجماع لهم في شيء من الأحكام، فكيف ولا سبيل إلى وجود ذلك أبداً، إلا حيث يجمع سائر أهل الإسلام عليه، أو حيث نقل إجماعهم كلهم ورضاهم بذلك الحكم وتسليمهم لهم. وإلا فدعوى إجماعهم كذب بحت على جميعهم ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا.

قال أبو محمد: وهذا مالك يقول في موطئه الذي رويناه عنه، من طرق في كتاب البيوع منه في أوله في باب ترجمته «العيب في الرقيق» قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا فيمن باع عبداً أو وليدة أو حيواناً بالبراءة، فقد برىء من كل عيب إلا أن يكون علم في ذلك عيباً فكتمه، فإن كان علم في ذلك عيباً فكتمه لم تنفعه تبرئته، وكان ما باع مردوداً عليه. قال أبو محمد: والذي عليه العمل عند أصحابه ومقلديه من قوله: هو أن حكم الحيوان مخالف لحكم الرقيق، وأن بيع البراءة لا يجوز البتة في الحيوان لكنه كالعروض لا يبرأ من عيب فيه، علمه أو لم يعلمه. قال أبو محمد: فإذا كان عند هؤلاء المجرمين إجماع أهل المدينة إجماعاً لا يحل خلافه، وهذا مالك ههنا قد خالف ما ذكر أنه الأمر المجتمع عليه عندهم، فلا بد ضرورة من أحد حكمين لا ثالث لهما: أما إبطال تهويلهم بإجماع أهل المدينة وبخلافه وجواز مخالفته، وإما أن يلحقوا بمالك الذي قلدوه دينهم ما يلحق مخالف الإجماع الذي يقرّ أنه إجماع وهذا صعب ممن خالف ما يقرّ أنه إجماع، وفي هذا كفاية لمن له أدنى عقل، ومن أراد الله تعالى توفيقه. قال أبو محمد: والقوم كما ترى يموَّهون بإجماع أهل المدينة، فإن حقق عليهم لم يحصلوا من جميع أهل المدينة ومن إجماعهم إلا على ما انفرد به سحنون القيرواني، وعيسى بن دينار الأندلسي، عن ابن القاسم المصري، عن مالك وحده، من رأيه وظنه، وكثير من ذلك رأي ابن القاسم واستحسانه وقياسه على أقوال مالك. فاعجبوا لهذه الأمور القبيحة كيف يستحسنها ذو ورع، أو من يدري أن الله سيسأله عن قوله وفعله، ونعوذ بالله العظيم من الخذلان.

فإن موَّهوا بما روي من عمل قضاة المدينة الذين أدرك مالك، فليعلم كل ذي فهم أن النازلة كانت تقع في المدينة وغيرها فلا يقضي فيها الأمير ولا القاضي حتى يخاطب الخليفة بالشام، ثم لا ينفذ إلا من خاطبه به فإنما هي أوامر عبد الله والوليد وسليمان ويزيد وهشام والوليد بحسبكم والقليل من ذلك من عهد عمر بن عبد العزيز أقصر مدته. هذا أمر مشهور في كتب الأحاديث.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع

في أقل الجمع | في الاستثناء | في الكناية بالضمير | في الإشارة | في المجاز والتشبيه | فصل في التشبيه | في أفعال رسول الله | الكلام في النسخ | فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها | فصل في قول الله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ | فصل في اختلاف الناس على النسخ | فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ | فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه | فصل هل يجوز نسخ الناسخ ؟ | فصل في مناقل النسخ | فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟ | فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب | فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف | فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل | فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي | فصل في النسخ بالإجماع | فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس | في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام | في الإجماع، وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع | فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع | فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو | فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما | فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان | فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة | فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع | فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافاً | فصل في قول من قال: قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل | فصل في إبطال قول من قال: الإجماع هو إجماع أهل المدينة | فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة | إن قول الواحد من الصحابة إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع | فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة | فصل في معنًى نسبوه إلى الإجماع | فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الأهواء أم لا ؟