ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ
وقد تشكك قوم في معاني النسخ والتخصيص والاستثناء، فقوم جعلوها كلها نوعاً واحداً.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لأن النسخ هو رفع حكم قد كان حقّاً، وسواء عرفنا أنه سيرفع عنها أو لم نعرف بذلك وقد أعلم الله تعالى موسى وعيسى عليهما السلام أنه سيبعث نبيّاً يسمى محمداً بشرائع مخالفة لشرائعهما، فهذا نسخ قد علمنا به، وأما التخصيص: فهو أن يخص شخص أو أشخاص من سائر النوع، كما خص عليه السلام بفرض التهجد، وإباحة تسع نسوة وكما خص أبو هاشم وبنو المطلب بتحريم الصدقة، وأبو بردة تجزىء عنه الجزعة في الأضحية.
وأما الاستثناء: فهو ما جاء بلفظ عام، ثم استثني منه بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ. كقوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وما أشبه ذلك. إلا أن التخصيص إذا حقق فيه النظر فهو استثناء صحيح، والفرق بين النسخ والاستثناء هو أن الجملة المستثنى منها بعضها، ولم يرد قط تعالى إلزامنا إياها بعمومها، ولا أراد إلا ما بقي منها بعد الاستثناء. وأما النسخ: فالذي نهينا عنه اليوم قد كان مراد منا بالأمس بخلاف الاستثناء. وبالله تعالى التوفيق. فإن قال قائل: إن النسخ استثناء الزمان الثاني من إطلاق الفعل على التأييد، قيل له وبالله تعالى التوفيق: ليس هذا مما نجعله مع الاستثناء المطلق نوعاً واحداً لما ذكرنا من أن المستثنى لم يرد قط منا بوجه من الوجوه، وأن المنسوخ قد كلفناه، هذا فرق ظاهر بيّن، فإن كان هذا المخالف يريد أن يقول: إن النسخ نوع من أنواع الاستثناء، لأن استثناء زمان تخصيصه بالعمل سائر الأزمان لم نأب عليه ذلك، ويكون حينئذ صواب القول: إن كل نسخ استثناء وليس كل استثناء نسخاً. وهذا صحيح.