ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/الباب الثالث والثلاثون


في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها ما لم ننه عنها أم لا يجوز لنا اتباع شيء منها أصلاً إلا ما كان منها في شريعتنا وأمرنا نحن به نصّاً باسمه فقط؟

قال أبو محمد رحمه الله: قد ذكرنا الوجوه التي تعبدنا الله تعالى بها، والتي لا حكم في شيء من الدين إلا منها. وهذا حين نذكر إن شاء الله تعالى الوجوه التي غلط بها قوم في الديانة، فحكموا بها وجعلوها أدلة وبراهين، وليست كذلك، والصحيح أنه لا يحل الحكم بشيء منها في الدين وهي سبعة أشياء: شرائع الأنبياء السالفين قبل نبينا محمد والاحتياط والاستحسان والتقليد. والرأي، ودليل الخطاب. والقياس. وفيه العلل. ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون هذه الأوجه باباً باباً. ومبينون وجه سقوطها وتحريم الحكم بها. وبالله تعالى نتأيد. فأما شرائع الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل نبينا محمد فالناس فيها على قولين: فقوم قالوا: هي لازمة لنا ما لم ننه عنها، وقال آخرون: هي ساقطة عنا، ولا يجوز العمل بشيء منها، إلا أن نخاطب في ملتنا بشيء موافق لبعضها فنقف عنده، ائتماراً لنبينا : لا اتباعاً للشرائع الخالية. قال أبو محمد: وبهذا نقول، وقد زاد قوم بياناً فقالوا: إلا شريعة إبراهيم . قال أبو محمد: أما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي هذه الشريعة التي نحن عليها نفسها: والبراهين على ذلك قائمة سنذكرها إن شاء الله تعالى، وإنما الاختلاف الذي ذكرنا في ما كان من شرائع الأنبياء عليهم السلام موجوداً نصه في القرآن أو عن النبي . وأما ما ليس في القرآن ولا صح عن النبي فما نعلم من يطلق إجازة العمل بذلك إلا أن قوماً أفتوا بها في بعض مذاهبهم، فمن ذلك تحريم بعض المالكيين لما وجد في ذبائح اليهود ملتصق الرئة بالجنب، وهذا مما لا نص في القرآن ولا في السنة على أنه حرم على اليهود، نعم ولا هو أيضاً متفق عليه عند اليهود، وإنما هو شيء انفردت به الربانية منهم. وأما العانانية والعيسوية والسامرية فإنهم متفقون على إباحة أكله لهم. فتحرى هؤلاء القوم ــــ وفقنا الله وإياهم ــــ ألا يأكلوا شيئاً من ذبائح اليهود فيه بين أشياخ اليهود لعنهم الله اختلاف، وأشفقوا من مخالفة هلال وشماي شيخ الربانية وحسبنا الله ونعم الوكيل. ومن طريف ما وقع لبعضهم في هذا الباب، وسمجه وشنعه الذي ينبغي لأهل العقول أن يستجيروا بالله عز وجل من مثله أن إسماعيل بن إسحاق قال في رجم النبي اليهوديين الزانيين، إنما فعل ذلك تنفيذاً لما في التوراة، ورأى هو من رأيه الفاسد أن يرفع نفسه عن تنفيذ ما فيها من الرجم على اليهود الزناة المحصنين إذا زنوا، فصان نفسه عما وصف به نبيه . ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول الفاسد، ومن هذا الاعتقاد، فلو كفر جاهل بجهله لكان قائل هذا القول أحق الناس بالكفر لعظيم ما فيه. واحتج أيضاً في ألا يقول الإِمام «آمين» إذا قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ } بأن موسى عليه السلام إذا دعا لم يؤمن وأمن هارون عليهما السلام فسماهما تعالى داعيين بقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } .

قال أبو محمد: وفي هذا الاحتجاج من الغثاثة والبرد والسقوط والمجاهرة بالقبيح ما فيه، لأنه يقال له قبل كل شيء، من أخبرك أن موسى عليه السلام دعا ولم يؤمن؟ وأن هارون أمن ولم يدع، وهذا شيء إنما قاله بعض المفسرين بغير إسناد إلى النبي ، ومثل هذا لا يؤخذ إلا عن النبي أو عن كافة تنقل عن مثلها إلى ما هنالك. فمن فاته هذان الوجهان فقد فاته الحق، ولم يبق بيده إلا المجاهرة بالكذب وأن يقفو ما ليس له به علم، أو أن يروى ذلك عن إبليس الملعون، فإنه قد أدرك لا محالة تلك المشاهد كلها إلا أنه غير ثقة، ثم يقال له: هذا لو صح لك ما ادعيت من أن موسى دعا ولم يؤمن، وأن هارون أمَّن ولم يدع، فأي شيء في هذا مما يبطل قول النبي عن الإمام: «وإذا أَمَّنَ فَأَمِّنُوا» وقول الراوي: أن النبي وهو الإمام كان يقول إذا فرغ من أم القرآن في الصلاة آمين هذا ولعل موسى قد أمن إذ دعا، ولعل هارون دعا إذ دعا موسى وأمنا، أو أمن أحدهما، أو لم يؤمن واحد منهما، ونص القرآن يوجب أنهما دعوا معاً بقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } وليس في القرآن دليل على تأمين وقع منهما ولا من أحدهما، فهل سمع بأغث من هذا الاحتجاج أو أسقط منه، أو أقل حيلة أو أبرد تمويهاً ممن يحتج بمثله في إبطال السنن الثابتة ثم قال له: من عجائب الدنيا أنك جعلت فعل موسى وهارون الذي لم يصح قط ناسخاً لقول محمد الصحيح في التأمين، وهذا عكس الحقائق.

وقد كنا نعجب من قول شيخ من شيوخهم أدركناه مقدماً في مشاورة القضاة له على جميع مفتيهم، فإن ذلك الشيخ قال في كتاب ألفه وقد رأيناه ووقفنا عليه وناولناه بيده، وهو مكتوب كله بخطه، وأقر لنا بتألفه وقرأه غيرنا عليه، فكان في بعض ما أورد فيه أن قال: روينا بأسانيد صحاح إلى التوراة أن السماء والأرض بكتا على عمر بن عبد العزيز أربعين سنة. قال أبو محمد: هذا نص لفظه، فلا أعجب من الشيخ المذكور في أن يروي عن التوراة شيئاً من أخبار عمر بن عبد العزيز وهذا إسماعيل يبطل قول النبي : «إذا أمن ــــ يعني الإمام فأمِّنوا» وتأمينه عليه السلام وهو الإمام بما لم يصح من ترك موسى للتأمين وترك هارون للدعاء.

واحتجوا أيضاً في إباحة قتل المسلمين وسفك الدماء المحرمة بدعوى المريض أن فلاناً قتله، ورسول الله يقول: «لَوْ أُعْطِيَ قَوْمٌ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ» فأباحوا ذلك بدعوى المريض. واحتجوا بما ذكر بعض المفسرين من أن المقتول من بني إسرائيل لما ضرب ببعض البقرة حيي وقال: فلان قتلني.

قال أبو محمد: وهذا ليس في نص القرآن، وإنما فيه ذكر قتل النفس والتدارىء فيها، وذبح البقرة وضربه ببعضها، وكذلك يحيي الله الموتى فمن زاد على ما ذكرنا في تفسير هذه الآية، فقد كذب وادعى ما لا علم لديه، فكيف أن يستبيح بذلك دماً حراماً ويعطي مدعياً بدعواه، وقد حرم الله تعالى ذلك، فمن أعجب ممن يحتج بخرافات بني إسرائيل التي لم تأت في نص ولا في نقل كافة، ولا في خبر مسند إلى رسول الله في مثل هذه العظائم هذا مع أن تلك الخرافة ليس فيها ذكر قسامة أصلاً، ولا أنه لا يحلف في القسامة إلا اثنان فصاعداً، فهذه الزوائد من أين خرجت؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم أتى إلى قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } فقال: لا نأخذ بها ولا نقتل مؤمناً بكافر ولا حراً بعبد، لأن هذا من شرائع من كان قبلنا، ونسي أخذه في القسامة بخرافة مروية عن بني إسرائيل، وترك لها فعل النبي في القسامة، ثم ترك ههنا نص الله تعالى في أنه كتب عليهم أن النفس بالنفس.

وأعلى ما روي في حديث بقرة بني إسرائيل فحديث حدثناه أحمد بن عمر، ثنا عبد الله بن حسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا محمد بن الجهم، ثنا أبو بكر الوراق، نا علي بن عبد الله ــــ هو ابن المديني ــــ وعياش بن الوليد قال علي: نا يحيى بن سعيد، وسفيان بن عيينة، قال يحيى: نا ربيعة بن كلثوم، حدثني أبي عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس قال: إن أهل المدينة من بني إسرائيل وجدوا شيخاً قتيلاً في أصل مدينتهم، فأقبل أهل مدينة أخرى فقالوا: قتلتم صاحبنا وابن أخ له شاب يبكي، فأتوا موسى عليه السلام، فأوحى الله إليه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ــــ فذكر حديث البقرة بطوله وفي آخره ــــ فأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ وابن أخيه قائم عند قبره، فذبحوها فضرب ببضعة من لحمها القبر، فقام الشيخ ينفض رأسه ويقول: قتلني ابن أخي، طال عليه عمري وأراد أكل مالي ومات.

وقال سفيان: ثنا ابن سوقة، سمعت عكرمة يقول: كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر باباً، فوجدوا قتيلاً قد قتل على باب، فجروه إلى باب آخر، فتحاكموا إلى موسى عليه السلام فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فذبحوها فضربوه بفخذها فقام فقال: قتلني فلان، وكان رجلاً له مال كثير، وكان ابن أخيه قتله، وقال عياش بن الوليد، نا يزيد بن زريع، نا سعيد، عن قتادة قال: كان قتيل في بني إسرائيل فأوحى الله عز وجل إلى موسى، أن اذبح بقرة فاضربوه ببعضها، فذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها، فأحياه الله عز وجل، فأنبأ بقاتله وتكلم ثم مات.

وذكر لنا أنهم وليه الذي كان يطلب بدمه هو قتله من أجل ميراث كان بينهم، فلا يورث قاتل بعده. وبه إلى ابن الجهم، ثنا محمد بن مسلمة، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ هشام عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه فقتله، ثم احتمله ليلاً حتى أتى به في آخرين فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم، فأتوا موسى عليه السلام فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ، فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه، ثم مال ميتاً فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئاً، ولم يورث قاتل بعده. وبه إلى ابن الجهم. حدثنا محمد الفرج، وإبراهيم بن إسحاق الحربي قال محمد: واللفظ له: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل قتله رجل ثم ذكر معناه. وقال الحربي: نا حسين بن الأسود، نا عمرو بن محمد، نا أسباط، عن السدي نحوه. وروينا أيضاً نحوه من طريق إسماعيل بن إسحاق، عن عبد الله بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال أبو محمد: وهذه مرسلات وموقوف لو أتت فيما أنزل علينا ما جاز الاحتجاج بها أصلاً، فكيف فيما أنزل في غيرنا؟ وليس في القرآن نص بشيء مما ذكر في هذه الأخبار أكثر من أنهم تدارؤوا في نفس مقتولة منهم، فأمرهم عز وجل أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ولم يقل تعالى في القرآن إن الميت قال: فلان قتلني، ولا أنه صدق في ذلك، ولا أنه أقيد به، وكل من زاد على ما في القرآن شيئاً بغير نص من الرسول فقد أتى عظيمة.

وحتى لو صح كل هذا لما كانت فيه حجة أصلاً، لأن ذلك كان يكون معجزة، وإحياء ميت، ومن عاد من الآخرة فلا شك في أنه لا يقول إلا الحق، وأما الأحياء فيما بيننا فالكذب غير مأمون عليهم، ودعوى الباطل وهم لا يصدقونه، في درهم يدعيه ولا في درهم يقر به لوارث، ويصدقونه في الدم الذي يوجب قتل عدوه عندهم، أو أخذ ماله في الدية. ونحن الآن إن شاء الله تعالى نذكر كل ما في القرآن من شرائع النبيين عليهم السلام قبلنا، ونبين ما اتفق على تركه منها، وما اختلف في الأخذ منها، ثم نذكر إن شاء الله تعالى حجج الآخذين بها، والمانعين منها، وبالله تعالى التوفيق. فمن شرائع سليمان عليه السلام قول الله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ} . قال أبو محمد: وهذا لا خلاف بيننا في سقوط عقاب الطير وإن أفسدت علينا، و منها قوله تعالى:{و داودَ و سُلَيمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم و كنّا لحكمهم شاهدين ففهّمناها سليمان} .

قال أبو محمد : هذا مما أختلف فيه , فادعى قوم فيها دعاوى من أن سليمان عليه السلام كلف أصحاب الغنم جبر ما أفسدت ما الزروع أو الكروم ليلا , وهذا باطل لأنه ليس ذلك في الآية , ولا يصح عن رسول الله , وإنما ذكر في بعض التفاسير التي لاتصح , وذلك من نحو ماذكر فيها أن الملكين زنيا وقتلا النفس التي حرم الله تعالى وشربا الخمر .

وقد نزه الله الملائكة عن ذلك , وأن الزهرة كانت زانية فمسخت كوكبا مضيئا يهتدي به في البر والبحر , حتى أدت هذه الروايات الفاسدة بعض أهل الإلحاد إلى أن قال : لو كان هذا لما بقيت محصنة إلا زنت لتمسخ كوكبا , والتي ذكر فيها أن يوسف عليه السلام , قعد من إمرأة العزيز , مقعد الرجل من امرأته , وقد نزه الله تعالى أنبياءه عن ذلك , وهذا كثير جدا .

وقد أخبر رسول الله أن جرح العجماء جبار، ولا ينسند حديث ناقة البراء أصلاً وإنما هو منقطع من جميع جهاته.

ومن شريعة زكريا عليه السلام قوله تعالى: {قال آيتك ألاتكلم الناس ثلاث ليال سويا} وهذا ساقط بما روي عن النبي من قوله: «لأصمت يَوْماً إِلَى اللَّيْلِ» وبالجملة فلم نؤمر بالصمت، ومن صمت عن غير الواجب من الكلام والمستحب من الذكر فقد أحسن.

ومنها قوله تعالى: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} فاحتج بهذا قوم في الحكم بالقرعة، ثم جعلوا ذلك حكماً في المستلحق من الأولاد، وفي المشكوك في طلاقها من النساء وفي غير ذلك، وهذا لا يلزم بل يبطل من وجهين:

أحدهما: أن هذا قياس والقياس باطل. والثاني: أنه غير مأمور به في شريعتنا. ومن شرائع موسى عليه السلام قوله تعالى: {اخلع نعليك انك بالوادي المقدس طوى} ونحن لا نخلع نعالنا في الأرض المقدسة. ومنها قوله تعالى: {حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} . قال أبو محمد: وهذا لا خلاف في أنه منسوخ، وأن الله تعالى قد أحل لهم كل ذلك على لسان محمد بقوله: {وطعامكم حل لهم} وهذه الشحوم من طعامنا، فهن حل لهم، وإن رغمت أنوفهم وأنوف المجتنبين لها اتباعاً لدعوى اليهود في تحريم ذلك. ومنها قوله تعالى: {والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} .

قال أبو محمد: أما نحن فلا نأخذ بهذا لأننا لم نؤمر به، وإنما أمر به غيرنا، وإنما أوجبنا القود في كل هذا، وفيما دونه بين المسلمين فيما بينهم، وساوينا في كل ذلك بين الحر والعبد، والذكر والأنثى بقوله تعالى مخاطباً لنا: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وبقوله تعالى مخاطباً لنا، {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وبقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ويقول رسول الله : «المُؤمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» فأقدنا في كل ذلك من الحر للحر، والعبد للحرة والأمة وأقدنا من العبد للعبد، وللحر وللحرة، وللأمة وكذلك من الحرة والأمة ولا فرق، وأقدنا لكل من ذكرنا من الكافر، ولم نقد كافراً من مؤمن أصلاً لقول الله تعالى: {} وبقوله : «وَلاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» .

ومنها قوله تعالى: {لاتعتدوا في السبت} وهذا منسوخ بإجماع. ومنها قوله تعالى: {فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم} .

قال أبو محمد: وهذا منسوخ بإجماع. ومنها الأمر بذبح بقرة صفراء فاقع لونها، وهذا لا يلزم في شيء من الأحكام بإجماع.

ومن شريعة لوط عليه السلام: {كذبت قوم لوط بالنذر} ولا يحل في شريعتنا رجم المكذب بالنذر، وقد احتج قوم في رجم من فعل فعل لوط بهذه الآية.

قال أبو علي: ونسوا أن فاعل ذلك من قوم لوط كان كافراً، وذلك منصوص في القرآن في الآية نفسها إذ أخبر تعالى أنهم كذبوا بالنذر، وأن صبيانهم ونساءهم رجموا معهم، ولم يكونوا ممن فعل ذلك الفعل، ونسوا أيضاً قوله تعالى: {ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم} فكان يلزمهم إذا طردوا أصلهم الفاسد أن يسلموا عينهم كل من راود ذكراً عن نفسه، لأن الله تعالى طمس أعين قوم لوط إذ راودوا ضيفه، كما رجمهم لما أتوا الذكور وكفروا، فمن فرق بين شيء من ذلك فقد تحكم في دين الله عز وجل بلا برهان ولا هدى من الله تعالى.

ومن شريعة يوسف عليه السلام: {وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قدمن دبر فكذبت وهو من الصادقين} .

قال أبو محمد: وهذا مما لا خلاف فيه أنه لا يجوز أن نحكم به الآن بين الناس في تداعيهم الزنى. ومنها: {ولمن جاء به حمل بعير} .

قال أبو محمد: فاحتج قوم بهذا في إثبات الجعل، وهذا لا يلزم، لأن قول رسول اللـه : «أَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» مبطل للجعل، إلا أن يوجبه نص في شريعتنا أو تطيب به نفس الجاعل.

ومنها قولـه تعالى: {قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} .

قال أبو محمد: وهذا لا خلاف بيننا وبين خصومنا في أنه لا يحكم به بيننا، وأنه لا يسترق السارق لأجل سرقته، وكان يلزمهم القول به لأنه ليس مجمعاً على تركه، بل قد روينا عن زرارة بن أوفى القاضي أنه باع حرّاً في دَين، وروينا أيضاً عن الشافعي من طريق غريبة، وقد كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ بقولـه تعالى: {فنظرة إلى ميسره} .

ومن شريعة أيوب عليه السلام: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} فاحتج بهذا قوم في إباحة جلد الزاني، والقاذف والشارب إذا كانوا مرضى، يعرجون فيه مائة أو ثمانون أو أربعون شمراخاً، وفي برِّ يمين من حلف ليجلدن غلامه كذا وكذا جلدة.

قال أبو محمد: والذين احتجوا بدعواهم في كلام الميت في أمر بقرة بني إسرائيل أن فلاناً قتلني، يأبون ههنا من أن يبرأ الحالف إذا ضرب بضغث، ويكفي هذا من قبيح التناقض وفاحشة، ونحن وإن كنا نرى الجلد بالضغث للمريض فإنما نجيزه من غير هذه الآية، لكن من الحديث المأثور عن رسول اللـه أنه أمر أن يجلد المريض الذي زنى بعثكول فيه مائة شمراخ، ونرى البرّ يقع بما يقع عليه اسم جلد واسم ضرب.

ومن شريعة موسى وصهره عليهما السلام: {اني اريد ان انكحك احدى ابنتي هاتين على ان تأجرني ثماني حجج فان اتممت عشرا فمن عندك وما اريد ان اشق عليك ستجدني ان شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك ايما الاجلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل} .

قال أبو محمد: وبهذا يحتج من يبيح النكاح على إجارة إلى أحد أجلين لم يوقت أحدهما بعينه، وهذا عندنا وعند خصومنا لا يجوز، لأن الإجارة المجهولة الأجل فاسدة، لأنها أكل مال بالباطل، والنكاح على شيء فاسد، لأن كل ما لا يصح إلا بصحة ما لا يصح فلا شك في أنه لا يصح، لا سيما وتلك الإجارة للمنكح لا حظ فيها للمنكحة، والصداق في ديننا إنما هو للمنكحة بنص قول اللـه تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} ولا حظ فيها للأب ولا للولي.

ومن عجائب الدنيا ما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، ثنا وهب بن مسرة، ثنا ابن وضاح، ثنا سحنون، ثنا ابن القاسم قال: احتج مالك في جواز فعل الرجل بإنكاح ابنته البكر بغير رضاها بقول اللـه تعالى عن صهر موسى: {اني اريد ان انكحك احدى ابنتي هاتين على ان تأجرني ثماني حجج فام اتممت عشرا فمن عندك} .

قال علي: فأي عجب أعجب من احتجاجه بهذه الآية فيما لا يوجد في الآية أصلاً، وفي الممكن أنها رضيت فلم يذكر، ثم يخالف الآية نفسها في أربعة مواضع: أحدهما: إنكاح إحدى ابنتي بغير عينها. والثاني: إنكاحه بإجارة. الثالث: الإجارة إلى أحد أجلين أيهما أوفى فالنكاح ثابت. والرابع: إنكاح امرأة بخدمة أبيها. ثم بعد هذا كله: من له بأنها كانت بكراً؟ ولعلها ثيب، أليس في هذا الاحتجاج عبرة لمن اعتبر، ولعلها بكر عانس وهو لا يرى إنكاح هذه إلا بإذنها ورضاها، فكيف والاحتجاج بالآية لا يصح لما قدمنا من أن شرائع الأنبياء عليهم السلام لا تلزمنا،

ومن شرائع الخضر عليه السلام قوله تعالى: {حتى إذا لقيا غلاما فقتله} ثم قال: {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا} .

قال أبو محمد: ولا خلاف في شريعتنا أنه لا يحل قتل غلام خوف أن يرهقهما طغياناً وكفراً، ومن شريعة نوح عليه السلام: {رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا} .

قال أبو محمد: فأخذ بهذا الأزارقة واستباحوا قتل الأطفال وغاب عنهم أن قول نوح عليه السلام إنما كان فيمن كان في عصره من الكفار فقط، الذين أهلكهم الله تعالى، ولم يبق لهم نسلاً بقوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} وبقوله تعالى: {ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا}

ولم يحمل نوح مع نفسه عليه السلام إلا المؤمنين فقط من قومه وولده، وغاب عنهم بجهلهم أن رسول الله سيد ولد آدم هو ولد كافر وكافرة، وأن عمر كذلك، وقد قال عليه السلام: «أَوَ لَيْسَ خِيَارُكُمْ أَوْلاَدُ المُشْرِكِينَ» ، ونحن نترك الكفار ولا نقتلهم، بل نأخذ منهم الجزية، وننكح إليهم ونعاملهم، ونأكل ذبائحهم، ولا نستحل قتل طفل من أطفال أهل الحرب عمداً، بل يهديهم الله بنا، ولا يضلوننا والحمد لله رب العالمين، وقد نقل كافة بني إسرائيل أن موسى عليه السلام قتل صبيان أهل مدين، وقتل يوشع صبيان أهل أريحا الأطفال بأمر الله تعالى بذلك، وهذا في شريعتنا غير جائز

ومن شريعة يونس عليه السلام قوله تعالى: {إذ ابق الى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين} .

قال أبو محمد: فاحتج بهذا قوم في الحكم بالقرعة وقد مضى الكلام في ذلك ولا خلاف بين أحد منا أنه لا يجوز أن يلقى أحد في البحر بالقرعة.

ومن شريعة مريم عليها السلام: {اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم انسيا} وليس هذا من شرط الصوم عندنا. ومن شرائع الله تعالى في بني إسرائيل قوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} ونحن نعتدي كثيراً فلا نمسخ ولله الحمد. ومن شريعة أهل زمان زكريا عليه السلام قول أم مريم: {اني نذرت لك ما في بطني محررا} .

قال أبو محمد: وهذا غير جائز عندنا أصلاً.

ومن شريعة يعقوب عليه السلام: {كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة} .

قال أبو محمد: وهذا لا يحل عندنا، وليس لأحد أن يحرم على نفسه ما لم يحرم الله عز وجل عليه إلا أن طوائف من علمائنا اختلفوا في تحريم الزوجة والأمة فقال به قوم: ومنع منه آخرون وبالمنع منه نقول ولا يحل لأحد أن يحرم زوجة ولا غيرها، ولا تكون بذلك حراماً، ولا طلاقاً ولا كفارة في ذلك وهي حلال له كما كانت وكذلك سائر ماله.

ومن شرائع بني إسرائيل: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} .

قال أبو محمد: وهذا لا يلزمنا.

ومن شريعة آدم عليه السلام: قوله: {واتل عليهم نبا ابني ادم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الاخر} .

قال أبو محمد: ولا خلاف في أنه لا يجوز عندنا التحاكم بالقرابين، ولا يحل عندنا الاستسلام للقتل ظلماً، بل المقتول دون نفسه شهيد. ومن شريعة الكتابيين في زمان أصحاب الكهف: {قال الذين علبوا على امرهم لنتخذن عليهم مسجدا} .

قال أبو محمد: وهذ حرام في شريعتنا. وقد قال عليه السلام: «إِنَّ أُولئِكَ كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمْ رَجُلٌ صَالِحٌ بَنُوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً أُولئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ» .

قال أبو محمد: فهذه شرائع يلزم من قال باتباع شرائع الأنبياء عليهم السلام أن يقول بها، وإلا فقد نقضوا أصلهم. واحتج الموجبون للأخذ بشرائع الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى: {وليحكم اهل النجيل بما انزل الله فيه ومن لم يحكم بما انزل الله فالئك هم الفاسقون} .

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن هذا منسوخ، وأن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام. واحتجوا بقوله تعالى: {انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} .

قال أبو محمد: وهذا إنما عني الله تعالى به أنبياء بني إسرائيل لا محمداً لأنه تعالى يقول: {ومن يبتغ غير السلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين} وبيان ذلك قوله تعالى: {يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا} ونحن ليس لنا نبيون وإنما لنا نبي واحد والأنبياء كلهم مسلمون وقد حكى الله تعالى عن أنبياء سالفين أنهم قالوا أمرنا بأن نكون من المسلمين. وأيضاً فقد قال تعالى حاكياً عن أهل الكتاب أنهم قالوا لنا: {كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة ابراهيم حنيفا} فصح أن الله تعالى نهى عن دين اليهود والنصارى، وأمرنا بدين إبراهيم عليه السلام،

وقال تعالى: {لم تحاجون في ابراهيم وما انزلت التوراة والانجيل الا من بعده} فصح يقيناً أن إبراهيم كانت شريعته قبل التوراة، وأن شريعته لازمة لنا فمن المحال الممتنع أن نؤمر باتباع شيء نزل بعد شريعتنا، وهذا متناقض فبطل تأويل من ظن الخطأ في قوله تعالى: {يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا} وصح أنهم أنبياء بني إسرائيل فقط.

فإن قالوا: لا خلاف بين التوراة وبين شريعة إبراهيم عليه السلام، ولا بين شريعتنا، واحتجوا بما حدثناه عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا محمد بن رافع، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عِلاَّتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» قلنا لهم: هذا حجة عليكم لا لكم، إن تأولتم فيه اتفاق أحكام شرائعهم أكذبهم القرآن في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } وأكذبهم قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } وأكذبهم أمر السبت، وتحريم كل ذي ظفر وما حرم إسرائيل على نفسه، ولكن معنى قوله : «وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» إنما يعني التوحيد الذي لم يختلفوا فيه أصلاً. واحتجوا بقوله تعالى: { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } .

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الذي أمرنا أن نقتدي بهم فيه هو ما اتفقت فيه شريعتنا وشريعتهم مثل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } فأما باقي الآية في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } فلم نأخذه من هذه الآية، لكن من أمر الله تعالى لنا بذلك في آية أخرى. ومثل قوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } . فنص تعالى على أنهم كلهم أمروا ألا يتفرقوا في الدين، وهذا هو نفس إخباره عليه السلام أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد، وقد نص الله تعالى على أنه أمر بعضهم بترك العمل في السبت، ولم يأمرنا نحن بذلك، وأحل الخمر مدة وحرمها بعد ذلك، فصح يقيناً أن الذي نهوا عن التفرق فيه. وأن الذي شرع لجميعهم من الدين الواحد إنما هو التوحيد، وأن الذي فرق فيه بينهم هي الشرائع والأعمال الواجبات والمحرمات وهذا هو نفس قولنا.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول

في استصحاب الحال (1) | في استصحاب الحال (2) | في استصحاب الحال (3) | وهو باب الحكم بأقل ما قيل | في ذم الاختلاف | في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل | في الشذوذ | في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا | في الدليل | في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض | في صفة التفقه في الدين | في وجوب النيات في جميع الأعمال | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها