ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/الباب السابع والعشرون


قال أبو محمد: الشذوذ في اللغة ــــ التي خوطبنا بها ــــ هو الخروج عن الجملة، وهذه اللفظة في الشريعة موضوعة باتفاق على معنى مّا، واختلف الناس في ذلك المعنى. فقالت طائفة: الشذوذ هو مفارقة الواحد من العلماء سائرهم، وهذا قول قد بينا بطلانه في باب الكلام في الإجماع من كتابنا هذا، والحمد لله رب العالمين، وذلك أن الواحد إذا خالف الجمهور إلى حق فهو محمود ممدوح، والشذوذ مذموم بإجماع، فمحال أن يكون المرء محموداً مذموماً من وجه واحد، في وقت واحد، وممتنع أن يوجب شيء واحد الحمد والذم معاً في وقت واحد، من وجه واحد، وهذا برهان ضروري، وقد خالف جميع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في حرب أهل الردة، فكانوا في حين خلافهم مخطئين كلهم، فكان هو وحده المصيب، فبطل القول المذكور. وقال طائفة: الشذوذ هو أن يجمع العلماء على أمر مّا، ثم يخرج رجل منهم عن ذلك القول الذي جامعهم عليه، وهذا قول أبي سليمان وجمهور أصحابنا، وهذا المعنى لو وجد نوع من أنواع الشذوذ، وليس حدّاً للشذوذ ولا رسماً له، وهذا الذي ذكروا ــــ لو وجد ــــ شذوذ وكفر معاً لما قد بينا في باب الكلام في الإجماع، أن من فارق الإجماع وهو يوقن أنه إجماع فقد كفر، مع دخول ما ذكر في الامتناع والمحال، وليت شعري متى تيقنا إجماع جميع العلماء كلهم في مجلس واحد فيتفقون، ثم يخالفهم واحد منهم، والذي نقول به ــــ وبالله تعالى التوفيق: إن حد الشذوذ هو مخالفة الحق، فكل من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ، وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم أو بعضهم، والجماعة والجملة هم أهل الحق، ولو لم يكن في الأرض منهم إلا واحد فهو الجماعة وهو الجملة. وقد أسلم أبو بكر وخديجة رضي الله عنهما فقط، فكانا هم الجماعة، وكان سائر أهل الأرض ــــ غيرهما وغير رسول الله ــــ أهل الشذوذ، وفرقة وهذا الذي قلنا، لا خلاف فيه بين العلماء، وكل من خالف فهو راجع إليه ومقربه شاء أو أبى، والحق هو الأصل الذي قامت السموات والأرض به قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } فإذا كان الحق هو الأصل فالباطل خروج عنه، وشذوذ منه فلما لم يجز أن يكون الحق شذوذاً. وليس إلا حق أو باطل صح أن الشذوذ هو الباطل، وهذا تقسيم أوله ضروري وبرهان قاطع كاف ولله الحمد.

ويسأل من قال: إن الشذوذ هو مفارقة الواحد للجماعة: ما تقول في خلاف الاثنين للجماعة؟ فإن قال: هو شذوذ، سئل عن خلاف الثلاثة للجماعة، ثم يزاد واحداً واحداً هكذا أبداً، فلا بد له من أحد أمرين: إما أن يجد عدداً ما بأنه شذوذ، وإن ما زاد عليه ليس شذوذاً، فيأتي بكلام فاسد لا دليل عليه، فيصير شاذّاً على الحقيقة، أو يتمادى حتى يخرج عن المعقول وعن إجماع الأمة فيصير شاذّاً على الحقيقة أيضاً، ولا بد له من ذلك، وبالله تعالى التوفيق. فكل من أداه البرهان من النص أو الإجماع المتيقن إلى قول مّا، ولم يعرف أحد قبله قال بذلك القول، ففرض عليه القول بما أدى إليه البرهان، ومن خالفه فقد خالف الحق، ومن خالف الحق فقد عصى الله تعالى، قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ولم يشترط تعالى في ذلك أن يقول به قائل قبل القائل به، بل أنكر تعالى ذلك على من قاله، إذ يقول عز وجل حاكياً عن الكفار منكراً عليهم أنهم قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَـذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَـذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ } . قال أبو محمد: ومن خالف هذا فقد أنكر على جميع التابعين، وجميع الفقهاء بعدهم، لأن المسائل التي تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم من الاعتقاد أو الفتيا فكلها محصور مضبوط؛ معروف عند أهل النقل من ثقات المحدثين وعلمائهم؛ فكل مسألة لم يرو فيها قول عن صاحب، لكن عن تابع فمن بعده، فإن ذلك التابع قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله بلا شك، وكذلك كل مسألة لم يحفظ فيها قول عن صاحب ولا تابع، وتكلم فيها الفقهاء بعدهم فإن ذلك الفقيه قد قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله، ومن ثقف هذا الباب فإنه يجد لأبي حنيفة ومالك والشافعي أزيد من عشرة آلاف مسألة لم يقل فيها أحد قبلهم بما قالوه، فكيف يسوغ هؤلاء الجهال للتابعين، ثم لمن بعدهم أن يقولوا قولاً لم يقله أحد قبلهم، ويحرم ذلك على من بعدهم إلينا، ثم إلى يوم القيامة فهذا من قائله دعوى بلا برهان وتخرص في الدين، وخلاف الإجماع على جواز ذلك لمن ذكرنا، فالأمر كما ذكرنا، فمن أراد الوقوف على ما ذكرنا فليضبط كل مسألة جاءت عن أحد من الصحابة، فهم أول هذه الأمة، ثم ليضرب بيده إلى كل مسألة خرجت عن تلك المسائل، فإن المفتي فيها قائل بقول لم يقله أحد قبله، إلا أن بيننا نحن وبين غيرنا فرقاً، وهو أننا لا نقول في مسألة قولاً أصلاً إلا وقد قاله تعالى في القرآن أو رسوله عليه السلام فيما صح عنه، وكفى بذلك أنساً وحقّاً. وأما من خالفنا فإن أكثر كلامه فيما لم يسبق إليه، فمن رأيه، وكفى بهذا وحشة. والحمد لله رب العالمين كثيراً وصلى الله على محمد خاتم النبيين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول

في استصحاب الحال (1) | في استصحاب الحال (2) | في استصحاب الحال (3) | وهو باب الحكم بأقل ما قيل | في ذم الاختلاف | في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل | في الشذوذ | في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا | في الدليل | في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض | في صفة التفقه في الدين | في وجوب النيات في جميع الأعمال | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها