ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/تتمة الباب الثالث والثلاثون

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام المؤلف ابن حزم
تتمة في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها


وقد قال تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } وقال: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

فصح بالنص أنه تعالى فرق بين الشرائع، وبين منهاج كل واحد منهم، وبين وجهة كل واحد منهم، وقد قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . فصح أن الله تعالى لا يتناقض كلامه، وصح أن الذي أمرنا أن نتبع فيه سننهم هو غير الشرائع التي فرق بيننا وبينهم فيها، فصح أنه التوحيد الذي سوّى فيه بينهم كلهم في التزامه، فصح أنه هو الهدى الذي أمر بأن يقتدي بهم، ويبين ذلك أيضاً قوله تعالى حاكياً عن رسوله يوسف عليه السلام أنه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } . قال أبو محمد: فبين نصّاً أنهم اتفقوا في التوحيد خاصة، وإلا فقد نص تعالى على أن إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام حرم على نفسه أشياء كانت له حلالاً، وليس هذا في شريعة إبراهيم عليه السلام؛ فصح يقيناً أنه كان مباحاً لإسرائيل أن يحرم على نفسه بعض الطعام. وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا نفسها، على ما نبين في آخر هذا الباب إن شاء الله عز وجل، وليس في شريعتنا أن يحرم أحد على نفسه طعاماً أحله الله له، وقد جمع يعقوب بين الأختين. وهذا لا يحل في شريعتنا التي هي شريعة إبراهيم، فلما سوّى يوسف عليه السلام بين ملة إبراهيم ويعقوب وشرائعهما مفترقة علمنا أن ذلك في التوحيد وحده لا فيما سواه. فاعترض بعض خصومنا بأن قال: إذا حملتم قوله تعالى على أن ذلك في التوحيد وحده لا فيما سواه عريتم الآية من الفائدة. التوحيد مأخوذ بالعقل.

قال أبو محمد: هذا من أغث احتجاج يورده مشغب، ويلزم من قال بهذا أن يحذف من القرآن كل آية مكررة، مثل: {الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ * وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَـذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ 16} وغيرها.

والتوحيد عرف بالعقل ضرورة، ولكن ما يجب الإقراء به فرضاً، ولا صح الوعيد على جاحده بالقتل والنار في الآخرة بالعقل، وإنما وجب ذلك كله بإنذار الرسل فقط. فالآية المذكورة أوجبت اعتقاد التوحيد، وأوجبت الإقرار به، ولم يجب ذلك قط بالعقل، لأن العقل لا يشرع ولا يخبر بمن يعذب الله تعالى في الآخرة، ولا بمن ينعم، وإنما العقل مميز بين الممتنع والواجب، والممكن ومميز بين الأشياء الموجودات وبين الحق الموجود المعقول والباطل المعدوم المعقول فهذا ما في العقل ولا مزيد.

وقال بعضهم: نحمل قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } على ما لم يأتنا فيه نص أنه نسخ من شرائعهم، ونحمل قوله: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } على ما نسخ من شرائعهم.

قال أبو محمد: هذا تأويل منهم مجرد من الدليل، وما تجرد عن الدليل فهو دعوى ساقطة. وقد بينا الدلائل على أن الذي أمرنا بالاقتداء بهم فيه إنما هو التوحيد وحده فقط. واحتجوا بقول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .

قال أبو محمد: وقد بين الله تعالى في آية أخرى غير هذه الآية بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } . {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . واحتجوا بقول رسول الله في أمر ثنية الربيع أو الجرح الذي جرحت على حسب اختلاف الروايات في ذلك «كِتَابُ الله القِصَاصُ» .

قال أبو محمد: إنما عنى رسول الله قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } وهذا الذي خوطبنا به نحن هو اللازم لنا ولم يأت نص عن أنه عليه السلام عنى غير هذه الآية أصلاً. فإن قال قائل: فلعله عليه السلام إنما عنى بذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } الآية وما علمكم بأنه عنى عليه السلام الآية التي تلوتم دون هذه؟. فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن البرهان على أنه لم يعن بقوله: «كِتَابُ الله القِصَاصُ» قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أنه ليس في سورة التوراة قبول أرش، وإنما الأرش في حكم الإسلام، وفي الحديث المذكور أنهم قبلوا الأرش، فصح أنه لم يعن قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } . واحتجوا بقوله إذا رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ» .

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه قد أمر بصيامه، ولولا أن الله تعالى أمره بصيامه ما اتبع اليهود في ذلك، وقد صح أنه كان يوماً تصومه قريش في الجاهلية فصامه تبرراً. واحتجوا أيضاً بأن قالوا: لما كانت شريعة الأنبياء عليهم السلام حقّاً وجب اتباع الحق حتى يأتي ما ينقلنا عنه.

قال أبو محمد: والجواب وبالله تعالى التوفيق: إن تلك الشرائع وإن كانت حقّاً على الذين خوطبوا بها فلم تكتب قط علينا، وليس ما كان حقّاً على واحد كان حقّاً على غيره، إلا أن يوجبه الله تعالى عليه، وإنما كتب علينا الإقرار بالأنبياء السالفين، وبأنهم بعثوا إلى قومهم بالحق لا إلى كل أحد ولم يكتب علينا العمل بشرائعهم. واحتجوا بدعائه بالتوراة يوم رجم اليهوديين، وأنه عليه السلام سألهم: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ» ؟ فلما أخبروه بالرجم وأنهم تركوه قال : «أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَ الله تَعَالَى» . قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو تأويل سوء ممن تأوله، لأنه بلا شك في شريعته المنزلة عليه قد أمر برجم من أحصن من الزناة، وإنما دعا بالتوراة حسماً لشغب اليهود، وتبكيتاً لهم في تركهم العمل بما أمروا به، وإعلاماً لهم بأنهم خالفوا كتابهم الذي يقرون أنه أنزل عليهم.

ومن قال: إنه رجم اليهوديين اتباعاً للتوراة، لا لأمر الله تعالى له برجم كل من أحصن من الزناة في شريعته المنزلة عليه، فقد كفر وفارق الإسلام وحل دمه، لأنه ينسب إلى النبي عصيان ربه فيما أمره به في شريعته المنزلة عليه، إذ تركها واتبع ما أنزل في التوراة. وقد أخبر تعالى أن اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه، فمن الكفر العظيم أن يقول من يدعي أنه مسلم: إن النبي حكم بكتاب قد أخبر أنه محرف. ووالله إن العجب ليعظم ممن ينسب إلى رسول الله الحكم بما في التوراة في رجم يهوديين زنيا، وهو يرفع نفسه الخسيسة عن هذا، فيقول: إن قدم إلي يهوديان زنيا لم أقم عليهما الحد، ورددتهما إلى أهل دينهما، فهو يترفع عما يصف به نبيه ، نبرأ إلى الله تعالى من نصر كل مذهب يؤدي إلى مثل هذه البوائق والكبائر، وحسبنا الله ونعم الوكيل. واحتجوا بما روي: أنه سدل ناصيته كما يفعل أهل الكتاب، ثم فرقها بعده، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء. قال أبو محمد: وهذا الحديث من أقوى الحجج عليهم، لأنه نص فيه على أنه إنما كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء، فصح أنه إنما كان يفعل ذلك في المباح له فعله، وتركه مما لم ينه عنه ولا أمر به، وهذا غير ما نحن فيه، وإنما كلامنا في وجوب شرائعهم ما لم ننه عنها وفي سقوطها حتى نؤمر بها، وأما الزي المباح وفرق الشعر وسدله فكل ذلك مباح حتى الآن فعله وتركه. هذا كل ما احتجوا به قد أبطلنا شغبهم فيه وبالله تعالى التوفيق. ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون البراهين المبينة قولنا المبطلة قولهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ويحيى بن يحيى واللفظ له قال أبو بكر: نا هشيم، ثنا سيار، ثنا يزيد الفقير، ثنا جابر وقال يحيى، أنا هشيم، عن سيار، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله قال: «أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، كَانَ كُلُّ نَبِيَ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ» وذكر باقي الحديث. وبه إلى مسلم، ثنا قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر قالا: ثنا إسماعيل ــــ وهو ابن جعفر ــــ عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: «فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتَ» فذكرهن، وفيها «أُرْسِلْتُ إِلَى الخَلْقِ كَافَّةً» .

قال أبو محمد: هذا الحديث يكفي من كل شغب موّه به المبطلون، ويبين أن كل نبي قبل نبينا إنما بعث إلى قومه خاصة، وإذا كان ذلك صح بيقين أن غير قومه لم يلزموا بشريعة نبي غير نبيهم، فصح بهذا يقيناً أنه لم يبعث إلينا أحد من الأنبياء غير محمد . وإذ قد صح ذلك فقد قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } ، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } وقال تعالى في نبينا : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

وقال تعالى آمراً له أن يقول: {قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } مخاطباً للناس كلهم، وأمره تعالى أن يدعو الإنس والجن إلى الإيمان، وقال تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } فصح أنهم لم يكونوا ملزمين شريعة أحد من الأنبياء، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

فعلمنا أن الشرائع التي بعث بها موسى عليه السلام لم تلزم غير بني إسرائيل حاشا التوحيد وحده على ما بينا قبل، وعلى ما بينه تعالى إذ يقول: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، {قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . قال أبو محمد: فصح بهذه الآية أيضاً أن الذي تساوى فيه كل من ذكر الله من النبيين هو اللازم لنا وليس ذلك إلا التوحيد وحده، وإلا فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أن شرائعهم كانت مختلفة فسقط عنا بذلك جميع شرائعهم إلا الذي سوى بينهم فيه وهو التوحيد فقط. ومن ألزمنا شرائع الأنبياء قبلنا، فقد أبطل فضيلة النبي وأكذبه في إخباره أنه لم يبعث نبي إلا إلى قومه خاصة حاشا، لأن خصومنا يريدون منا اتباع شرائع من قبلنا فيوجبون بذلك أنهم مبعوثون إلينا، وهذا الباطل والكذب. ويبين هذا أيضاً قوله تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } وهذه صفة فعل الله تعالى الذي لم يزل حكمه موصوفاً بها في خلقه في علمه وقال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . قال أبو محمد: هذه كافية في هذا الباب لأنه تعالى ما سوّى بينهم فيه وهو عبادة الله تعالى وحده والإقرار بأنه الإله وحده ثم أخبرنا تعالى أنه لا يسألنا عما كان أولئك الأنبياء يعملون، وإذا لم نسأل عن عملهم فقد تيقن كل ذي حس سليم أن ما لا نسأل عنه، فإنه غير لازم لنا، ولو كان لنا لازماً لسئلنا عنه. فصح بهذا كله ما ذكرنا وهي براهين ضرورية لا محيد عنها وأعمالهم هي شرائعهم التي بعثوا بها فقد سقط عنا بالنص طلبها، وإذ سقط عنا طلبها فقد سقط عنا حكمها، إذ لا سبيل إلى التزام حكم شيء إلا بعد معرفته، ولا سبيل إلى معرفته إلا بعد طلبه، وبالله تعالى التوفيق. وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا هذه بعينها، ولسنا نقول: إن إبراهيم بعث إلى الناس كافة، وإنما نقول: إن الله تعالى بعث محمداً إلى الناس كافة بالشريعة التي بعث تعالى بها إبراهيم عليه السلام إلى قومه خاصة دون سائر أهل عصره، وإنما لزمتنا ملة إبراهيم، لأن محمداً بعث بها إلينا، لا لأن إبراهيم عليه السلام بعث بها قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وقال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .

قال أبو محمد: فانبلجت المسألة والحمد لله رب العالمين. ونسخ الله تعالى عنا بعض شريعة إبراهيم كما نسخ أيضاً عنا بعض ما كان يلزمنا من شريعة محمد . فمن ذلك ذبح الأولاد نسخ عنه عليه السلام كما نسخ عنا أيضاً بقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وبقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } وبقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } ونسخ الاستغفار للمشركين بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } وبقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } وقد وعد النبي عمه أبا طالب بالاستغفار، كما وعد إبراهيم عليه السلام أباه بالاستغفار حتى نهى الله تعالى كليهما عن ذلك.

وأما قول إبراهيم عليه السلام لقومه إذ رأى الكوكب {فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } فإنما كانت تقريراً لهم تبكيتاً لا استدلالاً ومعاذ الله أن يقول إبراهيم بالعبودية لأحد دون الله تعالى، ومن كان مثل إبراهيم سبقت له من الله تعالى سابقة علم في انتخابه للرساله والخلة لا يستدل بكبر الشمس على ربوبيتها وهو يرى الفلك أكبر منها، فصح أن ذلك توبيخ لهم على فساد استدلالهم في عبادتهم للنجوم، وأن هذا إنما هو كما قال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } أي عند نفسك في الدنيا وعند قومك المغرورين وإلا فهو في تلك الحال الدليل المهان وقال قوم متكلفون متنطعون: ماذا كانت شريعة النبي قبل أن ينبأ؟. قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: أن يقال لهم في نفس سؤالكم جوابكم وهو قولكم أن ينبأ وأن لم يكن نبيّاً، فلم يكن مكلفاً شيئاً من الشرائع التي لم يؤمر بها ومن الهذيان أن يكون مأموراً بما لم يؤمر به، فصح أنه لم يكن ألزم شيئاً من الشريعة حاشا التوحيد اللازم لقومه من عهد إبراهيم عليه السلام لولده ونسله حتى غيره عمرو بن لحي، وحاشا ما صانه الله تعالى عنه من الزنى، وكشف العورة والكذب والظلم، وسائر الفواحش والرذائل التي سبق في علم الله تعالى أنه سيحرمها عليه وعلى الناس، لا إله إلا هو. وقد قال قوم: إن نوحاً بعث إلى أهل الأرض كلهم.

قال أبو محمد: وهذا خطأ لأنه تكذيب لقوله : «إِنَّ كُلَّ نَبِيَ حَاشَاهُ إِنَّمَا بُعِثَ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً» فصح أن نوحاً عليه السلام كذلك ولا فرق وإنما غرق تعالى من غرق من غير قومه كما غرق الأطفال حينئذ وسائر الحيوان، ويفعل ربنا تعالى ما شاء لا معقب لحكمه، وقد قيل للنبي : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ» وذكر جيشاً يخسف بهم فقيل له: يا رسول الله وفيهم المكره وغيره؟. فأخبر أنهم وإن عمهم العذاب في الدنيا فكل أحد يبعث على نيته يوم القيامة أو كلاماً هذا معناه، فليس في إهلاك الله تعالى من أهلك بالطوفان دليل على أن جميعهم بعث إليهم نوح، بل نص القرآن مثبت أن نوحاً عليه السلام لم يبعث إلى غير قومه البتة بقوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فمن ادعى أن قومه كانوا جميع أهل الأرض فقد كذب وقفا ما ليس له به علم. وقد حرَّم ذلك بقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } ولا في النص أيضاً أن جميع أهل الأرض هلكوا بالطوفان لا في القرآن ولا في الحديث الصحيح والله أعلم، ولا علم لنا إلا ما علمنا، والكذب، والقول بغير علم لا يستسهله فاضل، نعوذ بالله من الخذلان.

فإن تعلق متعلق بما حدثناه/ عن عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، ثنا أبو إسحاق المستملي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا إسحاق بن نضر، ثنا محمد بن عبيد، ثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كنا مع النبي في دعوة فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة وقال: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةٍ» ثم ذكر صفة القيامة، وفيه أن الناس يأتون نوحاً فيقولون: «يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ» وذكر باقي الحديث، قيل له وبالله تعالى التوفيق. ليس لك في هذا حجة لأنه لم يقل إلى جميع أهل الأرض، وبعض أهل الأرض يقع عليه اسم أهل الأرض، وما كنا لنستجيز تخصيص هذا العموم لولا ما ذكرنا قبل من رواية جابر وأبي هريرة وشهادتهما على رسول الله بأن كل نبي قبله إنما بعث إلى قومه خاصة حاشاه عليه السلام، فإنه بعث إلى الناس كافة، وفضل على جميع الأنبياء بذلك. وقد قال قوم: إن آدم عليه السلام بعث إلى ولده، وهم أهل الأرض قاطبة في وقتهم بلا شك. قال أبو محمد: وهذا شغب لا يصح، لأن الحديث الذي ذكرنا آنفاً يبطل هذه الدعوى، وقد أخبر عليه السلام في هذا الحديث أن نوحاً أول من بعث إلى أهل الأرض، وقد روى أن شيثاً كان نبياً، وإذا كان ذلك فليس آدم مبعوثاً إليه.

فإن قال قائل: ومن أين استجزت الاحتجاج في دفع بعث آدم إلى أهل الأرض بنبوة شيث، ولم يأت في نص صحيح ولا في إجماع، وأنت تنكر مثل هذا على غيرك. قال أبو محمد: فنقول له وبالله تعالى التوفيق: وإنما قلنا ذلك لأنه قد صح عندنا بيقين أنه لم يبعث قط نبي إلى جميع الناس حاشا محمداً ، فمن قال: إن آدم ونوحاً أو غيرهما بعث إلى جميع الناس في زمانه فهو كاذب بلا شك، مخالف لمحمد مبطل لفضيلته، فلما صح ذلك عندنا علمنا أن آدم لا يخلو من أحد وجهين ضرورة لا ثالث لهما: إما أن يكون معه نبي آخر لم يبعث آدم إليه، أو يكون ولده لم يلزموا شريعة أبيهم آدم، وقد ينبأ المرء في مهده كما نبىء عيسى عليه السلام، فلعله قد ولد لآدم ولد نبىء في حين خروجه إلى الدنيا. فلا يكون آدم مبعوثاً إليه والله أعلم، إلا أن اليقين الذي لا شك فيه أن آدم لم يبعث إلى جميع ناس عصره، ولا ناس هنالك إلا هو وامرأته حواء وولده فقط، وبالله تعالى التوفيق.

وأما قوله في الحديث الذي ذكرنا آنفاً: «إِنَّ نُوحاً أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ» ولا شك في آدم رسول الله عز وجل، فإن معناه عندنا والله أعلم أن رسالة آدم عليه السلام إنما كانت لأهل السماء قائلاً لهم عن الله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ومنبئاً لهم بأسمائهم، ومسلماً عليهم على ما جاء في القرآن والحديث الصحيح، وإنه لم يبعث إلى أهل الأرض أصلاً، وأن أولاده وامرأته أوحي إليهم التوحيد، ثم بعث إلى كل طائفة نبي منها، ثم بعث نوح إلى قومه خاصة بشريعة، كما أخبر رسول الله وأرسل إلى أهل الأرض بالعذاب العام لهم ولجميع الحيوان بلا شك، لا شريعة ألزموها فهذا موافق لما صح في القرآن من خبره عليه السلام.

وكل ما أرسله تعالى فبلا شك أنه إنما أرسله بأمر ما، هذا ما لا بد منه، فوجب أن يعرف بماذا أرسل إلى أهل الأرض؟ فلم نجده إلا العذاب العام لكل من في الأرض، ووجدنا النص قد جاء بإرساله إلى قومه خاصة بشريعته فصح الأمر ولله الحمد. وبهذا تتألف الأحاديث كلها والقرآن، وقد روينا في هذا الحديث تأويلاً آخر: عن قتادة والحكم، وهو ما حدثناه أحمد بن عمر العذري، ثنا أبو ذر عبد بن السرخسي، قال: ثنا إبراهيم بن خزيم قال: ثنا عبد بن حميد، قال: حدثني يونس، عن شيبان، عن قتادة قال: بعث نوح حين بعث الشريعة بتحليل الحلال وتحريم الحرام، وبه إلى عبد قال: حدثنا أبو نعيم، ثنا ابن أبي غنية، عن الحكم قال: جاء نوح بالشريعة بتحريم الأخوات والأمهات والبنات. قال أبو محمد: فتأول هذان الإمامان أن نوحاً أول من بعث بالتحريم والتحليل والذي يظهر إلينا، فالذي قدمنا أولاً، والله أعلم. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول

في استصحاب الحال (1) | في استصحاب الحال (2) | في استصحاب الحال (3) | وهو باب الحكم بأقل ما قيل | في ذم الاختلاف | في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل | في الشذوذ | في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا | في الدليل | في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض | في صفة التفقه في الدين | في وجوب النيات في جميع الأعمال | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها