ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب الثامن والثلاثون (10)


فهذا كل ما ذكروه مما روي عن الصحابة، قد بيناه بأوضح بيان، بحول الله تعالى وقوته، أنه ليس لهم في شيء منه متعلق، وهو أنه إما شيء بين الكذب لم يصح، وإما شيء لا مدخل للقياس فيه البتة. فإذا الأمر كما ترون، ولم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس، وأيقنا أنهم لم يعرفوا قط العلل التي لا يصح القياس إلا عليها عند القائل به، فقد صح الإجماع منهم رضي الله عنهم على أنهم لم يعرفوا ما القياس، وبأنه بدعة حدثت في القرن الثاني، ثم فشا وظهر في القرن الثالث، كما ابتدأ التقليد والتعليل للقياس في القرن الرابع، وفشا وظهر في القرن الخامس. فليتق الله امرؤ على نفسه وليتداركها بالتوبة والنزوع عمن هذه صفته، فحجة الله تعالى قد قامت باتباع القرآن والسنة، وترك ما عدا ذلك من القياس والرأي والتقليد. ولقد كان من بعض الصحابة نزعات إلى القياس، أبطلها رسول الله نذكرها إن شاء الله تعالى في الدلائل على إبطال القياس إذا استوعبنا بحول الله تعالى وقوته كل ما اعترضوا به. وبقيت أشياء من طريق النظر موَّهوا بها، ونوردها إن شاء الله تعالى، ونبين بعونه عز وجل بطلان تعلقهم، وأنه لا حجة لهم في شيء منها، كما بينا، بتأييد الله تبارك وتعالى، ما شغبوا به من القرآن، وما موَّهوا به من كلام النبي ، وما لبسوا به من الإجماع وما أوهموا به من آثار الصحابة، وبالله تعالى التوفيق. فمن ذلك: أنهم قالوا: إن القياس هو من باب الاستشهاد على الغائب بالحاضر، فإن لم يستشهد بالحاضر على الغائب فلعل فيما غاب عنا ناراً باردة.

قال أبو محمد: هذه شغبية فاسدة، فأول تمويههم ذكرهم الغائب والحاضر في باب الشرائع، وقد علم كل مسلم أنه ليس في شيء من الديانة شيء غائب عن المسلمين، وإنما بعث رسول الله ليبين للناس دينهم اللازم لهم، قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فلا يخلو رسول الله من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون لم يبلغ ولا بيِّن للناس، فهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة بلا خلاف. وإما أن يكون بلَّغ كما أمر به، وبيَّن للناس جميعهم دينهم وهذا هو الذي لا شك فيه، فأين الغائب من الدين ههنا لو عقل هؤلاء القوم؟ إلا أن يكون هؤلاء القوم، وفقنا الله وإياهم، يتعاطون استخراج أحكام في الشريعة لم ينزلها الله تعالى على رسوله ، فهي غائبة عنا، فهذا كفر ممن أطلقه واعتقده، وتكذيب لقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ولقول رسول الله : «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» قالوا: نعم، قال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» .

وأما تمويههم بذكر النار، ولعل في الغائب ناراً باردة، فكلام غث في غاية الغثاثة، لأن لفظة «نار» إنما وقعت في اللغة على كل حار مضيء صعاد، فإن كنتم تريدون أن شيئاً حاراً يكون بارداً، فهذا تخليط وعين المحال. وأما لفظة «نار» فقد وقعت أيضاً في اللغة على ما لا يحرق، فالنار عند العرب اسم الميسم الذي توسم به الإبل، فيقولون: ما نارها، بمعنى ما وسمها، فليس الاسم مضطراً إلى وجوده كما هو ولا بد، ولكنه اتفاق أهل اللغة، وليس من قبل أننا شاهدنا النار محرقة صعادة مضيئة، وجب ضرورة أن تسمى ناراً ولا بد، بل لو سموها باسم آخر ما ضر ذلك شيئاً. وليس أيضاً من قبل أننا شاهدنا النار على هذه الهيئة، عرفنا أن ما غاب عنا منها كذلك أيضاً، بل قد علمنا أن أهل اللغة لم يوقعوا اسم نار في الغائب والحاضر إلا على الحار المضيء المحرق الصعاد. فإن قلتم: فلعل في الغائب جسماً مضيئاً بارداً صعاداً قلنا لكم: هذا ما لا دليل عليه، والقول بما لا دليل عليه غير مباح، وقد عرفنا صفات العناصر كلها إلا إن قلتم: لعل الله تعالى عالم بهذه الصفة، فالله تعالى قادر على ذلك، ولكنه تعالى لم يخلق في هذا العالم، مما شاهدنا بالحواس أو بالعقل أو بالمقدمات الراجعة إلى الحواس والعقل، غير ما شاهدنا بذلك، ولعله تعالى قد خلق عوالم بخلاف صفة عالمنا هذا، إلا أن هذا أمر لا نحققه ولا نبطله، ولكنه ممكن والله أعلم، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله، وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا أيضاً فقالوا: إن في النصوص جليّاً وخفيّاً، فلو كانت كلها جلية لاستوى العالم والجاهل في فهمها، ولو كانت كلها خفية لم يكن لأحد سبيل إلى فهمها، ولا إلى علم شيء منها، قالوا: فوجب بذلك ضرورة أن نستعمل القياس من الجلي على معرفة الخفي.

قال أبو محمد: وهذه مقدمة فاسدة، والأحكام كلها جلية في ذاتها، لأن الله تعالى قال لنبيه : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ولا يحل لمسلم أن يعتقد أن الله تعالى أمر رسوله بالبيان في جميع الدين فلم يفعل ولا بيَّن، وهذا ما لا يجوز لمسلم أن يخطره بباله، فإذ لا شك في هذا، ونوقن أنه قد بيّن الدين كله. فالدين كله بيّن، وجميع أحكام الشريعة الإسلامية كلها جلية، واضحة، وقد قال عمر رضي الله عنه: تُركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً، وقال أيضاً رضي الله عنه: سننت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، إلا أن يضل رجل عن عمد.

قال أبو محمد: إلا أن من الناس من لا يفهم بعض الألفاظ الواردة في القرآن وكلام النبي ، لشغل بال أو غفلة أو نحو ذلك، وليس عدم هذا الإنسان فهم ما خفي عليه بمانع أن يفهمه غيره من الناس، وهذا أمر مشاهد يقيناً، وهكذا عرض لعمر رضي اللـه عنه إذا لم يفهم آية الكلالة وفهمها غيره، وقال عمر رضي اللـه عنه: اللـهم من فهمته إياها فلم يفهمها عمر.

وقال: ما راجعت رسول اللـه في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي بشيء ما أغلظ لي فيها، إلى أن طعن بأصبعه في صدري وقال لحفصة: «مَا أَرَاهُ يَفْهَمُهَا أَبَداً» أو كما قال ، فصح ما قلناه يقيناً، وأخبر أن آية الصيف كافية الفهم، وأن عمر لم يفهمها، ليس لأنها غير كافية، بل هي كافية بيّنة، ولكن لم ييسَّر لفهمها. وكذلك أخبر : «أَنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَأَنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» فلم يقل : إنها مشتبهات على جميع الناس، وإنما هي مشتبهة على من لا يعلمها، وإذ هذا كذلك فحكم من لا يعلم أن يسأل من يعلم. كما قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } ولم يقل فارجعوا إلى القياس، فوضع دعوى هؤلاء القوم وصح أن الدين كلـه بيّن واضح، وسواء كلـه في أنه جليّ مفهوم إلا أن من الناس من يخفى عليه الشيء منه بعد الشيء لإعراضه عنه، وتركه النظر فيه فقط. وقد يخفى على العالم الفهم أيضاً، إذا نظر في مقدماته وقضاياه بفهم كليل إما لشغل بال، وإما لطلبه في اللفظ ما لا يقتضيه فقط حتى يعلمه إياه العلماء الذين هو عندهم بيّن جليّ، ولو لم يكن الأمر هكذا لما عرف الجاهل صحة قول مدعي الفهم أبداً.

فصح أنه لما أمكن العالم إقامة البرهان حتى يفهم الجاهل من القضايا كالذي فهم العالم فإن العلم كلـه جليّ، ممكن فهمه لكل أحد، ولولا ذلك ما فهم الجاهل شيئاً، ولا لزم من لا يفهم، العمل بما لا يفهم. وأيضاً فيلزم فيما كان منه خفيّاً ما ألزموه لو كان كلـه خفيّاً، وفي الجلي منه ما يلزم لو كان كلـه جليّاً ولا فرق، وليس للقياس ههنا طريق البتة، وباللـه تعالى التوفيق. واحتجوا فقالوا: لما رأينا البيضتين إذا تصادمتا تكسرتا، علمنا أن ذلك حكم كل بيضة لم تنكسر، قالوا: وهذا قياس.

قال أبو محمد: وهذا خطأ، ولم نعلم ذلك قياساً، ولكن علمنا بأول العقل وضرورة الحس أن كل رخص الملمس فإنه إذا صدمه ما هو أشد منه اكتنازاً أثر فيه، إما بتفريق أجزائه، وإما بتبديل شكله، ولم نقل قط، إن البيضة لما أشبهت البيضة وجب أن تنكسر إذا لاقت جرماً صليباً، بل هذا خطأ فاحش. وفي هذا القول إبطال القياس حقاً، فبيضة الحنش وبيضة الوزعة وبيضة صغار العصافير لا تشبه بيضة النعام البتة في أغلب صفاتها، إلا أنهما جميعاً واقعان تحت نوع البيض وكلاهما ينكسر إذا لاقا جسماً صليباً مكتنزاً. ونحن لو خرطنا صفة بيضة من عاج أو من عود البقس حتى تكون أشبه ببيضة النعامة من الماء بالماء، ولم تشبه بيضة الحجلة إلا في الجسمية فقط ثم ضربنا بها الحجر لما انكسرت. فصح أن الشبه لا معنى له في إيجاب استواء الأحكام البتة، وبطل قولهم: إننا علمنا انكسار ما بأيدينا من البيض لشبهها بما شاهدنا انكساره منها، وصح أنه من أجل الشبه بينهما وجب انكسار هذه كانكسار تلك. وإنما الذي يصح بهذا فهو قولنا: إن كل ما كان تحت نوع واحد فحكمه مستو وسواء اشتبها أو لم يشتبها. فقد علمنا أن العنب الأسود الضخم المستطيل أو المستدير أشبه بصغار عيون البقر الأسود منه بالعنب الأبيض الصغير، لكن ليس شبهه به موجباً لتساويهما في الطبيعة، ولا بعده عن مشابهة العنب بموجب لاختلافهما في الطبيعة، فبطل حكم التشابه جملة، وصح أن الحكم للاسم الواقع على النوع الجامع لما تحته.

وهكذا قلنا نحن: إن حكمه في واحد من النوع حكم منه في جميع النوع، وأما القياس الذي ننكر فهو: أن يحكم لنوع لا نص فيه بمثل الحكم في نوع آخر قد نص فيه، كالحكم في الزيت تقع فيه النجاسة بالحكم في السمن يقع فيه الفأر، وما أشبه هذا، فهذا هو الباطل الذي ننكره، وبالله التوفيق. ومعرفة المرء بأول طبيعته لا ينكرها إلا جاهل أو مجنون، فنحن نجد الصغير يفر عن الموت، وعن كل شيء ينكره وعن النار، وإن كان لم يحترق قط، ولا رأى محترقاً، وعن الإشراف على المهواة ونجده يضرب بيده إذا غضب، وهو لا يعلم أن الضرب يؤلم، ويعض بفمه قبل نبات أسنانه وهو لم يعضه قط أحد فيدري ألم العض. نعم حتى نجد ذلك في الحيوان غير الناطق، فنجد الصغير من الثيران ينطح برأسه قبل نبات قرنيه، والصغير من الخنازير يشتر بفمه قبل كبر ضرسه، والصغير من الدواب يرمح قبل اشتداد حافره، وهذا كثير جداً.

فبمثل هذا الطبع علمنا أن كل رخص المجسمة فإنه يتغير بانكسار أو تبدل شكل إذا لاقى جسماً صليباً، وبه علمنا أن كل نار في الأرض وفيما تحت الفلك فهي محرقة، لا بالقياس البارد الفاسد، وليس هذا في شيء من الشرائع البتة بوجه من الوجوه، لأنه لم تكن النار قط منذ خلقها الله تعالى إلا محرقة، حاشا نار إبراهيم لإبراهيم عليه السلام وحده، لا لغيره بالنص الوارد فيها، ولم يجز أن يقاس عليها غيرها، ولا كانت البيضة قط إلا متهيئة للانكسار إذا لاقت شيئاً صِلباً، وقد كان البر بالبر حلالاً متفاضلاً برهة من الدهر، وكذلك كل شيء من الشريعة واجب فقد كان غير واجب، حتى أوجبه النص، وغير حرام حتى حرمه النص، فليست ههنا شيء أن يجب أن يقاس عليه ما لم يأت بإيجابه نص ولا تحريم أصلاً، وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا بأن قالوا: إن علمنا بما في داخل هذه الجوزة والرمانة على صفة ما إنما هو قياس على ما شاهدنا من ذلك، وإلا فلعل داخلهما جوهر أو شيء مخالف لما عهدناه، وكذلك أن في رؤوسنا أدمغة، وفي أجوافنا مصراناً، وأن هذا الصبي لم تلده حمارة، وأن الأحياء يموتون، إنما علمنا ذلك قياساً على ما شاهدنا. قال أبو محمد: وهذا من أبرد ما موَّهوا به وما علم قط ذو عقل أن من أجل علمنا بأن ما في داخل هذه الرمانة كالذي في داخل هذه وأن في أجوافنا مصراناً، وفي رؤوسنا أدمغة، وأن الناس لم تلدهم الأتن، وأن الأحياء يموتون، علمنا أن الزيت ينجس إذا مات فيه عصفور، ولا ينجس إذا مات فيه مائة عقرب وأن التمرة بالتمرة حرام والتفاحة بالتفاحة حلال. وأن البئر إذا مات فيها سنور نزح منها أربعون دلواً فإن سقط فيها نقطة بول نزحت كلها. وأن من مس دبره انتقض وضوءه، وأن من مس أنثييه لم ينتقض وضوءه وهل بين هذه الوجوه والتي قبلها تشبيه؟. وإن المشبه بين هاتين الطريقتين لضعيف التمييز، وتلك أمور طبيعية ضرورية تولى الله عز وجل إيقاعها في القلوب. لا يدري أحد كيف وقع له علمها. وهذه الأخر: إما دعاوى لا دليل عليها، وإما سمعية لم تكن لازمة ثم ألزم الله منها بالنص لا بالكهانة ولا بالدعوى. ونحن نجد الصغير الذي لم يحب بعد، وإنما هو حين هم أن يجلس، إذا رأى رمانة قلق وشره إلى استخراج ما فيها وأكلها. وكذلك الجوز وسائر ما يأكله الناس، فليت شعري متى تعلم هذا الصبي القياس، بأن ما في هذه الرمانة كالتي أطعمناه عام أول، أو قبل هذا بشهر.

ولقد كان ينبغي لهم أن يعرفوا على هذا أحكام القياس بطبائعهم، دون أن يأخذوها تقليداً عن أسلافهم. ولو أنهم تدبروا العالم وتفكروا في طبائعه وأجناسه وأنواعه وفصوله وخواصه وأعراضه، لما نطقوا بهذا الهذيان، فإن كانوا يريدون أن يسموا جري الطبائع على ما هي عليه: قياساً، فهذه لغة جديدة، ولم يقصدوا بها وجه الله تعالى، لكن قصدوا الشغب والتخليط، كمن سمى الخنزير أيلاً ليستحله، والأيل خنزيراً ليحرمه. وكل هذه حيل ضعيفة لا يتخلصون بها مما نشبوا فيه من الباطل، وإنما تكلمهم عن المعنى، لا على ما بدلوه برأيهم من الأسماء فإذ حققوا معنا المعنى الذي يرمون إثباته ونحن نبطله، فحينئذ يكلف البرهان من ادعى أمراً منا ومنهم، فمن أتى به ظفر، ومن لم يأت به سقط، وليسموه حينئذ بما شاؤوا.

ويكفي من سخف هذا الاحتجاج منهم أن يقال لكل ذي حس: هل نسبة التين من البر كنسبة الجوزة من الجوزة؟ وكنسبة الرمانة من الرمانة؟ وكنسبة الإنسان من الإنسان؟ فإن وجد في العالم أحمق يقول: نعم، لزمه إخراج البلوط والتين عن زكاة البر كيلاً بكيل، وهذا ما لا يقوله مسلم، ولزمه أن يقول فيمن حلف لا يأكل برّاً فأكل تيناً: أن يحنث، ولزمه أكثر من هذا كله، وهو الكذب، إن التين بر، وإن قالوا: لا، تركوا قولهم في تشبيه القياس في الشرائع لمعرفتنا بأن ما في هذه الرمانة كهذه. والذي لا نشك فيه فهذا الاحتجاج منهم مبطل لقولهم، ومثبت لقولنا، لأن الرمانة من الرمانة، والجوزة من الجوزة، والإنسان من الإنسان، كالسمن من السمن والفأر من الفأر وكل نوع من نوعه والجوز مخالف للرمان كخلاف السنور من الفأر، وخلاف الزيت للسمن. وهذا هو الذي ينكره ذو عقل، وأنه إذا حكم النبي بتحريم البر بالبر متفاضلاً لزم ذلك في كل بر، ولم يجب فيما ليس ببر إلا بنص آخر، وإذا أمر بهرق السمن المائع الذي مات فيه الفأر، وجب ذلك في كل سمن مات فيه فأر، ولم يجب ذلك في غير السمن الذي مات فيه الفأر، وهذا هو الذي لا تعرف العقول غيره وبالله تعالى التوفيق. وأما تحريم البلوط قياساً على البر وهرقهم الزيت قياساً على السمن، فهو كمن قال: الذي داخل اللوز كالذي داخل الرمان ولا فرق، فبطل قولهم بالبرهان الضروري. وصح أن القياس إنما هو قياس نوع على نوع آخر وهذا باطل بنفس احتجاجهم وبالله تعالى التوفيق.

ويقال لهم: أمعرفتكم بأنكم تموتون، وهو شيء يستوي في الإقرار به كل ذي حس، هو مثل معرفتكم بالشرائع كالصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك مما يحرم في البيوع والنكاح وما يحل؟ فإن قالوا: لا، كفونا أنفسهم، وأبطلوا ما استدلوا به ههنا، وإن قالوا: نعم كابروا ولزمهم أن يكونوا مستغنين عن النبي ، وأنهم كانوا يدرون الشريعة بطبائعهم قبل أن يعلموها، وهذا ما لا يقولـه ذو عقل. ويقال لـهم هل كان على قشر الرمان قط على لوز: فإن قالوا: نعم، لحقوا بسكان المارستان، وإن قالوا: لا، سألناهم، أكانت الخمر قط حلالاً، وكان بيع البر بالبر متفاضلاً غير محرم في صدر الإسلام أو لم يزل ذلك والخمر حلالاً مذ خلق اللـه الخمر وللبر بينة الطبع؟ فإن قالوا كانت الخمر وبيع البر متفاضلاً غير حرام برهة من الإسلام، ثم حرم ذلك أقروا بأن ذلك ليس من باب ما في قشر اللوز والرمان في ورد ولا صدر، لأن الطبائع قد استقرت مذ خلق اللـه تعالى العالم على رتبة واحدة، هذا معلوم بأول العقل والحس اللذين يدرك بهما علم الحقائق، وأما الشرائع فغير مستقرة ولم يزل تعالى مذ خلق الخلق ينسخ شريعة بعد شريعة، فيحرم في هذه ما أحلّ في تلك ويسقط في هذه ما أوجب في تلك ويوجب في هذه ويحل فيها ما أسقط في تلك، وما حرم إلى أن نص اللـه تعالى أنه لا تبدل هذه الملة أبداً. فصح أن من شبه الطبائع التي تعلم بالحس والعقل بالشرائع التي لا تعلم إلا بالنص، لا مدخل للعقل ولا للحس في تحريم شيء منها، ولا في إيجاب فرض منها إلا بعد ورود النص بذلك، فهو غافل جاهل، ولو احتج بهذا يهودي لا يرى النسخ، لكان هذا الاحتجاج أشبه بقولـه، منه بقول أصحاب القياس. وأما الموت فهو حكم كل جسم مركب من العناصر إلى نفس حية فقد رتب اللـه تعالى في العالم هذا اصطحابهما مدة، ثم افتراقهما، ورجوع كل عنصر إلى عنصره، وليس هذا قياساً يوجب موت أهل الجنة والنار فبطل تمويههم، وباللـه تعالى التوفيق.

وقالوا: القياس فائدة زائدة على النص. قال أبو محمد: لا فائدة في الزيادة على ما أمر اللـه تعالى به، ولا في النقص، منه، بل كل ذلك بلية ومهلكة، وتعد لحدود اللـه تعالى، وظلم وافتراء، وباللـه تعالى نعوذ من ذلك، ولا أعظم جرماً ممن يقر على نفسه أنه يزيد على النص الذي أذن اللـه به، ولم يأذن في تعديه. وباللـه تعالى نعوذ من الخذلان. واحتج بعضهم فقال لمن سلف من أصحابنا فقهكم في اتباع الظاهر يشبه فعل الغلام الذي قال لـه سيده: هات الطست والإبريق، فأتاه بهما؟ ولا ماء في الإبريق، فقال لـه: وأين الماء؟ لم تأمرني، وإنما أمرتني بطست وإبريق فهاهما، وأنا لا أفعل إلا ما أمرتني. قال أبو محمد: فقال لـهم، وباللـه تعالى التوفيق: بل فقهكم أنتم يشبه فعل المذكور على الحقيقة إذ قال لـه سيده، إذا أمرتك بأمر فافعلـه وما يشبهه، فعلمه سيده القياس حقّاً على وجهه، وحفظ الغلام ذلك، وقبلـه قبولاً حسناً، فوجد سيده حرارة فقال: سق إلي الطبيب، فإني أجد التياثاً، فلم ينشب أن أتاه، بعض إخوانه فزعاً، فقال لـه: يا فلان، من مات لك؟ فقال: ما مات لي أحد، فقال لـه: فإن الغاسل والمغتسل والنعش وحفار القبور عند الباب، فدعا غلامه فقال لـه: ما هذا الباب؟ فقال لـه ألم تأمرني إذا أمرتني بأمر أن أفعلـه وما يشبهه؟ قال: نعم، قال: فإنك أمرتني بسوق الطبيب لالتياثك، وليس يشبه العلة وإحضار الطبيب إلا الموت، والموت يوجب حضور الغاسل والنعش والحفار لحفر القبر، فأحضرت كل ذلك، وفعلت ما أمرتني وما يشبهه.

فنحن نقول: إن هذا الغلام أعذر في الائتمار لأمر مولاه في الإبريق الفارغ، إذ لعله يريد أن يعرضه على جليسه أو يبيعه أو يقبله لمذهب له فيه: منه في جلب الحفار والغاسل والنعش، قياساً على العلة والطبيب، ولقد كان الغلام قوي الفهم في القياس، إذ لا قياس بأيديكم إلا مثل هذا. وهو أن تشبهوا حالاً بحال في الأغلب، فتحكمون لهما بحكم واحد، وهو باب يؤدي إلى الكهانة الكاذبة، والتخرص في علم الغيب، والتحذلق في الاستدراء على الله تعالى، وعلى رسوله فيما لم يأذن به عز وجل، وبالله تعالى نعوذ من ذلك. واحتجوا فقالوا: أنتم تقولون: إذا حكم رسول الله في عين ما، فهو حكم واحد في جميع نوع تلك العين التي يقع عليها اسم نوعها. وهذا قياس.

قال أبو محمد: هذا تمويه زائف، وقد بينا وجه هذه المسألة وهو أنه بعث إلى كل من يخلق إلى يوم القيامة، من الإنس والجن، وليحكم كل نوع من أنواع العالم بحكم ما أمره به ربه تعالى، ولا سبيل إلى أن يخاطب من لم يخلق بعد بأكثر من أن يأمر بالأمر، فيلزم النوع كله، إلا أن يخص كما خص أبا بردة بن نيار بقوله: «يجزيك ولا تجزىء جذعة عن أحد بعدك» . قالوا: فهلا قلتم في أمره فاطمة بنت حبيش بما أمرها به إذا استحيضت ــــ إنه لازم لكل امرأة تسمى فاطمة؟. فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق: لم ينص عليه السلام على أن ذلك حكم كل امرأة تسمى فاطمة، وإنما نص على أن دم الحيض أسود يعرف، فإذا أقبل فافعلي كذا. وإذا أدبر فافعلي كذا، فنص على صفة الحيض والطهر والاستحاضة، وعلى حكم كل ذلك متى ظهر، فوجب التزام ذلك متى وجد الحيض أو الطهر أو الاستحاضة. ثم ينعكس هذا السؤال عليهم بعد أن أريناه أنه حجة لنا فنقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: أنتم، أهل القياس وتفتيش العلل في الديانة، وتعدي القضايا عما نص الله تعالى ورسوله إلى ما لم ينصا عليه، وأنتم أهل الكهانة والاستدراك في الديانة ما لم يذكر الله تعالى ولا رسوله فاستعملوا مذهبكم في هذا الحديث. فقد قال عليه السلام في دم الاستحاضة عندكم: «إِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ» وبين أن دم الحيض أسود يعرف، فكما قستم الحمرة والصفرة والكدرة على الدم الأسود فجعلتموه كله حيضاً، فكذلك قيسوا كل عرق يسيل من المرأة من رعاف أو جرح على عرق الاستحاضة، وأحكموا لها حينئذ بحكم الاستحاضة وإلا كنتم متناقضين وتاركين للقياس.

ولا شك عند كل ذي حسن ــــ إن كان القياس حقّاً ــــ إن قياس عرق يدمي عن عرق يدمي أشبه وأولى من قياس الدلاع أو الشاهبلوط على البر والتمر، على أن بعضهم قد فعل ذلك وهم الحنفيون، وأوجبوا أن الوضوء ينتقض بكل عرق دمي، قياساً على عرق المستحاضة عندهم، فيلزمهم أن يوجبوا من ذلك الغسل، كما جاء النص على المستحاضة، وهذا ما لا انفكاك لهم منه، وبالله تعالى التوفيق. وقالوا: لم نعلم أن أجسام أهل الصين كأجسامنا إلا قياساً منا بالشاهد على الغائب. قال أبو محمد: وهذا من الجنون المكرر. وقد بينا آنفاً أن علمنا بهذا علم ضروري أولي، يعرف ببديهة العقل، ولم يكن المميز قط من الناس إلا وهو عالم بطبعه أن كل من مضى أو يأتي أو غاب عنه من الناس فعلى هيئتنا بلا شك ولا يتشكل في عقل أحد سوى هذا. وبالضرورة يعلم كل ذي عقل أن علمنا أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمطلقها إلا بعد زواج يطؤها، ليس من علمنا بأن أهل الصين من الناس هم على هيئاتنا، بل كان جائزاً أن تحل له بعد ألف طلقة دون زوج ولولا النص. وهكذا القول في البئر وسائر ما وردت به النصوص، لأنه قد كانت هذه الأعيان موجودة آلافاً من السنين ليس فيها شيء من هذا التحريم، ولا هذا الإيجاب ولم تكن الأجسام قط خالية من حركة أو سكون، ولا كانت أجسام الناس على خلاف هذا الشكل الذي هم عليه والمشبه للشرائع بالطبائع مجنون أو في أسوأ حالاً من الجنون لأن من سلك سبيل المجانين وهو مميز فالمجنون أعذر منه.

ولو أنصفوا أنفسهم لعلموا أن الذي قالوا حجة عليهم، لأن علمنا بأن أجسام الناس في الصين، وفيما يأتي إلى يوم القيامة، على هيئة أجسامنا هو كعلمنا بعد ورود النص، بأن كل بر في الصين والهند وكل بر يحدثه الله تعالى إلى يوم القيامة فحرام بيع بعضه ببعض متفاضلاً. وأما هم فإنه يلزمهم، إذ نقلوا حكم البر المذكور إلى التين والأرز، أن ينقلوا حكم أجسام الناس إلى أجسام البغال، فيقولوا: إن بغال الصين على هيئة أجسام الناس، لأن نسبة الأرز إلى البر؛ كنسبة البغال إلى الناس ولا فرق وكل ذلك أنواع مختلفة. ويلزمهم أيضاً، إذا قاسوا الغائب على غير نوعه من الشاهد ــــ أن يقولوا: إن الملائكة والحور العين لحم ودم، قياساً على الناس، وأنهم يمرضون ويفيقون ويموتون، وأن فيهم حاكة وملاحين وفلاحين وحجامين وكرباسيين، قياساً على الشاهد، وإلا فقد نقضوا وبطلوا قياسهم للغائب على الشاهد. والحق من هذا أن لا غائب عن العقل من قسمة العالم التي تدرك بالعقل، ولا غائب عن السمع من الشريعة وبالله تعالى نعتصم وكل ذلك ثابت حاضر معلوم والحمد لله رب العالمين.

وقالوا: إن كل مشتبهين فوجب أن يحكم لهما بحكم واحد من حيث اشتبها. قال أبو محمد: وهذا تحكم بلا دليل ودعوى موضوعة وضعها غير مستقيم والحقيقة في هذا أن الشيئين إذا اشتبها في صفة ما، فهما جميعاً فيها مستويان استواء واحداً، ليس أحدهما أولى بتلك الصفة من الآخر، ولا أحدهما أصل والثاني فرع، ولا أحدهما مردود إلى الآخر، ولا أحدهما أولى بأن يكون قياساً على الآخر، من أن يكون الآخر قياساً كزيد ليس أولى بالآدمية من عمرو، ولا حمار خالد أولى بالحمارية من حمار محمد، والغراب الأسود والسح ليس أحدهما أولى بالسواد من الآخر، وهذا كله باب واحد في جميع ما في العالم. وكذلك الشرائع ليس بر بغداد بأولى بالتحريم في بيع بعضه ببعض متفاضلاً من بر الأندلس، ولا سمن المدينة إذا مات فيه الفأر وهو مائع بأولى أن يهراق من سمن مصر، فهذا هو الذي لا شك فيه. وأما ما يريدون من دس الباطل وما لا يحل جملة الواجب فلا يجوز لهم بعون الله تعالى إلا على جاهل مغتر بهم، أهلكوه إذ أحسن الظن بهم، وذلك أنهم يريدون أن يأتوا إلى ما ساوى نوعاً آخر في بعض صفاته فيلحقونه به فيما لم يستو معه، وهذا هو الباطل المحض الذي لا يجوز البتة.

أول ذلك، أنه تحكم بلا دليل، وما كان هكذا فقط سقط، وقد صح عن رسول الله : «لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» وكل مسلم يعلم أنه لا تشابه أقوى من تشابه أخبر به ، فإذاً لا شك في هذا، وصح يقيناً أن لعن المؤمن كقتله وأجمعت الأمة، بلا خلاف، أن لعن المؤمن لا يبيح دم اللاعن كما يبيح القتل دم القاتل، ولا يوجب دية كما يوجب القتل دية فبطل قول من قال إن الاشتباه بين الشيئين يوجب لهما في الشريعة حكماً واحداً فيما لم على اشتباههما فيه. وبعد، فإن البرهان يبطل قولهم من نفس هذه المقدمة التي رتبوا وذلك أنه ليس في العالم شيئان أصلاً، بوجه من الوجوه، إلا وهما مشتبهان من بعض الوجوه، وفي بعض الصفات، وفي بعض الحدود لا بد من ذلك، لأنهما في محدثان أو مؤلفات، أو جسمان أو عرضان، ثم يكثر وجود التشابه على قدر استواء الشيئين تحت جنس أعلى، ثم تحت نوع فنوع، إلى أن تبلغ نوع الأنواع الذي يلي الأشخاص، كقولنا: الناس، أو الجن، أو الخيل، أو البر، أو التمر، وما أشبه ذلك، فواجب على هذه المقدمة الفاسدة التي قدموا، إذا كانت عين ما مما في العالم حراماً، إما أن يكون ما في العالم أوله عن آخره حراماً، قياساً عليه، لأنه يشبهه ولا بد في بعض الوجوه، إن تمادوا على هذا سخطوا وكفروا، وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث

في دليل الخطاب (1) | في دليل الخطاب (2) | في دليل الخطاب (3) | في دليل الخطاب (4) | في دليل الخطاب (5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(1) | في إبطال القياس في أحكام الدين(2) | في إبطال القياس في أحكام الدين(3) | في إبطال القياس في أحكام الدين(4) | في إبطال القياس في أحكام الدين(5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(6) | في إبطال القياس في أحكام الدين(7) | في إبطال القياس في أحكام الدين(8) | في إبطال القياس في أحكام الدين(9) | في إبطال القياس في أحكام الدين(10) | في إبطال القياس في أحكام الدين(11) | في إبطال القياس في أحكام الدين(12) | في إبطال القياس في أحكام الدين(13) | في إبطال القياس في أحكام الدين(14) | في إبطال القياس في أحكام الدين(15) | في إبطال القياس في أحكام الدين(16) | في إبطال القياس في أحكام الدين(17)