ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب الثامن والثلاثون (7)


وصدق أبو بكر في إيجابه قتال من فرق بين الصلاة والزكاة، لأن نص الله تعالى عليهما سواء، وليست إحداهما أصلاً والأخرى فرعاً فيجب قياس الفرع على الأصل. وهذا تخليط ما شئت منه ولو اتعظوا بهذا القول من أبي بكر، فلم يفرقوا ما ساوى النص بينه، لكان أولى بهم، لكنهم لم يفعلوا، بل قالت طائفة منهم، الزكاة تجزىء إلا بنية، والصلاة تلزم العبد، والزكاة لا تلزمه وإن كان ذا مال. وأما في سائر النصوص فلا يبالون أن يقولوا في بعض النص: هذا مخصوص، وفي بعضه: هذا عموم، وفي بعضه: هذا واجب، وفي بعضه هذا ندب، ومثل هذا لهم كثير. وقد عارض الصحابة أبا بكر بقول النبي : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلهَ إِلاَّ الله، فَإِذَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله» . قال أبو محمد: ونسبوا ــــ رضي الله عنهم ــــ الآية التي ذكرنا آنفاً في براءة، وكلهم قد سمعها لأنها في سورة براءة التي قرئت على الناس كلهم في الموسم في حجة أبي بكر سنة تسع. وفي الجملة أيضاً أبو هريرة وابن عمر، وكلاهما قد روى عن رسول الله الأمر بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، كما حدثنا ابن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو غسان مالك بن عبد الواحد المسمعي، ثنا عبد الملك بن الصباح، عن شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر/ عن أبيه، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله» . قال مسلم: وحدثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن زريع، نا روح، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله» . قال أبو محمد: فلولا هذه النصوص من القرآن وكلام النبي ما ترك الصحابة الحديث الذي تعلقوا به، ولكن ليس كل أحد يحضره في كل حين ذكر كل ما عنده، واحتجوا بإجماع الأمة على استخلاف إمام إذا مات إمام ولا نص على المستخلف.

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأن النص قد صح بطاعة أولي الأمر منا، وجاءت الآثار الصحاح عن النبي بوجوب الطاعة للأئمة ولزوم البيعة، وهذا ما يوجب استخلاف إمام إذا مات الإمام، فهو نص صحيح على وجوب الاستخلاف لمن يوثق بدينه ويقوم بأمور المسلمين من قريش، نصوصاً بينة على وجوب العدل على الإمام، والرفق بالرعية، والنصح لهم، فصفات الإمام منصوصة عن رسول الله بينة واضحة. فمن كانت فيه تلك الصفات فقد نص على تقديمه وإفراده بالأمر ما عدل. كالأمر بالعتق، ولا حاجة بنا إلى تسمية المعتق، وإيجاب الأضحية والنسك، ولا حاجة بنا إلى صفة لونها، وهكذا جمع الشريعة، وليت شعري أي مدخل للقياس في هذا؟ إن هذا الأمر كان ينبغي لكل ذي عقل أن يستحي من الاحتجاج بمثله. واحتجوا بقول رسول الله : «لاَ نَبِيَّ بَعْدِي» قالوا لنا فقولوا إنه يكون بعده رسول، لأنه أخبر بأنه لا يكون بعده نبي، ولم يقل لا رسول بعدي. قال أبو محمد: وهذا جهل مظلم ممكن أتى بهذا، لأن هذا من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله ، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، فلو قال عليه السلام: لا رسول بعدي، لأمكن أن يقول بعده نبي، لكن إذ قال: «لا نبي بعدي» فقد صح أنه لا رسول بعده، لأن كل رسول فهو نبي بلا شك. ولا سبيل إلى وجود رسول ليس نبيّاً، فبطل هذا التمويه الضعيف على أن هذا كله لو صح لهم كما ادعوه، ومعاذ الله من ذلك، لما كان من شيء منه دليل على قياس التين على البر، ولا على وجوب القياس في الشرائع، فكيف وكل ما أوتوا به عليهم هو لا لهم، والحمد لله رب العالمين. وقد حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن، ثنا وهب بن مسرة، ثنا ابن وضاح، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي، عن المختار بن فلفل، عن أنس قال: قال النبي : «إِنَّ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ» فجزع الناس، فقال: «قَدْ بَقِيَتْ مُبَشِّرَاتٌ، وَهُنَّ جزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ» . قال أبو محمد: واحتجوا بأن الحائض إنما أمرت بالتيمم إذ عدمت الماء في السفر قياساً على الجنب.

قال أبو محمد: هذا تمويه ضعيف، ومعاذ الله أن نأمر الحائض بذلك قياساً، بل بالنص، وهو قوله تعالى إذ أمر باعتزال الحيض حتى يطهرن: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فأمرهن الله تعالى بالطهور جملة، وقال رسول الله : «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً» فالتراب طهور، والماء طهور بالنص، وفسر الإجماع أن التراب لا يستعمل ما دام يوجد الماء لغير المريض، أو من أوجبه له النص، فدخلت الحائض في هذا النص، ولقد كان ينبغي لمن فرق بين الحائض والجنب فيما أباح لها من قراءة القرآن، ومنعه الجنب من ذلك، أن يعلم أنه ترك القياس.

واحتجوا أيضاً بإيجاب الزكاة في الجواميس، وأنه إنما وجب ذلك قياساً على البقر. قال أبو محمد: وهذا شغب فاسد، لأن الجواميس نوع من أنواع البقر، وقد جاء النص بإيجاب الزكاة في البقر، والزكاة في الجواميس، لأنها بقر، واسم البقر يقع عليها. ولولا ذلك ما وجدت فيها زكاة، وكذلك البُخْت والمهاري والفوالج، هي أنواع من الإبل، وكذا الضأن والماعز يقع عليها اسم الغنم. وقد قال بعض الناس: البخت ضأن الإبل، والجواميس ضأن البقر، وقد رأينا الحمر المريسية، وحمر الفجالين، وحمر الأعراب المصامدة نوعاً واحداً وبينها من الاختلاف أكثر مما بين الجواميس وسائر البقر، وكذلك جميع الأنواع. واحتجوا بأن الناس قاسوا على ذي الحليفة، وأنهم قاسوا ذات عرق على قرن. قال أبو محمد: وهذا كذب وباطل، لأن الحديث في توقيت ذات عرق لأهل العراق مشهور ثابت مسند لا يجهله من له بصر بالحديث. حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن إسحاق بن السليم القاضي، ومحمد بن معاوية، قال ابن إسحاق، ثنا أبو سعيد الأعرابي، ثنا سليمان بن الأشعث، ثنا هشام بن بهرام، وقال ابن معاوية: ثنا أحمد بن شعيب، أخبرني محمد بن عبد الله عمار، ثنا أبو هاشم محمد بن علي، قال بهرام: ثنا المعافى بن عمران، وقال أبو هاشم: عن المعافى بن عمران، ثم اتفقا: عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة «أن رسول الله وقت لأهل العراق ذات عرق» .

قال أبو محمد: هشام بن بهرام ثقة، والمعافى ثقة جليل، وأفلح بن حميد كذلك، وأما قياسهم على ذي الحليفة فهذيان لا يدرى ما هو؟ ولا ماذا قيس عليه؟ والمواقيت مختلفة، فمنها ذو الحليفة على عشر ليال، ومنها الجحفة على ثلاث ليال، ومنها قرن على أكثر من ليلة، ومنها يلملم على ليلة، فعلى أي هذا يقاس؟ إن هذا الأمر لا يفهمه إلا ذو لب؟.

واحتجوا بما روي من قول ابن عمر: فعدل الناس بصاع من شعير مُدَّين من بُرَ. قال أبو محمد: وهذا من طرائف ما احتجوا به لأن المحتج بهذا إن كان مالكيّاً أو شافعيّاً فهو مخالف لهذا الإجماع عنده، ومن أقر على نفسه بأنه مخالف للإجماع فأقل ما عليه اعترافه بأنه مخالف للحق، ثابت على الباطل غير تائب عنه، وهذا فسق مجرد. ومن أعجب العجب احتجاج المرء بما لا يراه حجة ولكن هذا غير بديع منهم فهذا أبو حنيفة يحتج أن الخيار لا يكون إلا ثلاثة أيام لا أكثر، بحديث المصراة، فإذا قيل له فهذا الذي تحتج به أتأخذ به؟ قال: لا.

وهذا مالك احتج في تضمين القائد والسائق ما تجنيه الدابة المسوقة والمقودة، بأن عمر غرم بني سعد بن ليث نصف دية رجل من جهينة، أصاب أصبعه رجل من بني سعد بن ليث، كان يجري فرسه فمات الجهني، فإذا سئل أتبدي المدعى عليهم في هذا المكان كما فعل عمر؟ قال: لا يجوز ذلك، وإذا قيل لـه: أتغرّم المدعى عليهم بغير أن يحلف المدعون كما فعل عمر في هذا المكان؟ قال: لا يجوز ذلك، وإذا قيل لـه: أتقتصر في هذا المكان على نصف الدية كما فعل عمر؟ قال: يجوز ذلك، وإذا قيل لـه: أتجعل ما جنى الذي يجري فرسه على عاقلته في هذا المكان كما فعل عمر؟ قال: لا يجوز ذلك، ثم يجعل هذا الحديث نفسه حجة في تضمين القائد والسائق قياساً على الراكب وهذا عجب عجيب. ثم تلاه في ذلك ابن الجهم، فاحتج أنه لا يجزئه من ذبح الـهدي أو الأضحية ليلاً بالنهي عن حصاد الليل وجذاذه، فإذا قيل لـه: أتمنع من حصاد الليل وجذاذه ؟ قال: لا، فهو يخالف ما أقر أنه حجة فيما ورد فيه، ويحتج به فيما ليس منه في ورد ولا صدر. ثم تلاه في ذلك ابن أبي زيد، فاحتج في مخالفته نهي النبي عن الصلاة على القبر بصلاته على قبر المسكينة السوداء رضي اللـه عنها. فإذا سئل: أتأخذ بصلاته على قبر المسكينة السوداء؟ قال: لا. قال أبو محمد: وهذا كثير منهم جدّاً، كاحتجاج المالكيين في شق زقاق الخمر، وكسر أوانيها بالحديث الوارد في إحراق رجل الغال، فإذا قيل لـهم: أتحرقون رجل الغال؟ قالوا: لا. وقد رأيت لرجل منهم يدعى الأبهر، ويكنى بأبي جعفر احتجاجاً أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم بحديث رواه: «إِنَّ الصَّدَاقَ لاَ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ» . ومثل هذا من نوادرهم كثير، وحسبنا اللـه ونعم الوكيل. ثم نرجع إلى ما احتجوا به من قول ابن عمر: «فعدل الناس بصاع من شعير نصف صاع بر» فأول ذلك أن ابن عمر الذي يروون عنه هذا القول لا يرضى به ولا يقول به. حدثنا أحمد بن محمد الجسور، ثنا أحمد بن مطرف، نا عبد اللـه بن يحيى، نا أبي، ثنا مالك عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان لا يُخرج في زكاة الفطر إلا التمر مرة واحدة، فإنه أخرج شعيراً. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا عبد اللـه بن نصر الزاهد، نا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح، نا موسى بن معاوية، نا وكيع بن عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن اللـه تعالى قد أوسع والبر أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقاً فأنا أحب أن أسلكه.

حدثنا أحمد بن عمر بن أنس، نا عبد الله بن حسين بن عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا ابن اجهم، نا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا إسماعيل بن إبراهيم، نا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، عن عياض بن سعد قال: ذكرت لأبي سعيد الخدري صدقة الفطر، فقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله : صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاع زبيب أو صاع أقط، فقلت له: أو مدَّيْن من قمح؟ قال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها، ولا أعمل بها. قال أبو محمد: أفيكون أعجب ممن يدعى الإجماع على قول يقول به ابن عمر إن الصحابة على خلاف ذلك الإجماع كما ذكرنا، وإنه لا يخرج البر أصلاً اتباعاً لطريق أصحابه ثم يقول أبو سعيد: تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها فأين الإجماع لولا الجنون وقلة الدين. ومن طرائف الدهر قول الطحاوي ههنا: إنما أنكر أبو سعيد المقوم لا القيمة فيكون أعجب من هذه المهاجرة وهو يذكر أنه قال أبو سعيد ــــ وقد ذكر القيمة ــــ لا أقبلها ولا أعمل بها، فهل ضمير المؤنث راجع إلى القيمة؟ وهذا ما لا يشك فيه ذو بصر بشيء من مخاطبات الناس، ولكن الهوى يعمي ويصم. حدثنا أحمد بن عمر العذري، ثنا عبد الله بن حسين بن عقال، ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري، ثنا محمد بن أحمد بن الجهم، ثنا موسى بن إسحاق الأنصاري، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان الناس يعطون زكاة رمضان نصف صاع، فأما إذا وسَّع الله تعالى على الناس فإني أرى أن يتصدق بصاع.

فصح بما ذكرنا أن قول ابن عمر وعائشة «فعدل الناس بذلك مدَّين من برّ» إنما هو على الإنكار لفعل من فعل ذلك وبرهان هذا ثبات ابن عمر وعائشة على صاع صاع، لا على ما ذكروا من عمل الناس، فلو كان عمل الناس عندهما حقّاً لما وسعهما خلافه، فبطل تمويههم، وبالله تعالى التوفيق. مع أن عائشة لم تقل نصف صاع من بر، ولعلها عنت من لا يجد أكثر من نصف صاع شعير، إلا أنه لا شك أن ما حكته من فعل الناس في ذلك لم يكن عندها حجة، ولا عملاً مرضياً، ولكن كقولها، إذا أمرت هي وأمهات المؤمنين أن يخطر على حجرهن بجنازة سعد، فأنكر الناس ذلك، فقالت: ما أسرع الناس إلى إنكار ما لا علم لهم به. وقالوا: وقد وجدنا مسائل مجمع عليها ولا نص فيها، فصح أنها قياس.

قال أبو محمد: قد ذكرنا هذه المسألة في باب الإجماع من ديواننا هذا وتكلمنا عليها، وبيناها ــــ بعون الله تعالى ــــ غاية البيان، وأرينا البراهين الضرورية، على أن ذلك لا يجوز البتة، وأنها إنما هي أحوال كانت على عهد رسول الله فأقر بها وقد علمها. ومن ذلك القراض، وليس ههنا شيء يقاس عليه جواز القراض، بل القياس يمنع من جوازه، لأنه إجازة إلى غير أجل، وعلى غير عمل موصوف، وبأجرة فاسدة، وربما لم يأخذ شيئاً فضاع عمله، وربما أخذ قليلاً أو كثيراً، وهكذا القول في سائر الإجماعيات من المسائل. مع أن قولهم: إنها عن قياس، خبر كاذب، ودعوى بلا دليل، والبرهان قد قام على أن الرسول قد بين جميع واجبات الإسلام وحلاله وحرامه، فكل ما أجمع عليه فعن الرسول وبيانه بلا شك، هذا هو اليقين، إذ لا يجوز إجماع الناس على شريعة لم يأت بها نص، فبطل أن يكون قياس وبالله تعالى التوفيق. واعترضوا ههنا على من أجاب من أصحابنا في هذه المسألة بأن قال: الناس مختلفون في القياس بلا شك، فكيف يجوز أن يجمعوا على ما اختلفوا فيه؟ وهذا تخليط ظاهر. قال أبو محمد: وهذا جواب صحيح عياني، لا مجال للشك فيه، فاعترض بعض أصحاب القياس فيه بأن قال لنا: إنكم تجيزون الإجماع عن سنن كثيرة أتت في أخبار الآحاد، وقد علمتم أن أخبار الآحاد مختلف في قبولها، وهذا هو الذي أنكرتم. قال أبو محمد: وهذا تمويه ضعيف منحل ظاهر الانحلال، لأننا لم ندع إجماع الناس على ما اختلفوا عليه من قبول خبر الواحد وإنما قلنا ونقول: إن الأمة كلها مجمعة على قبول ما قاله رسول الله لا خلاف بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام في ذلك من جميع الفرق أولها عن آخرها، ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى معرفة صحة ما قاله رسول الله ، فقلنا نحن: خبر الواحد العدل من جملة ذلك. وقال آخرون: ليس من جملة ذلك، ثم تأتي سنن قلنا نحن: صحت عندنا من طريق من الآحاد، وقال من خالفنا، إنما صحت عندنا من طريق التواتر، ولو لم تأت إلا من طريق الآحاد فقط ما أخذنا بها. فهذه الصفة النقل هو الذي اتفق الناس كلهم من المسلمين على قبوله، وأجمعوا على الأخذ به، كإجماع الناس على أن في خمس من الإبل شاة، وعلى أن فيما سقي بالنضح من القمح والشعير نصف العشر، وسائر ما أجمعوا عليه من آيات النبوة التي جاءت من طريق الكافة، وجاءت أيضاً من طريق الآحاد، وليس هكذا أمر القياس الذي ادعوه. ولكنا لا ننكر أن تأتي مسائل تستوي في حكم القياس على أصولهم، وقد صح بها نص أو إجماع أيضاً، فأخذنا نحن بها، لأن النص أتى بها، أو لأنها إجماع ولم نبال وافقت القياس أو خالفته.

وأيضاً فإن من ينكر القياس ينكره على كل حال، وبكل وجه، وفي كل وقت، وليس في فرقة من فرق المسلمين أحد ينكر الخبر جملة، بوجه من الوجوه، بل كلها مجمعة ــــ بلا خلاف ــــ عن أن الديانة لا تعرف إلا بالخبر، وإنما أنكرت طوائف خبر الواحد وقالت بخبر التواتر. وقال آخرون بالخبر المشتهر، وقال آخرون بخبر الواحد العدل، فالفرق بين ما أنكرنا وبين ما نظروه به بين واضح، وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا بإيجاب التحرير على المسيء قالوا: وهذا قياس. قال أبو محمد: وهذا من ذلك المرار، ليت شعري على أي شيء قيس التعزير إن كانوا إنما قالوا به قياساً؟ وأما نحن فإنما قلنا به للنص الوارد في ذلك عن رسول الله : ألا يجلد أحد في غير حد أكثر من عشر جلدات، وأما السجن فإنما هو منع المسجون من الأذى للناس، أو من الفرار بحق لزمه، وهو قادر على أدائه فقط، وهذا وقع تحت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } وله حد لا يتجاوز، وهو توبة المسجون وإقلاعه أو خروجه عما لزمه من الحق، أو موته إن فعل به ذلك قصاصاً. واحتجوا أيضاً بالتوجه إلى القبلة عند المعاينة، فإذا غبنا عنها فبالاجتهاد.

قال أبو محمد: وهذا من ذلك التخليط، وليس ههنا شيء قيس عليه ذلك بوجه من الوجوه، ولا هو أيضاً موكول إلى الرأي، ولا إلى الاستحسان، ولكنه نص من الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فأما وصولنا إلى معرفة جهة القبلة فبالدليل الذي أنكروه علينا، ولم يعرفوا ما هو وظنوه قياساً، وهذه مسألة يلوح فيها، لمن له أدنى حس، الفرق بين الدليل والقياس، لأن جهة طلب القبلة ليس قياساً أصلاً، ولا ههنا شيء يقاس عليه، ولا هو موكول إلى رأي كل إنسان، فيستقبل أي جهة شاء، ولا إلى استحسانه، فصح أنه يتوصل إلى ذلك بدليل ليس رأياً ولا قياساً ولا استحساناً، وإنما كان يكون قياساً إذا خفيت عنا الكعبة توجهنا إلى بيت المقدس قياساً عليها، لأنها قد كانت أيضاً قبلة، أو إلى المدينة، وهذا كفر من قائله، وهذا نحو قولكم لما حرم البر بالبر نسيئة حرمنا التبن بالتبن نسيئة، وإنما الدليل على جهتها مطالع الكواكب والشمس ومعرفة نسبة العرض من الطول.

وقالوا أيضاً: قد أسقطتم الزكاة عن الثياب، قياساً على سقوطها عن الحمير وتركتم أخذ الزكاة من الثياب بعموم قول اللـه تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وقولـه تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } . قال أبو محمد: وكذبوا في ذلك ما شاؤوا، ومعاذ اللـه أن نترك أخذ الزكاة من الثياب قياساً على الحمير، ولكن لما كانت الآيتان المذكورتان لم ينص عز وجل فيهما على مقدار ما يؤخذ في الزكاة، ولا متى يؤخذ، لم يحل لأحد العمل بما لم يبين لـه، إذ لا يدري أيأخذ الأقل أو الأكثر، أو كل يوم أو كل شهر أو كل سنة أو مرة من الدهر، ووجب عليه طلب بيان الزكاة في نص آخر، فوجدناه قد قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» قال هذا في حجة الوداع، بعد نزول: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } بيقين وبعد نزول {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } بيقين لا شك فيه عند أحد من المسلمين، لأن هاتين الآيتين نزلتا في صدر الـهجرة، فوجب بهذا النص ألا يؤخذ من مال أحد شيء إلا بنص على ما أخذه باسمه، فما نص في واجب أخذه في الزكاة وجب قبولـه، وما لم ينص على وجوبه فلا يحل أخذه لأحد، فهكذا سقطت الزكاة عن الثياب والعروض كلـها على كل حال.

وأيضاً فقد قال : «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبَ أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ» ودون في لغة العرب بمعنى: غير، وبمعنى أقل، قال تعالى: {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يريد من غير اللـه، فوجب بهذا الحديث أن لا يؤخذ شيء من غير التمر والحب إلا ما جاء النص على وجوب أخذه بعينه واسمه وليس حمل لفظه «دون» على بعض ما تقتضيه أولى من حملـها على كل ما تقتضيه.

وأيضاً: فإن سقوط الزكاة عن الثياب المتخذة لغير التجارة إجماع لا خلاف فيه من أحد، والإجماع الانقياد وكان يلزمهم، وهو الموجبون لاستعمال القياس والتدين به، أن يوجبوا الزكاة في الثياب، قياساً على وجوبها في القمح والتمر، والذهب والفضة، لأن هذا كله موات لا حيوان، فالثياب بالذهب والفضة والقمح والتمر أشبه منها بالحمير، وليت شعري ما الذي أوجب عندهم قياس الثياب على الحمير، دون أن يقيسوها على الغنم والإبل، فيوجبوا فيها الزكاة؟ لأن الثياب لا تكون إلا من جلود أو نبات، إلا من شذ كالحرير، وهو أيضاً من حيوان، فقياسها على ما هي مأخوذة منه أولى من قياسها على ما لا شبه بينها وبينه.

هذا إن كان القياس حقاً بل ههنا قياس هو أقرب وأشبه على أصولهم، وهو قياس المنتقاة على الثياب المتخذة للتجارة، وكما أوجب المالكيون الزكاة في غير السائمة قياساً على السائمة، وكما قالوا: يجمع بين الذهب والفضة في غير التجارة، كما يجمع بينهما في التجارة وبين سائر العروض المتخذة للتجارة، فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين. واحتجوا أيضاً بوجوب الزكاة في الذهب، وقالوا: هو قياس على الفضة. قال أبو محمد: وهذا في الفساد كالذي قبله، لأن الخبر في زكاة الذهب ووجوب حق الله تعالى فيه، أشهر من أن يجهله ذو علم بالآثار، ثم اختلف العلماء فقالت طائفة: بيان المأخوذ منه مرجوع فيه إلى الإجماع، إذ لم يصح فيه أثر فما أجمع المسلمون على وجوب تزكيته من الذهب قلنا به، وما اختلفوا فيه لم نوجبه إلا بنص، وما اتفقوا فيه ثم اختلفوا لم نزل عن إجماعهم إلا بنص وبالله التوفيق. وقالت طائفة: بل في المقدار الذي يجب فيه الزكاة من المذهب نص صحيح، فالواجب الوقوف عنده بهذا نقول: واحتجوا أيضاً بتسويتنا في حديث عتق الشقص واشتراط مال العبد، بأننا سوينا بين العبد والأمة في ذلك، وهذا خطأ، بل النص قد جاء في ذلك بلفظ مملوك، وهذا اسم يقع على الأمة كوقوعه على العبد.

وأيضاً: فإن لفظة العبد واقعة على الجنس، وقولنا عبيد يقع على الذكور والإناث، لأنك تقول: عبد وعبدة بلا خوف من أهل اللغة، ولهم علينا في خاصتنا اعتراض ننبه عليه، وهو: أن أصحابنا لا يجوزون المزارعة، ونحن نجيزها، وهذا الاعتراض علينا على أصحابنا في المساقاة، فإنهم يقولون إن الشروط فاسدة بقوله : «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَهُوَ بَاطِلٌ» فأنتم إذا أجزتم المساقاة والمزارعة على النصف فكلم مقال. لفعله في خيبر، فلم أجزتموها بالثلث والربع؟ وقد جاء النهي نصّاً عن ذلك، فهل هذا إلا قياس الثلث والربع على النصف؟.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث

في دليل الخطاب (1) | في دليل الخطاب (2) | في دليل الخطاب (3) | في دليل الخطاب (4) | في دليل الخطاب (5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(1) | في إبطال القياس في أحكام الدين(2) | في إبطال القياس في أحكام الدين(3) | في إبطال القياس في أحكام الدين(4) | في إبطال القياس في أحكام الدين(5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(6) | في إبطال القياس في أحكام الدين(7) | في إبطال القياس في أحكام الدين(8) | في إبطال القياس في أحكام الدين(9) | في إبطال القياس في أحكام الدين(10) | في إبطال القياس في أحكام الدين(11) | في إبطال القياس في أحكام الدين(12) | في إبطال القياس في أحكام الدين(13) | في إبطال القياس في أحكام الدين(14) | في إبطال القياس في أحكام الدين(15) | في إبطال القياس في أحكام الدين(16) | في إبطال القياس في أحكام الدين(17)