ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني/الباب الرابع والثلاثون


قال أبو محمد: علي بن أحمد رحمه الله: ذهب قوم إلى تحريم أشياء من طريق الاحتياط، وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت. واحتجوا في ذلك بما حدثناه عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني، ثنا أبي، نا زكريا، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: سمعته يقول: سمعت رسول الله يقول وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه: «إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعُرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، وَإِنَّ لِكُلِّ مَالِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ» وذكر باقي الحديث. قال أبو محمد: هذا الحديث روي بألفاظ كما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا محمد بن كثير، أنا سفيان، عن أبي فروة، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال النبي : «الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبَهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شبه عَلَيْهِ في الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبانَ أَتْرَكُ، وَمَن اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَالمَعَاصِي حِمَى الله مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ» .

حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا خالد بن الحارث، ثنا ابن عون الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله يقول: «إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَإِنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أُمُوراً مُشْتَبِهَاتٍ، وَسَأَضْرُبُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلاً، إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُهُ حِمَى، وَإِنَّ حِمَى الله مَا حَرَّمَ، وَإِنَّهُ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكْ أَنْ يَرْعَ فِيهِ وَإِنَّهُ مَنْ يُخَالِطِ الريبَةَ يُوْشِكْ أَنْ يَجْسُرَ»

قال أبو محمد: هذا هو أبو فروة الأكبر، وأما أبو فروة الأصغر فهو مسلم بن سالم الجهني وكلاهما كوفي ثقة. فهذا حض منه على الورع، ونص جلي على أن ما حول الحمى ليست من الحمى، وأن تلك المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي على حكم الحلال بقول تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وبقوله : «أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْماً فِي الإِسْلاَمِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْهُ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . وقد بين النبي في الحديث الذي رويناه آنفاً من طريق أبي فروة عن الشعبي، أن هذا إنما هو مستحب للمرء خاصة فيما أشكل عليه وأن حكم من استبان له الأمر بخلاف ذلك.

وكذلك بين رسول الله في الحديث الذي روينا آنفاً من طريق ابن عون عن الشعبي بياناً جليّاً أن المخوف على من واقع الشبهات إنما هو أن يجسر بعدها على الحرام، فصح بهذا البيان صحة ظاهره، أن معنى رواية زكريا عن الشعبي التي يقول فيها: «وَقَعَ فِي الحَرَامِ» أنه إنما هو على معنى آخر وهو كل فعل أدى إلى أن يكون فاعله متيقناً أنه راكب حرام في حالته تلك، وذلك نحو ماءين كل واحد منها مشكوك في طهارته، متيقن نجاسة أحدهما بغير عينه، فإذا توضأ بهما جميعاً كنا موقنين بأنه إن صلى صلى وهو حامل نجاسة، وهذا ما لا يحل، وكذلك القول في ثوبين أحدهما نجس بيقين لا يعرف بعينه، وسائر ألفاظ من ذكرنا على ما لا يتيقن فيه تحريم ولا تحليل. وأما ما يوقن تحليله فلا يزيله الشك عن ذلك، ولا معنى لقول من قال هذا على المقاربة كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } إذ لا خلاف في أن معنى هذا ليس في انقضاء العدة، لكن إذا بلغ أجل العدة من الطلاق. وهذا هو الذي لا يجوز غيره، إذ لا يجوز صرف الآية عن ظاهرها بالدعوى. ومن روى في حديث النعمان الذي ذكرنا لفظه «أوشك» فهو زائد على ما رواه زكريا فزيادة العدل مقبولة، فكيف وقد زاد هذه اللفظة ومعناها من هو أجل من زكريا ومثله، وهما ابن عون وأبو فروة، وبهذا تتألف الأحاديث وطرقها، ويصح استعمال جيمع أقوال الرواة، وبالله تعالى التوفيق.

فإن تعلقوا بما حدثناه صاحبنا أحمد بن عمر بن أنس العذري قال: أنا أحمد بن علي الكسائي بمكة، أنا أبو الفضل العباس بن محمد بن نصر الوافقي، ثنا هلال بن العلاء الرقي، ثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا أبو النضر، ثنا أبو عقيل، عن عبد الله بن يزيد الدمشقي، عن ربيعة بن يزيد، وعطية بن قيس كلاهما، عن عطية السعدي/ وكانت له صحبة قال قال رسول الله : «لاَ يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ حَذَراً لِمَا بِهِ بَأْسٌ» . فالقول في هذا الحديث كالقول في حديث النعمان سواء بسواء، وإنما هو حض لا إيجاب. وقد علمنا أن من لم يجتنب المتشابه وهو الذي لا بأس به، فليس من أهل الورع، وأهل الورع هم المتقون، لأن المتقين جمع متق، والمتقي الخائف، ومن خاف مواقعه الحرام فهو الخائف حقّاً. ولعمري إن أولى الناس ألا يحتج بهذا الحديث من يرى قول الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } ليس فرضاً، بل قالوا: المتعة ليست بواجبة، فقد صرحوا بأن كون المرء من المتقين ليس عليه بواجب، لا سيما وفي هذا الحديث معنى الحض لا الإيجاب، وفي الآية التي تلونا لفظ معنى الفرض بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } وكل مسلم لفظ بالتوحيد اتقى النار فهو متق، إلا أن لفظ المتقين لا يطلق إلا على المستكملين لدرجة الخوف. كما أن من صلح في فعلة واحدة من أفعاله فهو صالح، ومن فعل فضلاً فهو به فاضل، إلا أنه بلا خلاف لا يطلق على المرء اسم صالح وفاضل إلا بعد أن يبلغ الغاية التي تمكنه من الطاعات والورع.

ومعاذ الله أن يقول رسول الله الكلام المذكور إلا على هذا الوجه ــــ هذا إن صح عنه لأنه لو كان ظن خصومنا في هذا الحديث حقّاً لكان نصه عليه السلام على ترك ما لا بأس به أعظم الحكم بأنه من أعظم الناس، لأن ما لا بأس به هو المباح فعله، فكان على هذا الظن الفاسد يكون المباح محظوراً، وهذا فاسد لا يظن أن النبي يقوله إلا جاهل أو كافر، لأنه ينسب إلى النبي إباحة الشيء للناس، ونهيهم عنه في وقت واحد، وهذا محال لا يقدر عليه أحد قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وليس استباحة الشيء وإيجاب الامتناع منه في وقت واحد في وسع أحد، فالله تعالى قد أكذب من ظن هذا الظن.

وصح أن معنى هذا الحديث ــــ لو صح ــــ إنما هو على الحض لا على الإيحاب. فلو كان المشتبه حراماً، وفرضاً تركه، لكان النبي قد نهى عنه، ولكنه لم يفعل ذلك، لكنه حض على تركه وخاف على مواقعه أن يقدم على الحرام، ونظر ذلك بالراتع حول الحمى، فالحمى هو الحرام، وما حول الحمى ليس من الحمى، والمشتبهات ليس من الحرام، وما لم يكن حراماً فهو حلال وهذا في غاية البيان، وهذا هو الورع الذي يحمد فاعله ويؤجر، ولا يذم تاركه ولا يأثم، ما لم يواقع الحرام البين. وأما حديث عطية السعدي الذي ذكرنا آنفاً، فلا يظن أن فيه حجة لمن قال بالاحتياط وقطع الذرائع، لأن النبي لم يبين فيه الشيء الذي ليس به بأس، الذي لا يكون العبد من المتقين إلا بأن يدعه، فلو كان هذا الحديث صحيحاً وعلى ظاهره لوجب به أن يجتنب كل حلال في الأرض، لأن كل حلال فلا بأس به. ولا يحص في ذلك الحديث أي الأشياء التي لا بأس بها لا يكون العبد من المتقين لا بأن يدعها، فظهر وهي تلك الرواية وفيه أبو عقيل وليس بالمحتج به، وصح أنه لو صح لكان على الورع فقط.

فإن تعلقوا بما حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن حاتم بن ميمون، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان الأنصاري قال: سمعت رسول الله يقول عن البر والإثم قال: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» . وبما حدثناه أحمد بن محمد الجسوري، ثنا أحمد بن الفضل الدينوري، ثنا محمد بن جرير الطبري، حدثني محمد بن عوف الطائي، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا أبي، ثنا ضمضم، عن شريح بن عبيد قال: زعم أيوب بن مكرز أن غلاماً من الأزد قال له رسول الله وقد أتاه يسأله عن الحرام والحلال، فقال له رسول الله : «إِنَّ الحَلاَلَ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَإِنَّ الإِثْمَ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَهُ أَفْتَاكَ النَّاسُ مَا أَفْتَوْكَ» . فالأول فيه معاوية بن صالح بالقوي، وفي الثاني مجهولون وهو منقطع أيضاً، ومعاذ الله أن يكون الحرام والحلال على ما وقع في النفس، والنفوس تختلف أهواؤها، والدين واحد لا اختلاف فيه، قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } .

ومن حرم المشتبه وأفتى بذلك وحكم به على الناس فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وخالف النبي واستدرك على ربه تعالى بعقله أشياء من الشريعة. ويكفي من هذا كله إجماع الأمة كلها نقلاً عصراً عن عصر أن من كان في عصره وبحضرته في المدينة إذا أراد شراء شيء مما يؤكل، أو ما يلبس، أو يوطأ، أو يركب، أو يستخدم، أو يتملك أي شيء كان، أنه كان يدخل سوق المسلمين أو يلقى مسلماً يبيع شيئاً ويبتاعه منه، فله ابتياعه ما لم يعلمه حراماً بعينه، أو ما لم يغلب الحرام عليه غلبة يخفي معها الحلال ولا شك أن في السوق مغصوباً ومسروقاً ومأخوذاً بغير حق، وكل ذلك قد كان في زمن النبي إلى هلم جراً، فما منع النبي من شيء من ذلك، وهذا هو المشتبه نفسه، وقوله إذ سأله أصحابه رضي الله عنهم فقالوا: إن أعراباً حديثي عهد بالكفر يأتوننا بذبائح لا ندري أسموا الله تعالى عليها أم لا؟، فقال عليه الصلاة والسلام: «سَمُّوا الله وَكُلُوا» أو كلاماً هذا معناه، يرفع الإشكال جملة في هذا الباب.

وقد روي أنه أمر في من أطعمه أخوه شيئاً أن يأكل، ولا يسأل، فنحن نحض الناس على الورع كما حضهم النبي ونندبهم إليه، ونشير عليه باجتناب ما حاك في النفس، ولا نقضي بذلك على أحد ولا نفتيه به فتيا إلزام، كما لم يقض بذلك رسول الله على أحد. وقد احتج بعضهم في هذا بقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالوا: فنهوا عن لفظة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لتذرعهم بها إلى سب النبي . قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن الحديث الصحيح قد جاء بأنهم كانوا يقولون: راعنا من الرعونة، وليس هذا مسنداً، وإنما هو قول لصاحب ولم يقل الله تعالى ولا رسوله : إنكم إنما نهيتم عن قول راعنا لتذرعكم بذلك إلى قول راعنا، وإذا لم يأت بذلك نص عن الله تعالى، ولا عن رسوله في قول أحد دونه. وقد قال بعض الصحابة في الحمر، إنما حرمت لأنها كانت حمولة الناس، وقال بعضهم: إنما حرمت لأنها كانت تأكل القذر، وكلا القولين غير صواب، لأن الدجاج تأكل من القذر ما لا تأكل الحمير، ولم يحرم قط الدجاج والناس كانوا أفقر إلى الخيل للجهاد منهم إلى الحمير، وقد أباح أكل الخيل في حين تحريمه الحمير، فبطل كلا القولين.

وهكذا من قال: إن الله تعالى إنما نهى عن قول: {وَقُولُواْ} لئلا يتذرعوا بها إلى قول راعنا، فلا حجة في قوله، لأنه أخبر عما عنده، ولم يسند ذلك إلى النبي وهذه الآية حجة عليهم لا لهم، لأنهم إذ نهوا عن راعنا، وأمروا بأن يقولوا {وَاسْمَعُواْ} ، ومعنى اللفظين واحد، فقد صح بلا شك أنه لا يحل تعدي ظواهر الأوامر بوجه من الوجوه، وهذه حجة قوية في إبطال القول بالقياس وبالعلل، وبالله تعالى التوفيق. وأيضاً فإنما أمر الله تعالى في نص القرآن بأن لا يقولوا: {وَقُولُواْ} وأن يقولوا {وَاسْمَعُواْ} المؤمنين الفضلاء أصحاب رسول الله المعظمين له، الذي لم يعنوا بقول: {وَقُولُواْ} قط الرعونة، وأما المنافقون الذين كانوا يقولون: {وَقُولُواْ} يعنون من الرعونة، فما كانوا يلتفتون إلى أمر الله تعالى، ولا يؤمنون به، فظهر يقين فساد قولهم وتمويههم بهذه الآية. وقالوا: إنما منعنا من نكح في العدة ودخل بها أن ينكحها في الأبد، لأنه استعجل نكاحها قبل أوانه، قالوا: وكذلك حرمنا القاتل الميراث لأنه استعجله قبل أوانه.

قال علي: وهذه علة مفتقرة إلى ما يصححها، لأنها دعوى فاسدة ويقال لهم: ومن أين لكم أن من استعجل شيئاً قبل أوانه حرم عليه في الأبد؟ ثم لم يلبثوا أن تناقضوا أسخف تناقض فقالوا: من تزوج امرأة ذات زوج فدخل بها، فأتى زوجها لم تحرم عليه في الأبد، بل له نكاحها إن طلقها زوجها أو مات عنها. وهو قد استعجله قبل أوانه، ويلزمهم أن من سرق مالاً لغيره أن يحرم عليه في ملكه في الأبد، لأنه استعجله قبل وقته، وأن من قتل آخر أو تحرم عليه أمته في الأبد، لأنه استعجل تحللها قبل أوانه، ويلزمهم أيضاً ألا يرث ولاء موالي من قتل، لأنه استعجل استحقاقه قبل أوانه، وأن من قتل لا يدخل في حبس معقب عليه بعد موت مقتوله، وألا يرث من انتقل التعصيب له إليه بعد موت مقتوله، وهذا كثير جدّاً. فإن قالوا: قد يمكن أن يموت هو قبل مقتوله، قلنا: وقد يموت هو قبل موت مقتوله باعتباط ونحو ذلك ولا فرق. وأصحاب مالك يلزمون الطلاق ثلاثاً من يشك أطلق ثلاثاً أم أقل، ويفرقون بين من طلق إحدى امرأتيه، ثم لم يدر أيتهما المطلقة وبينهما معاً، فيطلقون كلتا امرأتيه، ويحرمون حلالاً كثيراً خوف مواقعة الحرام، وفي هذا عبرة لمن اعتبر، ليت شعري كما تشفقون في الاستباحة من مواقعة الحرام أما تشفقون في قطعهم بالتحريم وبالتفريق من مواقعة الحرام في تحريمهم ما لم يحرمه الله تعالى؟ وقد علم كل ذي دين أن تحريم المرء ما لم يصح تحريمه عنده حرام عليه، فقد وقعوا في نفس ما خافوا بلا شك، ومن العجيب أن خوف الحرام أن يقع فيه غيرهم ــــ ولعله لا يقع فيه ــــ قد أوقعهم يقيناً في مواقعتهم يقين الحرام، لأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، ومحرم الحلال كمحلل الحرام ولا فرق.

والعجب كل العجب أنهم يحتاطون بزعمهم على هذا الذي جهل أي امرأتيه طلق خوف أن يواقع التي طلق وهو لا يعلمها، فيكون قد أوقع حراماً لا يعلمه بعينه، ولا يتقون الله تعالى فيحتاطون على أنفسهم التي أمروا بالاحتياط عليها وقال لهم ربهم تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فيحرمون عليه الثانية التي هي امرأته بلا شك، ولم يطلقها قط فيخرجونها عن ملكه بغير إذن من الله تعالى، ويبيحون فرجها لمن لا شك في أنه حرام عليه من سائر من يتزوجها من الناس، وهي غير مطلقة ولا منفسخة ولا متوفى عنها، فيقعون في أعظم مما صانوا عنه غيرهم، لأن الشاك في الطلاق لو واقع ذلك الحرام لكان غير آثم، لأنه لا يعلمه حراماً بعينه، وهم يبيحون شيئاً لا شك في أنه حرام غير مباح، وقد كان الأولى بهم ألا يقدموا على إباحة المرأتين اللتين لم يطلق إحداهما بلا شك للأجنبيين، فصاروا محلين للفروج المحرمة بيقين. وأيضاً فإنهم حكموا بالطلاق على امرأة لم تطلق من أجل غيرها طلقت والله تعالى يقول: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ولا يحل لأحد أن يحتاط في الدين فيحرم ما لم يحرم الله تعالى، لأنه يكون حينئذ مفترياً في الدين، والله تعالى أحوط علينا من بعضنا على بعض، فالفرض علينا ألا نحرم إلا ما حرم الله تعالى، ونص على اسمه وصفته بتحريمه، وفرض علينا أن نبيح ما وراء ذلك بنصه تعالى على إباحة ما في الأرض لنا، إلا ما نص على تحريمه، وألا نزيد في الدين شيئاً لم يأذن به الله تعالى، فمن فعل غير هذا فقد عصى الله عز وجل ورسوله وأتى بأعظم الكبائر. ثم عطفوا فأسقطوا الاحتياط وتعمدوا إلى إسقاط الواجب في رجل شهد عليه أربعة عدول، بأنه أعتق خادمه هذه منذ عام كامل، وهو منكر لذلك، وهو مقر بوطئها، فيحكمون بشهادتهم، حين أدائها، ولا يحدونه على وطء حرة بلا إنكاح، فهذا غاية الإقدام على المحرمات فأين الاحتياط؟ والعجب أنهم يكذبون الشهود إذ لم يحكموا بنص شهادتهم، ولم يشهد القوم بأنها حررت الآن، وإنما شهدوا أنها حررت منذ عام.

وكانوا غيباً إلى اليوم، وفي هذا من السقوط والإقدام غير قليل، ويقال لمن جعل الاحتياط أصلاً يحرم به ما لم يصح بالنص تحريمه أنه يلزمك أن يحرم كل مشتبه يباع في السوق مما يمكن أن يكون حراماً أو حلالاً، ولا توقن بأنه حلال ولا بأنه حرام، ويلزمك أن تحرم معاملة من في ماله حرام وحلال، وهم لا يقولون بشيء من ذلك، وهذا نقض لأصولهم في الحكم بالاحتياط، ورفع الذريعة والتهمة، وقد تناقضوا في هذه المواضع.

وقال بعضهم محتجاً لأصولهم في الحكم بالاحتياط: إن الحرام يدخل بأرق سبب كتحريم الله تعالى نكاح ما نكح الآباء، فحرم ذلك بالعقد، وإن لم يكن وطىء قالوا: وأما التحليل فلا يدخل إلا بأقوى الأسباب، كتحليل المطلقة لزوجها ثلاثاً لا تحل له بعقد زوج آخر حتى يطأ. قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، وإنما اتبعنا في كلا الموضعين النصين الواردين فيهما، وقولهم إن التحريم يدخل بأرق سبب، والتحليل لا يدخل إلا بأغلظ سبب، قول فاسد لا دليل عليه، لأنه لم يأت به نص ولا اتفق على صحته، ونحن نوجدهم تحريماً لا يدخل بأغلظ سبب، وهو أن الله تعالى حرم الربيبة التي دخل المرء بأمها، وكانت في حجره فالربيبة لا تحرم إلا بما نص الله على تحريمها به، ووجدناها باتفاق منا ومنهم لا تحرم بالعقد على أمها فقط. ووجدنا التحليل في الأيمان المغلظة المعظمة باسم الله تعالى يدخل بإطعام عشرة مساكين، أو بالاستثناء الذي هو كلمات يسيرة لا مؤونة فيها، فإن قالوا: إنما وجب هذان الحكمان بالنص، قلنا لهم: وكذلك تحريم ما نكح الآباء وتحليل المطلقة ثلاثة بوطء زوج آخر، إنما وجبا بالنص لا بما ادعيتم من رقة سبب وغلظة. ووجدنا النبي قد حرم على نفسه ما أحل الله تعالى له، فلم يحرم عليه بذلك. ولا أغلظ من تحريم النبي ، فلم يدخل التحريم بذلك، إذ لم يكن نزل بذلك عليه نص، وتحلل من تلك اليمين بكفارة، فدخل التحليل بأرق سبب وأهونه، فبطل ما ادعوا من ذلك. وأيضاً فإن حجتهم بأن المطلقة لا تحل لزوجها الأول إلا بأغلظ سبب ثم أباحوها.

وأيضاً فإن حجتهم بأن المطلقة لا تحل لزوجها الأول إلا بأغلظ سبب ثم أباحوها بالوطء دون الإنزال، فقد نقضوا أصولهم في ذلك، وأدخلوا التحليل بسبب رقيق، لأن الحسن البصري وهو أحد الأئمة يقول: لا تحل للأول إلا بأن يطأها الثاني، وينزل وإلا فلا، وجعل الإنزال تمام ذوق العسيلة، وهم لا يقولون بذلك.

وأيضاً فإنهم يبيحون للمرء نكاح من زنى بها أبوه، ولا يحرمون عليه امرأته إن زنى بجريمتها، فهنا لا يدخلون التحريم بأرق سبب، بل بأغلظ سبب، وهو المتفق عليه في وطء الحلال، ويبيحون قتل المقر بالزنى مرة واحدة، فيدخلون التحليل على الدم الحرام الذي هو أغلظ الحرمات بأرق سبب، وغيرهم لا يبيح دمه إلا بإقرار أربع مرات يثبت عليها ولا يرجع عنها أصلاً، وكل هذا تناقض منهم وهدم لما أصلوه من أن التحريم يدخل بأرق الأسباب، ولا يدخل التحليل إلا بأغلظ الأسباب.

ومما يبطل قولهم غاية الإبطال قول الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } . فصح بهاتين الآيتين أن كل من حلل أو حرم ما لم يأت بإذن من الله تعالى في تحريمه أو تحليله فقد افترى على الله كذباً، ونحن على يقين من أن الله تعالى قد أحل لنا كل ما خلق في الأرض، إلا ما فصل لنا تحريمه بالنص لقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } فبطل بهذين النصين الجليين أن يحرم أحد شيئاً باحتياط أو خوف تذرع.

وأيضاً فإن رسول الله أمر من توهم أنه أحدث ألا يلتفت إلى ذلك، وأن يتمادى في صلاته، وعلى حكم طهارته، هذا في الصلاة التي هي أوكد الشرائع، حتى يسمع صوتاً أو يشم رائحة، فلو كان الحكم الاحتياط حقاً لكانت الصلاة أولى ما احتيط لها، ولكن الله تعالى لم يجعل لغير اليقين حكماً فوجب بما ذكرنا أن كل ما تيقن تحريمه فلا ينتقل إلى التحليل إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وكل ما تيقن تحليله فلا سبيل أن ينتقل إلى التحريم إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وبطل الحكم باحتياط. وصح أن لا حكم إلا لليقين وحده، والاحتياط كله هو ألا يحرم المرء شيئاً إلا ما حرم الله تعالى، ولا يحل شيئاً إلا ما أحل الله تعالى، وبطل بهذا أن تطلق امرأة على زوجها إذ شك أطلقها أم لا، لأنها زوجة بيقين فلا تحرم عليه إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وبالله تعالى التوفيق. نعم حتى لقد أداهم هذا الأصل الفاسد إلا أن حكموا في أشياء كثيرة بالتهمة التي لا تحل، فأبطلوا شهادة العدول لآبائهم وأبنائهم ونسائهم وأصدقائهم تهمة لهم بشهادة الزور والحيف.

والحكم بالتهمة حرام لا يحل، لأنه حكم بالظن، وقد قال تعالى عائباً لقوم قطعوا بظنونهم فقال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } وقال تعالى عائباً قوماً قالوا: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } وقال تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } وقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } . وقال رسول الله : «الظَّنُّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» .

قال أبو محمد: فكل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل وهو حكم بالهوى، وتجنب للحق نعوذ بالله من كل مذهب أدى إلى هذا، مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض، لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد، وإذا حرم شيئاً حلالاً خوف تذرع إلى حر فلْيَخْصِ الرجال خوف أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، وليقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر، وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض، لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق كلها، وبالله تعالى التوفيق. فإن تعلق متعلق بقول النبي لعقبة بن الحارث إذ تزوج بنت أبي إهاب بن عزيز فأتت الأمة السوداء فقالت: إني أرضعتكما فقال له رسول الله : «دَعْهَا عَنْكَ كَيْفَ بِكَ وَقَدْ قِيلَ» فهذا لا يقوله رسول الله ، إلا وقد صح عنده وجوب الحكم بقول تلك الأمة السوداء، والخبر إذا صح عند الحاكم، والشهادة إذا ثبتت عنده لزمه أن يحكم بهما. فإن قال قائل: لم يكن ذلك من قول الأمة السوداء شهادة لوجهين. أحدهما: أنه لم تؤد ذلك عند رسول الله وإنما أخبرت بذلك عقبة بن الحارث، وليس حكم الشهادة إلا أن تؤدى عند الحاكم. والوجه الثاني: أنه قد قال: «إِنَّ شَهَادَةَ المَرْأَةِ نِصْفُ شَهَادَةِ رَجُلٍ» فلا سبيل إلى تعدي هذه القضية، ولا إلى أن تكون شهادة المرأة كشهادة رجل فكيف أن تكون كشهادة رجلين.

ولا سبيل إلى أن يكون النبي يأمر عقبة بأن يدع زوجه وينهاه عنها بالظن الذي قد أخبر النبي أنه أكذب الحديث، هذا ما لا يظنه مسلم بالنبي لا سيما في الفراق بين الزوجين، الذي عظمه الله تعالى بقوله عز وجل واصفاً للسحرة {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فإذ قد بطل أن يكون حديث الأمة السوداء شهادة أو حكماً بالظن فلم يبق إلا أنه خبر صدقه النبي وعلم صحته فقضى به، قيل له: أما قولك: لم تؤده عند رسول الله فقد أدى شهادتهما بذلك، وقولها إليه الثقة وهو المقول له ذلك وشهادة واحدة على شهادة واحدة عندنا جائزة. وأما قولك: أنه قال: «شَهَادَةُ المَرْأَةِ نِصْفُ شَهَادَةِ الرَّجُلِ» فنعم وهو القائل لما ذكرت، وهو القائل لعقبة بن الحارث: «دَعْهَا عَنْكَ» فهو أمره بفراقها بشهادة السوداء، فالمرأة الواحدة مقبولة في هذا المكان بهذا الحديث، وأما في سواه فامرأتان مقام رجل بالنص الآخر الذي ذكرت، ولا يحل ترك أحدهما للآخر. هذا على أن المالكيين الحاكمين باحتياط وقطع الذرائع في العظائم التي لم يأذن بها الله تعالى لا يحكمون بقول امرأة لزوج وامرأته: إني قد أرضعتكما، ولا يفرقون بينهما بذلك، فهم يخالفون النصوص كما ترى حيث كان يكون لهم فيه متعلق، ويفرقون بالاحتياط حيث لم يأت فيه نص يتعلق به متعلق وبالله التوفيق. فإن احتجوا بما حدث أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري، أنا الحسن بن أحمد بن فراس، ثنا أحمد بن محمد بن سهل المعروف ببكير بن الحداد، ثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي، ثنا عمرو بن محمد العثماني، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، عن حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه عن جده، عن تميم الداري أن رسول الله قال: «كُلُّ مُشْكِلٍ حَرَامٌ وَلَيْسَ فِي الدِّينِ إِشْكَالٌ» فهذا حديث لا تقوم به حجة لضعف سنده، لأن حسين بن عبد الله ضعيف/ وأبوه وجده غير مشهورين في أصحاب النقل. وأما كل أشياء أو شيئين أيقنَّا أن فيهما حراماً لا نعلمه بعينه فحكمهما التوقف أو ترك التوقف، على ما قد قسمناه في غير هذا الموضع، حتى يتبين الحرام من الحلال، لأن هذا المكان فيه يقين حرام يلزم اجتنابه فرضاً، وهذا بخلاف المشكوك فيه الذي لا يقين فيه أصلاً.

حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن عبد البصير، ثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا سفيان الثوري، عن أبيه، عن تميم بن سلمة، عن ابن عمرة قال: «إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى مَيَاسِرُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» قال: فذكرت ذلك لعبد الرحمن الرحال فقال: قال ابن عباس: «إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتِى حَدُّهُ» وبه نصّاً إلى عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحارث، عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله بن مسعود: «إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَيَاسِرُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» . قال أبو محمد: فهذا يبين أنه لا يجوز التحري في اجتناب ما جاء عن الله تعالى على لسان نبيه وإن كانت رخصة، وأن كل ذلك حق وسنة ودين، فبطل ما تعلقوا به من الاحتياط الذي لم يأت به نص ولا إجماع. وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني

في الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (1) | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (2) | في إبطال التقليد (1) | في إبطال التقليد (2) | في إبطال التقليد (3) | في إبطال التقليد (4) | في إبطال التقليد (5) | في إبطال التقليد (6) | في إبطال التقليد (7) | في إبطال التقليد (8) | في إبطال التقليد (9) | في إبطال التقليد (10)