ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني/الباب السادس والثلاثون (10)


ولا نص مسنداً صحيحاً في ذلك، فلم يجب القول بإخراج الزيادة على ذلك، بغير نص ولا إجماع، وأجمعت الأمة كلها، بلا خلاف في أحد منها، على أن المدّ والصاع المذكورين في زكاة الفطر هما المذكوران في المقدار الذي تلزم فيه الزكاة من الحب والتمر، وأنهما سواء، فلما صح المقدار المذكور في زكاة الفطر، صح أنه يعينه في زكاة الحب والتمر، ولا فرق، ويكفي من هذا أنه نقل مبلغ إلى رسول الله بالكافة. وأما الخلاف في المد والصاع، فإنما هو خلاف رأي، لا خلاف رواية عن النبي ، فسقط ذلك الخلاف، والحمد لله رب العالمين. واحتجوا في ذلك بما روي من قول عبد الرحمن بن عوف لعمر رضي الله عنهما: إن الموسم يجمع رعاع الناس، فاصبر حتى تأتي المدينة فتخلو بوجوه الناس. فالجواب: أن رسول الله أولى أن يتبع من عبد الرحمن بن عوف، وهذا رسول الله لم يجعل التبليغ الذي أمره الله به إلا في مكة في حجة الوداع في الموسم الجامع لكل عالم وجاهل. وهنالك قال رسول الله : «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» فقال الناس: اللهم نعم، فقال : «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» ولم يجعل ذلك التبليغ العام الذي أقام به الحجة، في المدينة ولا في خاص من الناس، ولا بحضرة وجوه الناس خاصة دون الرعاع وكذلك لم يكتف رسول الله بقراءة سورة براءة في المدينة، وهي آخر سورة نزولاً، وهي الجامعة للسير وأحكام الخلافة والإمامة، حتى يبعث بها عليّاً ليقرأ في الموسم بمكة، في حجة أبي بكر رضي الله عنهما، بحضرة كل من حضر. وإنما يكون الانفراد بوجوه الناس في الآراء التي تدار، ويستضر بكشفها وتجري مجرى الأسرار، ومثل هذا كانت مقالة عمر، التي حضه عبد الرحمن على تأخيرها إلى أن يخلو بوجوه الناس، ولم تكن من الشرائع الواجب معرفتها، من الفرض والحرام والمباح، ونحن إنما نتكلم مع خصومنا في الشرائع التي تلزم أهل صين الصين والخالدات ومن في حوزارين وأقاضي الزنج، وأقاضي بلاد الصقالبة. كما يلزم الصحابة وأهل المدينة لزوماً مستوياً لا تفاضل فيه ولم ننازعهم في إدارة رأي، ولا في تحذير من طالب خلافة. فلو تركوا التمويه لكان أولى بهم ولو كانت تلك المقالة من واجبات الشرائع ما أخرها عمر ولا أمره ابن عوف بتأخيرها. والعجب أن القائلين بهذا قد خالفوا إجماع أهل المدينة حقّاً فمن ذلك سجودهم مع عمر في {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ } يوم جمعة، فقالوا: ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة.

ومن ذلك اشتراكهم في الهَدْي يوم الحديبية. فقالوا: ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة الصحيح، وادعوه حيث لا يصح، وهكذا يكون عكس الحقائق والأمور في الديانة لا تؤخذ إلا من نص منقول، ولا نص على وجوب اتباع أهل المدينة دون غيرهم، فإذا كان ذلك دعوى بلا برهان فهو افتراء على الله عز وجل أنه أوجب ذلك. وهو تعالى لم يوجبه، وهذا عظيم جداً ونسأل الله التوفيق. وإذا كان نقل أهل المدينة وغيرهم إنما حكمه أن يراعى الفاسق فيجتنب نقله، والعدل فيقبل نقله، ففي المدينة عدول وفساق ومنافقون، وغيرهم شر خلق الله تعالى وفي الدرك الأسفل من النار، وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } . وفي سائر البلاد أيضاً عدول وفساق ومنافقون ولا فرق. وكيف يدعي هؤلاء المغفلون تقليد أهل المدينة وهم يخالفون عمر بن الخطاب في نيف وثلاثين قضية من موطأ مالك خاصة، وخالفوا أبا بكر، وعائشة وابن عمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وغيرهم من فقهاء المدينة في كثير من أقوالهم جدّاً، فإن كان تقليد أهل المدينة واجباً فمالك مخطىء في خلافه لهؤلاء فيجب عليهم أن يتركوه إذا خالف من أهل المدينة.

والحقيقة التي لا شك فيها هي أن مرادهم بالدعاء إلى أهل المدينة، والتشييع بوجوب طاعتهم، إنما هو دعاء إلى قول مالك وحده، لا يبالون بأحد سواه من أهل المدينة، وأعجب من هذا أنهم فيما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من المسائل، ليس عندهم في صحة ذلك إلا نقل مالك وحده ومن المحال أن يثبت الإجماع بنقل واحد لا برهان بيده وكل ما جوَّزوه على سائر الثقات من رواة الحديث عن النبي وعمن دونه إلى قيام الساعة، فهو جائز على مالك ولا فرق، فظهر بطلان قولهم لكل ذي حس سليم. وأيضاً فإن مالك بن أنس رحمه الله لم يدع إجماع أهل المدينة في موطئه إلا في نحو ثمان وأربعين مسألة فقط، مع أن الخلاف موجود من أهل المدينة في أكثر تلك المسائل بأعيانها، وأما سائرها فلا خلاف فيها بين أحد لا مدني ولا غيره، ولم يدع إجماعاً في سائر مسائله فاستجاز أهل الجهل على الحقيقة من اتباعه الكذب المجرد والجهل الفاضح، ونعوذ بالله من الخذلان، في إطلاق الدعوى على جميع أقوالهم أو أكثرها، أنها إجماع أهل المدينة. وحتى لو صح لهم هذا القول الفاسد، لوجب ألا تقبل رواية القاسم وأشهب وابن عبد الحكم وسائر المالكيين قديماً وحديثاً، لأنهم ليسوا مدنيين. فإن قال قائل: إنهم أخذوا عن أهل المدينة. قيل: وكذلك أهل البصرة والكوفة والشام ومصر ومكة واليمن، أخذوا عن أصحاب رسول الله الذين هم أفضل وأعلم من الذين أخذ عنهم المذكورون وأخذوا عن رسول الله الذي به هدى الله تعالى من شاء من أهل المدينة وغيرهم والقرآن واحد مشهور في غير المدينة كما هو بالمدينة وسنن الرسول معروفة منقولة في غير المدينة كما هي بالمدينة، والدين واحد ويهب الله من يشاء، من أهل المدينة وغير أهل المدينة، ما شاء من الحظ في دينه والفهم في كتابه وأهل المدينة وغيرهم سواء، ولا فرق بينهم وما عدا هذا القول فإفك وزور وكذب وبهتان وبالله التوفيق. وقد ذكرنا أن مالكاً وأبا حنيفة والشافعي لم يقلدوا، ولا أجازوا لأحد أن يقلدهم، ولا أن يقلد غيرهم. وروي أن مالكاً أفتى في مسألة في طلاق البتة: أنها ثلاث، فنظر إلى أشهب قد كتبها، فقال: امحها، أنا كلما قلت قولاً جعلتموه قرآناً ما يدريك لعلي سأرجع عنها غداً فأقول: هي واحدة. وهذا ابن القاسم لا يرى بيع كتب الرأي، لأنه لا يدري: أحق فيها أم باطل؟ ويرى جواز بيع المصاحف وكتب الحديث، لأنها حق.

وقال مالك عند موته: وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطاً على أنه لا صبر لي على السياط. وذكر الشافعي حديثاً عن النبي ، فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله أنأخذ به؟ فقال له: يا هذا أرأيت عليَّ زناراً؟ أرأيتني خارجاً من كنيسة؟ حتى تقول لي في حديث النبي أنأخذ بهذا، ولم يزل رحمه الله في جميع كتبه ينهي عن تقليده وتقليد غيره، وهكذا حدثني القاضي أبو بكر حمام بن أحمد عن عبد الله بن محمد الباجي، عن القاضي أسلم بن عبد العزيز بن هشام، عن أبي إبراهيم المزني عن الشافعي. فترك هؤلاء القوم ما أمرهم به أسلافهم، وعصوهم في الحق، واتبعوا آراءهم تقليداً وعناداً للحق. حدثنا القاضي يونس بن عبد الله، ومحمد بن سعيد بن نبات، قال يونس: نا يحيى بن مالك بن عائن، نا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الخشاب، نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا إبراهيم بن أبي الجحيم، نا محمد بن معاذ، نا سفيان بن عيينة، وقال محمد بن سعيد: نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا أبو موسى الزمن ــــ هو محمد بن المثنى ــــ نا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، ثم اتفق ابن عيينة والثوري واللفظ للثوري: عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه قال: قال معاوية لابن عباس: أنت على ملة عليّ؟ قال: لا، ولا على ملة عثمان، أنا على ملة النبي .

قال محمد بن المثنى: وثنا مؤمل، نا سفيان الثوري، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال لي معاوية: أنت قلت ما أنا بعلوي ولا عثماني ولكني على ملة رسول الله . حدثنا يونس بن عبد الله، نا يحيى بن مالك بن عائذ، حدثنا الحسين بن أحمد بن أبي حنيفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا يوسف بن يزيد القراطيسي، نا سعيد بن منصور، نا هشيم عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي قال: كان يكره أن يقال: سنة أبي بكر وعمر، ولكن سنة الله عز وجل، وسنة رسوله . قال أبو محمد: فإذا كان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم لا يستجيزون نسبة ما يعبدون به ربهم ولا مذاهبهم إلى أبي بكر، ولا إلى عمر، ولا إلى عثمان، ولا إلى علي، ولا ينتسبون إلى أحد دون رسول الله ، فكيف بهم لو شاهدوا ما نشاهده من المصائب الهادمة للإسلام على من امتحنه الله به من الانتماء إلى مذهب فلان وفلان، والإقبال على أقوال مالك وأبي حنيفة والشافعي، وترك أحكام القرآن وكلام النبي ظهريّاً والحمد لله على تثبيته إيانا على دينه وسنته التي مضى عليها أهل الأعصار المحمودة، قبل أن تحدث بدعة التقليد وتفشو، وبالله نعتصم. كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله الحافظ، نا سعيد بن نصر، نا قاسم بن أصبغ، نا ابن وضاح، نا موسى بن معاوية، نا عبد الرحمن بن مهدي، نا سفيان الثوري، عن يزيد بن أبي زيادة، عن إبراهيم ــــ هو النخعي ــــ عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم عليها الكبير، وتتخذ سنة المبتدعة جرى عليها الناس، فإذا غير منها شيء قيل، غيرت السنة؟ قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثر قراؤكم، وقل فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقل أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين. حدثنا أحمد بن عمر العذري، نا أبو ذر عبد بن أحمد، نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، نا إبراهيم بن خزيم بن مهر، نا عبد بن حميد، نا محمد بن الفضل، نا الصعق بن حزن، عن عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود أن رسول الله قال له: «يَا عَبْدَ الله بْنَ مَسْعودٍ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: أَتَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قلت: الله ورسوله أعلم: قال: فَإِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ أَفْضَلَهُمْ عَمَلاً إذ فَقِهُوا في دِينِهِمْ، ثم قال: يَا عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ قلت: لبيك يَا رَسُولَ الله قال: هَلْ تَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّراً فِي العَمَلِ، وَإِنْ كَانَ تُزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ» .

كتب إلي النمري: نا سعيد بن سيد، نا عبد الله بن محمد، نا أحمد بن خالد، نا ابن وضاح، نا إبراهيم بن محمد الشافعي، نا أبو عصام رواد بن الجراح العسقلاني، عن سعيد بن بشر، عن قتادة قال: من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه.

كتب إلي النمري: ثنا أحمد بن سعيد بن بشر، نا أحمد بن أبي دليم، نا ابن وضاح، نا إبراهيم بن يوسف الفريابي، نا ضمرة بن ربيعة، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يفتي أحداً من الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه، هكذا روينا عن سعيد بن جبير. وهكذا قال أحمد بن حنبل وغيره. كتب إلي النمري قال: روى عيسى بن دينار عن أبي القاسم قال: سئل مالك قيل له: لمن تجوز الفتيا؟ قال: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن، وحديث النبي وكذلك يفتي ولا يجوز لمن لم يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إليّ قال النمري: وقال يحيى بن سلام: لا ينبغي لمن لم يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إليَّ. كتب إلي النمري: نا خلف بن القاسم، نا الحسن بن رشيق، نا علي بن سعيد الرازي، نا محمد بن المثنى، نا عيسى بن إبراهيم، سمعت يزيد زريع يقول: سمعت: سعيد بن أبي عروبة يقول: من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالماً.

كتب إلي النمري: أخبرني خلف بن القاسم، نا محمد بن شعبان القرظي، نا إبراهيم بن عثمان، نا عباس الدوري قال: سمعت قبيصة بن عقبة يقول: لا يفلح من لم يعرف الاختلاف. كتب إلي النمري: أخبرني قاسم بن محمد، نا خالد بن سعيد، نا محمد بن فطيس، نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت أشهب يقول: سئل مالك عن اختلاف أصحاب رسول الله ؟ فقال، خطأ وصواب فانظر في ذلك. كتب إلي النمري: وذكر يحيى بن إبراهيم بن مزين، حدثني أصبغ قال: قال ابن القاسم؛ سمعت مالكاً والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله ليس كما قال ناس، فيه توسعة، ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب.

كتب إلي النمري: أخبرني عبد الرحمن بن يحيى، أنا أحمد بن سعيد، نا محمد بن ريان، نا الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك أنه قال في اختلاف أصحاب رسول الله : مخطىء ومصيب، فعليك بالاجتهاد، وذكره إسماعيل في المبسوط عن أبي ثابت المدني عن ابن القاسم عن مالك.

كتب إلي النمري: نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا أحمد بن زهير، حدثني أبي، عن سعيد بن عامر، ثنا شعبة، عن الحاكم بن عتيبة قال: ليس أحد من خلق الله تعالى إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي . كتب إلي النمري: ثنا خلف بن القاسم، نا ابن أبي العقب بدمشق، نا أبو زرعة، ثنا ابن أبي عمر، نا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ليس أحد من خلق الله عز وجل إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي . كتب إلي النمري: نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا أحمد بن زهير، أنا الغلاقي، نا خالد بن الحارث قال: قال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله. كتب إلي النمري: نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا ابن وضاح، نا يوسف بن عدي، نا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري في قوله عز وجل: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } قال: أما أنهم لو أمروهم أن تعبدوهم من دون الله تعالى ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله تعالى حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية.

قال ابن وضاح، وحدثنا موسى بن معاوية، نا وكيع، نا سفيان والأعمش جميعاً، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة بن اليمان في قول الله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه.

كتب إلي النمري: أنا سعيد بن نصر، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح، ثنا موسى بن معاوية، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال: قال معاذ بن جبل: يا معشر العرب، كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن؟ فسكتوا، فقال: أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم، فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب، وأما القرآن فله منار كمنار الطريق، لا يخفى على أحد، فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه ما شئتم فيه فكلوه إلى عالمه. وذكر باقي الحديث.

قال أبو محمد: هذا هو نص ما ذهبنا، والحمد لله رب العالمين، في اتباع الظاهر وترك تقليد. كتب إلي النمري: ثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن أحمد بن مفرج، ثنا أبو سعيد البصري بمكة، ثنا الحسن بن عفان العامري، ثنا الحسين الجعفي، عن زائدة، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري قال: قال سليمان الفارسي. كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن مناراً كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوا، وما لم تعرفوا فكلوه إلى عالمه. كتب إلي النمري: ثنا عبد الوارث بن سفيان، ويعيش بن سعيد قالا: أنا قاسم بن أصبغ، ثنا بكر بن حماد، ثنا بشر بن حجر، أنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن عطاء، يعني ابن السائب، عن أبي البختري، عن علي بن أبي طالب، قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب لعلم الله عز وجل فيه، وذكر الحديث. كتب إلي النمري قال: ذكر ابن مزين، عن عيسى بن دينار، عن ابن القاسم، عن مالك قال: ليس كل ما قال رجل قولاً، وإن كان له فضل، يتبع عليه، يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ } .

قال أبو محمد: لو اتبع مقلدوه وهذا القول منه لاهتدوا. ونعوذ بالله من الخذلان. وقالوا أيضاً: إن جمهور الصحابة كانوا بالمدينة، وإنما خرج عنها الأقل ومن المحال أن تغيب السنة عن الأكثر، ويدريها الأقل. قال أبو محمد: وهذا فاسد من القول جدّاً، لأن الرواية إنما جاءت عن ألف صاحب وثلاثمائة صاحب ونيف، أكثرهم من غير أهل المدينة، وجاءت الفتيا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط، أكثرهم من غير أهل المدينة، وهذه الأمور لا تطلق جزافاً، ولا يؤخذ الدين عمن لا يبالي أن يطلق لسانه بما لا يدري، ولا اهتبل به يوماً من دهره قط، ولا شغل بالبحث عنه ليلة من عمره، وإنما يؤخذ ممن جعله وكْده وعمدته، وآثره على طلب رياسة الدنيا، وأعده حجة ليلقى بها ربه، إذا سئل يوم القيامة. ثم إن كل قولة قلدوا فيها مالكاً، من تلك الآراء المضطربة، وتلك المسائل التي فيها القولان والثلاثة، وهي أكثر أقواله، فليس كل واحدة منها شهدها جميع أصحابه الباقين بالمدينة، نعم، ولا سائر الأحكام التي أسندها إلى من أسندها إليه إنما هي حُكم حَكَم بها حاكم، إما رضيه غيره منهم، وإما سخطه، ومن ادعى إجماعهم عليه، فقد ادعى الكذب الذي لا يخفى على أحد، إذ لا شك أنهم لم يكونوا كلهم ملازمين لكل حكم حكم به الإمام هنالك أو قاضيه، فظهر سقوط ما احتجوا به، وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني

في الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (1) | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (2) | في إبطال التقليد (1) | في إبطال التقليد (2) | في إبطال التقليد (3) | في إبطال التقليد (4) | في إبطال التقليد (5) | في إبطال التقليد (6) | في إبطال التقليد (7) | في إبطال التقليد (8) | في إبطال التقليد (9) | في إبطال التقليد (10)