ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الرابع/الباب التاسع والثلاثون (1)


قال أبو محمد علي بن أحمد/ رضي الله عنه: ذهب القائلون بالقياس من المتحذلقين المتأخرين إلى القول بالعلل، واختلف المبطلون للقياس، فقالت طائفة منهم: إذا نص الله تعالى على أنه جعل شيئاً ما سبباً لحكم ما، فحيث ما وجد ذلك السبب وجد ذلك الحكم، وقالوا: مثال ذلك قول رسول الله ، إذ نهى عن الذبح بالسن: «وَأَمَّا السِّنُّ فَإِنَّهُ عَظْمٌ» . قالوا: فكل عظم لا يجوز الذبح به أصلاً، قالوا: ومن ذلك قول رسول الله في السمن تقع فيه الفأرة: «فَإِنْ كَانَ مَائِعاً فَلاَ تَقْرَبُوهُ» قالوا: فالميعان سبب ألا يقرب، فحيث ما وجد مائع حلت فيه نجاسة فالواجب ألا يقرب. قال أبو محمد: وهذا ليس يقول به أبو سليمان رحمه الله، ولا أحد من أصحابنا، وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا كالقاساني وضربائه. وقال هؤلاء: وأما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال فيه: إن هذا لسبب كذا. وقال أبو سليمان، وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله شيئاً من الأحكام وغيرها لعلة أصلاً بوجه من الوجوه، فإذا نص الله تعالى أو رسوله على أن أمر كذا لسبب كذا أو من أجل كذا، ولأن كان كذا أو لكذا، فإن ذلك كله ندري أنه جعله الله أسباباً لتلك الأشياء في تلك المواضع التي جاء النص بها فيها.

ولا توجب تلك الأسباب شيئاً من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة، قال أبو محمد: وهذا هو ديننا الذي ندين به، وندعو عباد الله تعالى إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى.

فأما الحديث الذي ذكروا في السن أنه عظم، فكل عظم ما عدا السن فالتذكية به جائزة، لأن النبي لم يكن عاجزاً عما قدر عليه هؤلاء المتخرضون، ولو كانت الذكاة بالعظام حراماً لما اقتصر على ذكر السن وحده، ولما رضي بهذا العي من ذكر شيء وهو يريد غيره، ولقال: ما أنهر الدم وفرى الأوداج فكلوا ما لم يكن عظماً أو ظفراً، وصح ضرورة أنه لو كانت العظمة مانعة من الذبح لما هي فيه، لما كان لذكر السن معنى، ولكان تلبيساً لا بياناً، فوضح يقيناً أن العظمة ليست مانعة من الذبح بالجرم الذي هي فيه، إلا أن يكون في سن فقط، وكذلك القول في الحديث الآخر ولا فرق. والقائلون بخلاف قولنا قد تناقضوا في الحديث المذكور نفسه، ولم يعنونا في طلب تناقضهم إلى مكان بعيد، لكن أتوا إلى قوله في ذلك الحديث نفسه: «وَأَمَّا الظُّفْرُ فَإِنَّهُ مُدَى الحَبَشَةِ» فكان يلزمهم ــــ إذا جعلوا قوله «فإنه عظم» سبباً مانعاً من الذبح بكل عظم ــــ أن يجعلوا قوله : «وَأَمَّا الظُّفْرُ فَإِنَّهُ مُدَى الحَبَشَةِ» مانعاً من التذكية بكل مدية ك أنت لحبشي، وهذا ما لا يقولونه، بل اقتصروا على المنع من الذبح بالظفر فقط. فلو فعلوا كذلك في السن فمنعوا من الذبح به ولم يتعدوه إلى سائر العظام لكان اهدى لهم، ولكن هكذا يتناقض أهل الخطأ.

وأما أصحاب مالك وأبي حنيفة، وهم المغلبون للقياس على نصوص القرآن والحديث في كثير من أقوالهم، فإنهم تركوا القياس ههنا جملة، فأجازوا الذبح بكل عظيم، لم يقنعوا بهذا إلا حتى تجاوزوا ذلك إلى تخصيص النص بلا دليل، فأجازوا الذبح بكل سن نزعت، واقتصروا على المنع من الذبح بالسن التي لم تنزع، وأجازوا الذكاة بكل ظفر قلع وهذا خطأ منهم. والناقص من الدين كالزائد فيه ولا فرق. {يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } فلو كان التعليل صواباً لكان ما له نص الله تعالى عليه ورسوله بأن جعله سبباً للحكم أولى، عند كل من له مسكة عقل ودين، من علة يتكهنون في استخراجها بلا دليل فهم قد قلبوا ذلك كما ترى. قال أبو محمد: وأما الصواب الذي لا يجوز غيره فهو أن السن والظفر لا يحل الذبح بهما ولا النحر، منزوعين كانا أو غير منزوعين، فأما ما عداهما، من عظم ومن مدي الحبشة أو غير ذلك مما يفري، فحلال الذبح به والنحر والتذكية. فإن قالوا: إن الإجماع منعنا أن يطرد التعليل في مدي الحبشة في الحديث المذكور، قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: قد ثبت الإجماع على صحة قولنا، وعلى إبطال التعليل، وإلا نتعدى السبب المنصوص عليه إلى ما لم ينص عليه، ولو كان التعليل حقاً ما جاز وجود الإجماع بخلافه. قال أبو محمد: وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن الصباح، ثنا أبو علي الحنفي، ثنا قرة بن خالد قال: انتظرنا الحسن فجاء فقال: دعانا جيراننا هؤلاء، ثم قال: قال أنس بن مالك/ نظرنا النبي ذات ليلة حتى إذا كان شطر الليل يبلغه جاء فصلى لنا ثم خطبنا فقال: «أَلاَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوا رَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلاَةَ» . قال أبو محمد: فقد جعل رسول الله من الأسباب التي يختار لها تأخير العتمة انتظار الصلاة، فيكون المنتظر لها في صلاة ما انتظرها، ولم يكن هذا علة عند القائلين بالعلل في اختيار تأخير العصر والمغرب، فإذا كان ما نص النبي عندهم ليس علة يبنى عليها، فالتي ولدوها بآراهم الكاذبة أولى من ألا يبنى عليها.

وقد تعدى بعضهم ممن لم يتق الله عز وجل إلى أطم من هذا. فقال: إن النبي يأمر بالأمر ويقول بالقول مما لا يجوز، لكن لعلة شيء آخر أراده. قال: وذلك مثل قوله : «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنْ يَحْرِقَ بُيُوتَ المُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلواتِ فِي الجَمَاعَاتِ» فقالوا هذا لا يجوز، وإنما قاله تغليظاً، لا أنه أراد ذلك.

وقالوا: إن أمره بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً ليس على إيجاب ذلك، وإنما فعله ليزدجر الناس عن اتخاذها، لأنها كانت تؤذي المهاجرين. قالوا: ومن ذلك قوله للذي دخل المسجد بهيئة بَذَّة ورسول الله يخطب يوم الجمعة فقال: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» قالوا: والركوع حينئذ لا يجوز، وإنما أمره بذلك ليفطن له الناس فيتصدقوا عليه. وقالوا: من ذلك أيضاً أمره بفسح الحج، إنما أمر به، وهو لا يجوز، ليريهم جواز العمرة في أشهر الحج ولهم من هذا التخليط المهلك كثير. قال أبو محمد: وقائل هذا لولا أنه يعذر بشدة ظلمة الجهل، وضعف العقل لما كان أحد أحق بالتفكير منه، وبضرب العنق وباستيفاء المال، لأنهم ينسبون إلى رسول الله أنه يأمر بالباطل وبما لا يجوز، ويصفونه بالكذب. وليت شعري أعجز النبي عن أن يأمر بقتل الكلاب، كما فعل إذ أمره الله تعالى، حتى يحلق هذا التحليق السخيف؟ الذي يشبه عقول المعللين بغسل الإناء من ولوغها سبعاً؟.

أما من كان لهم عقل يعلمون به أنه أن من عصى أمره بألا تتخذ الكلاب، وأن من اتخذ كلباً لم يبح له اتخاذه نقص من عمله كل يوم قيراطان، فهو لأمره بغسل الإناء سبعاً، أعصى وأترك؟ تعالى الله عن هذا، وتنزه نبيه عن هذا الوصف الساقط، والصحابة رضي الله عنهم أطوع وأجل لله تعالى ولرسوله من أن تكون هذه صفتهم، أو تراه عجز عن أن يأمر أصحابه بالصدقة كما صرح لهم بذلك غير مرة حتى يأمر بركوع لا يجوز؟. أترى الصحابة لم يعقلوا أن العمرة في أشهر الحج جائزة، وقد اعتمد بهم النبي قبل ذلك في أشهر الحج عمرتين متصلتين بعد ثالثة لم تتم، عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، بعدها، وعمرته من الجعرانة بعد فتح مكة، كلهن في أشهر الحج قبل حجة الوداع: أما اكتفوا بهذا وبأمره لهم في حجة الوداع: «فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ» فأهل بالعمرة نساؤه وكثير من أصحابه أما يكفي هذا من البيان بأن العمرة في أشهر الحج جائزة؟ حتى يحتاج إلى أمرهم بما لا يحل؟ بزعم من لا زعم له من فسخ الحج. أما لمن نسب هذا إلى الصحابة رضي الله عنهم عقل أو حس يردعه عن هذا السخف والجنون؟. إن من ظن هذا بهم لفي الغاية القصوى من الاستخفاف بأقدارهم، أو في غاية الشبه بالأنعام، بل هو أضل سبيلاً. وتراه لو لم يكن يريد إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة حقّاً؟ أما كان يكتفي بأن يأمر بهجرهم، كما فعل بالمتخلفين عن تبوك؟ أو بطردهم، كما طرد الحكم وهيثاً المخنث، أو بأدبهم كما أدب في الخمر قبل استقرار الحد فيها بالأربعين؟ حتى يتعد إلى الكذب والأخبار بما لا يحل؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول الفاحش المهلك. حدثنا حمام بن أحمد، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الأعرابي، ثنا الدبري، ثنا عبد الرزاق، عن معمر قال: قلت لعبيد الله بن عمر: أعلمت أن رسول الله أفاد بالقسامة؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال: لا. قلت: فيم تجترئون على ذلك، فسكت، قال: فقلت: ذلك لمالك؟ فقال: لا تضع أمر رسول الله على الحيل ثم ذكر باقي الكلام. قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه، وهذا مذهب الأئمة وكل من في قلبه إسلام، ثم يقع لهم الخطأ والوهلات التي لم يعصم منها بشر، فأتى هؤلاء الأوباش المقلدون فقلدوهم في خطئهم الذي لم ينتبهوا له، وعصوهم في الحقيقة التي ذكرنا، من أن لا يحمل أمر النبي على الحيل.

قال أبو محمد: فإن ذكروا في ذلك مواصلة النبي بهم، وقد نهاهم عن الوصال؟ فليعلموا. أن ذلك كان منه عليه السلام صياماً مقبولاً، لأن الوصال له مباح بالنص من قوله : «لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» وكان منهم عقوبة لهم لا صياماً، وهكذا في نص الحديث، أنه كان كالتنكيل بهم، وجائز للإمام أن يمنع المرء الطعام اليوم والليلة، ومقداراً يدري أنه لا يبلغ به الموت على سبيل النكال، كما فعل . وبالله تعالى التوفيق. ونحن إن شاء الله تعالى موردون مشاغب أصحاب العلل، على حسب ما التزمنا لجميع خصومنا، ومبينون، بحول الله واهب القوة لا إله إلا هو وعونه لنا إن شاء الله تعالى، تمويههم بها وحل شغبهم الفاسد، ثم موردون البراهين الضرورية الصادقة عن إبطال العلل جملة، إن شاء الله تعالى وبه نعتصم.

احتج القائلون بالعلل بآيات ظاهرها كون بعض الأحكام من أجل بعض الأحوال، فمن ذلك قول الله عز وجل وقد ذكر قتل أحد ابني آدم عليه السلام لأخيه: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } . قال أبو محمد: فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق. هذا أعظم حجة عليكم، لأن الله تعالى لم يلزم هذا الإصر غير بني إسرائيل فقط، ولو أن ذلك علة مطردة كما يدعوا للزم جميع الناس. فإن قالوا: هو لازم لجميع الناس، سألناهم ما تقولون في جميع الكبائر، أهي فساد في الأرض أم ليست فساداً في الأرض إلا ما سمي فساداً في الأرض وليس هذا واقعاً إلا على المحاربة فقط؟ ولا بد من أحد الجوابين.

فإن قالوا: الكبائر كلها فساد في الأرض، أريناهم شارب الخمر والسارق، والمرابي وآكل أموال اليتامى، والزاني غير المحصن، وآكل لحم الخنزير والدم والميتة، والغاصب والقاذف، مفسدين في الأرض ولا يحل قتلهم، بل من قتلهم قتل بهم قوداً، فقد نقضوا قولهم إن حكم الآية المذكورة جار علينا، لأن في نص تلك الآية إباحة قتل كل مفسد في الأرض. فإن قالوا: ليس شيء من الكبائر فساداً في الأرض حاشا المحاربة. أريناهم الزاني المحصن يقتل، وليس مفسداً في الأرض، فانتفضت العلة التي ادعوها علة لأن في الآية المذكورة ألا تقتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض، الزاني المحصن لم يقتل نفساً، ولا أفسد في الأرض، وهو يقتل ولا بد، ولا يكون قاتله كأنه قتل الناس جميعاً. فإن قالوا: إن زنى المحصن وحده ووطء امرأة الأب، وردة المرتد، وشرب المحدود ثلاث مرات في الخمر مرة رابعة، فساد في الأرض وما عدا هذا فليس فساداً في الأرض كابروا وتحكموا بلا دليل، وقد جعل النبي الزاني وهو شيخ أو بامرأة جاره أو بامرأة المجاهد في سبيل الله أعظم جرماً من سائر الزناة، وسواء كانوا محصنين أو غير محصنين، إلا أن غير المحصن على كل حال لا يقتل وإن كان أعظم جرماً من المحصن في بعض الأحوال التي ذكرنا، والمحصن على كل حال يقتل، وإن كان غير المحصن أعظم جرماً منه في بعض الأحوال التي ذكرنا.

وأيضاً: فإن هذا القول الذي قالوه ناقض لأصولهم في العلل، وموجب ألا يكون الشيء علة إلا حيث نص الله عز وجل على أنه علة لأنهم يقولون إن الكبيرة لا تكون فساداً إلا حيث نص على أنها فساد، وحيث أمر الله تعالى بقتل فاعلها، وبطل إجراؤهم العلة حيث وجدت، وهذا قولنا نفسه حاشا التسمية بعلة أو سبب، فإنا لا نطلقه، لأن النص لم يأت به، وإذ ليس بيننا إلا التسمية فقط فقد ارتفع الخلاف إذ إنما تضايق في تصحيح المعنى المسمى أو إبطاله، ولا معنى للاسم ولا للمضايقة فيه إذا حققنا المعنى، وإنما نمنع منه خوف التشكيك به والتلبيس، وتسمية الباطل باسم الحق، فهذا توقف على فساد عمله، ونبين له قبح مغبته وبالله تعالى التوفيق. واحتج بعضهم بقول الله عز وجل حكاية عن المنافقين أنهم قالوا: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } . قال أبو محمد: وهذه الآية كافية في إبطال العلل، لأن الله تعالى أخبر أن جهنم ذات حر وأن الدنيا ذات حر ثم فرق تعالى بين حكميها وأمرهم بالصبر على حر الدنيا وأنكر عليهم الفرار عنه وأمرهم الفرار عن حر جهنم، وألا يصبروا عليها أصلاً نعوذ بالله منها. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } . قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأنه نص على أن النبي إذ تزوج امرأة زيد وهو قد كان استلحقه، ونحن مأمورون باتباعه في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم، فنكاحه إياها موجب علينا تحليل أزواج المستلحقين في الجاهلية غير استلحاق الولادة، لكن الاستلحاق المنسوخ فقط، وهذا الذي قلنا هو نص الآية، ولو كان علة كما ادعوا للزم كل أحد أن ينكح امرأة دعيه ولا بد، فلما لم يكن ذلك بلا خلاف، سقط ظنهم أن إنكاحه عز وجل لرسوله زينب أم المؤمنين علة لما راموا تعليله بذلك. وصح قولنا: أنه نص على إيجاب تحليل ما أحل الله تعالى لرسوله عليه السلام فقط، وبالله تعالى التوفيق.

واحتجوا بقوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } . قال أبو محمد: وهذا أيضاً لا حجة لهم فيه والقول في هذه الآية كالقول في الآية التي ذكرنا آنفاً ولا فرق، لأننا قد وجدنا أموالاً كثيرة لم تقسم هذه القسمة بل قسمت على رتبة أخرى فلو كان عليه قسمة هذا الذي أفاء الله تعالى على رسوله إنما هي ألا يكون دولة بين الأغنياء لكان ذلك أيضاً علة في قسمة سائر الأموال من الغنائم وغيرها كذلك فبطل ما توهموا وصح أن الله تعالى أراد فيما أفاء الله تعالى على رسوله ، من أهل القرى مما لو يوجف عليه بخيل ولا ركاب خاصة، ألا يكون دولة بين الأغنياء منهم فلا يتعدى بهذا الحكم هذا الموضع، وإلا حيث نص الله تعالى عليه أيضاً في قسمة خمس الغنائم ولا مزيد، وهذا قولنا لا قولهم في إجراء العلل وبالله تعالى نتأيد واحتجوا بقوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } . وقال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه لم يكن لأحد على الله تعالى قط حجة لا قبل الرسل ولا بعدهم، بل لله الحجة البالغة: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } وقد أخبر تعالى أنه لم ينذر آباء هم وإن لم ينذروا فلا حجة لهم على الله عز وجل، ولكن الله تعالى أراد الإحسان إلى من آمن من المنذرين بالرسل، وأراد الإعذار إلى من لم يؤمن منهم، فهذا غرض الله عز وجل فيهم ومراده، وليس هذا علة وسنبين بعد انقضاء ذكر حجاجهم إن شاء الله تعالى فرق ما بين العلة والسبب والغرض، ببيان جلي لا يحيل على من له أدنى فهم وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } .

قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه بل هي حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه جزى أولئك ببغيهم بأنواع العذاب المعجل في الدنيا من السخف والصيحة وعذاب الظلة والرجم وغير ذلك. فلو كان البغي علة في إيجاب الجزاء بذلك لكان ذلك واجباً أن يجزى به البغاة منا ومن غيرنا فلما رأينا كفار زماننا بغاة كأولئك، وفينا نحن أيضاً أهل بغي كبغي أولئك نفسه ففينا تطفيف الميزان. وفينا فعل قوم لوط، وفينا الكفر الصريح كما كان في أولئك في المؤمنين منا وفي الكافرين من الحربيين والكتابيين ولم نجاز ولا جوزوا بشيء بما جوزي به أولئك ــــ علمنا أن البغي ليس علة للجزاء بما جوزي به أولئك، لأن العلة مطردة في معلوماتها أبداً، لا تجوز أصلاً، وصح أن البغي من أولئك كان سبباً لجزائهم بما جوزوا به، وليس سبباً في غيرهم، لأن يجازوا بمثل ذلك، فصح قولنا إن الأسباب لا يتعدى بها المواضع التي نص الله تعالى ورسوله عليها، ولا يوجب في كل مكان الحكم الذي وجب من أجلها في بعض الأمكنة، وسقط قولهم سقوطاً لا إشكال فيه. والحمد لله رب العالمين.

وهذا قد ظهر كما ترى في الأسباب الصحيحة، فما الظن بالأسباب الكاذبة التي يدعونها في الأحكام، ويضعونها وضعاً مختلفاً متخاذلاً بلا برهان، إلا المجاهرة بالقربة، وما لا يصح بوجه من الوجوه؟ وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا أيضاً بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يأُوْلِي الأَبْصَارِ } الآيات إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } . قال أبو محمد: وهذه حجة عليهم لا لهم، لأن المحاربين فيما بيننا وأهل الإلحاد منا فهم مشاقون لله عز وجل ورسوله وأهل الكتاب منا، كذلك وهم يخربون بيوتهم بأيديهم وبأيدي المؤمنين، ولا يهدمون بل يبنونها فصح يقيناً أن المشاقة لله تعالى ورسوله ليست علة لخراب البيت وأصلاً، ولا سبباً في خراب بيوت المشاقين ما عدا أولئك الذين نص الله تعالى على أنه عاقبهم بإخرابهم بيوتهم من أجل مشاقهم، وهذا هو نفس قولنا: إن الشيء إذا نص الله تعالى عليه بلفظ يدل على أنه سبب لحكم ما في مكان ما، فلا يكون سبباً البتة في غير ذلك الموضع لمثل ذلك الحكم أصلاً. وبالله تعالى التوفيق.

واحتجوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قالوا: فكانت هذه علل في وجوب تحريمها، أو الانتهاء عنها، قال أبو محمد: وهذه حجة عليهم لا لهم من وجوه: أحدها: أن كسب المال والجاه في الدنيا أصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وأوقع العداوة والبغضاء فيما بيننا من الخمر والميسر وليس ذلك محرماً إذا بغى على وجهه، وقد أخبر النبي أصحابه رضي الله عنهم بنص قولنا إذ قال : «والله مَا الفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُفْتَحَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا فَتَنَافَسُوا فِيهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ» أو كما قال مما هذا حقيقة معناه فلا يظن جاهل أننا نقول شيئاً من عند أنفسنا أو برأينا أو بغير ما أتى به النبي . وأيضاً فالميسر ما عهد منه قبل أن يحرم إيقاع عداوة بذاته ولا فقد عقل، ولا كان إلا وافقاً للناس ونافعاً لهم، وكذلك قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية، ولا في كل من يشربها تفسد أخلاقهم، بل نجد كثيراً من الناس يبكون إذا سكروا ويكثرون ذكر الآخرة والموت والإشفاق من جهنم وتعظيم الله تعالى والدعاء في التوبة والمغفرة، ونجدهم يكرمون حينئذ ويحلمون، ويزول عنهم كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم.

فصح بكل ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل إرادة الشيطان لما ذكر تعالى في الآية سبباً إلى تحريمها قط، لكن شاء تعالى أن يحرمها إذ حرمها، وقد كانت حلالاً مدة ستة عشرة عاماً في الإسلام، وقد كان كل ذلك موجوداً من الشيطان فينا وفي كثير الخمر وهي، حلال يشربها الصالحون بعلم النبي ولا ينكر ذلك. فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة، وعن ذكر الله تعالى، وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بها علة للتحريم، لما وجدت قط إلا محرمة، لأنها لم تكن قط إلا مسكرة، ولم يكن الشيطان قط إلا مريداً لإلقاء العداوة والبغضاء بيننا فيها، وكانت حلالاً وهي بهذه الصفة فبطل أن يكون إسكارها علة لتحريمها، أو سبب، لا في الوقت الذي نص الله عز وجل على تحريمها فيه ولا قبله البتة، لأن قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } إنما هو إخبار عن سوء معتقد الشيطان فينا، ولم يقل قط تعالى إن إرادة الشيطان لذلك هو علة تحريمها، ولا أنه سبب تحريمها، ولا يحل لأحد أن يخبر عن الله تعالى بما لم يخبر به عز وجل عن نفسه، ولا أخبر به عنه رسوله وهذا هو قولنا: إن المراعى هو النص لا ما عداه أصلاً. وبالله تعالى التوفيق.

وقد قال بعض أصحابنا: إن إرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في الخمر، إنما كان بعد تحريمها، لأن شاربها بعد التحريم صاد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، مبغض من الصالحين ومعاد لهم. قال أبو محمد: وهذا أيضاً قد اقتضاه الذي ذكرناه، وزاد عليه وبالله تعالى نتأيد، وقد أدى تعليلهم، هذا الفاسد المفترى، جماعة من الجهال إلى الضلال المبين، فإذا رأوا سكراناً معربداً متلوثاً في أقذاره وأهذاره، جعلوا يقولون في مثل هؤلاء حرمت الخمر نعوذ بالله من هذا القول، ومما سببه من التعليل الملعون. واحتجوا بقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } . قال أبو محمد: وهذه حجة عليهم لا لهم، لأننا نحن نظلم من بكرة إلى المساء، ولم يحرم علينا طيبات أحلت لنا، فصح أن الظلم ليس علة في تحريم الطيبات، ولا سبباً له إلا حيث جعله الله تعالى بالنص سبباً له فقط، لا فيما عدا ذلك المكان البتة.

واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } . قال أبو محمد: وهذا عليهم لأن الحكم المذكور لم يوجب استيقان جميع أهل الكتاب، بل فيهم غير مستيقن، وفيهم من تمادى على شكه وإفكه وشركه، ولو كان علة لاستيقانهم لما وجد فيهم أحد غير مستيقن، فبطل ظنهم والحمد لله رب العالمين.

واحتجوا بقوله تعالى لموسى عليه السلام: {إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } . قال أبو محمد: وهذا حجة عليهم لأن الكون بالواد المقدس طوى لو كان علة لخلع النعال أو سبباً له، لوجب علينا خلع نعالنا بالوادي المقدس وبالحرم وبطوى، فلما لم يلزم ذلك بلا خوف صح قولنا: إن الشيء إذا جعله الله سبباً لحكم ما، في مكان ما، فلا يكون سبباً إلا فيه وحده لا في غيره، فهذا كل ما راموا تبديله من وجهه من آيات القرآن، وقد أريناهم بعون الله تعالى، أنه كله حجة عليهم مبطل لقولهم بالتعليل الموجب عندهم للقياس، والحمد لله رب العالمين واحتجوا بقول رسول الله في نهيه عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث: «إنما فعلت ذلك من أجل الدابة» . قال أبو محمد: أحق الناس أن يستحي من الله تعالى عند ذكر هذا الحديث فأصحاب القياس القائلون بالعلل لأنهم يبطلون هذا السبب الذي يعدونه علة في المكان الذي ورد فيه، ولا يقيسون عليه شيئاً أصلاً نعم، ولا يأخذون بذلك الحكم بعينه، بل يعصونه ويجيزونه ادخار لحوم الأضاحي ما شاء المرء من الدهور، وإن دفت الدواف أفلا يستحي من يبطل قول رسول الله في نهيه إذا دفت دافة أن يدخر لحوم الأضاحي، أكثر من ثلاث ويستجيز خلافه في ذلك، من أن يحتج بذلك القول المطرح عنده في إثبات العلل الكاذبة لو أن الجوز باللوز إلى أجل لا يحل؟ إن هذا لخلق فاسد، منتج من رذائل جمة منها الجهل وقلة الحياء وقلة الورع وشدة العصبية، وقلة المبالاة بالصدق، وشدة الجور وقلة النصيحة والضعف والعقل، ونعوذ بالله من كل ذلك.

وأما نحن فنقول: إن النبي جعل السبب في النهي عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث ليال أن دافة دفت بحضرة الأضحى، فإذا كان ذلك أبد الأبد حرم إدخار لحومها أكثر من ثلاث ليال، فإن لم تدف دافة بحضرة الأضحى فليدخل الناس لحومها ما شاؤوا، وانقياداً لأمر رسول الله الذي لم يأت ما ينسخه، وهذا الذي قلنا به هو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر، واحتجوا بقوله : «إِنَّمَا جُعِلَ الأَذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَرِ» . قال أبو محمد: وهذا موافق لقولنا لا لقولهم، لأننا لم ننكر وجود النص حاكماً بأحكام ما لأسباب منصوصة، لكنا أنكرنا تعدي تلك الحدود إلى غيرها، ووضع تلك الأحكام في غير ما نصَّت فيه، واخترع أسباب لم يأذن بها الله تعالى.

وأيضاً فهذا الحديث حجة عليهم، لأنهم أول عاص له أكثر أهل القياس، مخالفون لما في هذا الحديث، من أن من اطلع على آخر ففقأ المطلع عليه عين المطلع فلا شيء عليه. وقالوا: إن قول المظاهر لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي، لما كان منكراً من القول وزوراً كان ذلك علة لوجوب الكفارة. قال أبو محمد: وقد أبطلوا تعليلهم هذا فكفوا مؤنة أنفسهم، فأقروا أن قول المرأة لزوجها: أنت عليَّ كظهر أمي، منكر من القول وزوراً، ولم يوجب ذلك عليها الكفارة، وقال تعالى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } فسوى الله تعالى بين قول الرجل لامرأته، أنت عليَّ كظهر أمي، وبين ادعائه ولد غيره، ولم يجعل في أحد الوجهين كفارة، وجعل في الآخرة الكفارة، فصح أن المساواة في الشبه لا توجب المساواة في الحكم، وبطل قولهم في التعليل إذا وجب في أحد المنكرين كفارة ولم يجب في الآخر.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الرابع

في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (1) | في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (2) | في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (3) | في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (4) و هو باب الكلام في الاجتهاد ما هو ؟